بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل الشريعة المطهرة بحرا يتفرع منه جميع بحار العلوم النافعة والخلجان * وأجرى جداوله على أرض القلوب حتى روى منها قلب القاصي من حيث التقليد لعلمائها والدان * ومن على من شاء من عباده المختصين بالإشراف على ينبوع الشريعة المطهرة وجميع أحاديثها وآثارها المنتشرة في البلدان * واطلعه الله من طريق كشفه على عين الشريعة الأولى التي يتفرع منها كل قول في سائر الأدوار والأزمان * فأقر جميع أقوال المجتهدين ومقلديهم بحق حين رأى اتصالها بعين الشريعة من طريق الكشف والعيان وشارك جميع المجتهدين في اغترافهم من عين الشريعة الكبرى وإن تقاصر عنهم في النظر وتأخر عنهم في الأزمان * فإن الشريعة كالشجرة العظيمة المنتشرة وأقوال علمائها كالفروع والأغصان * فلا يوجد لنا فرع من غير أصل ولا ثمرة من غير غصن كما لا يوجد أبنية من غير جدران * وقد أجمع أهل الكشف على أن كل من أخرج قولا من أقوال علماء الشريعة عنها فإنما ذلك لقصوره عن درجة العرفان * فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن علماء أمته على شريعته بقوله العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان * ومحال من المعصوم أن يؤمن على شريعته خوان * وأجمعوا أيضا على أنه لا يسمى أحد عالما إلا أن بحث عن منازع أقوال العلماء وعرف من أين أخذوها من الكتاب والسنة لا من ردها بطريق الجهل والعدوان * وإن كل من رد قولا من أقوال علمائها وأخرجه عنها فكأنه ينادي على
صفحه ۲
نفسه بالجهل ويقول ألا اشهدوا أني جاهل بدليل هذا القول من السنة والقرآن * عكس من قبل أقوالهم ومقلديهم وأقام لهم الدليل والبرهان * وصاحب هذا المشهد الثاني لا يرد قولا من أقوال علماء الشريعة إلا ما خاف نصا أو إجماعا ولعله لا يجده في كلام أحد منهم في سائر الأزمان * وغايته أنه لم يطلع على دليل لا أنه يجده مخالفا لصريح السنة أو القرآن * ومن نازعنا في ذلك فليأت لنا بقول من أقوالهم خارج عنها ونحن نرد على صاحبه كما نرد على من خالف قواعد الشريعة بأوضح دليل وبرهان * ثم إن وقع ذلك ممن يدعي صحة التقليد للأئمة فليس هو بمقلد لهم في ذلك وإنما هو مقلد لهواه والشيطان * فإن اعتقادنا في جميع الأئمة أن أحدهم لا يقول قولا إلا بعد نظره في الدليل والبرهان * وحيث أطلقنا المقلد في كلامنا فإنما مرادنا به من كان كلامه مندرجا تحت أصل من أصول إمامه وإلا فدعواه التقليد له زور وبهتان * وما ثم قول من أقوال علماء الشريعة خارج عن قواعد الشريعة فيما علمناه وإنما أقوالهم كلها بين قريب وأقرب وبعيد وأبعد بالنظر لمقام كل إنسان * وشعاع نور الشريعة يشملهم كلهم ويعمهم وإن تفاوتوا بالنظر لمقام الإسلام والإيمان والإحسان * أحمده حمد من كرع من عين الشريعة المطهرة حتى شبع وروى منها الجسم والجنان * وعلم أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت شريعة واسعة جامعة لمقام الإسلام والإيمان والإحسان * وأنها لا حرج ولا ضيق فيها على أحد من المسلمين ومن شهد ذلك فيها فشهوده تنطع وبهتان * فإن الله تعالى قال وما جعل عليكم في الدين من حرج ومن ادعى الحرج في الدين فقد خالف صريح القرآن * واشكره شكر من علم كمال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فوقف عندما حدث له من الأمر والنهي والترغيب والترهيب ولم يزد فيها شيئا إلا أن شهد له شعاع الدليل والبرهان * فإن الشارع ما سكت عن أشياء إلا رحمة بالأمة لا لذهول ولا نسيان * وأسلم إليه تسليم من رزقه الله تعالى حسن الظن بالأئمة ومقلديهم وأقام لجميع أقوالهم الدليل والبرهان * أما من طريق النظر والاستدلال * وأما من طريق التسليم والإيمان * وأما من طريق الكشف والعيان * ولا بد لكل مسلم من أحد هذه الطرق ليطابق اعتقاده بالجنان قوله باللسان * أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم في كل حين وأوان * وكل من لم يصل إلى هذا الاعتقاد من طريق الكشف والعيان * وجب عليه اعتقاد ذلك من طريق التسليم والإيمان * وكما لا يجوز لنا الطعن فيما جاءت به الأنبياء مع اختلاف شرائعهم فكذلك لا يجوز لنا الطعن فيما استنبطه الأئمة المجتهدون بطريق الاجتهاد والاستحسان * ويوضح لك ذلك أن تعلم يا أخي أن الشريعة جاءت من حيث الأمر والنهي على مرتبتي تخفيف وتشديد لا على مرتبة واحدة كما سيأتي إيضاحه في الميزان * فإن جميع المكلفين لا يخرجون عن قسمين قوي وضعيف من حيث إيمانه أو جسمه في كل عصر وزمان * فمن قوى منهم خوطب بالتشديد والأخذ بالعزائم ومن ضعف منهم خوطب بالتخفيف والأخذ بالرخص وكل منهما حينئذ على شريعة من ربه وتبيان فلا يؤمر القوي بالنزول إلى الرخصة ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة وقد رفع الخلاف في جميع أدلة الشريعة وأقوال علمائها عند كل من عمل بهذه الميزان * وقول بعضهم إن
صفحه ۳
الخلاف الحقيقي بين طائفتين مثلا لا يرتفع بالحمل محمول على من لم يعرف قواعد هذا الكتاب لأن الخلاف الذي لا يرتفع من بين أقوال أئمة الشريعة مستحيل عند صاحب هذه الميزان فامتحن يا أخي ما قلته لك في كل حديث ومقابله أو كل قول ومقابله تجد كل واحد منهما لا بد أن يكون مخففا والآخر مشددا ولكل منهما رجال في حال مباشرتهم الأعمال ومن المحال أن لا يوجد لنا قولان معا في حكم واحد مخففان أو مشددان * وقد يكون في المسألة الواحدة ثلاثة أقوال أو أكثر وقول مفصل فالحاذق يرد كل قول إلى ما يناسبه ويقاربه في التخفيف والتشديد حسب الإمكان * وقد قال الإمام الشافعي وغيره أن إعمال الحديثين أو القولين أولى من إلغاء أحدهما وإن ذلك من كمال مقام الإيمان * وقد أمرنا الله تعالى بأن نقيم الدين ولا نتفرق فيه حفظا له عن تهدم الأركان * فالحمد لله الذي من علينا بإقامة الدين وعدم اضجاعه حيث الهنا العمل بما تضمنته هذه الميزان * وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبوء قائلها غرف الجنان * وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله الذي فضله على كافة خلقه وبعثه بالشريعة السمحاء وجعل إجماع أمته ملحقا في وجوب العلم بالسنة والقرآن * اللهم فصل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين * وعلى آلهم وصحبهم أجمعين وجميع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين * صلاة وسلاما دائمين بدوام سكان النيران والجنان * آمين اللهم آمين وبعد فهذه ميزان نفيسة عالية المقدار حاولت فيها ما بنحوه يمكن الجمع بين الأدلة المتغايرة في الظاهر وبين أقوال جميع المجتهدين ومقلديهم من الأولين والآخرين إلى يوم القيامة كذلك ولم أعرف أحدا سبقني إلى ذلك في سائر الأدوار * وصنفتها بإشارة أكابر أهل العصر من مشايخ الإسلام وأئمة العصر بعد أن عرضتها عليهم قبل إثباتها وذكرت لهم إني لا أحب أن أثبتها إلا بعد أن ينظروا فيها فإن قبلوها أبقيتها وإن لم يرتضوها محوتها فإني بحمد الله أحب الوفاق وأكره الخلاف لا سيما في قواعد الدين * وإن كان الاختلاف رحمة بقوم آخرين * فرحم الله من رأى فيها خللا وأصلحه نصرة للدين * وكان من أعظم البواعث لي على تأليفها للإخوان فتح باب العمل بما تضمنه قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وليطابقوا في تقليدهم بين قولهم باللسان * إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم وبين اعتقادهم ذلك بالجنان * ليقوموا بواجب حقوق أئمتهم في الأدب معهم ويحوزوا الثواب المرتب على ذلك في الدار الآخرة ويخرج من قال ذلك منهم بلسانه إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم ولم يعتقد ذلك بقلبه عما هو متلبس به من صفة النفاق الأصغر الذي ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد ذم الله سبحانه وتعالى منافقي الكفار بنفاقهم زيادة على حصول ذمهم بصفة كفرهم في نحو قوله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومعلوم أن كلما عابه الله تعالى على الكفار فالمسلمون أولى بالتنزه عنه وعما يقرب من شبه صورته ويسد المقلدون باب المبادرة إلى الانكار على من خالف قواعد مذاهبهم ممن هو من أهل الاجتهاد في الشريعة فإنه على هدى من ربه وربما أظهر مستنده
