أعلام مصر‏

حسن العطار‏

محمد أبو الفتح‏

محمد الأشموني‏

إبراهيم مرزوق‏

محمد عياد الطنطاوي‏

علي الليثي‏

محمد الطنطاوي‏

محمد العباسي المهدي‏

أحمد أبو الفرج الدمنهوري‏

زين المرصفي‏

حسن عبد الباسط الحوي‏

رضوان محمد المخللاتي‏

حسن الطويل‏

مصطفى السفطي‏

أحمد الرفاعي1‏

علي محمد الببلاوي‏

حسونة النواوي‏

عبد الله نديم‏

محمد عبده‏

أحمد أبو خطوة‏

أحمد مفتاح‏

محمد أكمل‏

محمد الإدريسي‏

عبد الحميد نافع‏

أحمد خيري‏

إبراهيم باشا‏

أعلام الشام‏

محمد صنع الله الخالدي‏

كمال الدين الغزي‏

محمد العطار‏

موسى الخالدي‏

عبد الرحمن الكزبري الثاني1‏

أحمد الحجار الحلبي‏

مصطفى الخالدي‏

مصطفى المغربي الدرغوثي‏

محمد التميمي المغربي‏

أحمد الحلواني‏

محمود الحمزاوي‏

أحمد عبد الغني عابدين‏

محمد علاء الدين عابدين‏

أحمد الفحماوي‏

حسين عودة‏

محمد المبارك الحسني الجزائري‏

محمد بدر الدين‏

طاهر الجزائري‏

سليم الآمدي البخاري‏

محمد أبو الخير عابدين‏

حسن المدور البيروتي‏

أعلام العراق‏

نعمان الآلوسي‏

محمود شكري الآلوسي‏

أعيان في بغداد‏

أعلام الحجاز وحضرموت‏

محمد شهاب الدين المصري‏

علوي بن أحمد السقاف‏

عثمان الراضي‏

محمد بن عقيل العلوي‏

علي حيدر‏

أعلام الأفارقة‏

عبد القادر الجزائري‏

محمد محمود التركزي الشنقيطي1‏

أحمد بن الخوجة التونسي‏

محمد الخضر حسين‏

أعلام مصر‏

حسن العطار‏

محمد أبو الفتح‏

محمد الأشموني‏

إبراهيم مرزوق‏

محمد عياد الطنطاوي‏

علي الليثي‏

محمد الطنطاوي‏

محمد العباسي المهدي‏

أحمد أبو الفرج الدمنهوري‏

زين المرصفي‏

حسن عبد الباسط الحوي‏

رضوان محمد المخللاتي‏

حسن الطويل‏

مصطفى السفطي‏

أحمد الرفاعي1‏

علي محمد الببلاوي‏

حسونة النواوي‏

عبد الله نديم‏

محمد عبده‏

أحمد أبو خطوة‏

أحمد مفتاح‏

محمد أكمل‏

محمد الإدريسي‏

عبد الحميد نافع‏

أحمد خيري‏

إبراهيم باشا‏

أعلام الشام‏

محمد صنع الله الخالدي‏

كمال الدين الغزي‏

محمد العطار‏

موسى الخالدي‏

عبد الرحمن الكزبري الثاني1‏

أحمد الحجار الحلبي‏

مصطفى الخالدي‏

مصطفى المغربي الدرغوثي‏

محمد التميمي المغربي‏

أحمد الحلواني‏

محمود الحمزاوي‏

أحمد عبد الغني عابدين‏

محمد علاء الدين عابدين‏

أحمد الفحماوي‏

حسين عودة‏

محمد المبارك الحسني الجزائري‏

محمد بدر الدين‏

طاهر الجزائري‏

سليم الآمدي البخاري‏

محمد أبو الخير عابدين ‏

حسن المدور البيروتي‏

أعلام العراق ‏

نعمان الآلوسي‏

محمود شكري الآلوسي‏

أعيان في بغداد‏

أعلام الحجاز وحضرموت‏

محمد شهاب الدين المصري‏

علوي بن أحمد السقاف‏

عثمان الراضي‏

محمد بن عقيل العلوي‏

علي حيدر‏

أعلام الأفارقة‏

عبد القادر الجزائري‏

محمد محمود التركزي الشنقيطي1‏

أحمد بن الخوجة التونسي‏

محمد الخضر حسين‏

أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث

أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث

تأليف

أحمد تيمور باشا

هذا الكتاب

كلمة اللجنة

بقلم الأستاذ محمد شوقي أمين عضو اللجنة ورئيس التحرير في مجمع اللغة العربية

إنما يعرف الفضل من الناس ذووه.

ومن أجدر أن يعرف للفضلاء من معاصريه حقهم على التاريخ من العلامة الفذ «أحمد تيمور»؟

وإن العجب ليتقضى - وإن شئت قلت: لا ينقضي - من هذا الرجل الذي نذر للبحث والدرس سعيه وهديه، وقصر عليهما جهده ووكده، ولكنه لم يجتزئ بميدان من تلك الميادين الرحاب يتخصص له ويقف عنده، بل ضرب في كل ناحية، وحلق في كل أفق، وألزم نفسه الكشف عن الخبايا والطوايا، من جليل المسائل ودقيقها، في مجالات شتى من علم وأدب، ومن دين وشريعة، ومن حضارة وتاريخ.

وما شفاه ولا كفاه أن يرتصد لتراث العرب والإسلام، يتصيده من كل مكان، غير ضان عليه بالمال الكثير، ويجمعه في خزانة كتبه الخالدة النادرة، فأضاف إلى ذلك تقليب العالم اليقظ المتمكن في هذا التراث، والاستفادة به في تحقيق وتمحيص، وفي تنوير وتبصير، فكانت مؤلفاته في قيمتها تباري مقتنياته في نفاستها.

منذ ربع قرن عنيت الأسرة التيمورية بطبع كتاب له بعنوان: «تراجم أعيان القرن الثالث وأوائل القرن الرابع عشر»، وكان لي شرف الإشراف على إخراجه وتذييله ببيان له، والكتاب يحتوي أربعا وعشرين ترجمة لأعلام نجلتهم «مصر» أو أظلتهم سماؤها. وقد وجدت هذه التراجم بخط العلامة «أحمد تيمور» في دفتر كبير بائن الطول، ناصل الورق من أثر السنين، والمكتوب منه نحو خمسه، والتراجم مسرودة بغير ترتيب، منها ما هو قصير، ولا سيما بعض ما جاء في أخريات الأوراق، وهذا مع أن المترجم قد يكون ممن تنفسح فيه مذاهب القول. وقد راعى المؤلف ذلك، فترك مواضع لمن أوجز ترجمتهم، عسى أن يستلحق ما فات ويستكمل ما نقص، وواضح أن المؤلف في هذا الدفتر لم يستوعب أعيان المعاصرين، ففي هذه الحقبة رجالات ليست شهرتهم في فروع العلم والأدب أخفى من شهرة الذين ترجم لهم في تلك الأوراق.

وكان الذي استظهرناه يومئذ في تأويل ذلك الإيجاز الشديد في بعض هؤلاء المترجمين وقلة عددهم جميعا، ما يؤيده عارفو الفقيد من أنه كان ينتوي المضي في إتمام كتابه على الوجه الشامل، ثم خشي ألا يستطيع الصراحة في ترجمة من كانت له بهم أو ما تزال لأسرهم به صلات مودة، فطوى دفتره، وآثر من الصمت ما هو الأشبه بكرمه وكرامته.

ولما تألفت «لجنة نشر المؤلفات التيمورية» بعد ذلك، وأعملت يد التنقيب فيما خلف الفقيد من دفاتر وكراسات وأوراق، تبين لها أن ذلك الدفتر الذي طبع محتواه من التراجم من قبل ليس إلا جزءا من كل، فإنها عثرت على تراجم أخرى لنخبة من الأعلام العرب، في الشرق والغرب، من أهل الشام والعراق، ومن أهل الحجاز وحضرموت، ومن أفارقة تونس والجزائر والمغرب، وبضم هؤلاء وهؤلاء أصبح عدد المترجمين مائة إلا أقلها.

بان لنا إذن أن المؤلف كان من همه وعزمه أن يجعل كتابه سمطا ينتظم أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث، ناظرا إلى الوطن العربي أجمع نظرته إلى وحدة متكاملة، وأنه شرع في التقصي والإعداد، يستكتب ويستخبر، ويستقي وينتقي، وكلما اجتمعت له مادة صالحة يحسن الاكتفاء بها في ترجمة واحد من أولئك الأعلام عمد إلى تحريرها وتدبيجها، وكانت تشغله أشتات الشواغل في عديد المسائل عن التجرد للكتاب ينجزه، أو كان ينتظر المزيد من التعرف لهذا من المترجمين أو ذاك.

ومضى - نور الله ضريحه - عن دفتره الأول، والأوراق التابعة له واللاحقة به، لم تبلغ من نظره مبلغ التمام.

ورأت «لجنة نشر المؤلفات التيمورية» بين يديها حصيلة وافرة من التراجم، منها ما فرغ المؤلف من إعداده مكتوبا بخطه، ومنها ما حصله من هنا وهنالك مكتوبا بخط غيره، وما وافاه به العارفون بالمترجمين من أقربائهم وخاصتهم، ليستعين به حين يكتب الترجمة في الصيغة المرتضاة، وما وجدته اللجنة من التراجم يتفاوت بين قليل وكثير، وبين ما فيه غنية وما لا يشفي الغلة، فاستقر الرأي على أن تخرج اللجنة للناس هذا كله، فإنه مادة تاريخية خليقة أن تسلم من الضياع، وأن يفيد منها رواد البحث والاطلاع.

وربما لاح لقارئ في توزيع المترجمين على المواطن العربية المتعددة أن بعضا من أعلام هذا الموطن أولى به أن يذكر في موطن غيره؛ وذلك لتباين الاعتبارات في تعيين الموطن الذي يعزى إليه: أمسقط رأسه؟ أم البلد الذي انتمت إليه أصوله؟ أم الأفق الذي تألق فيه نجمه؟ والحق أن المواطن العربية كانت تتهادى أعلامها، فكم من حسنة للمشرق في المغرب، وكم من حسنة للمغرب في المشرق، ولطالما كانت عواصم العربية متنقلا لأعلامها في أمس الدابر واليوم الحاضر، وإن ذلك لآية الوحدة الفكرية في العالم العربي والإسلامي، حتى ليحار المرء في تقويم النسبة لبعض المبرزين من المفكرين: أإلى هذا الموطن يعزوهم أم ذاك؟

ولا يملك مطالع منصف إلا أن يحمد في هذا الكتاب لمؤلفه العظيم عاطفته الكريمة لفضلاء معاصريه، تلك العاطفة التي أملت عليه البر بهم والوفاء لهم، وتمكين التاريخ من أن يفسح في صفحاته لحياتهم، وأن يجلوها لأخلافهم، وصلا لماضي الأمة بحاضرها، وتزكية للمثل الكريمة التي ضربها أولئك الأعلام في مناحي العلم والأدب والدين والإصلاح.

فأما «لجنة نشر المؤلفات التيمورية» فحسبها أن تطمئن إلى أنها ناهضة بواجبها نحو إحياء التراث التيموري، ذلك التراث الذي أعجل الموت صاحبه أن يحقق به إرادته الخيرة النبيلة: إرادة النفع العام للعروبة والإسلام في مجالات العلم والقومية والتاريخ.

أعلام مصر

رقم مسلسل

أسماء الأعلام

التاريخ

1

حسن العطار

1180-1250ه

2

محمد أبو الفتح

1217-1294ه

3

محمد الأشموني

1218-1321ه

4

إبراهيم مرزوق

1221-1283ه

5

محمد عياد الطنطاوي

1227-1280ه

6

علي الليثي

1236-1313ه

7

محمد الطنطاوي

1241-1306ه

8

محمد العباسي المهدي

1234-1315ه

9

أحمد أبو الفتح الدمنهوري

1243-1310ه

10

زين المرصفي الشافعي

1244-1300ه

11

حسن عبد الباسط الحوي

1245-1300ه

12

رضوان محمد المخللاتي

1250-1311ه

13

حسن الطويل

1250-1315ه

14

مصطفى السفطي

1250-1327ه

15

أحمد الرفاعي

1250-1325ه

16

علي محمد الببلاوي

1251-1323ه

17

حسونة النواوي

1255-1343ه

18

عبد الله نديم

1261-1314ه

19

محمد عبده

1266-1323ه

20

أحمد أبو خطوة

1268-1324ه

21

أحمد مفتاح

1274-1326ه

22

محمد أكمل

1280-1343ه

23

محمد الإدريسي

1293-1364ه

24

عبد الحميد نافع

حسن العطار

1180ه-1250ه

هو العلامة شيخ الإسلام حسن بن محمد العطار المصري، المولود بالقاهرة في حدود سنة 1180ه/1766م، ونشأ بها في رعاية والده الشيخ محمد كتن، سمع من أهله أنه مغربي الأصل، قدم بعض أسلافه مصر واستوطنوها، وكان والده عطارا صغيرا له إلمام بالعلم.

وكان في أول أمره يستصحبه إلى الدكان، ويستخدمه في صغار شئونه، ويعلمه البيع والشراء، ولشدة ذكائه وحدة فطنته كان يميل إلى التعليم، وتأخذه الغيرة عند رؤية أترابه يترددون إلى المكاتب، فكان يختلف إلى الجامع الأزهر لحفظ القرآن الكريم.

ولما رأى والده فيه هذه الرغبة إلى التعلم، ساعده حتى أتم حفظ القرآن في مدة يسيرة، ثم أقبل على طلب العلم، وجد في التحصيل على كبار المشايخ؛ كالشيخ الأمير والشيخ الصبان وغيرهما، حتى بلغ من العلوم في زمن قليل ما هيأه للتدريس، وزادت رغبته في التزود بكثير من العلوم المختلفة فعكف على دراستها وأتقنها.

ولما دخل الفرنسيون مصر غادر القاهرة مع جماعة من العلماء إلى الصعيد، ثم عاد إليها إبان احتلالهم الممقوت، فقربوه منهم، واتصل بعلمائهم، فأفادهم واستفاد منهم، وكان يتنبأ لمصر بتقدم عمراني وثقافي.

