دولت عثمانی قبل و بعد از قانون اساسی
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
ژانرها
فإذا كانت أروقة الاستبداد منصوبة فوق رءوس جميع رجال الدولة على السواء، وجراثيم الفساد منبعثة في ذلك الجو المكفهر، ووسائل التقرب إلى ولاة الأمر تسهل كل ممتنع من الشر، والدولة على ذلك الانحطاط لم تعدم رجالا هذا شأنهم عاش من عاش منهم في جهاد دائم، ومات من مات حزينا أسيفا وقضى الكثير منهم على بساط الفقر، وهو يقول المنايا ولا الدنايا. إذا كان كل ذلك فما قولك يوم فتحت الأبواب فدخل الجميع بسلام آمنين، وعلموا أن العدل حل محل الظلم وساد الأمن بعد الرعب والرجاء بعد اليأس، فلا عزل إلا لجريمة ولا ترق إلا عن استحقاق ولا مصادرة إلا لجناية، وهذه المدارس العالية كالمكتب السلطاني والمكتب الملكي ومكتب الحقوق والمكتب الطبي تنتج من أولئك الفتيان كل متفان في خدمة أمته، متثقف علما وأدبا. وبإزائهما المكتب الحربي لا يغادره الطلاب إلا وقد امتلأت صدورهم علما وحماسا. وإذا تعاون الملكي والعسكري، وهذه حالهما على إنهاض البلاد من تلك الوهدة، فماذا نتمنى بعد ذلك من نعم الله؟
الدستور والخفية
لم تكن الخفية في عهد الاستبداد من نوع الشرطة المعروفة بالبوليس السري الذي يتعقب - خفية - آثار المجرمين وذوي السوابق والشبهات، وهو للحكومة نعم العون على توطيد دعائم الأمن، ولم تكن أيضا من صنف الجواسيس الذين تبثهم الحكومات أرصادا عسكرية في البلاد الأجنبية؛ فيحملون رءوسهم على أكفهم وينسلون طامعين بأخذ رسوم المعاقل والحصون واستطلاع أحوال الجيوش وحركاتهم واكتشاف وسائل الهجوم والدفاع ومخترعات القوى المدمرة من سلاح ونسافة وغواصة تسير تحت الماء ومنطاد يحلق في الهواء.
فإن هذين الصنفين من الخفية كانا عندنا بحالة ضعف وخمول، كما كانت الحال بما خص كل ذي نفع. وإنما القوة كل القوة لنوع ثالث باد واضمحل من دول الحضارة، ألا هو صنف المتلصصين لإزهاق الأرواح وإملاء السجون وسلب الأموال بالطرق الفاضحة، على ما تراه مفصلا في تضاعيف هذه الصفحات.
تفنن الأقدمون بهذا النوع من التجسس يوم كان الملوك يخشون مزاحمة الأقران وعصيان العمال وانتفاض الرعية، كما جرى لعهد نيرون وأشباهه وكثيرين من ملوك الفرس وغيرهم، حتى لقد كان لبعض خلفاء الإسلام وملوكه شيء من تلك الخطة. وهي التي جرى عليها هارون الرشيد فكانت من جملة الذرائع التي قادته إلى نكبة البرامكة، إذ كان له في بطانتهم جوار وغلمان يتجسسون له أخبارهم. ولكن ذلك زمان وتلك أحوال وهذا زمان آخر وأحوال أخرى، ولئن فعل هارون الرشيد ذلك صونا لسلطانه فإنما جرى على خطة شائعة لم يكن له بد منها، ومع هذا فقد كان له من وجه آخر طريقة للتجسس لا تزال تتفاخر بها الملوك. إذ كان يتنكر أياما ويطوف على أزياء مختلفة مستطلعا أحوال رعيته وعماله رغبة منه برفع الضيم ودرء الظلم. وكم كشف من ظلامة مظلوم وضرب على يد ظالم على أثر ذلك التجسس الحميد. بل كم لعظام سلاطين آل عثمان من منقبة في خلال تنكرهم متجسسين، والعهد غير بعيد بالسلطان محمود وما يروى عنه من هذا القبيل.
أما الخفية عندنا فلم تكن على شيء مما تقدم، بل قامت على نظام محكم لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم.
أقيمت لها دائرة منظمة في «المابين» ودعي رئيسها بأسماء لا يدل منها شيء على مسماها، كقولهم مدير سياسة المابين
Directeur de la Politique du Palais Imperial
أو مدير السياسة الداخلية، ولم يكن يباح لأحد أن يدعوه باسم رئيس الخفية. وإني لا أزال أذكر يوما إذ كنت مع صاحب في قهوة بشارع بك أوغلي وإذا بأحد أولئك الرؤساء وصل بعربته، فترجل ودخل بعظمته يطوف طواف الدهقان إلى أن بلغ مجلسنا فوقف صاحبي يسلم عليه وكان يعرفه، فأراد على عادة أهل العصر أن يعرف كلا منا إلى الآخر فقال لي: سعادة فلان رئيس الخفية. فما كاد ينطق بتلك اللفظة حتى شعرت بنظرة شزر أرسلها إليه، فأوشكت أن تخترق لب فؤاده، فامتنع صاحبي وتلعثم لسانه، وكأنه أراد أن يتلافى ما فرط فاستطرد وقال: أستغفر الله بل هو ... هو ... هو من أكابر ... من أعاظم رجال الدولة في «المابين.»
وكانت لتلك الدائرة فروع متشعبة داخل البلاد وخارجها تشعب العروق في الجسم، إذ كان عمالها مبثوثين في كل دوائر الحكومة من الباب العالي، إلى النظارات المنفصلة عنه، إلى كل فرع من فروعها.
صفحه نامشخص