صفحه ۴
في مذهبه لمن أنكر عليه فأذعن له وخجل من مبادرته إلى الانكار عليه وهذا من جملة مقاصدي بتأليف هذا الكتاب والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فاعملوا أيها الإخوان على الوصول إلى ذوق هذه الميزان وإياكم والمبادرة إلى إنكارها قبل أن تطالعوا جميع هذه الفصول التي سنقدمها بين يدي الكلام عليها أي قبل كتاب الطهارة بل ولو أنكرها أحدكم بعد مطالعة فصولها فربما كان معذورا لغرابتها وقلة وجود ذائق لها من أقرانكم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى إذا علمت ذلك وأردت أن تعلم ما أومأنا إليه من دخول جميع أقوال الأئمة المجتهدين ومقلديهم إلى يوم الدين في شعاع نور الشريعة المطهرة بحيث لا ترى قولا واحدا منها خارجا عن الشريعة المطهرة فتأمل وتدبر فيما أرشدك يا أخي إليه وذلك أن تعلم وتتحقق يقينا جازما أن الشريعة المطهرة جاءت من حيث شهود الأمر والنهي في كل مسألة ذات خلاف على مرتبتين تخفيف وتشديد لا على مرتبة واحدة كما يظنه بعض المقلدين ولذلك وقع بينهم الخلاف بشهود التناقض ولا خلاف ولا تناقض في نفس الأمر كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى فإن مجموع الشريعة يرجع إلى أمر ونهي وكل منهما ينقسم عند العلماء على مرتبتين تخفيف وتشديد وأما الحكم الخامس الذي هو المباح فهو مستوى الطرفين وقد يرجع بالنية الصالحة إلى قسم المندوب وبالنية الفاسدة إلى قسم المكروه هذا مجموع أحكام الشريعة وإيضاح ذلك أن من الأئمة من حمل مطلق الأمر على الوجوب الجازم ومنهم من حمله على الندب ومنهم من حمل مطلق النهي على التحريم ومنهم من حمله على الكراهة ثم إن لكل من المرتبين رجالا في حال مباشرتهم للتكاليف فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا أو المستنبط منها في مذهب ذلك المكلف أو غيره ومن ضعف منهم من حيث مرتبة إيمانه أو ضعف جسمه خوطب بالرخصة والتخفيف الوارد كذلك في الشريعة صريحا أو المستنبط منها في مذهب ذلك المكلف أو مذهب غيره كما أشار إليه قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم خطابا عاما وقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم أي كذلك فلا يؤمر القوي المذكور بالنزول إلى مرتبة الرخصة والتخفيف وهو يقدر على العمل بالعزيمة والتشديد لأن ذلك كالتلاعب بالدين كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى وكذلك لا يكلف الضعيف المذكور بالصعود إلى مرتبة العزيمة والتشديد والعمل بذلك مع عجزه عنه لكن لو تكلف وفعل ذلك لا نمنعه إلا بوجه شرعي فالمرتبتان المذكورتان على الترتيب الوجوبي لا على التخيير كما قد يتوهمه بعضهم فإياك والغلط فليس لمن قدر على استعمال الماء حسا أو شرعا أن يتيمم بالتراب وليس لمن قدر على القيام في الفريضة أن يصلي جالسا وليس لمن قدر على الصلاة جالسا أن يصلي على الجنب وهكذا في سائر الواجبات وكذلك القول في الأفضل من السنن مع المفضول فليس من الأدب أن يفعل المفضول مع قدرته على فعل الأفضل فعلم أن المسنونات ترجع إلى مرتبتين كذلك فيقدم الأفضل على المفضول ندبا مع القدرة ويقدم الأولى شرعا على خلاف الأولى وإن
صفحه ۵
جاز ترك الأفضل والمفضول أصالة فمن أراد عدم اللوم فلا ينزل إلى المفضول إلا أن عجز عن الأفضل فامتحن يا أخي بهذه الميزان جميع الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة وما انبنى وتفرع على ذلك من جميع أقوال الأئمة المجتهدين ومقلديهم إلى يوم الدين تجدها كلها لا تخرج عن مرتبتي تخفيف وتشديد ولكل منهما رجال كما سبق ومن تحقق بما ذكرنا ذوقا وكشفا كما ذقناه وكشف لنا وجد جميع أقوال الأئمة المجتهدين ومقلديهم داخلة في قواعد الشريعة المطهرة ومقتبسة من شعاع نورها لا يخرج منها قول واحد عن الشريعة وصحت مطابقة قوله باللسان إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم لاعتقاد ذلك بالجنان وعلم جزما ويقينا إن كل مجتهد مصيب ورجع عن قوله المصيب واحد لا بعينه كما سيأتي إيضاحه في الفصول إن شاء الله تعالى وارتفع التناقض والخلاف عنده في أحكام الشريعة وأقوال علمائها لأن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يجل عن التناقض وكذلك كلام الأئمة عند من عرف مقدارهم واطلع على منازع أقوالهم ومواضع استنباطاتها فما من حكم استنبطه المجتهد إلا وهو متفرع من الكتاب أو السنة أو منهما معا ولا يقدح في صحة ذلك الحكم الذي استنبطه المجتهد جهل بعض المقلدين بمواضع استنباطاته وكل من شهد في أحاديث الشريعة أو أقوال علمائها تناقضا لا يمكن رده فهو ضعيف النظر ولو أنه كان عالما بالأدلة التي استند إليها المجتهد ومنازع أقواله لحمل كل حديث أو قول ومقابله على حال من إحدى مرتبتي الشريعة فإن من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس على قدر عقولهم ومقامهم في حضرة الإسلام أو الإيمان أو الاحسان وتأمل يا أخي في قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا الآية تحط علما بما قلناه وإلا فأين خطابه لأكابر الصحابة من خطابه لأجلاف العرب وأين مقام من بايعه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والمعسر والميسر ممن طلب أن يبايعه صلى الله عليه وسلم على صلاة الصبح والعصر فقط دون غيرهما من الصلوات ودون الزكاة والحج والصيام والجهاد وغيرها وقد تبع الأئمة المجتهدون ومقلدوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فما وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شدد فيه عادة شددوا فيه أمرا كان أو نهيا وما وجدوه خفف فيه خففوا فيه فاعتمد يا أخي على اعتقاد ما قررته وبينته لك في هذه الميزان ولا يضرك غرابتها فإنها من علوم أهل الله تعالى وهي أقرب إلى طريق الأدب مع الأئمة مما تعتقده أنت من ترجيح مذهب على مذهب بغير طريق شرعي وأين قول من يقول إن سائر أئمة المسلمين أو الأئمة الأربعة الآن على هدى من ربهم ظاهرا وباطنا ممن يقول ثلاثة أرباعهم أو أكثر على غير الحق في نفس الأمر * وإن أردت يا أخي أن تعلم نفاسة هذه الميزان وكمال علم ذائقها بالشريعة من آيات وأخبار وآثار وأقوال فأجمع لك أربعة من علماء المذاهب الأربعة واقرأ عليهم أدلة مذاهبهم وأقوال علمائهم وتعاليلهم التي سطروها في كتبهم وانظر كيف يتجادلون * ويضعف بعضهم أدلة بعض وأقوال بعض وتعلو أصواتهم على بعضهم بعضا حتى كان المخالف لقول كل واحد قد خرج عن الشريعة ولا يكاد أحدهم يعتقد ذلك الوقت إن سائر أئمة المسلمين على هدى من
صفحه ۶