ثم سافر إلى الشام، وأقام بدمشق بالمدرسة البدرية زمنا، ومدحها بقصيدة أولها:

بوادي دمشق الشام جز بي أخا البسط

وعرج على باب السلام ولا تخطي

ولا تبك ما يبكي امرؤ القيس حوملا

ولا منزلا أودى بمنعرج السقط

فإن على باب السلام من البها

ملابس حسن قد حفظن من العط

هنالك تلقى ما يروقك منظرا

ويسلي عن الأخدان والصحب والرهط

ومنها:

وقف بي بجسر الصالحية وقفة

لأقضي لبانات الهوى فيه بالبسط

وعرج على باب البريد تجد به

مراصد للعشاق في ذلك الخط

وحاذر سويعات العمارة إنها

مهالك للأموال تأخذ لا تعطي

إلى أن قال:

وعندي من التأليف شيء وضعته

على شرح قانون الحفيد أخي السبط

ثلاث مقالات كبار وضعتها

لتعريف حال الكي والفصد والبط

وجزء على شرح المبرد كامل

أبين فيه غامض النص بالقط

وألفت في علم الجراحة نبذة

لتعريف أكل الفول بالقطع والخط

ومن شعره:

إني لأكره في الزمان ثلاثة

ما إن لها في عدها من زائد

قرب البخيل وجاهلا متفاضلا

لا يستحي وتوددا من حاسد

ومن الرزية والبلية أن ترى

هذي الثلاثة جمعت في واحد

ومن خطه في بعض مجموعاته: «اتفق لي أني بعد قضاء حجي توجهت مع الركب الشامي، فوصلت إلى «معان»، ثم لبلدة «الخليل» فأقمت بها نحو عشرة أيام، ثم توجهت إلى القدس الشريف، فنزلت بدار نقيبها السيد عمر أفندي، وكان معزولا عن نقابة الأشراف، ومن عادته الاحتفال بالموسم الموسوي وإطعام الفقراء، وقبل حلول الموسم بيومين أعيد إلى نقابة الأشراف، فنظمت قصيدة تهنئة له بعود المنصب:

الحمد لله على فضله

من بعد أن أشفق من محله

قد يطلب الحسناء من لم يكن

كفؤا لها للحمق في عقله

فمنصب المرء قرين له

والشكل مجذوب إلى شكله

وبقية القصيدة في الجزء الرابع من «الخطط التوفيقية»، جزء 4 ص29.

ثم سافر إلى «إستانبول» وأقام هناك مدة، وتأهل بها وأعقب ولم يبق عقبه، ولم يزل مشتغلا بالإفادة والاستفادة حتى عاد إلى مصر بعلوم كثيرة، وأقر له علماء عصره بالانفراد، وعقد مجلسا لقراء تفسير البيضاوي، وقد مضت مدة على هذا التفسير لا يقرؤه أحد، فحضره أكابر المشايخ والتفوا حول دروسه.

ولما حضر إلى مصر في سنة 1237ه «بطرس البستاني» مدحه بقصيدة، منها:

أما الذكاء فإنه

أذكى وأبرع من «إياسه»

أضحى «البديع» رفيقه

لما تفرد في «جناسه»

في أي فن شئته

فكأنه باني أساسه

وكتب عنه معاصره الشيخ محمد شهاب الشاعر قال: «كان آية في حدة النظر وشدة الذكاء، وكان يزورنا ليلا في بعض الأحيان فيتناول الكتاب الدقيق الخط الذي تعسر قراءته في وضح النهار فيقرأ فيه على ضوء السراج، وربما استعار مني الكتاب في مجلدين فلا يلبث عنده إلا أسبوعا أو أسبوعين ويعيده إلي وقد استوفى قراءته وكتب في طرره على كثير من مواضعه.»

وكان معاصرا له مؤرخ مصر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وقد ذكره في تاريخ لمناسبة إعادة الشيخ شامل أحمد رمضان إلى مشيخة رواق الطرابلسية وامتداح الشيخ العطار له، وكان صديقا له، بقصيدة أولها:

انهض فقد ولت جيوش الظلام

وأقبل الصبح سفير اللثام

وغنت الورق على أيكها

تنبه الشرب لشرب المدام

والزهر أضحى في الربى باسما

لما بكت بالطل دمع الغمام

مشيرا إلى أنها من قصيدة في ديوان الشيخ جاء في آخرها:

بشراك مولانا على منصب

كان له فيك مزيد الهيام

وافاك إقبال به دائما

وعشت مسعودا بطول الدوام

فقد رأينا فيك ما نرتجي

لا زلت فينا سالما والسلام

وعندما وصف الجبرتي النكبة التي حلت بالأزبكية ودورها المحرقة بالبركة وبأطرافها عند احتلال الفرنسيين قال: «وصارت كلها تلالا وخرائب كأنها لم تكن مغنى صبابات، ولا مواطن أنس ونزهات»، واستشهد بقول العطار في وصفها إبان ازدهارها، وهذه عبارته (ص37، ج3، الجبرتي):

وفيها يقول صديقنا العلامة والنحرير الفهامة حسن العطار حفظه الله: «وأما بركة الأزبكية فهي مسكن الأمراء ومواطن الرؤساء، قد أحدقت بها البساتين الوارفة الظلال، العديمة المثال، فترى الخضرة في خلال تلك القصور المبيضة كثياب سندس خضر على أثواب من فضة، يوقد بها كثير من السروج والشموع، فالأنس بها غير مقطوع ولا ممنوع، وجمالها يدخل على القلب السرور، ويذهل العقل حتى كأنه من النشوة مخمور، ولطالما مضت لي بالمسرة فيها أيام وليالي، هن سمط الأيام من يتيم اللآلي، وأنا أنظر إلى انطباع صورة البدر في وجناتها، وفيضان لجين نوره على حافاتها وساحاتها، والنسيم بأذيال ثوب مائها الفضي لعاب، وقد سل على حافاتها من تلاعب الأمواج كل قرضاب، وقام على منابر أدواحها في ساحة أفراجها مغردات الطيور، وجالبات السرور، فلذيذ العيش بها موصول.»

وكانت روضة مصر في عصره مزدهرة، وحولها دور العظماء والعلماء، وندواتهم ومكتباتهم ومتنزهاتهم، وفيها يقول العطار:

بالأزبكية طابت لي مسرات

ولذ لي ببديع الأنس أوقات

حيث المياه بها والفلك سابحة

كأنها الزهر تحويها الممرات

وقد أدير بها دور مشيدة

كأنها لبدور الحسن هالات

مدت عليها الروابي خضر سندسها

وغردت في نواحيها حمامات

والماء حين سرى رطب النسيم به

وحل فيه من الأدواح زهرات

كسابغات دروع فوقها نقط

من فضة واحمرار الورد طعنات

مراتع لظباء الترك ساحتها

وللأسود بها فيهن غيضات

وللنديم بها عيش تجدده

أيدي الزمان ولا تخشى جنايات

يروح منها صريع العقل حين يرى

على محاسنها دارت زجاجات

وللرفاق بها جمع ومفترق

لما غدت وهي للندمان حانات

بهذا الأسلوب الرائق وهذا الشعر الفائق يصف العطار بركة الأزبكية، ولا عجب فهو مصري أولا وقاهري تربى بالقاهرة، فرق خياله، ونعم بجمال البركة الذي فتن كل من رآها فتغنى بجمالها.

ظل الشيخ حسن مصدر إشعاع لمختلف العلوم إلى أن ولي مشيخة الأزهر عقب وفاة الشيخ محمد الشنواني في سنة 1246ه فزانها وشرفها، وظل شيخا للأزهر إلى أن توفي في آخر سنة 1250ه وترك مؤلفات قيمة، منها ما دونه طيب الذكر يوسف سركيس في معجم المطبوعات العربية بعد أن ترجم للشيخ، وهي:

إنشاء العطار، في المراسلات والمخاطبات وكتابة الصكوك والشروط مما يحتاج إليه الخاص والعام، وقد طبع عدة طبعات، وهو مؤلف صغير الحجم كبير الفائدة، يشهد له بدقة الملاحظة وقوة الأسلوب، وفيه الكثير من أشعاره:

حاشية العطار، على التذهيب للخبيصي، شرح التهذيب، وبهامشها الشرح المذكور وحاشية ابن سعد (منطق)، طبع ببولاق سنة 1296ه.

حاشية العطار، على شرح إيساغوجي لأثير الدين الأبهري، وبالهامش الشرح المذكور (منطق) طبع سنة 1311ه.

حاشية العطار، على جمع الجوامع، ثلاثة أجزاء، طبع مصر.

حاشيته على متن السمرقندية (بلاغة) طبع بالدهينة سنة 1288ه.

حاشيته على شرح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري (نحو) طبع عدة طبعات بمصر.

حاشيته على شرح المقولات المسمى بالجواهر المنتظمات في عقود المقولات كلاهما للشيخ أحمد السجاعي، طبع بمصر سنة 1282ه.

منظومة العطار في علم النحو، في مجموع من مهمات الفنون، طبع سنة 1280ه.

وقد زاد المغفور له علي باشا مبارك على ذلك من مؤلفات العطار: رسالة في كيفية العمل بالأسطرلاب والربعين المقنطر والمجيب والبسائط، ورسائل في الرمل والزايرجة والطب والتشريح وغير ذلك، وذكر أنه كان يرسم بيده المزاول النهارية والليلية.

وحدث الشيخ إبراهيم السقا أحد تلاميذه: أن بعض سكان مكة المكرمة المارين بمصر أعجبهم علم الشيخ العطار، فأحبوا أن يقيم بينهم ليخلف فيهم «ابن حجر الهيتمي» وينتفعوا به وبعلمه، فاجتمعوا به، وما زالوا يحسنون له الرحلة حتى أجاب، وأخذ في تجهيز نفسه، وسمع تلاميذه بذلك، فاشتد أسفهم، ولم يكن فيهم من يجرؤ على منعه، قال: فاحتلت بأن أخرجته بعد الدرس من صحن الأزهر، ونحن في حمارة القيظ، وأخذت أسأله بعض المسائل وأخرج من واحدة لأخرى، وهو يرفع رجله ويضعها من شدة حر البلاط، حتى تبين لي الضجر في وجهه وانتهرني، فقلت: يا سيدي أنت لا تطيق حر الشمس وأنت بمصر، فكيف لك بالحر في مكة وهو هناك أضعاف ما هنا؟ ففكر ثم جزاني خيرا، وفترت همته عن السفر.

وحدث أيضا الشيخ السقا قال: بينما نحن في درسه إذ وقف على الحلقة رجل أعجمي بشع المنظر في منطقته خنجر، ثم «رطن» مع الشيخ بلغة لم نفهمها، وكلما طال الكلام ازداد الرجل حنقا وحدة، فترك الشيخ كراريسه، وقال: أنا محتاج لتجديد وضوئي، ثم ذهب ولم يعد، وانصرفنا، وتبين لنا أنه من أقارب زوجته التي تزوج بها في بلاد الترك ثم تركها، فأخبرنا هو أن الرجل كان يتهدده بالقتل.

وكان الشيخ العطار عالما جليلا ذائع الصيت في مصر وسائر الأقطار العربية والشرقية، وأديبا فريدا، وشاعرا مجيدا، وكان مع ما اتصف به من حميد السجايا وطيب الخلال متواضعا كريما زاهدا وجيها أينما توجه وحيثما أقام، رحمه الله وأجزل مثوبته.

الشيخ حسن العطار

1

رائد البعث الأدبي في مصر الحديثة

الشيخ حسن العطار هو حسن بن محمد كتن، المولود بالقاهرة سنة 1180ه/1766م على أرجح الأقوال، وهو يرتد إلى أصول مغربية، وقد اتصل بالفرنسيين اتصالا علميا، كما اتصل بمحمد علي، وولي تحرير «الوقائع العربية» بين (1244-1246ه/1828-1830م)، ومشيخة الأزهر سنة 1246ه وظل فيها حتى توفي سنة 1250ه/1835م.

وكان أبوه عطارا فقيرا له إلمام بالعلم، وكان يستصحبه إلى الدكان ويستخدمه في صغار شئونه، ومن هنا جاءه لقب العطار، وكان يميل إلى التعلم وتأخذه الغيرة عند رؤيته أترابه يترددون إلى المكاتب، فكان يختلف إلى الجامع الأزهر خفية حتى قرأ القرآن في مدة يسيرة، فلما علم أبوه بذلك بارك اتجاهه وشجعه، فجد في التحصيل حتى بلغ من العلوم في زمن قليل مبلغا تميز به، واستحق التصدي للتدريس، لكنه مال إلى الاستكمال، فاشتغل بغرائب الفنون والتقاط فوائدها.

والواقع أن مفتاح شخصية العطار يكمن في حبه الأصيل للعلم، وكلف العطار بالمعرفة والتعلم هو الذي جعله فذا بين أقرانه تلميذا وأستاذا، وهو الذي صاحبه في كافة مراحل حياته وجعله حدثا في عصره.

كان الرجل قارئا نهما، وكان إلى ذلك يحسن الانتفاع بما يقرأ، حتى اشتهر عنه ذلك، فإلى جانب النص السابق الذي يسجل أنه كان ميالا إلى الاستكمال مشتغلا بغرائب الفنون والتقاط فوائدها نجد أحد أصدقائه الشيخ محمد شهاب يقول: «إن الشيخ العطار كان آية في حدة النظر وشدة الذكاء، ولقد كان يزورنا ليلا في بعض الأحيان فيتناول الكتاب الدقيق الخط الذي تتعسر قراءته في وضح النهار فيقرأ فيه على نور السراج وهو في موضعه، وربما استعار مني الكتاب في مجلدين فلا يلبث عنده الأسبوع أو الأسبوعين ويعيده إلي وقد استوفى قراءته وكتب في طرره على كثير من مواضعه.»

وقد اتصل العطار بالفرنسيين إبان الحملة ليعلم أحدهم اللغة العربية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم فيما يقول علي مبارك، وقد أشار العطار نفسه إلى ذلك في مقامته إن جاز أن نعتبرها مصدرا، وإن غضضنا الطرف عن فكرة أنه ساقها على لسان راو صديق، يقول في موضع منها معددا الكتب التي رآها عند الفرنسيين: «وكلها في العلوم الرياضية والأدبية، وأطلعوني على آلات فلكية وهندسية»، وفي موضع آخر من نفس المقامة يشير إلى حب الفرنسيين للفلسفة وحرصهم على اقتناء كتبها وإعمال الفكرة فيها.

