اعلام فکر اسلامی
أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث
ژانرها
فلما عاد العطار إلى مصر في عهد محمد علي، عاد موسوعيا في ثقافته وعلمه، يطاول علماء الأزهر الأفذاذ، ويمتلئ حماسة لتطوير البلاد وإصلاح أحوالها. ويمكن إجمال جهود العطار الإصلاحية في ثلاثة ميادين، هي: التعليم والثقافة، ثم الأدب واللغة، ثم السياسة.
أما في مجال التعليم والثقافة، فقد اتخذت جهود الرجل عدة مظاهر: أولها أنه جعل ينبه الأزهريين في عصره إلى واقعهم الثقافي والتعليمي، ويبين ضرورة إدخالهم المواد الممنوعة؛ كالفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية، كما يبين ضرورة إقلاعهم عن أساليبهم في التدريس، ووجوب الرجوع إلى الكتب الأصول وعدم الاكتفاء بالملخصات والمتون المتداولة، ويتوسل إلى ذلك بكل وسيلة، يقول مبينا الفارق بين علماء عصره والعلماء الأفذاذ الذين عرفهم العالم العربي قبل عصر العطار ، ومحطما أكذوبة تحريم الدين الإسلامي لبعض العلم: ... من تأمل ما سطرناه وما ذكر من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام، علم أنهم كانوا - مع رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية - لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع، ثم هم مع ذلك ما خلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات.
وفيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون والمستمدون من كلامهم نكررها طول العمر، ولا تطمح نفوسنا إلى النظر في غيرها حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب، فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخلصنا منه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في «جمع الجوامع» فلا أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة، وهكذا فصار العذر أقبح من الذنب ... وهذه نفثة مصدور.
وقد بدأ العطار يخرج على هذا الجمود العلمي الأزهري بتدريسه المواد الممنوعة؛ إذ بدأ يدرس الجغرافيا والتاريخ في الأزهر وخارج نطاق الأزهر، كما كان تلميذه محمد عياد الطنطاوي يدرس الأدب في الأزهر بإيحاء العطار وتحت إشرافه في «مقامات الحريري» حوالي سنة 1827م، كما بدأ تلميذه رفاعة الطهطاوي أيضا يدرس الحديث والسنة بطريق المحاضرة وبلا نص، مما كان مثار إعجاب العلماء، وفي الخطط التوفيقية أن العطار «عقد مجلسا لقراء تفسير البيضاوي»، وقد مضت مدة على هذا التفسير لا يقرؤه أحد، فحضر أكابر المشايخ، فكانوا إذا جلس للدرس تركوا حلقهم وقاموا إلى درسه»، ولعله بذلك يكون قد بدأ ما لجأ إليه الأفغاني ومحمد عبده من إعادة تفسير القرآن في ضوء الظروف المعاصرة، والمهم أن هذا النص يدل على أن التربة من حول العطار لم تكن مواتا تماما ، فإن قيام زملائه الشيوخ إلى حلقته، مع اشتداد معارضتهم له ونقمتهم عليه لنزعته التجديدية ولحملاته على تقصيرهم العلمي لهو أمر له دلالته، كما أنه وثيقة تشهد بمقدرة هذا العالم الفذ.
فكأن الشق الأول من دعوة العطار الإصلاحية كان يتمثل في مناداته بضرورة تطوير التعليم الأزهري من حيث المناهج ومواد الدراسة؛ وذلك بالرجوع إلى المصادر الأصلية وبتدريس المواد الممنوعة، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالدعوة إلى ضرورة بعث التراث العربي القديم، وهي دعوة حاول العطار نفسه الإسهام في تنفيذها؛ إذ لم يكن يكف عن البحث والتنقيب في هذه المراجع القديمة وإشراك خاصة تلاميذه في ذلك، ولقد كان الأزهر أكبر المعاقل العلمية في ذلك الوقت، فحديث العطار عن التعليم الأزهري وقصوره حديث عن الحالة الثقافية عامة في البلاد.
المظهر الثاني لحركة الشيخ العطار التجديدية في مجال الثقافة والتعليم يتمثل في دعوته إلى إدخال العلوم العصرية، وعبارته في ذلك معروفة: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها.» والشيخ العطار لم يقتصر في دعوته على مجرد التبشير بأفكاره الإصلاحية، إنما هو يردف القول بالعمل، فإلى جانب تدريسه وتأليفه في العلوم العربية نجده يكتب في المنطق والفلك والطب والطبيعة والكيمياء والهندسة، يتضح ذلك من قائمة مطبوعاته، ومن إشاراته إلى إعجابه بما رأى عند الفرنسيين وخاصة تحويلهم علومهم إلى عمل، وفضلا عن ذلك فإن استعراض قائمة مطبوعات بولاق حتى سنة 1835م تدل على أن عددا وافرا من المطبوعات في جميع المواد المذكورة كان قد طبع، بل إن العطار كان يتردد على المرصد الذي أنشأه الفرنسيون، كما «كان يرسم بيده المزاول النهارية والليلية»، وقد حفلت شروح الرجل وحواشيه على الكتب المختلفة بتعليقات في كافة العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية.
والجانب الثاني من جوانب حركة العطار هو التطوير الأدبي، وقد مر بنا أنه أفلح في إدخال الدراسة الأدبية إلى الأزهر على يدي تلميذه الطنطاوي، كما أنه هو نفسه قد اعتنى بالأدب عناية خاصة، فلم يكن يتحرج من إنشائه أو تدريسه، ويبين عدم تعارض ذلك مع وقار العلم أو جلال الدين، مستشهدا بالأسلاف العظام.
كان العطار يكتب النثر وينظم الشعر، ويشجع تلاميذه على ذلك، حتى إن جمال أسلوبه كان سر اختياره أول محرر للوقائع العربية، وقد كتب العطار مقامة على النسق القديم، وإن كان موضوعها حديثا، فهي تدور حول علاقته بالفرنسيين وانتفاعه بمكتبتهم، كما كتب كتابا في فلسفة الإنشاء ضمنه كل الأنواع الأدبية المعروفة لعهده، وأردف كلا منها بنماذج مختارة من إنتاجه الخاص، وهي أكثر أجزاء الكتاب حيوية؛ إذ يسجل فيها خواطره وانطباعاته التي تركتها في نفسه رحلاته ومعاملاته مع الناس الذين احتك بهم، والكتاب بعد حافل بنماذج شعرية للرجل نفسه، وذلك هو كتاب «إنشاء العطار».
وفضلا عن ذلك فتاريخ «الجبرتي» حافل بنماذج شعرية له، وكذلك «كنز الجوهر»، و«الخطط التوفيقية»، وغيرها من الكتب التي ترجمت له.
ويغلب على أسلوب العطار البساطة والسهولة والحرص على الفكرة ونقلها إلى القارئ؛ فالأسلوب عنده مجرد وسيلة للتعبير وليس غاية في ذاته، ومع ذلك فهناك في بعض كتابات الرجل السجع والمحسنات البديعية عموما، ومن غريب الأمر أن ذلك يكثر حيث يقصد الرجل إلى الإنشاء الأدبي أو الكلام في فلسفة الأدب، ويقل في مؤلفاته العلمية حيث يسهل أسلوبه ويسلس حتى ليوشك أن يكون معاصرا.
صفحه نامشخص