ربهم أبدا بخلاف صاحب هذه الميزان فإنه جالس على منصة في سرور وطمأنينة كالسلطان حاكم بمرتبتي ميزانه على كل قول من أقوالهم لا يرى قولا واحدا من أقوالهم خارجا عن مرتبتي الميزان من تخفيف أو تشديد بل يرى الشريعة قابلة لكل ما قالوه لوسعها فاعمل يا أخي بهذه الميزان وعلمها لإخوانك من طلبة المذاهب الأربعة ليحيطوا بها علما أن لم يصلوا إلى مقام الذوق لها بطريق الكشف كما أشار إليه قوله تعالى فإن لم يصبها وابل فطل وليفوزوا أيضا بصحة اعتقادهم في كلام أئمتهم ومقلديهم ويطابقوا بقلوبهم قولهم باللسان إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم إن لم يكن ذلك كشفا ويقينا فليكن إيمانا وتسليما فعليكم أيها الإخوان باحتمال الأذى ممن يجادلكم في صحة هذه الميزان قبل ذوقها وقبل أن تحضروه معكم حال قراءتها على علماء المذاهب الأربعة فإنه معذور لا يكاد يسلم لكم صحتها لغرابتها وربما وافق مذاهب الحاضرين هيبة لهم ورد المذهب الذي لم يكن أحد من مقلديه حاضر العدم من ينتصر لذلك المذهب وفي ذلك دلالة على مراعاته وجوه المخلوقين نسأل الله العافية وبما قررناه لك يا أخي انتهت الميزان الشعرانية المدخلة لجميع أقوال الأئمة المجتهدين ومقلديهم في الشريعة المحمدية نفع الله بها المسلمين وقد حبب لي أن أذكر لك يا أخي قاعدة هي كالمقدمة لفهم هذه الميزان بل هي من أقرب الطرق إلى التسليم لها وذلك أن تبني أساس نظرك أولا على الإيمان بأن الله تعالى هو العالم بكل شئ والحكيم في كل شئ أزلا وأبدا لما أبدع هذا العالم وأحكم أحواله وميز شؤونه وأتقن كماله أظهره على ما هو مشاهد من الاختلاف الذي لا يمكن حصره ولا ينضبط أمره متغايرا في الأمزجة والتراكيب مختلفا في الأحوال والأساليب على حكم ما سبق به علم الله القديم وعلى وفق ما نفذت به إرادة العليم الحكيم * فجاء على هذه الأوضاع والتآليف واستقر أمره على ما لا تنتهي إليه غاياته من الشؤون والتصاريف * وكان من جملة بديع حكمته وعظيم آلائه وعميم رحمته إن قسم عباده إلى قسمين شقي وسعيد * واستعمل كلا منهما فيما خلق له من متعلق الوعد أو الوعيد * وأوجد لكل منهما في هذه الدار بحكم عدله وسعة أفضاله ما يصلح لشأنه في حاله وما له من محسوسات صورها * ومعنويات قدرها ومصنوعات أبدعها وأحكام شرعها * وحدود وضعها وشؤون أبدعها * فتمت بذلك أمور المحدثات * وانعقد بذلك نظام الكائنات * وكمل بذلك شأني الزمان والمكان حتى قيل إنه ليس في الامكان * أبدع مما كان * قال تعالى في كتابه القديم لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم على أنه سبحانه وتعالى لم يجعل كل نافع نافعا مطلق ولا كل ضار ضارا مطلقا بل ربما نفع هذا ما ضر هذا وضر هذا ما نفع هذا وربما ضر هذا في وقت ما نفعه في وقت آخر ونفع هذا في وقت ما ضره في وقت آخر كما هو مشاهد في الموجودات الحسية والمدركات المعنوية لمعان جلت عن الادراك بالأفكار وأسرار خفيت إلا على من أراده عالم الأسرار ومن هنا يتحقق إن كلا ميسر لما خلق له وإن ذلك إنما هو لإتمام شؤون الأولين والآخرين * وإن الله هو الغني عن العالمين * وحيث تقررت لك يا أخي هذه القاعدة العظيمة علمت أن الله تعالى لم يمكر بسعيد من حيثما كلفه أبدا وإن اختلاف أئمة هذه الأمة في فروع الدين أحمد عاقبة وأقوم رشدا
صفحه ۷
وإن الله تعالى لم يخلقنا عبثا ولم ينوع لنا التكاليف سدى بل لم يلهم أحدا من المكلفين العمل بأمر من أمور الدين تعبده به على لسان أحد من المرسلين أو على لسان إمام من أئمة الهدى المجتهدين إلا وفي العمل به على وجهه في ذلك الوقت أعلى مراتب سعادة ذلك المكلف المقسومة له حينئذ واللائقة بحاله ولا يصرفه عن العمل بقول إمام من أئمة الهدى إلى العمل بقول إمام آخر منهم إلا وفيما صرفه عنه انحطاط في ذلك الوقت عن الأكمل في درجته اللائقة به رحمة منه سبحانه وتعالى بأهل قبضة السعادة ورعاية للحظ الأوفر لهم في دينهم ودنياهم كما يلاطف الطبيب الحبيب * ولله المثل الأعلى وهو القريب المجيب * لا سيما وهو الفاعل المختار في الأموات والأحياء والمدبر المريد لكل شئ من سائر الأشياء * فانظر يا أخي إلى حسن هذه القاعدة ووضوحها وكم أزالت من إشكالات معجمة وأفادت من أحكام محكمة فإنك إذا نظرت فيها بعين الإنصاف تحققت بصحة الاعتقاد أن سائر الأئمة الأربعة ومقلديهم رضي الله عنهم أجمعين على هدى من ربهم في ظاهر الأمر وباطنه ولم تعترض قط على من تمسك بمذهب من مذاهبهم ولا على من انتقل من مذهب منها إلى مذهب ولا على من قلد غير إمامه منهم في أوقات الضرورات لاعتقادك يقينا إن مذاهبهم كلها داخلة في سياج الشريعة المطهرة كما سيأتي إيضاحه وإن الشريعة المطهرة جاءت شريعة سمحى واسعة شاملة قابله لسائر أقوال أئمة الهدى من هذه الأمة المحمدية وإن كلا منهم فيما هو عليه في نفسه على بصيرة من أمره وعلى صراط مستقيم * وإن اختلافهم إنما هو رحمة بالأمة نشأ عن تدبير العليم الحكيم * فعلم سبحانه وتعالى أن مصلحة البدن والدين والدنيا عنده تعالى لهذا العبد المؤمن في كذا فأوجد له لطفا منه بعباده المؤمنين إذ هو العالم بالأحوال قبل تكوينها فالمؤمن المكامل يؤمن ظاهرا وباطنا إن الله تعالى لو لم يعلم أزلا إن الأصلح عنده تعالى لعباده المؤمنين انقسامهم على نحو هذه المذاهب لما أوجدها لهم وأقرهم عليها بل كان يحملهم على أمر واحد لا يجوز لهم العدول عنه إلى غيره كما حرم الاختلاف في أصل الدين بنحو قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصيناه به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه فافهم ذلك فإنه نفيس واحذر أن يشتبه عليك الحال فتجعل الاختلاف في الفروع كالاختلاف في الأصول فتزل بك القدم في مهواة من التلف فإن السنة التي هي قاضية عندنا على ما نفهمه من الكتاب مصرحة بأن اختلاف هذه الأمة رحمة بقوله صلى الله عليه وسلم وهو يعد خصائصه في أمته ما من معناه وجعل اختلاف أمتي رحمة وكان فيمن قبلنا عذابا ا ه وربما يقال إن الله تعالى لما علم أزلا إن الأحظ والأصلح عنده تعالى لهذا العبد المؤمن في إتمام دينة التطهر بالماء الجاري مثلا لاستحقاق حال مثله التطهر بما هو أشد في إحياء الأعضاء لأمر يقتضي ذلك أوجد له إماما أفهمه عنه إطلاق القول بعدم صحة الطهارة بسوى ذلك الماء في حق كل أحد فكان أنعش لهمته وألهمه تقليده ليلتزم ما هو الأحوط في حقه رحمة به ولما علم الله سبحانه وتعالى أن الأحظ والأصلح عنده تعالى أيضا لهذا العبد المؤمن تجديد وضوئه إذا كان متوضئا وصمم العزم على فعل ينتقض به الوضوء لانتقاض وضوئه الأول بنفس ذلك العزم
صفحه ۸
لأمر يقتضي ذلك أوجد له إمام هدى أفهمه عنه إطلاق القول بوجوب ذلك في حق كل أحد وألهمه التقليد له ليلتزم ما هو الأولى في حقه ولما علم سبحانه وتعالى إن الأحظ والأصلح عنده تعالى أيضا لهذا العبد المؤمن التنزه الكلي عن مباشرة ما خامره الكلب مثلا ولو بغير فمه من المائعات الشاملة للماء القليل والغسل من ذلك سبعا أحدها بتراب لأمر يقتضي ذلك أوجد له إمام هدى أفهمه عنه إطلاق القول بوجوب ذلك في حق كل أحد وألهمه التقليد له ليلتزم ما هو الأولى في حقه أيضا ولما علم سبحانه وتعالى إن الأحظ والأصلح عنده تعالى لهذا العبد المؤمن أن يتمضمض ويستنشق مثلا في كل وضوء لأمر يقتضي ذلك أوجد له إمام هدى أفهمه عنه إطلاق القول بوجوب ذلك في حق كل أحد وألهمه التقليد له ليلتزم ما هو الأولى في حقه وهكذا القول في سائر الأحكام فما من سبيل من سبل الهدى إلا ولها أهل في علمه سبحانه وتعالى أرشدهم إليها بطريق من طرق الارشاد الصريحة أو الإلهامية كما أنه سبحانه وتعالى يسر ظهور هذه الميزان لما علم أزلا إن الأحظ والأصلح عنده تعالى لمؤلفها ومن وافقه في مقامه وأخلاقه وأحواله أن يكشف له عن عين الشريعة الكبرى التي يتفرع منها سائر منازع مذاهب المجتهدين ومواد أقوالهم ليرى ويطلع على جميع محال مآخذهم لها من طريق الكتاب والسنة أطلعه الله سبحانه وتعالى عليها كذلك ليلتزم ما هو الأولى في حقه من كونه يقرر سائر مذاهب الأئمة بحق وصدق وليكون فاتحا لأتباعه باب صحة الاعتقاد في أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم كما سيأتي إيضاحه فضلا من الله ونعمة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ولا يقال لم لا سوى الحق تعالى بينهم بقدرته وجعلهم على حالة واحدة أو لم لا أفهم كل مقلد عن إمامه عدم إطلاق ذلك الحكم في حق كل أحد مثلا لأن ذلك كالاعتراض على ما سبق به العلم الإلهي ثم اعلم أن اختصاص كل طائفة من هذه الأمة بحكم من أحكام الشريعة في علم الله تعالى ربما يكون طريقا لترقيهم إلى أعلى ما هم عليه وربما يكون حفظا لمقامهم عن النقص ويصح أن يقال إن التكاليف كلها إنما هي للترقي دائما في حق من أتى بها على وجهها إذا اعتقدنا أن القائمين بما كلفوا به آخذون في الترقي مع الأنفاس لأن الله تعالى لا تنتهي مواهبه أبد الآبدين ودهر الداهرين والله واسع عليم فقد بان لك يا أخي بهذه القاعدة العظيمة التي ربما يكون عليها مدار هذه الميزان الكريمة التي ربما لم تسمح قريحة بمثلها إن هذه الميزان الشعرانية مدخلة لجميع مذاهب المجتهدين من أئمة الهدى ومقلديهم في الشريعة المحمدية نفع الله بها المسلمين * واعلم يا أخي أنني لما شرعت في تعليم هذه الميزان للإخوان لم يتعقلوها حتى جمعت لهم على قراءتها جملة من علماء المذاهب الأربعة فنهاك اعترفوا بفضلها كما اعترف به علماء المذاهب المذكورون حين رأوها توجه جميع أقوال مذاهبهم وقد وصلوا في قراءتها وتحريرها إلى باب ما يحرم من النكاح ونرجو من فضل الله إتمام قراءتها عليهم إلى آخر أبواب الفقه وذلك بعد أن سألوني في إيضاحها بعبارة أوسع من هذه العبارة المتقدمة وإيصال معرفتها إلى قلوبهم ذوقا من غير سلوك في طريق الرياضة على قواعد أهل الطريق فكأنهم حملوني بذلك جميع جبال الدنيا