وإلى جانب صلة العطار بالفرنسيين في مكتباتهم ومصانعهم، فقد كان للعطار ولع بقراءة الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية، خاصة في علمي التاريخ والجغرافيا حتى اشتهر عنه ذلك، والعطار نفسه يقول في هذا المنبع من منابع ثقافته: «وقع في زمننا أن جلبت كتب من بلاد الإفرنج، وترجمت باللغة التركية والعربية ، وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة اطلعنا على بعضها، وقد تتحول تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل، وتكلموا في الصناعات الحربية والآلات النارية ومهدوا فيها قواعد وأصولا حتى صار ذلك علما مستقلا مدونا في الكتب، وفرعوه إلى فروع كثيرة، ومن سمت به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات انكشفت له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهم.»

وإلى جانب اتصال العطار بالثقافة الغربية عن طريق الاحتكاك المباشر أولا ثم عن طريق الكتب المترجمة، فإن الرجل قد توفرت له وسيلة ثالثة: هي الرحلة؛ إذ ذهب إلى الشام وفلسطين وتركيا، «ولم يزل مشتغلا بالإفادة والاستفادة حتى عاد إلى مصر بعلوم كثيرة، وأقر له علماء مصر بالانفراد.»

وليس واضحا في كل ما كتب عن الشيخ العطار سبب هذه الرحلة، ولكن يبدو أنه اضطر إليها بعد أن ساءت علاقاته بالفرنسيين.

فلما عاد العطار إلى مصر في عهد محمد علي، عاد موسوعيا في ثقافته وعلمه، يطاول علماء الأزهر الأفذاذ، ويمتلئ حماسة لتطوير البلاد وإصلاح أحوالها. ويمكن إجمال جهود العطار الإصلاحية في ثلاثة ميادين، هي: التعليم والثقافة، ثم الأدب واللغة، ثم السياسة.

أما في مجال التعليم والثقافة، فقد اتخذت جهود الرجل عدة مظاهر: أولها أنه جعل ينبه الأزهريين في عصره إلى واقعهم الثقافي والتعليمي، ويبين ضرورة إدخالهم المواد الممنوعة؛ كالفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية، كما يبين ضرورة إقلاعهم عن أساليبهم في التدريس، ووجوب الرجوع إلى الكتب الأصول وعدم الاكتفاء بالملخصات والمتون المتداولة، ويتوسل إلى ذلك بكل وسيلة، يقول مبينا الفارق بين علماء عصره والعلماء الأفذاذ الذين عرفهم العالم العربي قبل عصر العطار ، ومحطما أكذوبة تحريم الدين الإسلامي لبعض العلم: ... من تأمل ما سطرناه وما ذكر من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام، علم أنهم كانوا - مع رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية - لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع، ثم هم مع ذلك ما خلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات.

وفيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون والمستمدون من كلامهم نكررها طول العمر، ولا تطمح نفوسنا إلى النظر في غيرها حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب، فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخلصنا منه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في «جمع الجوامع» فلا أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة، وهكذا فصار العذر أقبح من الذنب ... وهذه نفثة مصدور.

وقد بدأ العطار يخرج على هذا الجمود العلمي الأزهري بتدريسه المواد الممنوعة؛ إذ بدأ يدرس الجغرافيا والتاريخ في الأزهر وخارج نطاق الأزهر، كما كان تلميذه محمد عياد الطنطاوي يدرس الأدب في الأزهر بإيحاء العطار وتحت إشرافه في «مقامات الحريري» حوالي سنة 1827م، كما بدأ تلميذه رفاعة الطهطاوي أيضا يدرس الحديث والسنة بطريق المحاضرة وبلا نص، مما كان مثار إعجاب العلماء، وفي الخطط التوفيقية أن العطار «عقد مجلسا لقراء تفسير البيضاوي»، وقد مضت مدة على هذا التفسير لا يقرؤه أحد، فحضر أكابر المشايخ، فكانوا إذا جلس للدرس تركوا حلقهم وقاموا إلى درسه»، ولعله بذلك يكون قد بدأ ما لجأ إليه الأفغاني ومحمد عبده من إعادة تفسير القرآن في ضوء الظروف المعاصرة، والمهم أن هذا النص يدل على أن التربة من حول العطار لم تكن مواتا تماما ، فإن قيام زملائه الشيوخ إلى حلقته، مع اشتداد معارضتهم له ونقمتهم عليه لنزعته التجديدية ولحملاته على تقصيرهم العلمي لهو أمر له دلالته، كما أنه وثيقة تشهد بمقدرة هذا العالم الفذ.

فكأن الشق الأول من دعوة العطار الإصلاحية كان يتمثل في مناداته بضرورة تطوير التعليم الأزهري من حيث المناهج ومواد الدراسة؛ وذلك بالرجوع إلى المصادر الأصلية وبتدريس المواد الممنوعة، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالدعوة إلى ضرورة بعث التراث العربي القديم، وهي دعوة حاول العطار نفسه الإسهام في تنفيذها؛ إذ لم يكن يكف عن البحث والتنقيب في هذه المراجع القديمة وإشراك خاصة تلاميذه في ذلك، ولقد كان الأزهر أكبر المعاقل العلمية في ذلك الوقت، فحديث العطار عن التعليم الأزهري وقصوره حديث عن الحالة الثقافية عامة في البلاد.

المظهر الثاني لحركة الشيخ العطار التجديدية في مجال الثقافة والتعليم يتمثل في دعوته إلى إدخال العلوم العصرية، وعبارته في ذلك معروفة: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها.» والشيخ العطار لم يقتصر في دعوته على مجرد التبشير بأفكاره الإصلاحية، إنما هو يردف القول بالعمل، فإلى جانب تدريسه وتأليفه في العلوم العربية نجده يكتب في المنطق والفلك والطب والطبيعة والكيمياء والهندسة، يتضح ذلك من قائمة مطبوعاته، ومن إشاراته إلى إعجابه بما رأى عند الفرنسيين وخاصة تحويلهم علومهم إلى عمل، وفضلا عن ذلك فإن استعراض قائمة مطبوعات بولاق حتى سنة 1835م تدل على أن عددا وافرا من المطبوعات في جميع المواد المذكورة كان قد طبع، بل إن العطار كان يتردد على المرصد الذي أنشأه الفرنسيون، كما «كان يرسم بيده المزاول النهارية والليلية»، وقد حفلت شروح الرجل وحواشيه على الكتب المختلفة بتعليقات في كافة العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية.

والجانب الثاني من جوانب حركة العطار هو التطوير الأدبي، وقد مر بنا أنه أفلح في إدخال الدراسة الأدبية إلى الأزهر على يدي تلميذه الطنطاوي، كما أنه هو نفسه قد اعتنى بالأدب عناية خاصة، فلم يكن يتحرج من إنشائه أو تدريسه، ويبين عدم تعارض ذلك مع وقار العلم أو جلال الدين، مستشهدا بالأسلاف العظام.

كان العطار يكتب النثر وينظم الشعر، ويشجع تلاميذه على ذلك، حتى إن جمال أسلوبه كان سر اختياره أول محرر للوقائع العربية، وقد كتب العطار مقامة على النسق القديم، وإن كان موضوعها حديثا، فهي تدور حول علاقته بالفرنسيين وانتفاعه بمكتبتهم، كما كتب كتابا في فلسفة الإنشاء ضمنه كل الأنواع الأدبية المعروفة لعهده، وأردف كلا منها بنماذج مختارة من إنتاجه الخاص، وهي أكثر أجزاء الكتاب حيوية؛ إذ يسجل فيها خواطره وانطباعاته التي تركتها في نفسه رحلاته ومعاملاته مع الناس الذين احتك بهم، والكتاب بعد حافل بنماذج شعرية للرجل نفسه، وذلك هو كتاب «إنشاء العطار».

وفضلا عن ذلك فتاريخ «الجبرتي» حافل بنماذج شعرية له، وكذلك «كنز الجوهر»، و«الخطط التوفيقية»، وغيرها من الكتب التي ترجمت له.

ويغلب على أسلوب العطار البساطة والسهولة والحرص على الفكرة ونقلها إلى القارئ؛ فالأسلوب عنده مجرد وسيلة للتعبير وليس غاية في ذاته، ومع ذلك فهناك في بعض كتابات الرجل السجع والمحسنات البديعية عموما، ومن غريب الأمر أن ذلك يكثر حيث يقصد الرجل إلى الإنشاء الأدبي أو الكلام في فلسفة الأدب، ويقل في مؤلفاته العلمية حيث يسهل أسلوبه ويسلس حتى ليوشك أن يكون معاصرا.

أما في الشعر فإن نماذج العطار الحية قد دارت حول موضوعات شغلته، وهو يسجل وعيه بذلك وتمسكه به، ونفوره من التزام التقليد القديم في بكاء الدمن، والانغلاق في الموضوعات الشعرية القديمة وعناصرها. ومن أقوال «العطار» في هذا المعنى ما جاء في ثنايا تغنيه بجمال الطبيعة في دمشق:

بوادي دمشق الشام جز بي أخا البسط

وعرج على باب السلام ولا تخطي

ولا تبك ما يبكي امرؤ القيس حوملا

ولا منزلا أودى بمنعرج السقط

فإن على باب السلام من البها

ملابس حسن قد حفظن من العط

هنالك تلقى ما يروقك منظرا

ويسلي عن الأخدان والصحب والرهط

كساها الحيا أثواب خط فدثرت

بنور شعاع الشمس والزهر كالقرط

فهو يؤثر التحول عن بكاء الأطلال إلى التغني بالطبيعة الحية من حوله إيثارا واعيا مقصودا، ويلاحظ على هذه المقطوعة سهولة لغتها وتماسك أبياتها في كل مترابط، وهي صفة عامة تنسحب على معظم إنتاج العطار الشعري ما لم يعمد الرجل إلى التزام الإطار التقليدي للقصيدة العربية، كما كان متداولا عند معاصريه، ويكثر ذلك في شعر المناسبات غاليا. وفي رثاء الشيخ العطار لأستاذه «الدسوقي » نجد نموذجا لهذا الشعر الذي يقوم على المغالاة والاتكاء على التوليدات المنطقية مما يجعله أقرب إلى النظم، وفي نماذج هذا النوع تنتكس وحدة القصيدة فيصبح البيت وحدة قائمة بذاتها؛ كقوله:

عزاء بني الدنيا بفقد أئمة

لكأس مرير الموت كل تجرعا

يمينا لقد جل المصاب بشيخنا ال

دسوقي وعاد القلب بالهم مترعا

بقي من أوجه نشاط العطار الجانب السياسي، والفكرة الشائعة بين من درسوا الرجل وأعماله أنه كان مسالما بطبعه، يلتزم أسلوب العلماء في الآراء التي يبشر بها، أو أنه كان حصيفا كيسا - كما يذهب المرحوم الأستاذ العقاد - فلم يقحم نفسه في مجال السياسة، بل إن الذي يراجع آراء معاصري العطار من الشيوخ يحس أنهم كانوا ينظرون إليه على أنه رجل محمد علي وصنيعته، والواقع أن هذه النظرة إلى نشاط العطار السياسي لها ما يبررها من ظاهر موقف الرجل ورأي معاصريه فيه، ولكنها بعد نظرة من الخارج أو هي نظرة على السطح.

لقد رحل العطار من القاهرة إلى أسيوط فرارا من وجه الفرنسيين أول دخول رجال الحملة الفرنسية القاهرة، وظل هناك حتى هدأت الأحوال واطمأنت النفوس، فعاد مع العائدين، وبدأت صلة العطار بالفرنسيين منذ ذلك التاريخ، وتوثقت هذه الصلة حتى أصبح يفهم عنهم ويتحمس لحضارتهم وعلمهم، ويبشر بضرورة الانتفاع بكل ذلك، ثم يسافر العطار إلى سوريا وتركيا ولا يعود إلا في عهد محمد علي. والراجح أنه خرج مكرها بسبب العسف الفرنسي، أو احتجاجا على إساءة الفرنسيين معاملة المصريين، ويقال إنه ذكر ذلك في بعض رسائله الخاصة.

وفي عهد الحملة بشر نابليون في منشوراته وأقواله بملامح ديمقراطية رائعة، وبلغ ذلك ذروته في الديوان العام الذي هو أشبه ما يكون بمؤتمر عام يضم مندوبي القاهرة والأقاليم للبحث في شكل الحكم والضرائب والقضاة وغير ذلك من الأمور الحيوية، كما نجد هذه اللمحة الديمقراطية تتكرر في الدواوين الخاصة، إلا أن الفرنسيين لم يلبثوا أن فجعوا المصريين في آمالهم التي علقوها بهذه الوعود البراقة؛ ذلك أن الفرنسيين سلبوا هذه المنظمات فاعليتها، وفرضوا الكثير من الضرائب والإتاوات والسلف الإجبارية، بل أزهقوا من الأرواح ما لم يجد معه تدخل أعضاء الدواوين ولا العلماء، مما ضاعف من حنق المصريين على الفرنسيين، وهو ما ترك أثرا حاسما على الحركة القومية الوليدة، وبدهي أن العلماء المثقفين الفاهمين كانوا في طليعة الناقمين، وكان العطار بين هؤلاء في المقدمة، وحسبنا دليلا على غضبة الشعب وعدم انخداعه بوعود نابليون أن الديوان العام انتهى بثورة القاهرة الأولى.

وفي عهد الحملة الفرنسية أيضا ترجم الدستور الفرنسي وأعيد طبعه ثلاث مرات، وكان العطار يتابع الكتب المترجمة، فلا شك أنه قرأ هذا الدستور المترجم ووعاه، ولقد كان العطار بعد معنيا بتقدم البلاد حريصا عليه، وهو صاحب فكرة إرسال الطهطاوي تلميذه الفذ في البعثة العلمية إلى فرنسا في عهد محمد علي، كما كان صاحب فكرة تدوين الطهطاوي لكل ما يرى وما يعن له في أثناء رحلته مما كان ثمرته كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، فليس من المغالاة في شيء أن نستنتج أن وقوف الطهطاوي عند نظام الحكم الفرنسي، ونقله من الدستور الفرنسي، وإطالته الوقوف عند ما أسماه «جوانب العدل» فيه، إنما يرتد إلى إيحاء أستاذه العطار. ومن هنا يمكن أن نجمل موقف الرجل السياسي في عهد الحملة الفرنسية، في نشاط معاد استوجب نفيه، ثم تنبهه إلى مزايا الديمقراطية الفرنسية وحرصه على أن تنتفع بلاده بها انتفاعا رسم خطوطه العريضة لتلاميذه وعهد إليهم بموالاته. •••

وفي عهد محمد علي نجد إشارات متفرقة يمكن بجمعها وتعمقها أن نستدل على موقف العطار السياسي، وأولى هذه الإشارات أن الرجل كان صديقا حميما للجبرتي المؤرخ، وأنه أسهم معه في تأليف كتابه «مظهر التقديس»، والمعروف عن الجبرتي أنه كان ينقم على محمد علي افتياته على الكيان المصري والشخصية المصرية، وإن أعجب بنشاطه وحزمه، يقول في ذلك: «... فلو وفقه الله بشيء من العدالة على ما فيه من العزم والكياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه.»

