وإذا كانت العوامل السياسية قد لعبت دورا كبيرا في بروز صورة مصر القديمة، وأهمها حاجة أهل مصر إلى سند للاستقلال في مواجهة الهيمنة الأجنبية - خصوصا أيام الكفاح من أجل الجلاء - فإن ثمة عوامل أخرى لا يمكن إغفالها في هذا المقام، وأهمها الانفتاح على العالم الحديث في أوروبا بوجه خاص وميلاد العلم الحديث وما تقتضيه مناهجه من التجرد من الهوى في البحث والتقصي. وكان هذا العامل الأخير هو الدافع إلى ما يسمى بحركة التنوير في مصر أولا، وبعد ذلك بعقود كثيرة في غيرها من البلدان العربية. فحركة التنوير كانت تتطلب اتباع المنهج العلمي دون التعصب لرأي أو عقيدة أو جنس، بل إن هذه الحركة هي التي جمعت رواد التنوير في كل مجال - من محمد عبده وعلي عبد الرازق إلى طه حسين والعقاد والمازني والرافعي وهيكل وسلامة موسى، حتى ما بعد منتصف القرن العشرين.
أما مكمن الصراع في الصورة المزدوجة فهو أن صورة مصر التي رسمها العرب في أدبهم كانت تتناقض مع صورة مصر الحديثة التي رغم ارتكازها على عناصر المجد التليد تطمح إلى اللحاق بركب الحضارة الحديثة في أوروبا. ولم يكن من الغريب آنذاك أن يتغاضى رواد التنوير عن الأدب الذي كتب في عصور الانحطاط، وهي العصور التي شحبت فيها ألوان شخصية مصر إن لم تكن قد نحلت وتلاشت في ظل حكم الأجانب الذين حكموها قرونا متوالية، وتنازعوا أمرهم بينهم ما يصنعون بهذا البلد الخصيب؟!
الصور المتداخلة
ربما أحس بعض القراء في مقالاتي عن ازدواجية الصور أو ازدواجية الوعي والانتماء أن التعبير غير دقيق، وربما كان التعدد لا الازدواج أقرب إلى الصحة في وصف صورة مصر أو صورها؛ وذلك لأن صورة مصر الحديثة - مصر العربية - تجمع عناصر عربية عريقة مكمنها التراث اللغوي والأدبي، وعناصر مصرية أقدم وأعرق نحملها في كياننا عبر القرون منذ أن أرساها أجدادنا الأوائل أصحاب أقدم حضارة على وجه الأرض، وعناصر حديثة تربطنا بعالم اليوم منذ اتصالنا بأوروبا في القرن التاسع عشر وتشربنا لحضارة هذا العصر الذي يتغير من يوم ليوم إن لم يكن من ساعة لساعة. وقد اخترت تعبير العناصر عمدا؛ لأن المصادر الثلاثة التي أشرت إليها ليست متجانسة أو موحدة توحيدا كاملا؛ فلا العناصر العربية موحدة - إذ كانت التقاليد العربية تجمع بين أمشاج مختلطة من التقاليد أو من الثقافة - ولا العناصر المصرية صافية - إذ جمعت بين بعض تقاليد شعوب البحر الأبيض ممن خالط المصريين وامتزج بهم على مدى ألف سنة أو يزيد، منذ بناء الإسكندرية في القرن الرابع قبل الميلاد وحتى الفتح العربي في القرن السابع للميلاد - ولا العناصر الحديثة موحدة؛ إذ تجمع بين تقاليد أمم متباينة في أوروبا، ثم في أمريكا الشمالية في العقود الأخيرة.