صفحه ۹
على ظهري مع ضعف جسدي فصرت كلما أوضح لهم الجمع بين حديثين أو قولين في باب يأتوني بحديث أو قول في باب آخر يناقض عندهم مقابله فحصل لي منهم تعب شديد وكأنهم جمعوا لي سائر العلماء الذين يقولون بقولهم في سائر الأدوار من المتقدمين والمتأخرين إلى يوم الدين وقالوا لي جادل هؤلاء كلهم واجعلهم يرون جميع المذاهب المندرسة والمستعملة كلها صحيحة لا ترجيح فيها لمذهب على مذهب لاغترافها كلها من عين الشريعة المطهرة وذلك من أصعب ما يتحمله العارفون بأسرار أحكام الله تعالى ثم إني استخرت الله تعالى وأجبتهم إلى سؤالهم في إيضاح الميزان بهذا المؤلف الذي لا أعتقد أن أحدا سبقني إليه من أئمة الإسلام وسلكت فيه نهاية ما أعلم مسيس الحاجة إليه من البسط والإيضاح لمعانيها ونزلت أحاديث الشريعة التي قيل بتناقضها وما انبنى على ذلك من جميع أقوال المجتهدين ومقلديهم في سائر أبواب الفقه من باب الطهارة إلى آخر أبواب الفقه على مرتبتي الشريعة من تخفيف وتشديد حتى لم يبق عندهم في الشريعة تناقض تناسيا لهم فإنها ميزان لا يكاد الإنسان يرى لها ذائقا من أهل عصره وقدمت على ذلك عدة فصول نافعة هي كالشرح لما أشكل من ألفاظها عليهم أو كالدهليز الذي يتوصل منه إلى صدر الدار وبعضها مشتمل على ذكر أمثلة محسوسة تقرب على العقل كيفية تفريع جميع المذاهب من عين الشريعة الكبرى وكيفية اتصال أقوال آخر أدوار المقلدين بأول أدوارهم الذي هو مأخوذ من حضرة الوحي الإلهي من عرش إلى كرسي إلى قلم إلى لوح إلى حضرة جبرئيل عليه السلام إلى حضرة محمد صلى الله على وسلم إلى الصحابة إلى التابعين إلى تابع التابعين إلى الأئمة المجتهدين ومقلديهم إلى يوم الدين وعلى بيان شجرة وشبكة ودائرة وبحر يعلم الناظر فيها إذا تأمل أن جميع أقوال الأئمة لا يخرج شئ منها عن الشريعة وعلى بيان أن جميع الأئمة المجتهدين يشفعون في أتباعهم ويلاحظونهم في جميع شدائدهم في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة حتى يجاوزوا الصراط وعلى بيان أن كل مذهب سلكه المقلد وعمل به على وجه الاخلاص أوصله إلى باب الجنة وعلى بيان قرب منازل الأئمة على نهر الحياة من منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أعطاه الكشف وعلى بيان ذم الرأي وبيان تبري جميع الأئمة من القول به في دين الله عز وجل لا سيما الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه خلاف ما يظنه بعضهم به وختمت أبواب الفقه بخاتمة نفيسة مشتملة على بيان سبب مشروعية جميع التكاليف وهو أن أحكام الدين الخمسة نزلت من الأملاك السماوية فأكرم بها من ميزان لا أعلم أحد سبقني إلى وضع مثلها وكل من تحقق بذوقها دخل في نعيم الأبد وصار يقرر جميع مذاهب المجتهدين وأقوال مقلديهم ويقوم في تقرير ذلك مقامهم حتى كأنه صاحب ذلك المذهب أو القول العارف بدليله وموضع استنباطه وصار لا يجد شيئا من أقوال الأئمة ومقلديهم إلا وهو مستند إلى آية أو حديث أو أثر أو إجماع أو قياس صحيح على أصل صحيح كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأسأل الله تعالى من فضله أن يحمى هذا الكتاب من كل عدو وحاسد يدس فيه ما ليس من كلامي مما يخالف ظاهر الشريعة لينفر الناس عن
صفحه ۱۰
مطالعته كما وقع لي ذلك مع بعض الأعداء فإنهم دسوا في كتابي المسمى بالبحر المورود في المواثيق والعهود أمورا تخالف ظاهر الشريعة وداروا بها في الجامع الأزهر وغيره وحصل بذلك فتنة عظيمة وما خمدت الفتنة حتى أرسلت لهم نسختي التي عليها خطوط العلماء ففتشتها العلماء فلم يجدوا فيها شيئا مما يخالف ظاهر الشريعة مما دسه الأعداء فالله تعالى يغفر لهم ويسامحهم والحمد لله رب العالمين ولنشرع في ذكر الفصول الموضحة للميزان فأقول وبالله التوفيق.
* (فصل) * أن قال قائل إن حملك جميع أقوال الأئمة المجتهدين على حالتين يرفع الخلاف ومعلوم أن الخلاف إذا تحقق بين عالمين مثلا لا يرتفع بالحمل * فالجواب والأمر كذلك لكن عند كل من لم يتحقق بذوق هذه الميزان أما من تحققها وحمل الحديثين أو القولين على حالين فإن الخلاف يرتفع عنده كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية فأحمل يا أخي قول من قال أن الخلاف المحقق بين طائفتين لا يرتفع بالحمل على حالين على حال من لم يتعقل هذه الميزان وأحمل قول من قال إن الخلاف يرتفع بالحمل المذكور على من تعقلها لأنه لا يرى بين أقوال أهل الله تعالى خلافا محققا أبدا والحمد لله رب العالمين * (فصل) * إياك يا أخي أن تبادر أول سماعك لمرتبتي الميزان إلى فهم كون المرتبتين على التخيير مطلقا حتى أن المكلف يكون مخيرا بين فعل الرخصة والعزيمة في أي حكم شاء فقد قدمنا لك أن المرتبتين على الترتيب الوجوبي لا على التخيير بشرطه الآتي في أوائل الفصل السابع عند الاستثناء وأنه ليس الأولى لمن قدر على فعل العزيمة أن ينزل إلى فعل الرخصة الجائزة وقد دخل على بعض طلبة العلم وأنا أقرر في أدلة المذاهب وأقوال علمائها فتوهم إنني أقرر ذلك للطلبة على وجه التخيير بين فعل العزيمة والرخصة من حيث إن جميع الأئمة على هدى من ربهم فصار يحط على ويقول إن فلانا لا يتقيد بمذهب أي على طريق الذم والنقص لي لا على طريق وسع اطلاعي على أدلة الأئمة فالله تعالى يغفر له لعذره بعدم تعقل هذه الميزان الغريبة ويكون على علم جميع الإخوان إنني ما قررت مذهبا من مذاهب الأئمة إلا بعد اطلاعي على أدلة صاحبه لا على وجه حسن الظن به والتسليم له فقط كما يفعله بعضهم ومن شك في قولي هذا فلينظر في كتابي المسمى بالمنهج المبين في بيان أدلة المجتهدين فإنه يعرف صدقي يقينا وإنما لم اكتف بنسبة القول إلى الأئمة من غير اطلاعي على دليله لأن أحدهم قد يرجع عنه بخلاف ما إذا عرفت الأدلة في ذلك من كتاب أو سنة مثلا فإنه لا يصح مني رجوع عن تقرير ذلك المذهب كما يعرف ذلك من اطلع على توجيهي لكلام الأئمة الآتي من باب الطهارة إلى آخر أبواب الفقه فإني وجهت في هذه الميزان ما يقاس عليه جميع الأقوال المستعملة والمندرسة وعلمت أن الذين عملوا بتلك المذاهب ودانوا الله بها وأفتوا بها الناس إلى أن ماتوا كانوا على هدى من ربهم فيها عكس من يقول إنهم كانوا في ذلك على خطأ * فقد علمت يا أخي أنني لا أقول بتخيير المكلف بين العمل بالرخصة والعزيمة مع القدرة على فعل العزيمة المتعينة عليه معاذ الله أن أقول بذلك فإنه كالتلاعب بالدين كما مر في الميزان إنما تكون الرخصة للعاجز عن فعل العزيمة المذكورة قطعا لأنه حينئذ تصير الرخصة المذكورة
صفحه ۱۱