وليس ببعيد أن يكون هذا هو حقيقة موقف العطار نفسه من محمد علي وحكمه، لا سيما أن الرجل كان شديد الغيرة على المصلحة العامة، شديد الحرص على تشخيص الواقع المحيط به وتغييره. •••

أما الإشارة الثانية إلى موقف العطار السياسي في عهد محمد علي، فنجدها في الوقائع في الفترة التي ولي فيها العطار تحرير القسم العربي منها (1828-1830م). وخلاصة هذه الإشارة أن أحد محرري الوقائع، واسمه عزيز أفندي، كان يحرص على أن يعرض الأخبار التي ترد إليه من محمد علي عرضا موجها، أي أنه كان يعلق عليها برأيه الشخصي، ولم يرض ذلك محمدا عليا، فلفت نظر عزيز أفندي مرة ومرة، وفي الثالثة نحاه نهائيا عن الوقائع، وبعد ذلك بقليل نجد رئيس التحرير نفسه يعتذر عن كتابته بعض أشياء لم يكن مطلعا عليها فوقع بها الخطأ، وأن سعادته «محمد علي» أمر بأنه لا يكتب شيء إلا بعد الاطلاع على حقيقته ليكون خاليا من السهو والخطأ، ويشكر المحرر محمدا عليا لتجاوزه عن هذا الأمر، بل واختياره المحرر عضوا في المجلس العالي من غير استحقاق.

وهذه الإشارات جميعا لا تدع مجالا للشك في أن العطار لم يكن راضيا تماما عن كل ما يدور حوله، ولكنه كان كيسا اتعظ بما فعل محمد علي بزعماء المصريين وعلمائهم المناوئين له، فلم يلجأ «العطار» إلى أسلوب المجابهة المفتوحة.

والخلاصة أن الشيخ حسن العطار كان له موقف متكامل من مشكلات مجتمعه الثقافية والتعليمية والأدبية والسياسية.

وقد حاول أن يشخص هذا الواقع ويحدد جوانب الضعف فيه، كما نادى بضرورة تغييره ورسم برنامج هذا التغيير، ثم أسهم بدوره في هذا التغيير، وأخيرا أنه عهد بأمانة هذا التغيير ومستقبله إلى تلاميذه، الذين يعتبر رفاعة الطهطاوي نموذجهم الفذ الذي بلغت حركة العطار على يديه أوجها. وفي كل ما قاله الطهطاوي وما عمله تكاد روح العطار وشخصيته أن تلمس باليد.

محمد أبو الفتح

1217-1294ه

هو الشيخ محمد أبو الفتح مفتي الإسكندرية، وقد ولد في أوائل القرن الثالث عشر، وطلب العلم بالأزهر على الشيخ الصاوي وغيره من شيوخ الوقت، ثم انتقل لرشيد وتزوج بها.

وكان ملازما للشيخ محمد البنا الكبير، فلما انتقل الشيخ إلى الإسكندرية انتقل المترجم معه وبقي بها وانتخب أمينا لفتواها، وكان مفتيها إذ ذاك الشيخ الدويري، ثم لما مات «الدويري» تولى «البنا» الإفتاء، فنقل المترجم لمنصب آخر، ولما مات البنا تولى هو إفتاء الثغر وبقي به إلى أن مات.

وكان له شغف زائد بجمع الكتب واقتناء نفائسها، حتى اجتمعت له خزانة نفيسة بيعت بعد موته بثمن بخس، وكان رأي بناته وزوجته إبقاءها فلم يرض ولده، فذهبت وتفرقت بعدما عانى أبوه ما عانى في شرائها واستنساخها.

وكان له ولع أيضا بجمع الساعات، فجمع منها نوادر وطرفا بيعت بعد موته أيضا، ولم يترك شيئا من الحطام سوى دار بالإسكندرية كان يسكنها في أواخر أيامه.

وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شهر صفر سنة 1294ه ودفن يوم الثلاثاء، ورثاه الشيخ عبد الرحمن الإبياري قاضي الإسكندرية بقصيدة مطلعها:

أهذي سيوف الدهر جردها الدهر

أم السنة الشهباء جف لها الزهر

ومن مؤلفاته: كتاب «تبويب الأشباه والنظائر لابن نجيم».

وشرع في كتاب آخر في الفقه لم يكمله.

وكانت له يد طولى في علم الميقات.

وهو جد صاحبنا

1

العالم الفاضل الشيخ حسن منصور لأمه.

محمد الأشموني

1218-1321ه

هو الشيخ محمد الأشموني. ومعلوم أن أصله من أشمون جريس - قرية من أعمال المنوفية - وقد أخبر أنه من نسل أبي مدين التلمساني، ولد سنة 1218ه، وحضر إلى الأزهر فتلقى عن شيوخه: القويسني، والبولاقي، والفضالي، والأمير، والباجوري، والمرصفي وغيرهم، وكان أكثر حضوره على البولاقي والباجوري، واشتهر بالذكاء وجودة التعليق، وإتقان التحصيل، إلى أن تأهل للتدريس، فدرس الكتب المتداولة بالأزهر صغيرة وكبيرة، وقرأ المطول، وجمع الجوامع، وكتب التفسير، والحديث، والعقائد وغيرها مرات بعذوبة منطق، وحسن إلقاء، ولم يؤلف كتبا، وإنما كتب عنه بعض الطلبة تقييدات عن قراءته للعقائد النسفية، وكذلك قيدوا عنه نحو ثلاثين كراسة حال قراءته لمختصر السعد، وأخذ عنه كثيرون من كبار علماء الأزهر، وعمر عمرا طويلا حتى ألحق الأجداد بالأحفاد، وصار جميع من بالأزهر إما تلاميذه أو ممن في طبقتهم.

وروي أن الشيخ محمد الإنبابي شيخ الأزهر تلقى عنه، إلا أن الشيخ الإنبابي كان ينكر ذلك ، ولم يعقب المترجم لأنه لم يتزوج قط، وكان القائم بخدمته في داره أخت له وجارية سوداء، وعبد اسمه محبوب، تبناه وزوجه من الجارية وفتح له حانوتا بالتربيعة وصيره من التجار، ثم وقف على الثلاثة داره التي كان يسكنها بالباطنية بالقرب من الأزهر.

ولم ينقطع عن التدريس والإفادة إلا قبل موته ببضع سنوات لضعف أصابه من الكبر وأبطل حركته، وكانت وفاته ليلة الجمعة رابع ذي القعدة سنة 1321ه عن مائة سنة وثلاث سنوات، وأطلقوا منادين في الطرق للإنباء بوفاته، فساروا مثنى رافعين أصواتهم بالنعي، واجتمع في صبيحة الوفاة الألوف من صفوف الناس لتشييع جنازته. قيل إنهم بلغوا نحو أربعين ألفا، وحضر أيضا الوزير المنبهي المراكشي وزير الحرب بالمغرب، وكان مارا بمصر للحج.

وتقدم شيخ الأزهر السيد علي الببلاوي للصلاة عليه بالأزهر، وتلوا قبيل الصلاة مرثية من نظم الشيخ إبراهيم راضي، مطلعها:

لا قلب للإسلام غير حزين

فاليوم فيه انهد ركن الدين

ثم خرجوا بالجنازة إلى القرافة ودفنوه في مقبرة الشيخ الإنبابي، وكان رحمه الله أنيس المحضر، كثير الدعابة والمزاح مع الطلبة، شديد الورع، متصفا بالزهد والتقشف وقلة الاحتفال برفاهة العيش، إذا سار في الطريق توكأ على عصاه بيد ووضع الأخرى على كتف من يسايره، ولا سيما بعد علو السن وضعف القوة، حضر مرة احتفالا مما يقام لكسر السد أو المولد النبوي، ورموا بالسهام النارية كعادتهم، فتجاوز سهم منها مداه ووقع على الحاضرين فأصاب المترجم في إحدى عينيه وذهب بها، فرتبت له السلطات راتبا شهريا علاوة على راتب الأزهر رحمه الله تعالى.

إبراهيم مرزوق

1221-1283ه

تلقى إبراهيم بك مرزوق الشاعر العلم بمدرسة الألسن، وتخرج على ناظرها رفاعة بك رافع الشهير، فقرأ بهذه المدرسة النحو والصرف وباقي علومها، وبرع في الفرنسية، وكان لرفاعة عناية خاصة في تلقين تلاميذه العربية والعلوم الأدبية وتدريبهم على نظم الشعر، فكان للمترجم حظ من هذه الصناعة، فنظم الشعر الجيد من المقطعات والقصائد، اعتنى بجمعها بعده محمد سعيد بك ابن جعفر مظهر باشا سنة 1287ه في ديوان سماه «الدر البهي المنسوق بديوان إبراهيم بك مرزوق» وطبع بمصر.

ولما أتم المترجم علومه بالمدرسة استخدم في ديوان كان يقال له «ديوان الهرجلات» وهو خاص ببيع الخيل والماشية التابعة للحكومة، ثم نقل منه ناظرا للقلم الإفرنكي بالضبطية، وفصل منه مدة عبده باشا ضابط مصر، ثم عاد إليه بعد نحو ثلاث سنوات، وكان مدة توليه لهذا القلم كثير المعاكسة للإفرنج، إذا وقع أحدهم في سجن الضبطية أو كانت له دعوى بها قلما كان يسلم من أذاته، حتى ضج منه وكلاء الدول وأكثروا من الشكوى، فلم يكن يثبت عليه شيء عند التحقيق؛ والسبب في ذلك أنه كان يعتمد على إخوانه ومرءوسيه بالضبطية على إيصال الأذى إليهم سرا نكاية بهم لطغيانهم على الرعية وتدرعهم بدروع الحمايات.

وفي مدة وكالة إسماعيل الخديو نقل المترجم معاونا بمجلس الأحكام، ثم لما تولى هذا الخديو على مصر أرسله ناظرا للقلم الإفرنكي بالخرطوم قاعدة بلاد السودان، فبقي إلى أن توفي بها سنة 1283ه.

وكان مربوع القامة، أبيض اللون، قد وخطه الشيب، ومات بعدما تجاوز الستين رحمه الله.

محمد عياد الطنطاوي

1227ه-1280ه/1810م-1862م

وقفت له على ترجمة بخط الأديب الأستاذ عبد المعطي السعد، قال: هو الشيخ محمد بن سعد، الملقب بعياد الطنطاوي، الشافعي، أحد أفراد الطبقة الأولى الآخذة عن شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ الجامع الأزهر المتوفى سنة 1276ه.

كان رحمه الله من أعيان علماء القرن الثالث عشر، راسخ القدم في العلوم العقلية والنقلية، آخذا بحظ وافر من الأدب، وله كثير من الشعر الحسن والنثر المستحسن، وكان المشتغلون بالأدب من علماء الأزهر في عهده قليلين يعدون على أصابع اليد؛ كشيخ الإسلام الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر، والشيخ خليل الرجبي.

وقد ولد المترجم في طنطا سنة 1810م وتعلم في الجامع الأحمدي بها، ثم أتم تعليمه في الأزهر، وله رحمه الله مؤلفات كثيرة تنم على غزارة مادة ودقة نظر، منها: في العقائد حاشية على الشرح المسمى «بالتحفة السنية في العقائد السنية» للعلامة الكبير برهان الدين أبي المعالي إبراهيم السقا على منظومة السيد محمد بليحة، يقول في آخرها:

وحيث طعمت من بليحة، وشربت من منهل السقا، فتفكه بها لأنس نفسك علك أن ترقى.

ومنها: حاشية على رسالة شيخه العلامة الشيخ إبراهيم الباجوري، يقول فيها مادحا ومقرظا، كما وجدته مكتوبا بخطه تحت طرتها:

إن علم الكلام أفضل علم

فيه وصف الإله والرسل يسرد

فإلى هذه الرسالة يمم

فهي حازت لما عليك تأكد

ومنها: «شرح منظومة الشيخ السلموني»، التزم السجع في جميع جمله، يقع في نحو كراسة، و«حاشية على شرح الشيخ خالد الأزهري» على متنه المسمى «بالأزهرية» في علم النحو، ضمنها تحقيقات جمة، و«حاشية على متن الزنجاني في الصرف المشهور بمتن العزي»، قال في أولها موريا بالمتن المذكور:

الصرف زين أهله

وهو لهم كالكنز

قالوا لما تقرؤه

قلت لأجل «العز»

ومنها: «منظومة في البيان نظم فيها متن السمرقندية» وشرح على المنظومة المذكورة، في كراستين لطيفتين.

ومنها حاشية جليلة على كتاب «الكافي في علمي العروض والقوافي».

وقدر له رحمه الله الذهاب إلى روسيا، فذهب إليها، حوالي سنة 1840م، وعمل مدرسا للغة العربية بمعهد اللغات الشرقية في بطرسبورج،

1

وظل يعمل هنالك نحو ربع قرن، إلى أن انتقل إلى رحمة الله سنة 1862م، بعد أن تخرج على يديه عدد كبير من المستشرقين.

وكانت بينه وبين رفاعة الطهطاوي مراسلات أدبية، وكلاهما من خاصة تلاميذ الشيخ حسن العطار، وقال في إحدى رسائله إليه: «أنا مشغول بكيفية معيشة الأوروبيين وانبساطهم وحسن إدارتهم، خصوصا ريفهم وبيوتهم المحدقة بالبساتين والأنهار، إلى غير ذلك مما شاهدته قبل بباريز، إذ بطرسبورج لا تنقص عنها بل تفضلها في أشياء كاتساع الطرق. أما من جهة البرد فلم يضرني جدا، وإنما ألزمني ربط منديل في العنق ولبس فروة إذا خرجت، أما في البيت فالمداخن المثبتة معدة للإدفاء.»

