إن هذه الكتب تنقسم بصفة عامة إلى قسمين كبيرين؛ الأول سياسي - ويتضمن المذكرات السياسية وأقاصيص الساسة السابقين وفضائحهم، وكتب المقالات التي تتضمن آراء حزبية محددة وتتطرف للدعوة إلى هذه الآراء، وما يدخل في إطار ذلك من القضايا الاقتصادية والاجتماعية. أما القسم الثاني فهو ديني، ويتضمن قليلا من كتب التراث في الفقه والتفسير، وكثيرا من كتب الآراء التي كتبت في عصور الانحطاط والجهالة، والتي يزعم مؤلفوها أو ناشروها أنها تقدم الاجتهاد، بينما لا تتوافر لأصحابها شروط الاجتهاد المعروفة، وفيها من المبالغات والتهويلات والخرافات ما يتناقض مع ما درجنا عليه جميعا من مبادئ الدين الحنيف.
واشتريت عددا من هذه وتلك، على ارتفاع أسعارها، وعكفت عليها أحاول أن أعرف سر ذيوعها - وهو ما أكده لي البائع - وبعد أيام طويلة وجدتني أنتهي إلى بعض الخصائص التي تشترك فيها على اختلافها، وبعض ملامح وجبة القراءة التي يقدمها بائع الصحف «العصري» إلى قراء هذا العصر.
وأول هذه الخصائص هي اليقين المطلق الذي ينطلق منه كل مؤلف، والذي يمنحه الثقة الكاملة فيما يكتب؛ فما يقوله هو الحق، وهو يتحمس له ويدافع عنه دفاع الواثق الذي لا يتصور احتمال الخطأ ولو من قبيل السهو أو النسيان. ولا شك أن اليقين هو الهدف الأسمى للجهد العلمي، وهو أيضا صفة المؤمن الحق، ولكن هذه الكتب ليست علمية بأي معنى من المعاني، كما أنها لا تناقش الإيمان؛ فهي تفترض وجوده في القارئ أولا قبل أن تخاطبه. إنها كتب تفترض في القارئ التصديق الكامل بحجة العلم أو الدين حتى تقدم له آراء لا تنتسب في حقيقتها إلى العلم ولا إلى الدين. ومن ثم فإن هدف اليقين هنا هو الاعتماد على الثقة؛ بغية الدعاية لفكرة ما، أيا كان حظها من اليقين.
وثاني هذه الخصائص هو أن اللون الفكري الذي تقدمه لا يعرف درجات اللون الرمادي؛ أي إنه ينحو نحو الأبيض الكامل أو الأسود الكامل مثلما تنحو أفلام رعاة البقر الأمريكية الرخيصة، فتصور الخير خيرا كاملا والشر شرا كاملا، وليس بينهما شيء. أي إن هذه الكتب تشترك مع ألوان الفن الساذج في خصيصة «المطلق الفلسفي» - وهذا ما لا نفترضه أو ما لا ينبغي أن نفترضه في الكتاب! فهذا كتاب يقول إن الريان شيطان مريد، وكتاب آخر يقول إنه عبقري الاقتصاد الذي جادت به السماء على الأرض، وهذا كتاب يقول إن أحد حكامنا السابقين لا يدانيه إبليس في شروره، وكتاب آخر يقول إنه يكاد يكون ملاكا منزلا. وقس على ذلك سائر الأحكام والفتاوى التي نقلها أصحابها عن الكتب الصفراء؛ فمن قرأ تعويذة معينة دخل الجنة وحقق آماله في الأرض، ومن أهمل نافلة من النوافل دخل النار وخاب سعيه في الأرض.
وثالث هذه الخصائص هو أن غالبية هذه الكتب مكتوبة بلغة ساذجة، تعتمد على الانفعال، وتشوبها الركاكة، وتفترض في قرائها الانتماء إلى المذهب التي تدعو إليه، كما تعتمد على أنه ذو مستوى تعليمي متوسط، وأن كثيرا من الحقائق لن تتوافر له، وأن قدرته على التفكير المنطقي محدودة، وأنه لن يناقش ما تقول بل سينبهر ويصفق له ويهلل. وهي في هذا إذن تقترب كثيرا من الموضوعات الصحفية المثيرة «ولو لم تستند إلى البحث الصحفي والتحري الصادق»، وتبتعد كثيرا عن مفهوم الكتاب العلمي الذي يضعه الإنسان في مكتبته ويعود إليه بين الحين والحين.
وعندما عدت إلى بائع الصحف بعد أسبوعين، لم أقف لأتأمل الكتب الموجودة بل وقفت أتأمل الكتب الناقصة - الكتب التي تطبع وتوزع في مصر، ولكنها لا تصل إلى باعة الصحف. إنها الكتب التي تزخر بها مكتبات الهيئة العامة للكتاب مثلا، وبعض المكتبات الخاصة في وسط البلد، وشتى المكتبات العامة أو التابعة للكليات والمعاهد والجامعات. إنها كتب علمية كتبها أو ترجمها أساتذة الجامعات ممن يقبلون التضحية بالمال في سبيل نشر العلم والثقافة.
ألا يمكن أن يقبل الناس على هذه الكتب يوما ما؟ إن أسعارها رخيصة إذا قورنت بأسعار تلك الكتب، والمادة العلمية فيها غزيرة ومغرية، وهي منوعة تنوعا لا حد له؛ فما الذي يصرف الناس عنها إلى كتب قارعة الطريق؟ هل هو الانصراف العام عن الثقافة الجادة إلى قراءة التسلية؟ لا أعتقد ذلك. فلقد شاهدت في معرض الكتاب الأخير حشودا لا نهاية لها تقبل على القراءة الجادة! هل هو ارتفاع الأسعار؟ لا أعتقد ذلك؛ فأسعار الكتب التي تطبعها هيئة الكتاب على سبيل المثال أقل بكثير من كتب الفضائح السياسية والفتاوى!
هل هو عدم توافر الكتب الجادة على طاولات باعة الصحف؟ لا أدري! فربما يقبل عليها البعض ويدبر عنها الغالبية.
وعدت مرة ثالثة إلى بائع الصحف لأنظر إلى المجلات العربية، وإلى عدم وجود الكتب المترجمة، وأتأمل هذه وتلك ... ولكن لهما حديثا آخر.
الدراما الدينية في التليفزيون
صفحه نامشخص