في حقه عزيمة بل أقول إن من الواجب على كل مقلد من طريق الإنصاف أن لا يعمل برخصة قال بها إمام مذهبه إلا إن كان من أهلها وأنه يجب عليه العمل بالعزيمة التي قال بها غير إمامه حيث قدر عليها لأن الحكم راجع إلى كلام الشارع بالأصالة لا إلى كلام غيره لا سيما إن كان دليل الغير أقوى خلاف ما عليه بعض المقلدين حتى أنه قال لي لو وجدت حديثا في البخاري ومسلم لم يأخذ به إمامي لا أعمل به وذلك جهل منه بالشريعة وأول من يتبرأ منه إمامه وكان من الواجب عليه حمل إمامه على أنه لم يظفر بذلك الحديث أو لم يصح عنده كما سيأتي إيضاحه في الفصول إن شاء الله تعالى إذ لم أظفر بحديث مما اتفق عليه الشيخان قال بضعفه أحد ممن يعتد بتضعيفه أبدا وفي كلام القوم لا ينبغي لأحد العمل بالقول المرجوح إلا إن كان أحوط في الدين من القول الأرجح كالقول بنقض الطهارة عند الشافعية بلمس الصغيرة والشعر والظفر فإن هذا القول وإن كان عندهم ضعيفا فهو أحوط في الدين فكان الوضوء منه أولى انتهى * وصاحب الذوق لهذه الميزان يرى جميع مذاهب الأئمة المجتهدين وأقوال مقلديهم كأنها شريعة واحدة لشخص واحد لكنها ذات مرتبتين كل من عمل بمرتبة منهما بشرطها أصاب كما سيأتي إيضاحه في الفصول إن شاء الله تعالى وقد اطلعني الله تعالى من طريق الالهام على دليل لقول الإمام داود الظاهري رضي الله عنه بنقض الطهارة بلمس الصغيرة التي لا تشتهي وهو أن الله تعالى أطلق اسم النساء على الأطفال في قوله تعالى في قصة فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ومعلوم أن فرعون إنما كان يستحيي الأنثى عقب ولادتها فكما أطلق الحق تعالى اسم النساء على الأنثى في قصة الذبح فكذلك يكون الحكم في قوله تعالى أو لامستم النساء بالقياس على حد سواء وهو استنباط حسن لم أجده لغيري فإنه يجعل علة النقض الأنوثة من حيث هي بقطع النظر عن كونها تشتهي أو لا تشتهي فقس عليه يا أخي كلما لم تطلع له من كلام الأئمة على دليل صريح في الكتاب أو السنة وإياك أن ترد كلام أحد من الأئمة أو تضعفه بفهمك فإن فهمك إذا قرن بفهم أحد من الأئمة المجتهدين كان كالهباء والله أعلم * (فصل) * فإن قال قائل فهل يجب عندكم على المقلد العمل بالأرجح من القولين أو الوجهين في مذهبه ما دام لم يصل إلى معرفة هذه الميزان من طريق الذوق والكشف * فالجواب نعم يجب عليه ذلك ما دام لم يصل إلى مقام الذوق لهذه الميزان كما عليه عمل الناس في كل عصر بخلاف ما إذا وصل إلى مقام الذوق لهذه الميزان المذكورة ورأى جميع أقوال العلماء وبحور علومهم تتفجر من عين الشريعة الأولى تبتدئ منها وتنتهي إليها كما سيأتي بيانه في فصل الأمثلة المحسوسة لاتصال أقوال العلماء كلهم بعين الشريعة الكبرى في مشهد صاحب هذا المقام فإن من اطلع على ذلك من طريق كشفه رأى جميع المذاهب وأقوال علمائها متصلة بعين الشريعة وشارعة إليها كاتصال الكف بالأصابع والظل بالشاخص ومثل هذا لا يؤمر بالتعبد بمذهب معين لشهوده تساوي المذاهب في الأخذ من عين الشريعة وأنه ليس مذهب أولى بالشريعة من مذهب
صفحه ۱۲
لأن كل مذهب عنده متفرع من عين الشريعة كما تتفرع عيون شبكة الصياد في سائر الأدوار من العين الأولى منها ولو أن أحدا أكرهه على التقيد لا يتقيد كما سيأتي إيضاحه في الفصول الآتية إن أشاء الله تعالى وصاحب هذا الكشف قد ساوى المجتهدين في مقام اليقين وربما زاد على بعضهم لاغتراف علمه من عين الشريعة ولا يحتاج إلى تحصيل آلات الاجتهاد التي شرطوها في حق المجتهد فحكمه حكم الجاهل بطريق البحر إذا ورد مع عالم بها ليملأ سقاه منه فلا فرق بين الماء الذي يأخذه العالم ولا بين الماء الذي يأخذه الجاهل هذا حكم جميع أهل هذه الميزان فيما صرحت به الشريعة من الأحكام بخلاف ما لم تصرح به إذا أراد الإنسان استخراجه من آية أو حديث فإنه يحتاج إلى معرفة الآلات من نحو وأصول ومعان وغير ذلك كما بيناه في كتابنا المسمى بمفحم الأكباد في بيان موارد الاجتهاد وهو مجلد ضخم فراجعه إن شئت والحمد لله رب العالمين * (فصل) * فإن قال قائل إن أحدا لا يحتاج إلى ذوق مثل هذه الميزان في طريق صحة اعتقاده إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم بل يكفيه اعتقاده تسليما وإيمانا كما عليه عمل غالب طلبة العلم في سائر الأعصار * فالجواب قد قدمنا لك في الميزان إن التسليم للأئمة هو أدنى درجات العبد في اعتقاده صحة أقوال الأئمة وإنما مرادنا بهذه الميزان ما هو أرقى من ذلك فيطلع المقلد على ما اطلع عليه الأئمة ويأخذ علمه من حيث أخذوا أما من طريق النظر والاستدلال وأما من طريق الكشف والعيان وقد كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول خذوا علمكم من حيث أخذه الأئمة ولا تقنعوا بالتقليد فإن ذلك عمى في البصيرة انتهى وسيأتي بسط ذلك في فصل ذم الأئمة للقول بالرأي في دين الله إن شاء الله تعالى فراجعه فإن قلت فلأي شئ لم يوجب العلماء بالله تعالى العمل بما أخذه العالم من طريق الكشف مع كونه ملحقا بالنصوص في الصحة عند بعضهم فالجواب ليس عدم إيجاب العلماء العمل بعلوم الكشف من حيث ضعفها ونقصها عما أخذه العالم من طريق النقل الظاهر وإنما ذلك للاستغناء عن عده في الموجبات بصرائح أدلة الكتاب والسنة عند القطع بصحته أي ذلك الكشف فإنه حينئذ لا يكون إلا موافقا لها أما عند عدم القطع بصحته فمن حيث عدم عصمة الآخذ لذلك العلم فقد يكون دخل كشفه التلبيس من إبليس فإن الله تعالى قد أقدر إبليس كما قال الغزالي وغيره على أن يقيم للمكاشف صورة المحل الذي يأخذ علمه منه من سماء أو عرش أو كرسي أو قلم أو لوح فربما ظن المكاشف إن ذلك العلم عن الله فأخذ به فضل وأضل فمن هنا أوجبوا على المكاشف أنه يعرض ما أخذه من العلم من طريق كشفه على الكتاب والسنة قبل العمل به فإن وافق فذاك وإلا حرم عليه العمل به فعلم أن من أخذ علمه من عين الشريعة من غير تلبيس في طريق كشفه فلا يصح منه الرجوع عنه أبدا ما عاش لموافقته الشريعة التي بين أظهرنا من طريق النقل ضرورة أن الكشف الصحيح لا يأتي دائما إلا موافقا للشريعة كما هو مقرر بين العلماء والله أعلم * (فصل) * فإن طعن طاعن في هذه الميزان وقال إنها لا تكفي أحدا في إرشاده إلى طريق صحة اعتقاده أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم كما مر قلنا له هذا أكثر ما قدرنا عليه
صفحه ۱۳
في طريق الجمع بين قول العبد بلسانه إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم وبين اعتقاده ذلك بقلبه فإن قدرت يا أخي على طريق أخرى تجمع بين القلب واللسان فاذكرها لنا لنرقمها في هذه الميزان ونجعلها طريقة أخرى ولعل الطاعن في صحة هذه الميزان التي ذكرناها إنما كان الحامل له على ذلك الحسد والتعصب فإنه لا يقدر يجعل الشريعة على أكثر من مرتبتين تخفيف وتشديد أبدا ومن شك في قولي هذا فليأت بما يناقضه وأنا أرجع إلى قوله فإني والله ناصح للأمة ما أنا متعنت ولا مظهر علما لحظ نفس فيما أعلم بقطع النظر عن إرشادي للإخوان إلى صحة الاعتقاد في كلام أئمتهم ولولا محبتي لإرشاد الإخوان إلى ما ذكر لأخفيت عنهم علم هذه الميزان الشريفة كما أخفيت عنهم من العلوم اللدنية ما لم نؤمر بإفشائه كما أشرنا إليه في كتابنا المسمى بالجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والعلوم فإننا ذكرنا فيه من علوم القرآن العظيم نحو ثلاثة آلاف علم لا مرقى لأحد من طلبة العلم الآن فيما نعلم إلى التسلق إلى معرفة علم واحد منها بفكر ولا إمعان نظر في كتب وإنما طريقها الكشف الصحيح فتخلع هذه العلوم على العارف حال تلاوته للقرآن لا يتخلف عن النطق به حتى كان عين ذلك العلم عين النطق بتلك الكلمة ومتى تخلف العلم عن النطق فليس هو من علوم أهل الله وإنما هو ينتجه فكر وعلوم الأفكار مدخولة عند أهل الله لا يعتمدون عليها لإمكان رجوع أهلها عنها بخلاف علوم أهل الكشف كما مر آنفا فاعلم ذلك * (فصل) * وإياك أن تسمع بهذه الميزان فتبادر إلى الانكار على صاحبها وتقول كيف يصح لفلان الجمع بين جميع المذاهب وجعلها كأنها مذهب واحد من غير أن تنظر فيها أو تجتمع بصاحبها فإن ذلك جهل منك وتهور في الدين بل اجتمع بصاحبها وناظره فإن قطعك بالحجة وجب عليك الرجوع إلى قوله ولو لم يسبقه أحد إلى مثله وإياك أن تقول إن واضع هذه الميزان جاهل بالشريعة فتقع في الكذب فإنه إذا كان مثله يسمى جاهلا مع قدرته على توجيه أحكام جميع أقوال المذاهب فما بقي على وجه الأرض الآن عالم وقد قال الإمام محمد بن مالك وإذا كانت العلوم منحا إلهية واختصاصات لدنية فلا بدع أن يدخر الله تعالى لبعض المتأخرين ما لم يطلع عليه أحد من المتقدمين انتهى فبالله عليك يا أخي ارجع إلى الحق وطابق في الاعتقاد بين اللسان والقلب ولا يصدنك عن ذلك كون أحد من العلماء السابقين لم يدون مثل هذه الميزان فإن جود الحق تعالى لم يزل فياضا على قلوب العلماء في كل عصر واخرج عن علومك الطبيعية الفهمية إلى العلوم الحقيقية الكشفية ولو لم يألفها طبعك فإن من علامة العلوم اللدنية أن تمجها العقول من حيث إنكارها ولا تقبلها إلا بالتسليم فقط لغرابة طريقها فإن طريق الكشف مباينة لطريق الفكر وسيأتي في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى إن من علامة عدم صحة اعتقاد الطالب في أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم كونه يحصل له في باطنه ضيق وحرج إذا قلد غير إمامه في واقعة ويقال له أين قولك إن غير إمامك على هدى من ربه وكيف يحصل في قلبك ضيق وحرج من الهدى فهناك تندحض دعواه وتظهر له عدم صحة عقيدته إن كان عاقلا والحمد لله رب العالمين
