دولت عثمانی قبل و بعد از قانون اساسی
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
ژانرها
إن خدمة الدين كسائر أصناف البشر يتباينون أخلاقا ونزعات، ويتفاوتون هدى وضلالا. ولكنهم بطبيعة موقفهم إذا أخلصوا الخدمة لله أجدر الناس بإصلاح الناس، وأقدر الخلق على إحقاق الحق.
وإن هذا الدستور الذي شهد شيخ الإسلام بموافقته للشرع الشريف شهادة مزكاة بنصوص القرآن - والشورى حكم الإسلام - ليس من ينكر موافقته أيضا لنصوص التوراة والإنجيل.
فلئن رأيناهم يوم إعلانه ملتفين حواليه يتعانق منهم الإمام والقسيس والحاخام يشهدون العالم أجمع على تآخيهم، وتترقرق دموع الفرح من مآقيهم، فرجاؤنا أن يظل هذا التصافي محكم البنود، وثيق العرى، فإنهم لا يزالون في جميع البلاد العثمانية ذوي المكانة العالية والنفوذ البعيد. فإذا تقدموا على هذا النهج القويم تبعتهم أمم، وزادوا مكانة واحتراما، وأطالوا حياة نفوذهم، ومكنوا سعادة مواطنيهم.
إن زمن الجهل والتعصب قد انقضى ودالت دولة الفتن الدينية، ولئن ذكر لهم التاريخ سيئات؛ فمن من أصناف البشر تعدوه السيئات، وإن لهم بإزاء ذلك الحسنات الجمة، فليضيفوا إليها الثبوت على تلك العواطف النبيلة التي تبرز ساطعة منذ إعلان الدستور، ولهم علينا المنة الكبرى، وعلى الله الأجر العظيم.
ومن منا ينكر أن الأمة الإسلامية أعظم أمم الدولة العثمانية، بل هي قوامها المكين، ومن ينكر أيضا أن الترك هم أرباب السلطة العظمى فيها، فإذا كان الشيخ الأعظم المسلم التركي هو المتقدم لبسط يد المصافحة، فما أحرى سائر خدمة الدين من مسيحيين وإسرائليين، وغيرهم أن يتسابقوا متهافتين إلى إحراز مثل ذلك المجد الباذخ.
لم يكن من مصلحة ظلمة الاستبداد في الحكومة الغابرة أن يؤلفوا بين القلوب إذ كانوا يعتقدون - لجهلهم - أن وفاق الأمة يدك معاقل صولتهم، أما الآن فقد انقشعت الغيوم وتمزق ذلك الغشاء القاتم.
وليست هذه بأول مرة حاول فيها البعض من رجال الدين - ولا سيما من المسلمين - رتق هذا الفتق فإن لم يفلحوا في الماضي إلا قليلا، فكل بوارق الفلاح بادية لهم في الحال والاستقبال.
ولا أضرب لك مثلا إلا بيروت؛ إذ لم يهج تعصب صدور قوم كما هاج صدور أهلها من مسلمين ومسيحيين في عصر الاستبداد الأخير.
كان التنافر فيها بين الفريقين قبل سنة 1860 على ما كان عليه في سائر ثغور البلاد، فلما وقعت حوادث تلك السنة المشئومة، ووجد القتيل المسلم مطروحا في أحد الأزقة، وثارت تلك الثائرة في صدور الأهالي، توقع جميع الأشرار حدوث مذبحة ترتعد لها الفرائص، ومع هذا فإن الشيوخ منا يروون ما شاهدوه من تعاضد الشيخ محمد الحوت والمطران بطرس البستاني ذلك التعاضد المكين وتآخيهما، وكلاهما من جلة خدمة الدين. ويذكر القوم - مكبرين - قيام الشيخ الحوت واعظا دينيا وخطيبا سياسيا ومرشدا داعيا إلى الوفاق فأتى المسلمين والمسيحيين بذلك فضلا يضاهي فضل عبد القادر في الشام وفؤاد في الأستانة. ولا يزال يذكر أيضا وقوف طاهر أفندي الخالدي وذويه مثل ذلك الموقف في تلك السنة في القدس الشريف وحجبهم دماء العباد، مخاطرين بدمائهم.
وما انقضت تلك السنة والتي بعدها حتى أخذ وجهاء المدينة بموازرة البعض من رجال الدين ينظرون في الوسائل المؤدية إلى تبديد الأحقاد، فما أتت سنة 1872 حتى كانت تألفت منهم جمعية هذا غرضها، عمادها من المسلمين والنصارى: المرحومان حسين بيهم وسليم البستاني؛ فخبا ذلك الثوران وخفت الجرائم. ولكن جيوش الاستبداد والتفريق دهمتها بعد بضع سنين فرجعت الحال إلى أسوأ ما كانت عليه، ولم تزل على تفاقم واشتداد حتى يوم إعلان الدستور.
صفحه نامشخص