ومن أهم مؤلفاته كتاب سماه «أحسن النخب في معرفة لسان العرب»، وقد ضمنه جملا وألفاظا ومكاتبات وقصصا وأغاني عامية مع ترجمتها إلى الفرنسية، وله مخطوطات عدة موجودة في مكتبة كلية بطرسبورج.

وقد اصطحب معه إلى روسيا زوجته وابنه، وبقيا بعده فيها إلى أن توفيا ودفنا مثله بمدافن المسلمين في بطرسبورج.

ولم تؤثر إقامته الطويلة في روسيا في شيء من دينه أو عقيدته، كما يؤخذ من قوله في قطعة شعرية أرسلها إلى أحد أصدقائه بمصر:

أنا بين قوم لا أدين بدينهم

أبدا ولا يتدينون بديني •••

وقد وقفت على ترجمة أخرى للشيخ محمد الطنطاوي، في كتاب تلقيته من المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشوفسكي عضو أكاديمية العلوم الروسية، كتبه في ليننغراد في 30 تشرين الثاني (أكتوبر) سنة 1924م، وهذا نص الكتاب:

جناب العالم العلامة الفاضل والأستاذ المدقق الكامل.

2

قد تسلمت في هذه الأيام الجزء التاسع من مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق، ورأيت فيه مقالة عن الشيخ الطنطاوي جاد بها قلمكم السيال وعلمكم الواسع، وسررت بها جد السرور لما نشرتم من ذكر هذا الرجل الفاضل الذي خدم الأدب العربي والروسي خدمة تذكر وتشكر، قد طال ما أعلل نفسي بكتابة ترجمة الشيخ، وقد تراكمت لدي المواد، ولكن لم تساعدني الظروف حتى الآن بجمعها وترتيبها، أما المستقبل فآت؛ ولذلك رأيت أن أكتب إليكم ببعض الملاحظات والاستدراكات على مقالتكم اللطيفة، وأقول:

من أهم المصادر في هذا الموضوع تاريخ الحياة للشيخ المكتوب بقلمه، وإن لم يكتب منه إلا قطعة صغيرة، وهي منشورة بأصلها العربي والترجمة الألمانية للعلامة

Y. G. Ksscgarten

في مجلة اسمها:

Testochrisftder Dentocben Morginla rdcsehen Yesselle choft I, V, 482, 282 . «والمصدر الثاني لتاريخه لا يقل أهمية عن الأول، وهو مخطوطاته العديدة الموجودة الآن في مكتب الكلية البتروغرادية، وهي لا تقل عن مائة وخمسين نسخة يوجد بينها كثير من تأليفات الشيخ كتبت أغلبها بخط يده، ومن مؤلفاته المذكورة في مقالتكم (ص9-388) يوجد في الكلية «حاشية على الأزهرية» كتبت سنة 1253ه وهي بخط يده (عدد 827)، و«نظم التعريف للزنجاني» كتب سنة 1255ه حسب النسخة الأصلية المؤرخة سنة 1295ه (عدد 726)، وعدد التأليفات غير المذكورة في مقالتكم ليس بقليل؛ ككتاب «منتهى الآراب في الجبر والميراث والحساب» كتب سنة 1295 بيده (عدد 820)، وكتاب «الحكايات المصرية العامية» بيده (عدد 745)، ومسودات لتاريخ العرب، وترجمة الباب الأول من «كلستان السعدي» بيده (عدد 838) وغيرها، وكثير من المخطوطات مع الحواشي والشروح للشيخ، يذكر فيها وقت قراءته لها أو نسخه. وفي هذا من الفوائد كثير.

والمصدر الثالث لتاريخ حياة الشيخ مشتت ومبعثر بين أيدي الناس والمكاتب، أعني مكاتبته مع أصدقائه وتلاميذه، ولم يصل إلى يدي منه غير شيء قليل لا يطفئ غليلا.

وكان من تلاميذه المشهورين:

Y, A, Mallin

الفنلاندي أصلا الذي ساح في جزيرة العرب وفي بلاد مصر وسورية سنين عديدة تحت اسم عبد المولى، وقد طبعت بعض مكاتيب الشيخ إليه مترجمة إلى اللغة الأسوجية، ويوجد غيرها في مكتبة الكلية في عاصمة فنلندا المسماة:

Ilalsingfors ، وقد أحرزت على النسختين منها: «وما ذكره الأستاذ

Ilnart

من تاريخ موته (390) من مقالتكم، فلا صحة له، وهو مأخوذ على علاته من كتاب تاريخ الآداب العربية للأستاذ

Brockclinann

الشهير، وأقرب منه إلى الصواب ما رواه أمين فكري - مسندا إلى الأستاذ غوتوالد - فإن الشيخ الطنطاوي توفي إلى رحمة ربه سنة 1861م في 29 أكتوبر منها، كذلك لا صحة لما ذكرته مجلة رعمسيس (ص391) وهو مأخوذ حرفيا من كتاب الأب لويس شيخو عن تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر (59:3) لأن الشيخ دعي للتدريس في الكلية سنة 1840م وليس سنة 1858م، وكان هو المعلم الأول، وكان نفروتسكي معاونا له وليس العكس، أما سفره إلى روسية فكان بدعوة من نظارة الخارجية لتدريس العربية في مدرسة الألسن الشرقية التابعة للنظارة المذكورة. أما وقت سفره فليس ببعيد مما استنبطتموه في مقالتكم (ص391)؛ لأنه دعي إلى الروسية سنة 1840م، وقدم إليها على ما يظهر في هذه السنة، ومما يؤيد ذلك نسخة «شرح سقط الزند» الموجودة بين مخطوطاته (عدد 837)، فإنه يذكر في ختامها أنه نسخها سنة 1256 وهو في المحجر الصحي بالقسطنطينية.

وكذلك أصبتم في تعيين وظيفة الخواجة بكتي (ص390) فإنه كان ترجمانا (

Agent consulaire ) للقنصلية الروسية بالقاهرة.

هذا ما سنح لي تحريره في هذه الفرصة، والمرجو من جنابكم أن تغضوا الأنظار عن هفواتي، وتقبلوا عذري على تقصيري؛ فإن العذر عند كرام الناس مقبول.»

علي الليثي

1236ه-1313ه

كان الشيخ علي الليثي في ابتداء أمره مقيما بمسجد الإمام الليثي، وكان ينزل إلى الأزهر لطلب العلم ويعود للمبيت هناك، وكان كريما على فقره، ثم ورد على مصر الشيخ السنوسي الكبير قاصدا الحج، فاتصل به وأخذ عنه الطريق وحج معه، ولما عاد إلى مصر لم يفارقه حتى سافر معه إلى «جغبوب»، وأقام هناك مدة لم يفتأ فيها يطلب العلم ويستفيد، ثم فارقه وعاد إلى مصر، واتصل بأم عباس الأول فجعلته شيخا على مجلس «دلائل الخيرات» عندها، ثم اتصل بالأمير السابق أحمد رفعت ابن إبراهيم باشا الكبير فاعتقد فيه وأطلعه على خزانة كتب عنده فاطلع على ما فيها واستفاد منها، وكان الاعتقاد فيه بسبب سفره إلى جهة المغرب وأخذه علم الزايرجة والأوفاق عن علمائه المشهورين، وتابعه في ذلك كثيرون لاعتقادهم فيه معرفته هذا العلم.

ولما تولى سعيد حكم مصر أمر عبده باشا ضابط القاهرة بجمع من يأكلون أموال الناس بالباطل بهذه الخزعبلات وما إليها ونفيهم إلى السودان، فسيق معهم الشيخ علي الليثي لما علق به من الاتهام بذلك، فبقي في السودان إلى أن عفي عنه وعاد إلى مصر.

ولما تولى الخديو إسماعيل تلألأ نجم الشيخ علي الليثي وبدا سعده فاتصل به وقربه هو والشيخ عليا أبا النصر وجعلهما نديمين له كنديمي جذيمة وصار لا يصبر عنهما في مجالس أنسه، فكانا إذا حضر تلك المجالس أزاحا الكلفة وتبسطا معه في القول والتندير، فكانت لهما في ذلك من النوادر ما يملأ الأسفار.

وقد بلغ من شغفه بهما أن خصص لهما قاعة بديوانه يجلسان بها كأنهما من المستخدمين فيه، وحدث أن أمر بكتابة ألواح على باب كل قاعة من الديوان ليعرف من بها كقلم التشريفات وقلم التحريرات ونحوهما، وسألهما العامل ماذا يكتبه على قاعتهما، فقال له الشيخ الليثي: اكتب عليها: «إنما نطعكم لوجه الله.»

وبسبب تقرب المترجم من الخديو قصده الناس في الشفاعات عند الكبراء، ونفع الله به خلقا كثيرين، جزاه الله عن مسعاه خير الجزاء.

ولما عزل الخديو إسماعيل، وتولى بعده ولده محمد توفيق، شغف أيضا بالمترجم كوالده وقربه، وأحله محله من القبول، حتى قامت الثورة العرابية وسافر الخديو إلى الإسكندرية، فانضم الشيخ علي الليثي للعرابيين اضطرارا أو اختيارا، فلما انتهت الثورة العرابية وعاد الخديو للقاهرة لم يؤاخذه وصفح عنه، وقابله المترجم بقصيدة، مطلعها:

كل حال لضده يتحول

فالزم الصبر إذ عليه المعول

تبرأ فيها من الفتنة وأبان عذره في الانضمام إلى العرابيين، وزاد بعد ذلك الخديو في تقريبه وإكرامه، ولا سيما بعد أن بنى قصره بحلوان، وصار يسافر إليه كل أسبوعين في سفينة بخارية، فإنه كثيرا ما كان يسافر بالسفينة نفسها لزيارة الشيخ الليثي في ضيعته بشرق أطفيح حيث يتناول الطعام عنده ويقيم يوما في ضيافته، وهو شيء لا يفعله مع غيره.

ولهذا اعتنى المترجم بتلك الضيعة فغرس فيها البساتين والكروم، وبنى قصرا صغيرا لنزول الخديو وحرمه وحاشيته، ولم يزل هذا شأنه معه حتى مات الخديو، وتولى بعده ولده عباس فلم يكن للشيخ حظ معه كحظه مع أبيه وجده؛ ولذلك جعل أكثر إقامته بتلك الضيعة يشتغل باستغلالها ومطالعة كتبه، فإذا حضر إلى القاهرة نزل بداره التي بجهة باب اللوق فيقيم بها أياما ثم يعود، ولم يزل كذلك حتى اعتلت صحته وطال مرضه أشهرا حتى توفاه الله إلى رحمته يوم السبت 10 من شعبان سنة 1313ه عن سن عالية، وقد شبع من الأيام وشبعت منه، ونال من العز والجاه إلى مماته ما لم ينله غيره.

وكان رحمه الله آية في حسن المجالسة، محببا إلى القلوب، أديبا شاعرا، حاضر الجواب، فكه الحديث، إذا عرفه إنسان تعلق به وكره مفارقته، مع أنه كان دميم الصورة أطلس، ليس في وجهه إلا شارب خفيف وشعرات على ذقنه.

ولما حضر لمصر السلطان برغش سلطان زنجبار ندبه الخديو إسماعيل لمرافقته ومجالسته، فلازمه مدة مقامه بالقاهرة، وأعجب السلطان به إعجابا شديدا، ثم لما عاد لبلاده صار يتعهده بالرسائل والهدايا من العنبر ونحوه كل سنة فيهدي هو أخصاءه وأصحابه، وكذلك ما كان ينتج ببساتينه من غرائب الفاكهة وأصناف الأعناب النادرة كان موقوفا جميعه على الهدايا لا يبيع منه شيئا.

وكان أدباء مصر وفضلاؤها يقصدونه في تلك الضيعة، فينزلهم على الرحب والسعة، ويقيمون عنده الأيام والأشهر، وهو مقبل عليهم بكرم خلقه ولطائفه ومحاضراته المستحسنة، وقد يقيم الإنسان عنده شهرا أو أكثر وهو يؤنسه كل يوم بحديث جديد لا يعيده.

واقتنى خزانة كتب نفيسة اجتمعت له بالإهداء والشراء والاستنساخ، وكان يبذل الأثمان العالية في الكتب النادرة، فجلبت له من الآفاق وعرفه تجار الكتب والوراقون فخصوه بكل نفيس منها، ثم لما مات اقتسمها ورثته.

ومما وقفنا عليه للشيخ الليثي من الشعر قصيدة رثاء في محمد سلطان باشا - من أعيان الصعيد الذين تقلدوا مناصب في الدولة آخرها رياسة مجلس شورى القوانين في عهد الخديو محمد توفيق - وكان قد سافر إلى أوروبا لمعالجته من علة لم تفد فيها معالجة أطباء مصر، ووافاه أجله في مدينة غراتس بالنمسة، ونقلت جثته إلى القطر المصري في أوائل شهر ذي القعدة سنة 1301ه، وكان مطلع قصيدته:

لا تأمن الدهر واحذره أخا الفطن

فعنصر الدهر مطبوع على الفتن

يا سابحا في عباب اللهو من عمه

دع الأماني واحذر عادي الزمن

دهر تنكر في حاليه لا ثقة

به لداريه في سر وفي علن

بينا نرى المرء في أزر الصفا جزلا

إذ ألبسته المنايا حلة الكفن

يمسي وأزهار روض العيش يانعة

حينا ويصبح منعيا على ظعن

ذي شيمة الدهر لم يسلم مسالمه

هيهات يرعى ذماما غير مؤتمن

نرجو وفاه ولو كان الوفي لما

أودى بنفس أبي سلطان ذي المنن

ومنها، والله أعلم بما يقول:

يا لهف نفسي على واف له همم

ببعضها لو تحلى الدهر لم يخن

ومنها:

إني لأعجب من ساع لغائلة

وكان يرجو شفاء الروح والبدن

لكن قضى الله في إتمام نعمته

بأن يموت شهيدا نازح الوطن

من مثله قام بالأمر العظيم وقد

كان الزمان عبوس الوجه بالفطن

ومنها في إقامة الخديو مأتمه:

وبعد أن مات إتماما لنائلة

أحيا مآتمه جريا على السنن

هذي العناية قد ود الحسود له

لو كان أودى ولاقى مثلها وفني

قل للحسود انتهض واحلل مكانته

خلا لك الجو فاقرع هامة القنن

يا شامتا بنعي المكرمات فعش

وخذ أمانا بما تهوى من الزمن

هذا وإلا فنح مثلي مساعدة

وانثر فرائد دمع غالي الثمن

ما كل من مات تبكيه الكرام ولا

كل البكاء بكاء الواله الحزن

هذي مساجده هذي مدارسه

هذي منازل أضياف على سنن

لا أكذب الله إني بت من أسف

لولا يقيني بوشك القرب لم أكن

وقد كفاني رثا شجو يؤرخه

سلطان باشا شهيدا مات يا حزني [سلطان = 150، باشا = 304، شهيدا = 320، مات = 441، حزني = 86].