صفحه ۱۴
* (فصل) * إعلم يا أخي أني ما وضعت هذه الميزان للإخوان من طلبة العلم إلا بعد تكرر سؤالهم لي في ذلك مرارا كما مر أول الفصول وقولهم لي مرادنا الوصول إلى مقام مطابقة القلب للسان في صحة اعتقاد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم في سائر أقوالهم فلذلك أمعنت النظر لهم في سائر أدلة الشريعة وأقوال علمائها فرأيتها لا تخرج عن مرتبتين تخفيف وتشديد فالتشديد للأقوياء والتخفيف للضعفاء كما مر لكن ينبغي استثناء ما ورد من الأحكام بحكم التخيير فإن للقوي أن ينزل إلى مرتبة الرخصة والتخفيف مع القدرة على فعل الأشد ولا تكون المرتبتان المذكورتان في الميزان فيه على الترتيب الوجوبي وذلك كتخيير المتوضئ إذا كان لابس الخف بين نزعه وغسل الرجلين وبين مسحه بلا نزع مع أن إحدى المرتبتين أفضل من الأخرى كما ترى فإن غسل الرجلين أفضل إلا لمن نفرت نفسه من المسح مع علمه بصحة الأحاديث فيه فإن المسح له أفضل على أنه لقائل أن يقول إن المرتبتين في حق هذا الشخص أيضا على الترتيب الوجوبي بمعنى أنه لو أراد أن يعبد الله تعالى بالأفضل كان الواجب عليه في الإتيان بالأفضل ارتكاب العزيمة وهو إما الغسل بالنظر إلى حال غالب الناس وإما المسح بالنظر إلى ذلك الفرد النادر الذي نفرت نفسه من فعل السنة لا سيما وقولنا أفضل غير مناف للوجوب كما تقول لمن تنصحه عليك يا أخي برضى الله تعالى فإنه أولى لك من سخطه وكذلك ينبغي أن يستثنى من وجوب الترتيب في مرتبتي الميزان ما إذا ثبت عن الشارع فعل أمرين معا في وقتين من غير ثبوت نسخ لأحدهما كمسح جميع الرأس في وقت ومسح بعضه في وقت آخر وكموالاة الوضوء تارة وعدم الموالاة فيه تارة أخرى ونحو ذلك فمثل هذا لا يجب فيه تقديم مسح جميع الرأس والموالاة على مسح بعضه وعدم المولاة إلا إذا أراد المكلف التقرب إلى الله تعالى بالأولى فقط وقس على ذلك نظائره وأما قول سيدنا ومولانا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن آخر الأمرين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناسخ المحكم فهو أكثري لا كلي إذ لو كان ذلك كليا لحكمنا بنسخ المتقدم من الأمرين بيقين في نفس الأمر من مسح كل الرأس أو بعضه مثلا لأنه لا بد أن يكون انتهى الأمر منه صلى الله عليه وسلم إلى مسح الكل أو البعض فيكون ما قبل الأخير منسوخا ولا يخفى ما في ذلك من القدح في مذهب من يقول بوجوب تعميم مسح الرأس أو عدم تعميمه وكان الإمام محمد بن المنذر رحمه الله يقول إذا ثبت عن الشارع صلى الله عليه وسلم فعل أمرين في وقتين فهما على التخيير ما لم يثبت النسخ فيعمل المكلف بهذا الأمر تارة وبهذا الأمر تارة أخرى انتهى وعلى ما قررناه من مرتبتي الميزان ينبغي حمل القول بمسح الرأس كله وجوبا على زمن الصيف مثلا ومسح بعضه على مسحه في زمن البرد مثلا لا سيما في حق من كان أقرع أو كان قريب العهد بحلق رأسه أو يخاف من نزول الحوادر من رأسه فاعلم ذلك يا أخي وقس عليه نظائره والحمد لله رب العالمين * (فصل) * إعلم يا أخي أن مرادنا بالعزيمة والرخصة المذكورتين في هذه الميزان هما مطلق التشديد والتخفيف وليس مرادنا العزيمة والرخصة اللتين حدهما الأصوليون
صفحه ۱۵
في كتبهم فما سمينا مرتبة التخفيف رخصة إلا بالنظر لمقابلها من التشديد أو الأفضل لا غير وإلا فالعاجز لا يكلف بفعل ما هو فوق طاقته شرعا وإذا لم يكلف بما فوق طاقته فما بقي إلا أن يكون فعل الرخصة في حقه واجبا كالعزيمة في حق القوي فلا يجوز للعاجز النزول عن الرخصة إلى مرتبة ترك الفعل بالكلية كما إذا قدر فاقد الماء المطلق على التراب لا يجوز له ترك التيمم وكما إذا قدر العاجز عن القيام في الفريضة على الجلوس لا يجوز له الاضطجاع أو قدر على الاضطجاع على اليمين أو اليسار لا يجوز له الاستلقاء أو قدر على الاستلقاء لا يجوز له الاكتفاء بنحو الايماء بالعينين أو قدر على الايماء بالعينين لا يجوز له الاكتفاء بإجراء أفعال الصلاة على قلبه كما هو مقرر في كتب الفقه فكل مرتبة من هذه المراتب بالنظر لما قبلها كالعزيمة مع الرخصة لا يجوز له النزول إليها إلا بعد عجزه عما قبلها والله أعلم والحمد لله رب العالمين * (فصل) * ثم لا يخفى عليك يا أخي إن كل من فعل الرخصة بشرطها أو المفضول بشرطه فهو على هدى من ربه في ذلك ولو لم يقل به إمامه على ما يأتي في الفصول الآتية من التفصيل كما أن من فعل العزيمة أو الأفضل بكلفة ومشقة فهو على هدى من ربه في ذلك ولو لم يكلفه الشارع بذلك من حيث عظم المشقة فيه اللهم إلا أن يأتي عن الشارع ما يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم ليس من البر الصيام في السفر فإن الأفضل للمسافر في مثل ذلك الفطر للضرر الحاصل به ومن المعلوم أن من شأن الأمور التي يتقرب به إلى حضرة الله تعالى أن تكون النفس منشرحة بها محبة لها غير كارهة وكل من يأتي بالعباد كارها لها أي من حيث مشقتها فقد خرج عن موضوع القرب الشرعية المتقرب بها إلى حضرة الله عز وجل لا سيما في مثل المسألة التي نحن فيها فإنه صلى الله عليه وسلم نفى البر والتقرب إلى الله تعالى بالصوم الذي يضر بالمسافر ونحن تابعون للشارع ما نحن مشرعون فلا ينبغي لأحد التقرب إلى الله تعالى إلا بما أذن له الشارع فيه وانشرحت نفسه به من سائر المندوبات وما لم يأذن فيه فهو إلى الابتداع أقرب وما كل بدعة يشهد لها ظاهر الكتاب والسنة حتى يتقرب بها وتأمل يا أخي نهى الشارع عن الصلاة حال النعاس تعرف ذلك لأن النعاس إذا غلب على العبد وتكلف الصلاة صارت نفسه كالمكره عليها ولا يخفى ما في ذلك من نقص الثواب المرتب على محبة الطاعة فاعلم ذلك يا أخي واعمل بالرخص بشرطها فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه كما صرح به الحديث الذي رواه الطبراني وغيره والحمد لله رب العالمين * (فصل) * إن قال قائل فعلى ما قررتم فهل رأيتم في كلام أحد من العلماء ما يؤيد هذه الميزان من حمل كلام الأئمة على حالين ورده إلى الشريعة قلنا نعم ذكر الشيخ محيي الدين في الفتوحات المكية وغيره من أهل الكشف أن العبد إذا سلك مقامات القوم متقيدا بمذهب واحد لا يرى غيره فلا بد أن ينتهي به ذلك المذهب إلى العين التي أخذ إمامه منها أقواله وهناك يرى أقوال جميع الأئمة تغترف من بحر واحد فينفك عنه التقيد بمذهبه ضرورة ويحكم بتساوي المذاهب كلها في الصحة خلاف ما كان يعتقد قبل ذلك
صفحه ۱۶
