idola fori
هي أخطر أنواع الأوهام، والاسم مستمد من عملية التبادل التي تتم في السوق، والتي يشبه بها بيكن عملية تبادل الأفكار وتداولها بين الناس عن طريق اللغة؛ «ذلك لأن الناس يتوهمون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، على حين أن الألفاظ هي التي تعود فتتحكم في العقل وتؤثر فيه»،
17
ويدرك بيكن أن الألفاظ إنما تعرف الأشياء على نحو غير دقيق؛ لأن أصلها شعبي وليس عمليا؛ فهي موضوعة أصلا لتلائم الذهن العامي. وهكذا فإن الذهن العلمي حين يريد التعبير عن أفكاره وملاحظاته المرهفة الدقيقة، لا يجد من الكلمات معينا، فتنتهي كثير من الخلافات العلمية إلى مجرد مجالات لفظية، بدلا من أن تدخل في صميم موضوعاتها،
18
ومن هنا كانت دعوة بيكن إلى مواجهة الأشياء مباشرة، بدلا من الاكتفاء بمواجهة الأشياء من خلال الألفاظ اللغوية.
وتنقسم الأوهام التي تفرضها اللغة إلى أسماء لأشياء ليس لها وجود، كالقدر والمحرك الأول وعنصر النار، وأسماء لموضوعات فعلية. ولكنها جردت من الأشياء على عجل ودون تدقيق؛ بحيث دب الخلط والاضطراب في معانيها، مثل كلمة «الرطوبة» التي تعددت معانيها إلى درجة يصعب معها الاستقرار على واحد منها، وتتدرج الأسماء في مقدار افتقارها إلى الدقة، من أسماء الأشياء المادية الفردية، التي هي الأقل تعرضا للخطأ، إلى أسماء الصفات المجردة، التي هي الأكثر تعرضا للخطأ؛ ومن هنا كان من الواجب أن نحرص على دقة التعريف في الحالة الأخيرة بوجه خاص، مع إدراكنا أن اللغة، في عمومها وفي جميع أحوالها، ميدان خصب للأوهام التي تعوق الذهن عن مواجهة الأشياء وإدراك طبيعتها الحقة. (4)
والنوع الأخير من الأوهام هو أوهام المسرح
idola theatri ، وهي أوهام النظريات والمذاهب التي تفرض نفسها على الأذهان بمنطق مزيف، أو نتيجة لاحترامنا المفرط لآراء القدماء، هذه النظريات والمذاهب تتعدد في الموضوع الواحد بغير حدود، ويقف العقل إزاءها حائرا، وكأنه مسرح يروح عليه الممثلون ويجيئون بينما يقف هو سلبيا: يتقبلها كلها دون مناقشة؛ على أن هذه النظريات كلها لا تستند على أساس من الدراسة الفعلية للواقع، إنما هي ترتكز على الاستدلالات المنطقية البارعة، والمزيفة في الوقت نفسه؛ ومن هنا كانت الحاجة إلى إيجاد أساس أمتن للفلسفة؛ بحيث لا يعود العقل مسرحا لنظيرات متعارضة في الموضوع الواحد، وإنما يتقبل به الواقع فحسب.
وينقد بيكن - ضمن هذه الفئة من الأوهام - ثلاثة أنواع من الفلاسفة: النوع النظري أو السفسطائي، ويمثله أرسطو، وهو يخلق عالما من الأفكار المجردة التي يقابلها في الواقع شيء كالمقولات والقوة والفعل، ويعالج كل الموضوعات من خلال هذه الأفكار. وحتى التجارب القليلة التي أجراها كانت نتيجتها قد تحددت مقدما عن طريق الاستدلال، والنوع الثاني هو التجريبي العشوائي
صفحه نامشخص