1301

حيث كانت وفاة سلطان باشا سنة 1301ه. ومما يؤثر عن الشيخ الليثي أنه كان له إلمام تام بالرثاء التاريخي على جاري عادة عصره، وفضلا عن أنه كان شاعرا أديبا فلم نقف له على ما دونه من الشعر. وأغلب الظن أنه لم يطبع منه ما كان مخطوطا ضمن مكتبته التي كانت تزخر بنفائس المخطوطات مما جلب إليه إهداء وشراء ونسخا واستنساخا، وما بذله في اقتنائها من المال الكثير، حتى اقتسمها من بقي بعده من ورثته ولعلها بقيت محبوسة تحت أيديهم لم ينتفع بها أحد.

وبالجملة: فقل أن يوجد مثله، أو يجتمع لإنسان ما اجتمع له من الورع والتقوى، خصوصا في أواخر أيامه، رحمه الله رحمة واسعة.

محمد الطنطاوي

1241ه-1306ه

وقفت له على ترجمة جمعها الأستاذ العالم السيد عيسى إسكندر المعلوف، قال:

هو الشيخ محمد ابن الشيخ مصطفى ابن الشيخ يوسف ابن الشيخ علي الطنطاوي الأزهري، ولد في طنطا سنة 1241ه، ومات أبوه وعمره أربع سنوات، وماتت أمه وعمره ست سنين، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين على الشيخ محمد الشبراويشي، ثم دخل جامع السيد البدوي للطلب، فقرأ على السيد محمد أبي النجا المشهور صاحب الحاشية، والشيخ عبد الوهاب بركات، والشيخ علي حمزة، وانتفع بهم مدة وأجازوه بالإجازة العامة.

ثم سافر مع أخيه الأكبر إلى بلاد الروم وبلاد الترك، ثم دخل حلب وقرأ على الشيخ أحمد الترمانيني وأجازوه، ثم رحل إلى الشام سنة 1255ه وقرأ على الشيخ سعيد الحلبي، والشيخ عبد الرحمن الطيبي، والشيخ عبد الرحمن الكزبري، وأخذ طريقته النقشبندية على الشيخ محمد الخاتي الخالدي، فانتفع به حتى استخلفه عنه فيها.

1

وعاد إلى مصر سنة 1260ه، ودخل الجامع الأزهر وانقطع للطلب بهمة وجد واجتهاد، فقرأ على الشيخ إبراهيم الباجوري، والشيخ إبراهيم السقا، والشيخ عليش المغربي، والشيخ مصطفى البلتاني،

2

والشيخ مصطفى المبلط، والشيخ محمد الخضري، وأكثر قراءته عليه في العلوم الغريبة كالميقات والفلك والجبر والمقابلة، إلى أن صار إماما في العلوم العقلية والنقلية، مع شدة ذكائه وحفظه.

ثم رجع إلى الشام واستوطن دمشق في محلة الميدان سنة1265ه، وجلس في حجرة جامع سيدنا صهيب الرومي، فأقبل عليه الطلبة، ولم يزل يقرئ الطالبين إلى سنة 1278ه، ثم دعاه الأمير عبد القادر الجزائري وعين له معاشا (راتبا) واستأجر له دارا، وأرسل جميع أولاده للأخذ عنه مع غيرهم من طلاب العلوم والفنون.

وكان الشيخ الطنطاوي يشتغل إلى ذلك بحساب جداول مما يتعلق بعلم الفلك والميقات والربع المقنطر والمجيب والأسطرلاب، وقد قرأت

3

عليه جملة رسائل فيها، كما قرأت عليه دروسه في جامع صهيب، كما كنت في معيته سنة 1290ه حينما وقع خلل في بسيطة منارة جامع بني أمية المسماة «بمئذنة العروس»، فحسب الشيخ سائر أعمالها، وجعل لها جداول بعدة الأعمال ورسم غيرها، ثم أزالها ووضع بسيطته في مكانها. «وبالجملة» كان في كل علم عمدة، ولكل مشكلة عدة، رقيق القلب رحيمه، سخي الكف كريمه، غير أن دهره قد عانده، وعاكسه في آخر أمره وما ساعده، وهذا من دأبه مع أهل الفضائل، وذوي المآثر والشمائل، إلا أنه كان يقابل ذلك بالتسليم والرضا، ويعلم أن ذلك مما جرى به القدر والقضا.

4

ومن نظمه قصيدة في مديح راشد باشا والي ولاية سورية لأمر اقتضى ذلك، قال فيها:

أضحت دمشق ببهجة ومسرة

تزهو على كل البلاد بنضرة

إلى أن قال:

لا تعجبوا والي حماها راشد

بل مرشد والرشد أعلى خلة

ومحمدي الخلق وهو محمد

ولذاته كل القلوب أحبت

أحيا بها العدل الذي يا طالما

تاقت له كل النفوس وحنت

والأمن قد عم الأنام جميعهم

فتقلدوا منه بأوفى منة

5

وله قصائد كثيرة، وتقييدات شهيرة، لا يحسن استقصاؤها للخروج عن المطلوب من الاختصار، وكذلك لو أردت أن أذكر عفته، وتفصيل تعيين الحكومة له مقادير من المعاش لم يقبلها ورعا وزهدا، لأدى المقام بخروج عن المرام.

وفي سنة 1305ه رسم بسيطة

6

في ميدان دمشق في جامع الدقاق المعروف بكريم الدين، وجعل حسابها على الأفق المرئي، فجاءت أحسن من بسيطة جامع بني أمية التي كان حسابها على الأفق الحقيقي، وتم عملها ورسمها وحفرها، وصنع مكان في المنارة لوضعها فيه في أول «برج الجدي»، فعاجله المرض قبل ذلك، وتوفي غرة جمادى الأولى سنة 1306ه، ودفن في تربة باب الصغير قرب مدفن سيدنا بلال رضي الله عنه من جهة الغرب.

وبعد موته بقليل وضعت البسيطة في مكانها، والأوقات تستفاد منها بغاية الضبط، جزاه الله خيرا، وأعظم له منة وأجرا.

محمد العباسي المهدي

1243ه-1315ه

هو ابن الشيخ محمد أمين الحنفي ابن الشيخ محمد المهدي الكبير الشافعي، كان جده المذكور من الأقباط فأسلم على يد الشيخ العلامة محمد الحفني، وقرأ عليه وعلى أخيه الشيخ يوسف الحفني وغيرهما حتى صار من كبار العلماء، وترشح لرياسة الأزهر بعد الشيخ الشرقاوي ولكنها لم تتم له وتولاها الشنواني، وقد أطال «الجبرتي» في ترجمته، ثم نشأ ولده الشيخ محمد أمين عالما حنفيا، وتولى الفتوى بمصر زمنا، وتوفي سنة 1247ه.

وولد الشيخ محمد العباسي المهدي بالإسكندرية سنة 1243ه، فقرأ بها بعض القرآن، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1255ه فأتم حفظه، واشتغل بالعلم سنة 1256ه فقرأ على الشيخ إبراهيم السقاء الشافعي، والشيخ خليل الرشيدي الحنفي، والشيخ البلتاني، وغيرهم، ثم صدر أمر إبراهيم باشا ابن محمد علي بتوليته إفتاء الديار المصرية في منتصف شهر ذي القعدة سنة 1264ه، وهو في نحو الحادية والعشرين من سنينه ولم يتأهل بعد لمثل هذا المنصب الكبير.

ويقال إن السبب في ذلك عارف بك الذي تولى القضاء بمصر، وكانت له صلة بالشيخ محمد أمين المهدي، فلما ذهب إبراهيم باشا إلى القسطنطينية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر قابله عارف بك - وكان إذ ذاك شيخا للإسلام - وأوصاه خيرا بذرية الشيخ المهدي وأن يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه.

فلما عاد إبراهيم لمصر بعث في طلب الشيخ محمد العباسي المهدي، فصادفوه في درس الشيخ السقاء يحضر مقدمة مختصر السعد، ولما قابله أثنى عليه لاشتغاله بالعلم ثم أنبأه بأنه ولاه منصب الفتوى بمصر، وعزل عنه الشيخ أحمد التميمي الخليلي، وخلع عليه خلعة هذا المنصب، ثم عقد له مجلسا بالقلعة حضره حسن باشا المنسترلي والشيخ مصطفى العروسي وغيرهما، فأقروا على إقامة أمين للفتوى يقوم بشئونها حتى يتأهل صاحبها لها ويباشرها بنفسه، واختاروا له الشيخ خليلا الرشيدي بدل الشيخ علي البقلي أمين فتوى التميمي، ونزل المترجم من القلعة بموكب كبير من العلماء والأمراء، ووفد الناس على داره للتهنئة ومدحه الشعراء، فمن ذلك قول الشيخ محمد شهاب:

عز يا عزة الحمى أن تقاسي

بمهاة الصريم فيما تقاسي

ومنها قوله:

تب مفتي الهوى وتبت يده

ضل شرعي نهجه والسياسي

فدعيه يا عز عز اصطباري

إن فتواه فتنة للناس

ولئن قلت أي فتوى البرايا

حكمت بالنصوص دون التباس

وارتضاها الزمان قل لي وأرخ

قلت فتوى مهديه العباسي

وهي قصيدة طويلة ألحق بها هذه الأبيات الثلاثة مشيرا فيها إلى «التميمي» وإلى «الرشيدي» أمين الفتوى الجديد:

قلت لما أن تم بدر التميمي

واعتراه نقص الخسوف الشديد

رجع الدر بالفتاوى إلى ما

كان فيه من المكان المشيد

فلنعم الرشيد يا ابن أمين

ولنعم الأمين يا ابن الرشيدي

وروى الفاضل محمد أفندي التميمي - في الترجمة التي جمعها لأبيه الشيخ أحمد التميمي - أن سبب عزله عن الإفتاء أحقاد قديمة كانت في صدر إبراهيم باشا منه بسبب معارضته له في أمور تخالف الشرع كان يريدها ويعارضه الشيخ فيها فلا يجد بدا من الإذعان بسبب إقبال أبيه «محمد علي» على الشيخ، فلما آلت ولاية مصر إلى إبراهيم كان أكبر همه عزله عن الإفتاء.

ثم أكب المترجم على الاشتغال بالعلم، خصوصا الفقه، حتى نال منه حظا وافرا، وجلس للتدريس بالأزهر لإقراء «الدر المختار»، فقرأ منه إلى كتاب الطلاق وأكمل قراءته في داره، وقرأ «الأشباه والنظائر» في داره أيضا، وباشر أمور الفتوى بعفة وأمانة وتدقيق وتحقيق، واشتهر بين الناس بالحزم والعزم وعدم ممالأة الحكام، وحسبك وقوفه في وجه عباس الأول وتعريضه نفسه للتهلكة صيانة لما استودع من أمانة العلم .

وسبب ذلك أن هذا الوالي أراد أن يمتلك جميع ما بيد ذرية جده محمد علي، مدعيا أنه ورد مصر لا يمتلك شيئا، فكل ما خلفه لذريته إنما هو من مال الأمة يجب رده إليها ووضعه بيد أمينها المتولي شئونها، واستفتى المترجم فلم يوافقه وأصر على الامتناع ولم يحفل بوعيده وتهديده، حتى طلبه فجأة إلى بنها فسافر إليها وهو موقن بالهلاك، وكان معه عند طلبه الشيخ أبو العلا الخلفاوي فسافر معه لمؤانسته ومواساته، فلما وصلا إلى قصر بنها روجع المترجم في الفتوى فأصر على قوله الأول، فأمر بهما فأنزلا إلى سفينة بخارية سافرت بهما ليلا في النيل لنفي المترجم إلى أبي قير، واعتراه لشدة وجله زحير

1

كاد يودي به، وهو مع ذلك مصر على قوله، والشيخ أبو العلا يهون عليه الأمر ويؤانسه بالكلام، إلى أن صدر الأمر بإرجاع السفينة وأنزلا منها وأمرا بالسفر إلى القاهرة، وسلم الله، فكانت هذه الحادثة سببا لعلو قدر المترجم في النفوس، وإعظام الولاة فمن دونهم لشأنه، وتسبب منها أيضا إقباله على الشيخ أبي العلا المذكور وسعيه له في المناصب التي تولاها وعظم بها أمره بعد ذلك.

وفي سنة 1287ه أراد الخديو إسماعيل عزل الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر، ولكنه خشي الفتنة؛ لأن العزل لم يقع من قبل لأحد من مشايخ الأزهر، فأخذ في جس نبض العلماء وسبر غورهم في ذلك، فهون عليه الشيخ حسن العدوي الأمر، وأوضح له أنه وكيل الخليفة، والوكيل له ما للأصيل، فسر الخديو وبادر إلى عزل الشيخ العروسي في أواخر السنة المذكورة، وكان العدوي يطمع فيها، وما قال ما قال إلا توطئة لنفسه، فأخلف الله ظنه، وصدر أمر الخديو في منتصف شوال بتوليته الشيخ محمد العباسي المهدي والجمع له بين منصب الإفتاء ومنصب شيخ الأزهر، ودعاه الخديو لمقابلته، وخلع عليه وأنزله من عنده بالموكب المعتاد، فباشر شئون منصبه بحزم وعزم وتؤدة وتعقل، وكان أول ما صدر منه سعيه لإعادة ما كان لأهل الأزهر من المرتبات الشهرية والسنوية، ثم استصدر أمرا من الخديو بوضع قانون للتدريس فأجابه إلى ذلك، ووضع قانون الامتحان، وكانوا قبل ذلك لا يمتحنون، بل كان من تأهل للتدريس تصدر له - في أول درس له يحضره - شيوخه وغيرهم من كبار العلماء ويناقشونه، فإن وجدوه أهلا أقروه وإلا أقاموه.