قال الشيخ محيي الدين ونظير ما قلناه القول بتفضيل الرسل بعضهم على بعض بالاجتهاد ثم إذا وصل إلى شهود حضرة الوحي التي أخذوا منها أحكام شرائعهم انفك عنه التفضيل بالاجتهاد وصار لا يفرق بين أحد من رسله إلا من حيثما كشف الله تعالى له عنه بحكم اليقين لا الظن فهذا نظير المقلد إذا اطلع على العين التي أخذ الأئمة المجتهدون مذاهبهم منها انتهى وكذلك مما يؤيد هذه الميزان قول الشيخ بدر الدين الزركشي في آخر كتاب القواعد له في الفقه أعلم وفقك الله لطاعته إن الأخذ بالرخص والعزائم في محل كل منهما مطلوب فإذا قصد المكلف بفعل الرخصة قبول فضل الله عليه كان أفضل كما أشار إليه حديث أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه فإذا ثبت هذا الأصل عندك يا أخي فاعلم أن مطلوب الشرع الوفاق ورد الخلاف إليه ما أمكن كما عليه عمل الأئمة من أهل الورع والتقوى كأبي محمد الجويني وأضرابه فإنه صنف كتابه المحيط ولم يلتزم فيه المشي على مذهب معين قال وذلك في حق أهل الورع والتقوى من باب العزائم كما أن العمل بالمختلف فيه عندهم من باب الرخص فإذا وقع العبد في أمر ضروري وأمكنه الأخذ فيه بالعزيمة فله فعله وله تركه وكان ذلك الفعل الشديد عليه من باب القوة والأخذ بالعزائم إن كان راجحا وإن لم يمكنه الأخذ فيه بالعزيمة أخذ بالرخصة كما أن له الأخذ بالقول الضعيف في بعض المواطن فلا يكون ذلك منه من باب المخالفة المحضة قال الزركشي وبعد إذ علمت هذا فحينئذ تعرف أن أحدا من الأئمة الأربعة أو غيرهم لم يتقلد أمر المسلمين في القول برخصة أو عزيمة إلا على حد ما ذكرناه من هذه القاعدة فينبغي لكل مقلد للأئمة أن يعرف مقاصدهم انتهى كلام الزركشي رحمه الله في آخر قواعده وهو من أعظم شاهد لصحة هذه الميزان فلم ينقل لنا عن أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم فيما بلغنا أنه كان يطرد الأمر في كل عزيمة قال بها أو رخصة قال بها في حق جميع الأمة أبدا وإنما ذلك في حق قوم دون قوم وقد بلغنا أنه كان يفتي الناس بالمذاهب الأربعة الشيخ الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي الشيخ عبد العزيز الديريني وشيخ الإسلام عز الدين بن جماعة المقدسي والشيخ العلامة الشيخ شهاب الدين البراسي الشهير بابن الأقيطع رحمهم الله والشيخ علي النبتيتي الضرير ونقل الشيخ الجلال السيوطي رحمه الله عن جماعة كثيرة من العلماء إنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ولا نصوصه ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به انتهى فإن قال قائل كيف صح من هؤلاء العلماء أن يفتوا الناس بكل مذهب مع كونهم كانوا مقلدين ومن شأن المقلد أن لا يخرج عن قول إمامه فالجواب يحتمل أن يكون أحدهم بلغ مقام الاجتهاد المطلق المنتسب الذي لم يخرج صاحبه عن قواعد إمامه كأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن القاسم وأشهب والمزني وابن المنذر وابن سريج فهؤلاء كلهم وإن أفتوا الناس بما لم يصرح به إمامهم فلم يخرجوا عن قواعده وقد نقل الجلال السيوطي رحمه الله تعالى إن الاجتهاد المطلق على قسمين مطلق غير منتسب كما عليه الأئمة الأربعة ومطلق منتسب كما عليه أكابر أصحابهم الذين ذكرناهم
صفحه ۱۷
قال ولم يدع الاجتهاد المطلق غير المنتسب بعد الأئمة الأربعة إلا الإمام محمد بن جرير الطبري ولم يسلم له ذلك انتهى ويحتمل أن هؤلاء العلماء الذين كانوا يفتون الناس على المذاهب الأربعة أطلعهم الله تعالى على عين الشريعة الأولى وشهدوا اتصال جميع أقوال الأئمة المجتهدين بها وكانوا يفتون الناس بحكم مرتبتي الميزان لا بحكم العموم فلا يأمرون قويا برخصة ولا ضعيفا بعزيمة وكأنهم نابوا مناب أهل المذاهب الأربعة في تقرير مذاهبهم واطلعوا على جميع أدلتهم وقد بلغنا حصول هذا المقام أيضا لجماعة من علماء السلف كالشيخ أبي محمد الجويني والإمام ابن عبد البر المالكي ومن الدليل على ذلك أن أبا محمد صنف كتابه المسمى بالمحيط ولم يتقيد فيه بمذهب كما مر عن الزركشي وكذلك ابن عبد البركان يقول كل مجتهد مصيب فإما أن يكونا فعلا أو قالا ما ذكر لاطلاعهما على عين الشريعة الكبرى وتفريع أقوال جميع العلماء منها كما اطلعنا بحمد الله تعالى وإما أن يكونا فالا ذلك من حيث إن الشارع قرر حكم المجتهد الذي استنبطه من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد بلغنا عن الشيخ عز الدين بن جماعة أنه كان إذا أفتى عاميا بحكم على مذهب إمام يأمره بفعل جميع شروط ذلك الإمام الذي أفتاه بقوله ويقول له إن تركت شرطا من شروطه لم تصح عبادتك على مذهبه ولا غيره إذ العبادة الملفقة من عدة مذاهب لا تصح إلا إذا جمعت شروط تلك المذاهب كلها انتهى وذلك منه احتياطا للدين وخوفا أن يتسبب في نقص عبادة أحد من المسلمين فإن قلت فهل ينبغي لمن يفتي على الأربعة مذاهب أن لا يفتي المقلدين إلا بالأرجح من حيث النقل أو يفتيهم بما شاء من الأقوال فالجواب الذي ينبغي له أن لا يفتي الناس إلا بالأرجح لأن المقلد ما سأله إلا ليفتيه بالأرجح من مذهب إمامه لا بما عنده هو اللهم إلا أن يكون المرجوح أحوط في دين السائل فله أن يفتيه بالرجوح ولا حرج * ولما ادعى الجلال السيوطي رحمه الله مقام الاجتهاد المطلق المنتسب كان يفتي الناس بالأرجح من مذهب الإمام الشافعي فقالوا له لم لا تفتيهم بالأرجح عندك فقال لم يسألوني ذلك وإنما سألوني عما عليه الإمام وأصحابه فيحتاج من يفتي الناس على الأربعة مذاهب أن يعرف الراجح عند أهل كل مذهب ليفتي به المقلدين إلا أن يعرف من السائل أنه يعتمد علمه ودينه وينشرح صدره لما يفتيه به ولو كان مرجوحا عنده فمثل هذا لا يحتاج إلى الاطلاع على ما هو الأرجح عند أهل كل مذهب انتهى فاعلم ذلك * (فصل) * ومما يوضح لك صحة مرتبتي الميزان أن تنظر إلى كل حدث ورد أو قول استنبط وإلى مقابله فإذا نظرت فلا بد أن تجد أحدهما مخففا والآخر مشددا غير ذلك لا يكون ثم إن الحديث أو القول المخفف قد يكون هو الصحيح الراجح في مذهبك وقد يكون هو الضعيف المرجوح ولا يخلو حالك يا أخي عند العمل به من أن تكون من أهل مرتبة من مرتبتي الميزان دون المرتبة الأخرى بالشروط التي تقدمت في فعل الرخصة أي التخفيف فتفتي كل أحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت به فاعلم ذلك واعمل عليه وأفت غيرك بما هو وأهله فليس لمن قدر على سهولة الطهارة أن يمس فرجه
صفحه ۱۸
إذا كان شافعيا ويصلي بلا تجديد طهارة تقليدا لأبي حنيفة كما أنه ليس له أن يصلي فرضا أو نفلا بغير الفاتحة مع قدرته عليها أو أن يصلي بالذكر مع قدرته على القرآن كما سيأتي إيضاحه في توجيه أقوال العلماء إن شاء الله تعالى على أن لك أيضا أن تصعد إلى فعل العزيمة مع المشقة إن اخترت ذلك على وجه المجاهدة لنفسك كما أن لك أيضا أن تنزل إلى الرخصة بشرطها في هذه الميزان وهو العجز عن غيرها حسا أو شرعا فقط وتكون على هدى من ربك في كل من المرتبتين ثم إنه قد يكون في الحكم الواحد أكثر من قولين فالحاذق يرد ما قارب التشديد إلى التشديد وما قارب التخفيف إلى التخفيف كالقول المفصل على حد سواء كما قدمناه في خطبة الميزان * ومحال أن يوجد دليلان أو قولان مشددان أو مخففان لا يلحق أحدهما بالآخر ولا يدخل فيه فإن شئت فامتحن ذلك في أقوال مذهبك مع بعضها بعضا وإن شئت فامتحن ذلك في مذهبك ومقابله من جميع المذاهب المخالفة له تجدهما لا يخرجان عن تخفيف وتشديد ولكل منهما رجال في حال مباشرة التكاليف كما مر في الميزان وكذلك ما أوجبه المجتهد أو حرمه باجتهاده فكله يرجع إلى المرتبتين فإن مقابل التحريم عدم التحريم الشامل للمندوب وقال بعضهم ما أوجبه المجتهد أو حرمه يكون في مرتبة الأولى ومقابله في مرتبة خلاف الأولى لأنه ليس لغير الشارع أن يحرم أو يوجب شيئا انتهى والحق أن للمجتهد المطلق أن يحرم ويوجب وانعقد إجماع العلماء على ذلك بل ولو قلنا بقول هذا البعض فهو يرجع إلى المرتبتين أيضا إذ الأولى في مرتبة التشديد غالبا لتحجير المطلوبية في الجملة سواء كان ذلك الأولى فعلا أو تركا وخلاف الأولى في مرتبة التخفيف غالبا فإن قال قائل فمن أين جعلتم كلام المجتهدين من جملة الشريعة مع أن الشارع لم يصرح بما استنبطوه فالجواب أنه يجب حملهم على أنهم علموا ذلك الوجوب أو التحريم من قرائن الأدلة أو علموا