قال الشيخ محيي الدين ونظير ما قلناه القول بتفضيل الرسل بعضهم على بعض بالاجتهاد ثم إذا وصل إلى شهود حضرة الوحي التي أخذوا منها أحكام شرائعهم انفك عنه التفضيل بالاجتهاد وصار لا يفرق بين أحد من رسله إلا من حيثما كشف الله تعالى له عنه بحكم اليقين لا الظن فهذا نظير المقلد إذا اطلع على العين التي أخذ الأئمة المجتهدون مذاهبهم منها انتهى وكذلك مما يؤيد هذه الميزان قول الشيخ بدر الدين الزركشي في آخر كتاب القواعد له في الفقه أعلم وفقك الله لطاعته إن الأخذ بالرخص والعزائم في محل كل منهما مطلوب فإذا قصد المكلف بفعل الرخصة قبول فضل الله عليه كان أفضل كما أشار إليه حديث أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه فإذا ثبت هذا الأصل عندك يا أخي فاعلم أن مطلوب الشرع الوفاق ورد الخلاف إليه ما أمكن كما عليه عمل الأئمة من أهل الورع والتقوى كأبي محمد الجويني وأضرابه فإنه صنف كتابه المحيط ولم يلتزم فيه المشي على مذهب معين قال وذلك في حق أهل الورع والتقوى من باب العزائم كما أن العمل بالمختلف فيه عندهم من باب الرخص فإذا وقع العبد في أمر ضروري وأمكنه الأخذ فيه بالعزيمة فله فعله وله تركه وكان ذلك الفعل الشديد عليه من باب القوة والأخذ بالعزائم إن كان راجحا وإن لم يمكنه الأخذ فيه بالعزيمة أخذ بالرخصة كما أن له الأخذ بالقول الضعيف في بعض المواطن فلا يكون ذلك منه من باب المخالفة المحضة قال الزركشي وبعد إذ علمت هذا فحينئذ تعرف أن أحدا من الأئمة الأربعة أو غيرهم لم يتقلد أمر المسلمين في القول برخصة أو عزيمة إلا على حد ما ذكرناه من هذه القاعدة فينبغي لكل مقلد للأئمة أن يعرف مقاصدهم انتهى كلام الزركشي رحمه الله في آخر قواعده وهو من أعظم شاهد لصحة هذه الميزان فلم ينقل لنا عن أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم فيما بلغنا أنه كان يطرد الأمر في كل عزيمة قال بها أو رخصة قال بها في حق جميع الأمة أبدا وإنما ذلك في حق قوم دون قوم وقد بلغنا أنه كان يفتي الناس بالمذاهب الأربعة الشيخ الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي الشيخ عبد العزيز الديريني وشيخ الإسلام عز الدين بن جماعة المقدسي والشيخ العلامة الشيخ شهاب الدين البراسي الشهير بابن الأقيطع رحمهم الله والشيخ علي النبتيتي الضرير ونقل الشيخ الجلال السيوطي رحمه الله عن جماعة كثيرة من العلماء إنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ولا نصوصه ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به انتهى فإن قال قائل كيف صح من هؤلاء العلماء أن يفتوا الناس بكل مذهب مع كونهم كانوا مقلدين ومن شأن المقلد أن لا يخرج عن قول إمامه فالجواب يحتمل أن يكون أحدهم بلغ مقام الاجتهاد المطلق المنتسب الذي لم يخرج صاحبه عن قواعد إمامه كأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن القاسم وأشهب والمزني وابن المنذر وابن سريج فهؤلاء كلهم وإن أفتوا الناس بما لم يصرح به إمامهم فلم يخرجوا عن قواعده وقد نقل الجلال السيوطي رحمه الله تعالى إن الاجتهاد المطلق على قسمين مطلق غير منتسب كما عليه الأئمة الأربعة ومطلق منتسب كما عليه أكابر أصحابهم الذين ذكرناهم
صفحه ۱۷