ولم يزل المترجم سائرا في طريقه المحمود ملحوظا بعين التبجيل من الحكام، وبين الخاص والعام، حتى ثارت الثورة العرابية المشهورة، ورأى فيه العرابيون أنه ليس بالرجل الذي يوافقهم ويساعدهم في مطالبهم، فكان من جملة ما طلبه عرابي باشا من الخديو لما زحف الجيش على قصر عابدين عزل المترجم من الأزهر، فعزل عنه في المحرم سنة 1299ه، وتولى بدله الشيخ محمد الإنبابي، وانفرد هو بالإفتاء، ثم اشتدت الثورة وجاهر العرابيون بطلب عزل الخديو، وكتبوا قرارا بذلك وقع عليه العلماء والوجهاء، وامتنع المترجم من التوقيع، وقال لحامل القرار: «أنا لا أوقع بيدي، فإذا كان في الأمر غصب فإن خاتمي معي خذوه ووقعوا أنتم بأيديكم كما تشاءون»، فانحرف عنه العرابيون وبثوا عليه العيون، حتى احتجب في داره التي على الخليج بالقرب من مدرسة الفخري المشهورة بجامع البنات، وتحامى الناس زيارته، وصار لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه.

ولما انتهت الثورة العرابية وعاد الخديو للقاهرة في 12 ذي القعدة من تلك السنة، ذهب الشيخ مع العلماء للسلام عليه وتهنئته ، فخصه الخديو من دونهم بمزيد من الترحيب والرعاية، وكان بينهم الشيخ الإنبابي شيخ الأزهر، فلحظ ذلك، وخشي أن يعزله الخديو ليعيد العباسي، فاستقال بعد أيام، وأصدر الخديو أمره يوم الأحد 18 ذي القعدة بإعادة المترجم إلى الأزهر علاوة على منصب الإفتاء بيده، وفيما يلي نص ذلك الأمر الموجه من الخديو إلى رئيس النظار:

إنه بناء على استعفاء حضرة الأستاذ الشيخ محمد الإنبابي من وظيفة مشيخة الجامع الأزهر، ووثوقنا بفضائل وعالمية حضرة الأستاذ الشيخ محمد العباسي المهدي، قد اقتضت إرادتنا توجيه هذه الوظيفة لعهدته كما كانت قبلا، علاوة على وظيفة إفتاء السادة الحنفية المتحلي بها من السابق، وصدر أمرنا للمومى إليه بذلك في تاريخه، ولزم إصدار هذا لدولتكم إشعارا بما ذكر» في 2 أكتوبر سنة 1882م الموافق 18 ذي القعدة سنة 1299ه.

وكان بعض علماء الأزهر سعوا لتنصيب الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري، وكتبوا كتابة بذلك، وأخذوا يوقعون عليها ويطوفون بها على العلماء، ففاجأهم الأمر بإعادة المترجم، وذهب سعيهم وتعبهم أدراج الرياح.

ثم استمر المترجم جامعا للمنصبين قائما بشئونهما أتم قيام، حتى كانت سنة 1304ه وفيها بلغ الخديو أن جماعة من الأعيان والتجار مثل محمد باشا السيوفي وأخيه أحمد باشا يجتمعون للسمر بدار المترجم في أغلب الليالي فيتكلمون في الأمور السياسية، ويظهرون أسفهم من وجود الإنجليز بمصر وموافقة الحكومة لهم فيما يحاولون، وغير ذلك من هذه الشئون، فحنق الخديو وأرسل من يحضرون إليه محمد باشا السيوفي فلم يجدوه بل وجدوا أخاه أحمد باشا، ومضى هذا معهم إلى القصر، فوبخه الخديو توبيخا شديدا، وقال له: «يخيل لي أنكم تريدون إعادة الثورة العرابية»، فتبرأ من ذلك، وحلف أن اجتماعهم لم يكن إلا بقصد السمر والائتناس.

ثم قابل الخديو المترجم في إحدى المقابلات الاعتيادية فلم يهش له كعادته، بل قال له وقت الانصراف: «يا حضرة الأستاذ، الأجدر بالإنسان أن يشتغل بأمور نفسه ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويجمع الجمعيات بداره»، فما كان جواب المترجم إلا أن قال له: «إنني ضعفت عن حمل أثقال الأزهر وأرجو أن تعفوني منه»، ولم يكن الخديو يتوقع منه هذا الرد، فغضب وقال مستفهما: «ومن الإفتاء أيضا؟»

فقال له: «نعم ومن الإفتاء أيضا» ... ثم انصرف.

ولم يكن المترجم ممن يغرب عنهم أن مثل هذا السبب لا يدعو إلى الاستقالة خصوصا أن الخديو صرفه بالحسنى مع من اتهم معه، ولكن كان هناك سبب أقوى أغضب رئيس النظار نوبار باشا الأرمني؛ وذلك لحادثة رفعت عنها دعوى أمام المحاكم الأهلية، واقتضى الأمر طلب كشف وجه إحدى المخدرات للتحقق منها، فامتنعت عن الإسفار محتجة بعدم جوازه في الشريعة، واستفتي المترجم فأفتى بعدم الجواز، فشكاه رئيس النظار إلى الخديو ووصفه له بأنه أصبح عقبة أمام القضاة معارضا لأحكام القضاء، ثم طلب عزله فيما يقال أو يقيله الخديو من الوزارة.

فلما قال الخديو للمترجم ما قال، تيقن أن المراد عزله فاستقال، وأمر الخديو يوم الثلاثاء 3 ربيع الثاني من السنة المذكورة بإعادة الشيخ محمد الإنبابي للأزهر، وإقامة الشيخ محمد البناء للإفتاء، وبقي المترجم بداره التي على الخليج، واشتغل بإصلاح قسم منها تشعث، فأعاده إلى رونقه الأول، وصبغ حيطانه بالأصباغ، وهو القسم المطل على الخليج، وصار يمضي وقته بالنظر في شئونه الخاصة والاشتغال بالعلم، إلى أن أعيد إلى الإفتاء.

وأصيب في أواخر أيامه بفالج وهو يتوضأ لصلاة الجمعة أبطل حركته، ثم تعافى قليلا وصار يخرج في عجلته

2

للتنزه وعليه عباءة من الصوف، وأشير عليه بالإقامة بحلوان لجفافها فانتقل إليها، وأقام بها برهة لم يستفد فيها شيئا، فعاد لداره بالقاهرة، ووافته منيته في الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء 13 رجب سنة 1315ه عن اثنتين وسبعين سنة، بعد أن لازمه المرض نحو أربع سنوات، فأذن له على المآذن، وحزن الناس لموته حزنا شديدا، وتكاثرت الجموع على داره لتشييع جنازته، فقيل إن عدد المشيعين بلغ نحو أربعين ألفا، والمصلين عليه خمسة آلاف.

ودفن بقرافة المجاورين في زاوية الأستاذ الحفني جنب أبيه وجده، ورثاه كثير من الشعراء جمعت مراثيهم في رسالة ألفها الشيخ عثمان الموصلي نزيل القاهرة، وسماها «المراثي الموصلية في العلماء المصرية»؛ لأنه أضاف إليها ما رثي به الشيخ عبد الرحمن الرافعي مفتي الإسكندرية، والشيخ سليم القلعاوي شيخ مسجد القلعة، والشيخ محمد المغربي، وكلهم توفوا في هذه السنة أيضا.

وكان المترجم رحمه الله ربعة، أقرب إلى الطول، مليح الوجه، منور الشيبة، معتدل القامة، ذا هيبة ووقار، مات عن ثروة طائلة، وولدين هما: الشيخ عبد الخالق المهدي، والشيخ أمين، ماتا بعده واحدا تلو آخر، ولم يؤلف رحمه الله سوى مجموع فتاواه الذي سماه «الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية» طبع بمصر سنة 1301ه في ثمانية أجزاء كبار، وعاش في عزة وتبجيل مدة حياته، وتولى الإفتاء أربعين سنة من سنة 1264ه إلى سنة 1304ه لم يعزل فيها، فلم تحفظ عليه بادرة خطأ أو مخالفة للشرع؛ وسبب ذلك أنه تولاه وهو صغير ، والعيون شاخصة إليه، فكان لا يفتي فتوى إلا بعد المراجعة والتدقيق والتعب الكثير، فحصلت له بذلك ملكة فيه، حتى صار معدوم النظير لا يجاريه مجار في هذا المضمار، وأضيف إلى ما كان عليه من التقوى والتشدد في أمر الدين، حتى كانت مواقفه أمام الولاة لا تزيده إلا رفعة في عيونهم؛ لعلمهم أنه لا يريد إلا نصرة الحق، فأحبوه وأغدقوا عليه بالإنعام.

ومن مواقفه غير ما ذكرناه أن الخديو إسماعيل أراد مرة أن يستولي على الأوقاف الأهلية ويعوض عنها أهلها ما يقوم بمعاشهم، فاستفتاه في ذلك، فتوقف، وأفتاه بعضهم بالجواز، فتكدر منه، وجمع بينه وبين مخالفيه، فناظرهم وفاز عليهم بعدما ألفوا رسائل في الحادثة وأكثروا من الجلبة.

ولم يقتصر الولاة على مشاورته في الأمور الدينية المختصة بمنصبه، بل كانوا يستشيرونه في غيرها من معضلات الأمور؛ لما عرفوه فيه من سعة المدارك وجودة الرأي، حتى إن إسماعيل لما عزل عن مصر قال لولده توفيق فيما أوصاه به: احتفظ يا بني بالشيخ المهدي؛ فإنه رجل لا نظير له.

وبالجملة فمحاسن المترجم كثيرة، ولم يكن فيه ما يشينه سوى ما كان يرميه به بعض شانئيه من الإمساك والتقتير، ويضعون عليه النوادر الخارجة عن حد المعقول، والمعروف عنه للقاصي والداني أن داره كانت مفتوحة للصادر والوارد لا تخلو مائدته يوما عنهم، وحسبنا أنه كان يخرج زكاة أمواله كل سنة ويفرقها على المستحقين، رحمه الله رحمة واسعة وأكثر في الأمة من أمثاله، وكان حائزا لكسوة التشريف من الدرجة الأولى، ومنح الوسام العثماني الأول في 21 صفر سنة 1310ه هو وشيخ الأزهر الشيخ محمد الإنبابي وقاضي القضاة جمال الدين أفندي؛ وسبب ذلك أن السيد توفيق البكري نقيب الأشراف سافر في هذه السنة إلى دار السلطنة، وتوصل بمساعدة الشيخ أبي الهدى الصيادي إلى مقابلة السلطان عبد الحميد، فأنعم عليه بهذا الوسام وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، فلما بلغ ذلك مسامع الخديو أحب ألا يكون نقيب الأشراف ممتازا عن كبار الشيوخ، وأرسل إلى السلطان ملتمسا الإنعام على المفتي وشيخ الأزهر برتبة قضاء عسكر الأناضول، وعلى القاضي برتبة قضاء عسكر الرومالي؛ لأنه كان حائزا لرتبة الأناضول، لكن طلبه لم يصادف قبولا.

وأحيل إلى المترجم قديما أمر انتقاء القضاة الشرعيين والمفتين الذين يقامون في ولايات القطر ومراكزه، فكان يختار ذوي الكفايات، ويتحرى فيهم النجابة والذكاء والديانة، ويحامي عنهم لدى الحكام ويشد أزرهم، فنال بذلك مقاما لدى أهل العلم المرشحين لهذه المناصب، ووجهوا وجوههم شطر داره، وهو مع ذلك لا يميل مع الهوى في تنصيبهم، ولو كان ممن يمد اليد لجمع من هذا الوجه شيئا كثيرا، ثم رأت الحكومة أن يكون أمر تنصيبهم منوطا بلجنة تؤلف بنظارة الحقانية برياسة وكيلها إذ ذاك بطرس غالي باشا، وعرضوا على المترجم أن يكون من أعضاء تلك اللجنة فأبى.

وكان له في المحاماة عن أهل الأزهر ومساعدتهم القدح المعلى، وتروى عنه مواقف في ذلك، منها أن الشيخ مصطفى الغروسي مدة توليه على الأزهر استصدر من الخديو إسماعيل أمرا بنفي الشيخ حسن العدوي إلى إسنا، وكاد ينفذ فيه، لولا أنه استغاث بالمترجم، فقام بناصره، وذهب للخديو مستشفعا ولج وألح حتى عفي عن الشيخ.

أحمد أبو الفرج الدمنهوري

1243-1310ه

هو الشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري الشاعر الأديب، ظريف الجملة والتفصيل، حلو النادرة والفكاهة، انجذبت إليه النفوس وألفته القلوب على دمامته وغرابة شكله، ولد بدمنهور ونشأ بها في ضنك ورقة حال، ولم يكن مشتغلا بالأدب في أول أمره، ثم لازم الشيخ محمد الوكيل القباني أحد أدباء دمنهور المشهورين، وعليه تخرج في النظم، وصحب أيضا الشيخ حميدة الدفراوي، وهو أديب لكنه لا يبلغ درجة الوكيل، ولم يحضر المترجم العلم على شيخ، بل كان يلازم مجلس الوكيل ولا يفارقه ليلا ولا نهارا، فيكتب عنه كل ما يسمعه من شعر ونثر ونادرة ثم يستظهره. أخبرني ثقة: أنه اجتمع به بدمنهور حوالي سنة 1265ه فرآه شابا نيف على العشرين، مخفوض الجانب، كثير التواضع، لا يستنكف من خدمة الوكيل المذكور وحمل المصباح أمامه إذا سار ليلا، ثم نظر المترجم في كتب الأدب ودواوين الفحول، وبدأ ينظم الشعر، فكان يعبث بالبيت والبيتين، ثم نظم بعد ذلك القصائد والمقطعات، إلا أنه كان قليل الإجادة، كثير الخطأ واللحن، يتكلف التجنيس والتورية. وأحسن شعره ما نظمه في المجون وضمنه ألفاظ العيارين والشطار. وكان حضوره إلى القاهرة صحبة الوكيل، فأوصله إلى السيد عبد الخالق بن وفا شيخ السادات الوفائية، فأعجب بظرفه ومجونه، وكان ينزل عنده كلما حضر إلى القاهرة، وهي إذ ذاك غاصة بالأدباء والأعيان، وفي الناس بقية، فكانوا يهشون به ويتهادونه إذا حضر، ويراسلونه إذا غاب، فحسنت حاله قليلا بما كان يناله من هباتهم، ثم اتصل بشاهين باشا كنج في طنطا لما كان مفتشا على الأقاليم سنة 1293ه فانتظم في حلبة ندمائه واختص به وواساه وجعله طرفة مجلسه، وجمع له من أغنياء البلاد مبلغا وافرا اشترى به عقارا ورمم داره بدمنهور، واجتمع عند شاهين باشا بعبد الله أفندي نديم الشهير وغيره من خاصة أهل الفضل والأدب، ثم نقل شاهين باشا إلى منصب آخر بالقاهرة، فصار المترجم يتردد عليه ويقيم عنده الأيام والأشهر، يجتمع في أثنائها بغيره من الكبراء وذوي الوجاهة فيهدي إليهم مدائحه ويتحفهم بطرائفه.