أنه مراد الشارع من طريق كشفهم لا بد لهم من أحد هذين الطريقين وقد يجتمعان عند بعض المجتهدين فإن قال قائل فما تقولون فيما ورد فردا من الأحاديث والأقوال فالجواب مثل ذلك لا مقابل له بل هو شرع مجمع عليه فلا يأتي فيه مرتبتا الميزان وذلك كالحديث الذي نسخ مقابله أو كالقول الذي رجع عنه المجتهد أو أجمع العلماء على خلافه فليس فيما ذكر إلا مرتبة واحدة لجميع المكلفين لعدم وجود مشقة على أحد في قوله ترجح على مشقة تركه خلاف ما فيه المشقة المذكورة فإنه يجئ فيه التخفيف والتشديد كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا فإنه ورد في كل منهما التخفيف والتشديد فالتشديد كونه عند بعضهم لا يسقط عن المكلف بخوفه على نفسه أو ماله والتخفيف سقوطه عنه بخوفه المذكور عند آخرين فالأول في حق الأقوياء في الدين كالعلماء والصالحين والثاني في حق الضعفاء من العوام في الإيمان واليقين * فإن قال قائل فهل تأتي المرتبتان في حق من يغير المنكر بتوجهه بقلبه إلى الله تعالى من الأولياء فيكسر إناء الخمر ويمنع الزاني من الزنا بحيلولته بحائل بينه وبين فرج الزانية مثلا فالجواب نعم تأتي فيه المرتبتان فمن الأولياء من يرى وجوب التوجه إلى الله تعالى في ذلك ويكون بذلك كالقادر على إزالة المنكر ومنهم من لا يرى وجوب ذلك بل يكره الاطلاع بكشفه على المنكرات الواقعة في الوجود من غير
صفحه ۱۹
المتجاهرين بمعاصيهم وذلك لما فيه من الاطلاع على عورات الناس ويسمى ذلك بالكشف الشيطاني عند بعض القوم وأنه يجب على صاحبه سؤال الله تعالى أن يحول بينه وبينه فإن قال قائل فما تقولون فيمن له حال يحميه من أهل المنكر إذا أنكر عليهم وكسر إناء خمرهم هل يجب عليه تغييره باليد أو اللسان اعتمادا على أن الله تعالى لا يخذله أو لا يجب من حيث إن الحق تعالى لا تقيد عليه فالجواب مثل هذا تأتي فيه المرتبتان فمن الأولياء من ألزمه بذلك إذا علم أن له حالا يحميه ومنهم من لم يلزمه بذلك نظير ما قالوا فيمن قدر على أن يصل إلى مكة في خطوة والحمد لله رب العالمين * (فصل) * فإن قلت فمن يقول إن القياس من جملة الأدلة الشرعية فهل تأتي فيه كذلك مرتبتا الميزان فالجواب نعم تأتيان فيه فإن من العلماء من كره القياس في الدين ومنهم من أجازه من غير كراهة ومنهم من منعه فإنه طرد علة وما يدري العبد بأن الشارع قد لا يكون أراد طرد تلك العلة وإنما ترك ذلك الأمر خارجا عن ذلك الحكم توسعة على أمته وذلك كقياس الأرز على البرقي باب الربا يجامع الاقتيات فإن الشارع لم يبين لنا حكم الأرز فكان الأولى بالأدب عند بعض أهل الله تعالى إبقاءه على عدم دخول الربا فيه كما أشار إليه حديث وسكت عن أشياء رحمة بكم فمن يقول بقياس الأرز على البر مشدد ومن يقول بعدم قياسه مخفف وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يقدرون على القياس ولكنهم تركوا ذلك أدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هنا قال سفيان الثوري من الأدب إجراء الأحاديث التي خرجت مخرج الزجر والتنفير على ظاهرها من غير تأويل فإنها إذا أولت خرجت عن مراد الشارع كحديث من غشنا فليس منا وحديث من تطير أو تطير له وحديث ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية فإن العالم إذا أولها بأن المراد ليس منا في تلك الخصلة فقط أي وهو منافي غيرها هان على الفاسق الوقوع فيها وقال مثل المخالفة في خصلة واحدة أمر سهل فكان أدب السلف الصالح بعدم التأويل أولى بالاتباع للشارع وإن كانت قواعد الشريعة قد تشهد أيضا لذلك التأويل * وقد دخل جعفر الصادق ومقاتل بن حبان وغيرهما على الإمام أبي حنيفة وقالا له قد بلغنا أنك تكثر من القياس في دين الله تعالى وأول من قاس إبليس فلا تقس فقال الإمام ما أقوله ليس هو بقياس وإنما ذلك من القرآن قال تعالى ما فرطنا في الكتاب من شئ فليس ما قلناه بقياس في نفس الأمر وإنما هو قياس عند من لم يعطه الله تعالى الفهم في القرآن انتهى ومن هنا يعلم أن أهل الكشف غير محتاجين إلى القياس لاستغنائهم عنه بالكشف فإن أورد عليهم شخص نحو تحريم ضرب الوالدين فإنه ليس في القرآن التصريح بتحريم ضربهما وإنما أخذ العلماء ذلك من قوله تعالى فلا تقل لهما أف فكان النهي عن ضربهما من باب أولى فالجواب أن هذا لا يرد على أهل الكشف لأن الله تعالى قال وبالوالدين إحسانا ومعلوم أن ضربهما ليس بإحسان فلا حاجة إلى القياس * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول يصح دخول القياس عند من احتاج إليه وعند من لم يحتج إليه في مرتبتي الميزان فمن كلف الإنسان بالفحص عن الأدلة واستخراج النظائر من القرآن شدد ومن لم يكلفه بذلك فقد خفف ولم يزل
صفحه ۲۰
في الناس من يقدر على الاستنباط ومن يعجز عن ذلك في كل عصر وكان ابن حزم يقول جميع ما استنبطه المجتهدون معدود من الشريعة وإن خفي دليله على العوام ومن أنكر ذلك فقد نسب الأئمة إلى الخطأ وأنهم يشرعون ما لم يأذن به الله وذلك ضلال من قائله عن الطريق والحق أنه يجب اعتقاد أنهم لولا رأوا في ذلك دليلا ما شرعوه فرجع الأمر كذلك في قضية الاستنباط إلى مرتبتي الشريعة كالقياس فمن أمر الناس باتباع كل ما شرعه المجتهدون فقد شدد ومن لم يأمرهم إلا بما صرحت به الشريعة أو أجمع عليه العلماء فقد خفف في الجملة لأنه من باب فمن تطوع خيرا فهو خير له والحمد لله رب العالمين * (فصل) * من لازم كل من لم يعمل بهذه الميزان التي ذكرناها وترك العمل بجميع الأقوال المرجوحة نقصان الثواب غالبا وسوء الأدب مع جميع أصحاب تلك الأقوال والوجوه من العلماء عكس ما يحصل لمن عمل بالميزان فإن ذلك المرجوح الذي ترك هذا العبد العمل به لا يخلوا ما أن يكون أحوط للدين فهذا لا ينبغي ترك العمل به وإما أن يكون غير أحوط فقد يكون رخصة والله يحب أن تؤتي رخصة كما صرح به الحديث أي بشرطه ويكون على علم الإخوان أن لكل سنة سنها المجتهدون أو بدعة حرمها المجتهدون درجة في الجنة أو دركا في النار وأن تفاوت مقامهم ونزل عما سنه الشارع أو كرهه كما صرح به أهل الكشف فاعلم ذلك واعمل بكل ما سنه لك المجتهدون واترك كل ما كرهوه ولا تطالبهم بدليل في ذلك فإنك محبوس في دائرتهم ما دمت لم تصل إلى مقامهم لا يمكنك أن تتعداهم إلى الكتاب والسنة وتأخذ الأحكام من حيث أخذوا أبدا * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول اعملوا بكل أقوال الأئمة التي ظاهرها المخالفة لبعضهم بعضا عند اجتماع شروط العمل بها فيكم لتحوزوا الثواب الكامل فأين مقام من يعمل بالشريعة كلها ممن يرد غالبها ولا يعمل به إذ المذهب الواحد لا يحتوي أبدا على جميع الأدلة ولو قال صاحبه في الجملة إذا صح الحديث فهو مذهبي بل ربما ترك أتباعه العمل بأحاديث كثيرة صحت بعد إمامهم وذلك خلاف مراد إمامهم فافهم انتهى فإن توقف إنسان في حصول الثواب بما سنه المجتهدون وطالبنا بالدليل على ذلك قلنا له إما أن تؤمن بأن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم فلا يسعه إن كان صحيح الاعتقاد إلا أن يقول نعم فنقول له فحيثما آمنت بأنهم على هدى من الله تعالى وأن مذاهبهم صحيحة لزمك الإيمان بالثواب لكل من عمل بها على وجه الاخلاص وحصول المراتب لمن عمل بها في الجنة وإن تفاوت المقام فإن ما سنه الشارع أعلى مما سنه المجتهد لا سيما وقد قال صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى آخر ما قال عليه الصلاة والسلام فافهم والله أعلم * (فصل) * ينبغي لكل مؤمن الإقبال على العمل بكل حديث ورد وبكل قول استنبط أي بشرطه لأنه لا يخرج عن مرتبتي الميزان أبدا * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول كل ما ترونه في كلام الشارع وكلام أحد من الأئمة مخالفا للآخر في الظاهر فهو محمول على حالين لأن كلام الشارع يجل عن التناقض وكذلك كلام الأئمة لمن نظر فيه بعين العلم والإنصاف لا بعين الجهل والتعصب كما مر قال وتأملوا قوله صلى
صفحه ۲۱