ومع ذلك فالباحث الموضوعي المتجرد يستطيع أن يتخذ موقفا خاليا من العصبية لأي من هذه الصور التي ظلت تتداخل على مر القرون حتى أصبحت تشكل نسيجا متلاحما يصعب إخراج خيوطه إلا بتدميره، فالوليد يرضع لغة العرب، ويتشرب معها جانبا من تراثها، وذلك هو الجانب الذي يكمن - كما قلت - في اللغة وأنماط التفكير التي تفرضها المفهومات الأساسية عن الكون والبشر والمجتمع، وطرائق الاستدلال والاستقراء وما إلى ذلك - وهو ينشأ في مجتمع يتوارث قيم الحضارة القديمة - حضارة الحرث والري وانتظار المحصول والعمل الجاد والتأمل والعلاقات الاجتماعية التي تفرضها تلك الحياة، فيرث جانبا من تراث الأرض (جمال حمدان، شخصية مصر) وهو يتعلم ويتلقى ضروبا من أنماط التفكير الحديثة وألوان البحث العلمي الحديث، فيتجه بعقله ويديه إلى الآلات؛ يتعامل معها ويستخدمها، ثم يصنعها، ثم يتوسل بها في طرائق معاشه، فيكتسب جانبا من روح العصر، ويمتزج كل هذا في كيانه فتختلط الصور وتتداخل، وتخرج لنا في النهاية إنسانا مصريا يتفرد بوجود هذا الاختلاط الذي يصبح مصدر قوة وضعف في الوقت نفسه، فكيف يكون ذلك؟
ذكرت في آخر حديثي السابق أن صورة الماضي العربية القادمة من خارج مصر كثيرا ما تلتقي مع صورة مصرية حديثة فيتعذر اللقاء بينهما وتساءلت عن سبب تعذر اللقاء - بمعنى التمازج - الذي أصبح يقض مضاجعنا هذه الأيام. والإجابة يسيرة وهي أننا حين نعود إلى العناصر العربية في الصورة، لا نعود إليها باعتبارها عناصر تاريخية؛ أي عناصر حياة بدوية بدائية عرفتها الجزيرة العربية شمالا وجنوبا في القرون السابقة للإسلام (وإن كانت قد استمرت بعده إلى حد ما)، ولكننا نعود إليها باعتبارها أمثلة عليا للحياة يطمح إليها الإنسان في كل عصر؛ ومن ثم فهي تمثل في نظر الكثيرين المستقبل الذي ترنو إليه الأبصار؛ ومن ثم يتعذر التوفيق بينها وبين صور الحضارة الحديثة التي لم تعد مقصورة على دولة دون أخرى؛ فهي بحق حضارة العصر الذي نعيش فيه ولا مهرب لنا منه، فهو زمننا حقا وصدقا.
ومثلما تعمدت ذكر تعبير العناصر، أتعمد هنا ذكر الماضي والمستقبل، فعناصر صورة الماضي التي أعنيها تضم فيما تضم عناصر عصبية عمياء، وتضم عناصر استبداد واستعباد وقهر، وتضم عناصر جهل يتبدى في ترديد الأقوال وروايتها دون تحقق وتمحيص، وفي الإيمان بالخرافات والأساطير، وهو ما جاء الإسلام ليدحضه ويرسي مكانه قواعد المساواة والتآخي والتسامح والعلم. ولكننا لا نقف لنتساءل عن مدى صلاحية عناصر الماضي التي ذكرتها لحياتنا في الحاضر أو المستقبل، بل ولا نتساءل حتى إذا كانت تتفق وروح الدين ونصوصه أم لا، بل إننا نقبلها كما هي مهما كان فيها من مثالب؛ إذ نرى فيها جذورنا وننسب إليها فضل ما نحن فيه!
إن للماضي سحرا لا يقاوم؛ فهو تاريخ حافل ممتع، ولكننا ينبغي أن نقرأ هذا التاريخ بحذر، واعين دائما أنه تاريخ وليس حاضرا، وينبغي ثانيا أن نعرف أنه كان يوجد إلى جانب البقع المشرقة الوضيئة في هذا التاريخ بقع مظلمة كالحة مخجلة؛ أي إن علينا - إذا أردنا إدراك معنى هذا التاريخ - أن نرى الصورة كاملة، ونحن لن نراها كاملة إلا إذا رأينا بقع الظلام إلى جانب بقع النور، وسوف نعرف من خلال ذلك الجهد أن أجدادنا كانوا بشرا مثلنا، يصيبون ويخطئون، وأن صورة الماضي كانت غاصة بما يشين ولا يشرف، وإذا نظرنا من وجهة نظر موضوعية بحتة وجدنا أن صورة مصر في الماضي لا يمكن أن تلتقي وتمتزج بصورة الحاضر أو بما نرجوه لها في المستقبل!
إن الذين ينشدون الجذور - وجذورنا ممتدة في أعماق الماضي البعيد - أحيانا ما تختلط عليهم أحكام القيمة، مثلما تختلط عليهم الصورة؛ فبعضهم يخلط بحسن نية بين الإسلام العظيم وتاريخ المسلمين الذي أورثنا أشياء أبعد ما تكون عن الإسلام، وهو يخلط ، وفي هذا الخلط كل الخطر، بين الإسلام كقيم عليا تصلح لكل زمان ومكان؛ لأنها فوق الزمان والمكان، وبين ما كان المسلمون يفعلونه باسم الإسلام. ولذلك فأنا أنبه دائما لضرورة التمييز عند تصدينا للتراث بين التراث الأدبي أو اللغوي - تراث العربية الطويلة الحافل - وبين ما يتضمنه هذا التراث من قيم التاريخ؛ إذ إن هذه القيم كثيرا ما تختلط بمبادئ الماضي فتكتسب قداسة غريبة تكاد تدسها دسا بين قيم الدين ومبادئه! أي إن علينا حين نقرأ أدب الماضي أن نعرف أنه ينتمي إلى الماضي، ولا ينسحب على الحاضر؛ ولذلك فقد نعجب ببراعة المتنبي في مدح كافور الإخشيدي إذ يقول:
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا
صفحه نامشخص