رآه الأئمة يخل بشعار الدين فعلا أو تركا أبقوه على التشديد وكلما رأوا أن به كمال شعار الدين لا غير ولا يظهر به نقص فيه أبقوه على التخفيف إذ هم أمناء الشارع على شريعته من بعده وهم الحكماء العلماء فافهم فإن قلت إن بعض المقلدين يزعم أن إمامه إذا قال بعزيمة لا يقول بالرخصة أبدا وإذا قال برخصة لا يقول بمقابلها من العزيمة أبدا بل كان إمامه ملازما قولا واحدا يطرده في حق كل قوي وضعيف حتى مات وأنه لو عرض عليه حال من عجز عن فعل العزيمة لم يفته بالرخصة أبدا فالجواب أن هذا اعتقاد فاسد في الأئمة ومن اعتقد مثل ذلك في إمامه فكأنه يشهد على إمامه بأنه كان مخالف لجميع قواعد الشريعة المطهرة من آيات وأخبار وآثار كما مر بيانه آنفا وكفى بذلك قدحا وجرحا في إمامه لأنه قد شهد عليه بالجهل بجميع ما انطوت عليه الشريعة من التخفيف والتشديد فالحق الذي يجب اعتقاده في سائر الأئمة رضي الله عنهم أنهم إنما كانوا يفتون كل أحد بما يناسب حاله من تخفيف وتشديد في سائر أبواب العبادات والمعاملات ومن نازعنا في ذلك من المقلدين فليأتنا بنقل صحيح السند عنهم بأنهم كانوا يعممون في الحكم الذي كانوا يفتون به الناس في حق كل قوي وضعيف ونحن نوافقه على ما زعمه ولعله لا يجد في ذلك نقلا عنهم متصل السند منهم إليه نلتزمه حجة له أبدا على هذا الوجه أي بل لا بد لنا من القدرة بمشيئة الله تعالى على القدح في فهم ذلك المقلد لعبارة ذلك الإمام رضي الله تعالى عنه فإن من المعلوم أن جميع أقوال المجتهدين تابعة لأدلة الشريعة من تخفيف أو تشديد كما مر آنفا بحكم المطابقة فما صرحت الشريعة بحكمه لا يمكن أحدا منهم الخروج عنه أبدا وما أجملته أي ذكرته ولم تبين مرتبته فإن المجتهدين يرجعون فيه إلى قسمين قسم يخفف وقسم يشدد بحسب ما يظهر لهم من المدارك أو لغة العرب كما يعرف ذلك من سير مذاهب الأئمة وذلك نحو حديث إنما الأعمال بالنيات أو حديث لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه أو لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فإن من المجتهدين من قال لا صلاة أو لا وضوء لمن ذكر تصح أصلا ومنهم من قال لا صلاة كاملة ولا وضوء كامل ولفظ الأحاديث المذكورة يشهد لكل إمام لا سبيل لأحدهما أن يهدم قول الآخر جملة من غير تطرق احتمال أي معنى يعارض في ذلك أبدا وأقرب معنى في ذلك أن حكم الله تعالى في حق كل مجتهد ما ظهر له في المسائل الشرعية ولا يطالب بسوى ما يظهر له أبدا فإن قلت فإذن كان من كمال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي اختص بها إنها جاءت على ما ذكر من التخفيف والتشديد الذي لا يشق على الأمة كل تلك المشقة وبذلك ونحوه كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين في تكميل أديانهم ودفع ما فيه مشقة عليهم فالجواب نعم وهو كذلك فرحم صلى الله عليه وسلم أقوياء أمته بأمرهم باكتسابهم الفضائل والمراتب العلية وذلك بفعل العزائم التي يترقون بها في درجات الجنة ورحم الضعفاء بعدم تكليفهم ما لا يطيقونه مع توفر أجورهم كما ورد في حق من مرض أو سافر من أن الحق تعالى يأمر الملائكة أن يكتبوا له ما كان يعمل صحيحا مقيما فعلم أن الشريعة لو كانت جاءت على إحدى مرتبتي الميزان فقط لكان فيها حرج شديد على الأمة في قسم التشديد ولم يظهر للدين شعار في قسم التخفيف وكان كل من قلد إماما في مسألة قال
صفحه ۲۹