وعليهم بالمحسوسات كلها فلينحلوه اللمس ويجعلوه عاشرا . وليتبعوا الخلق ما دام لفن من العلوم اسم فيسموه به ويجعلون ذلك المعنى قائما بذاته فيصفونه ، كمذهب الأعرابي وإن أخطأ في الملائكة أسهل حالا من خطاياهم في الباري سبحانه ، حين قال شعرا :
فقيل له : ويحك جعلت الباري سبحانه محمولا ، وجعلت الحملة الثمانية سبعة ؟
فقال الأعرابي : أليسوا إذا نقصوا من عددهم كانوا أقوى لأسرهم ؟
فذهب في الحملة إلى أن نقصان العدد أقوى للأسر ، وذهب هؤلاء إلى أن زيادة العدد أقوى في المدح .
فالأعرابي أفطن في المعنى الباطن ، وهم ذهبوا إلى الحس الظاهر ، ولا شك أن القوم ما اغترفوا إلا من بحر الدهرية في قولهم : إن الله تعالى هو العلة ، والخلق هو المعلول ، ولن يفارق المعلول العلة . فإنهم قالوا للموحدة : ألم تقولوا : إن الله قبل خلقه ؟
قلنا : نعم .
قالوا : ثم أحدث الخلق .
قلنا : نعم .
قالوا : إنه ليس بين وجود الله تعالى وخلقه الخلق مسافة ولا مدة ولا عدة ولا آفة لم يسبق الخالق الخلق إلا بالمقدار الذي يسبق به الآله الظل في الحركة والسكون ، أو الكون والمكون . فهذا غرض القوم غير أنهم لم يقدروا أن يبوحوا بأكثر مما يتعلق بصفات الباري سبحانه المعهودة عند الناس ، غير أنهم حادوا إلى مذهب الدهرية .
ولا شك أنهم شموا رائحة أبي شاكر الديهاني الذي فتح لهم الباب في نفي خلق القرآن بمكيدة عظيمة كادهم بها . وقد تقدم ذكرها .
وإذا فرغنا من الرد على الأشعرية ، فلنعقب بالرد على رسالة جاءتنا من ناحية غانة على يد رجل يسمى عبد الوهاب بن محمد بن غالب بن نمير الأنصاري ، وجهها إلى أبي عمار عبد الكافي بن الشيخ أبي يعقوب إسماعيل التناوتي ، فتوفي - رحمة الله عليه - قبل أن يرد الجواب ، فرددنا جوابه وهي هذه .
رسالة عبد الوهاب بن محمد الأنصاري يسأل عن بعض مسائل السنية
وأعظم آية عبرة : كلب أصحاب الكهف ، قال الله - عز وجل - : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) فشملهم وإياه النوم إلى يوم القيامة .
وفي هذه البهائم آيات ومعجزات وفي صنائعها ومصانعها وتربيتها لأولادها وطاعتها لملوكها ، وفي الموتان أسرار عجيبة لا يعلمها إلا الله - عز وجل - فضلا عن الحيوان .
ثم قال عبد الوهاب : ( وذهب فريق إلى أن الثواب حتم على الله والعقاب واجب على مقترف الكبيرة إذا لم يتب منها ، ويحبط جميع عمله باقتراف زلة واحدة ، فكيف يستقيم أن يحبط جميع عمل العبد ؟ )
الجواب :
فالذين قالوا : إن الثواب حتم على الله قد أساءوا الأدب ، إنما كان ينبغي لهم أن يقولوا حتم في واجب الحكمة بعد أن يصح ما قالوا : إنه واجب ، فإن ذكره في بني آدم والجن فربما .
وأما الملائكة فقد قدمنا القول فيهم .
وقولهم : إن العقاب واجب على الكبير إذا لم يتب ، فقد صدقوا .
وأما قولهم في الإحباط فغلط ، وليس يحبط الكبير من عمل العبد شيئا إنما يحبط الثواب ، لم يقل أحد : إن من عمل الكبير لم يصل ولم يصم ، إنما الإحباط في الثواب .
ويعجبه أن قال : ( كيف يستقيم إحباط جميع عمل العبد ) وقد تقدم فيه الجواب ، ولو شاء صاحب الشرع أن يحبط الكبير كالشرك لفعل ، وليس في العقل ولا في الحكمة ما يبطله ، ولكن الرؤوف الرحيم لم يفعل ذلك .
صفحه ۶۸