وكان على قلة إجادته في شعره مفتونا به، مبالغا في تقريظه وقت إنشاده، يمزج ذلك بإشارات وحركات تستظرف منه، ولا يكاد يقر لأحد بالتقدم عليه في النظم، ولعمري لا أرى عبارة تفي بوصفه ووصف حركاته عند الإنشاد وقيامه وقعوده والتفاته واستدعائه الحاضرين إلى استماعه، فإنه كان إذا أراد إنشاد قصيدة من نظمه بدأ أولا بتقريظها، ونبه الحاضرين إلى مواضع الإجادة منها، فإذا ألقوا إليه بسمعهم أنشد المطلع وسكت هنيهة كالمأخوذ من جودته. ثم التفت يمنة ويسرة مستطلعا خبيئة رأيهم فيه، واستحلفهم بالله وبأنبيائه هل طرق آذانهم مثله في عمرهم، وهل تهيأ لشاعر قبله ما تهيأ له من رشاقة المبنى وغرابة المعنى وتناسب الشطرين، ثم يمضي في البيتين والثلاثة ويعود إلى الصمت والتفكر ويقول: سبحان المانح! كم ترك الأول للآخر! وأمثال هذه الجمل التي اشتهرت عنه وصارت من لوازمه، ثم يمضي في الإنشاد، فإذا مر بتجنيس أو تورية وثب من موضعه وتمايل طربا، ثم نظر للحاضرين وقال لهم: اسمعوا من الفتى العربي اللعوب، تف على المتنبي وسحقا له! أين هذه السلاسة والسهولة؟ وهكذا حتى يتم القصيدة، فإن رأى من السامعين استحسانا تمادى في غلوائه وأعجب وأطرب، وربما عارضه بعض من يحضره استجلابا لطرائفه واستئناسا بمحاورته، فتصدر عنه النوادر ومحاسن الأجوبة الحاضرة.

بلغني أنه حضر مرة مجلسا جمع لفيفا من أهل الأدب، فأنشدهم قصيدة من نظمه، وبالغ في استحسانها كعادته، وأخذ يستطلع طلع آرائهم فيها، فانتبذ له صديقنا العالم الفاضل والشاعر المجيد الشيخ عبد الرحمن قراعة مداعبا وقال له: أخطأت في بيت منها، فأدخلت حرفا على حرف، وهو ما لا يجوزه النحاة، فإما أن تسقطه أو تأتينا بشاهد على صحة قولك ووافقه الحاضرون ومالوا معه على المترجم، فنكس رأسه هنيهة ثم نظر إليهم كالمتعجب، وقال: يا ليت قومي يعلمون.

وكان كثير الاجتماع بشيخ أدباء العصر الشيخ أحمد أبي البقاء الزرقاني، فلا يخليه مرة من شعر له ينشده إياه، ويعرض للشيخ ما يشغله عن الاستماع فيستلفته ويكثر من الإلحاح عليه بترك ما هو فيه والإصاغة إليه، ويضايقه بذلك مضايقة شديدة، ولكن لا يكاد الشيخ يعرض عنه حتى تصدر منه بادرة ينقلب لها المجلس ضحكا، فكان يقول فيه: إن أبا الفرج عندي مشكلة من المشاكل، لا أدري أهو ثقيل أم ظريف.

وكان أول اجتماعي به في مجلس أحد الأعيان وأنا شاب يافع متعلق بالأدب وأهله، ولم أكن لقيته من قبل، بل كنت أسمع به وأشتاق إلى رؤيته، فرأيت عجبا، رأيت شيخا قصيرا دميم الوجه قد ذهبت إحدى عينيه، عليه جبة واسعة الأكمام، وهو جالس في زاوية من المكان يملي على شخص حسن الخط دالية من الطويل منصوبة الروي، جعلها تهنئة للخديو توفيق بقدومه من الإسكندرية، فكان منه من الوقوف عند كل بيت والإعجاب به على ما تقدم ذكره ما نبهني للالتفات إليه، ثم مر ببيت قافية لفظه «ومعضدا»، فوثب من مكانه ونبه الحاضرين إلى أنها: تورية باسم الخليفة «المعتضد بالله» فلم يوافقوه، فأعرض عنهم وأقبل على الكاتب يشرح له حسن هذه التورية، وأنها لم تتهيأ له إلا بعد إعمال الفكر والروية، حتى أضجره ورمى الدرج من يده، فغلبني الضحك واستظرفته وقصدت محادثته، فقلت: لعل سيدي الأستاذ عارض بهذه القصيدة قصيدة أبي الطيب التي يقول في مطلعها:

لكل امرئ من دهره ما تعودا

وعادة سيف الدولة الطعن في العدا

فسكت، ثم نظر إلي شزرا ولم يزدني على قوله: تف على المتنبي، فاستغرقت في الضحك، وسألت عنه بعض الحاضرين، فخبرني به، فكدت أطير سرورا بلقائه، وأقبلت عليه أمدح القصيدة وأذكر مواضع الإجادة فيها وأستعيدها منه، فأبرقت أسرته وأقبل علي أيما إقبال وأسمعني بعض مقطعات من شعره، فقلت له: أما كان الأولى بهذه اللآلي أن تنظم في سمط؟ فقال: نعم يا سيدي، إني مهتم بذلك، وسيكون ديوانا مرقصا، وامتد بنا المجلس، فرأيت منه ما لو أردت إثباته برمته لطال بنا المقال، ثم فارقته وأنا أشوق الناس إليه، وكأني به أحد أبناء المنجم الذين ذكرهم الثعالبي في «اليتيمة»، وأورد فصولا للصاحب بن عباد في وصفهم.

ومن غريب أمر المترجم أنه كان يستملح منه ما يستثقل من غيره، فقد رووا عن «بشار»: أنه كان يصفر ويصفق ويتفل عند إنشاده، وعن «البحتري » أنه كان يتقدم ويتأخر ويتلفت إعجابا بشعره، وقد عيبا بذلك وعد من سقطاتهما التي نعاها عليهما الناعون، بخلاف المترجم.

ومن غرائبه أنه كان معجبا بكنيته، وكثيرا ما كان يتدرج بها إلى الانتساب لمن تكنى بها من الفضلاء المتقدمين؛ كأبي الفرج ابن الجوزي، وأبي الفرج الأصبهاني صاحب الأغاني وغيرهما، فلا يدع أحدا من المتكنين بها إلا وينتسب إليه، تارة لهذا وتارة لذاك، ثم ارتقى درجة فادعى الشرف ولاث على رأسه عمامة خضراء ووسع أكمامه، وسعى حتى جعلوه نقيبا للأشراف بدمنهور.

حدثني صاحبنا الأديب الفاضل محمد شكري أفندي المكي، قال: لقيته مرة وكنت علمت بأمر تلك النسب، وأردت مداعبته فقلت: يا أبا الفرج، إن كنيتك تنبئ عن شرف عظيم، فلعلك من نسل أبي الفرج ابن الجوزي، فقال: نعم يا سيدي صدقت وأصابت فراستك، ثم لقيته بعد ذلك بأيام وقد نسى ما دار بيننا فأعدت عليه الحديث وقلت له: إجادتك في الشعر مع هذه الكنية تدلني على أنك من نسل أبي الفرج الببغاء، فقال: أي نعم، وهو الواقع. ا.ه. ولا خلاف في أنه كان يعلم قصد محدثه في أمر نسبه، إلا أنه كان يخرجه مخرج الجد، حتى مع أخص الناس به، ويغضب ممن ينكر عليه، فيستظرف منه.

وادعى مرة أنه نال نصيبا وافرا من اللغة بحيث أصبحت لا يشذ عنه شيء من مفرداتها، وتمادى في هذه الدعوى وتبجح بها في المجالس، وتصدر للإجابة عن كل سؤال فيها يطرح عليه، فتوالت عليه الأسئلة وهو يجيب عنها خابطا خبط عشواء لا يبالي بمن يحتج عليه بكتب اللغة، وصار الأدباء من أصحابه يرتجلون له ألفاظا يسألونه عنها فيخترع لها معانيا يجيب بها، وربما أحال تخرصا على كتب لغوية يعينها، ونظم له بعضهم بيتا كبيت الخنفشار، وسأله عن معناه في جمع كبير من الأدباء، وهو:

وبخرنق الأقيال عاثت فالتثت

ورقاء تعترض الأكام بشيظم

فقال: نعم، هذا بيت لعنترة، ذكره له صاحب الأغاني وهو يصف به حمامة، والخرنق: شيء يشبه نسج العنكبوت وليس به، يكون بين أغصان الأشجار، فيقول: إن هذه الحمامة عاشت بين الأقيال، أي: الأشجار الكبيرة، فالتثت قدماها بالخرنق، أي: اشتبكت به، وأما الشيظم ... وأراد أن يفسره، فقطعته أصوات الضحك من جوانب المجلس.

وبالجملة فقد كان خفيف الروح، محببا إلى القلوب، أديبا ظريفا، حاضر الجواب، حلو النادرة، وكانت وفاته فجأة بدمنهور في ثاني ليلة من شهر ربيع الثاني سنة 1310ه بعد أن صلى العشاء، وكان آخر قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فشق نعيه على من عرفه، وشيع جنازته الألوف، تغمده الله برحمته.

زين المرصفي

1244-1300ه

هو الشيخ زين المرصفي الشافعي، من طبقة الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ سليم البشري، إلا أن الشيخ سليما أكبر منهما سنا، حضر إلى الأزهر، وقرأ على كبار الشيوخ به، حتى برع وتأهل للتدريس، ثم جعله الخديو إسماعيل معلما لولده حسين كامل، وبسبب مخالطته له ولمن حوله ألم ببعض اللغات، وسافر مع الأمير حسين إلى القسطنطينية، وكانت أسواقها لم تزل آهلة بالكتب العربية، فاقتنى هناك كتبا نفيسة غريبة عن أهل الأزهر، فصار ينقل منها في تآليفه نقولا يغرب بها عليهم.

ثم استخدم بالمدارس وترقى إلى أن صار كبير المفتشين بها، ولم يزل بهذا المنصب حتى توفاه الله يوم الأربعاء الخامس من جمادى الأولى سنة 1300ه، فشيع جنازته لفيف من العلماء وجمع كبير من الناس، وأمر ناظر المعارف

1

فسار فيها من كل مدرسة فريق من تلاميذهما وأناب عنه نائبا حضرها.

ولما بلغوا به الجامع الأزهر للصلاة عليه، وقف الشيخ حمزة فتح الله فأبنه ورثاه ببيتين من نظمه، هما:

سقى الله من صوب الرضا أعظما هوى

بها ركن بيت العلم إذ دكه الحين

فلا غرو إن أضحت وجوه علومنا

مشوهة فاليوم فارقها «زين»

رحمه الله رحمة واسعة.

وفي مقدمة شرح أحمد «بك» الحسيني لكتاب الأم للإمام الشافعي - الذي سماه بمرشد الأنام لبر أم الإمام - ما نصه:

زين المرصفي كان عالما فاضلا أخذ عن علماء وقته، وجد واجتهد حتى صار من أكابر العلماء، وكان ذهب مع الرسالة المصرية إلى بلاد فرنسا زمن الخديو إسماعيل، وكان يجيد اللغة الفرنساوية، وله كتابات في المنطق والحكمة، وكانت وفاته سنة 1300ه.

حسن عبد الباسط الحوي

1245-1300ه

كان حسن أفندي عبد الباسط الحوي خلاسي اللون يشبه الحبشي، وبوجهه أثر جدري، كان أديبا شاعرا هجاء خبيث اللسان مجيدا إلا أنه مقل، استخدم بالإسكندرية، فكان رئيس قلم في الضبطية حوالي سنة 1285ه، وبقي بها إلى سنة 1290ه، وكان بها إذ ذاك مصطفى صبحي «باشا» الشاعر المشهور، فكان يجتمع به من بها من الأدباء والشعراء فيسمرون معا ويحيون الليالي بالمذاكرة وإنشاد الشعر، واتفقوا على تسمية مجلسهم بالمربد وألا يقبلوا به أحدا إلا إذا ارتضوا به جميعا، فكان المترجم ممن رضوا به أن يكون من شعراء «المربد».

1

وكانت تمر عليهم ليال يقترحون فيها ارتجال الشعر، ويعينون عدد الأبيات والوقت الذي يجب نظمها فيه، فكان أحدهم إذا تعذرت عليه قافية وأعجله الوقت ارتجل كلمة لا معنى لها أو في معنى لا يوافق السياق وتمم بها البيت، فاجتمعت لهم من ذلك ألفاظ غريبة مضحكة سموها بالألفاظ المربدية.

ثم تنقلت الحال بالمترجم، فاستخدم معاونا بمديرية الشرقية، ثم فصل فضاق به العيش، وفتح حانوتا بالزقازيق للصيدلة القديمة المسماة الآن بالعطارة، وكان أمره بها عجبا؛ فإنه اقتنى كتبا مثل مفردات الطب وقانون ابن سينا، وصار إذا طلب منه أحدهم بيع عقار من العقاقير سأله عن سبب حاجته إليه، وقام إلى تلك الكتب فاستخرج له منها مزاياه وما يداوى به من العلل، وبقي مدة على ذلك حتى توفاه الله بعد سنة 1300ه.

ومن شعره يمدح محمدا فتح الباب أفندي كبير كتاب ديوان البحر:

رأيت العلا ترتاد

2

بعلا لنفسها

وقد خطبتها قبل ذاك الأوائل

فقمنا سراعا قاصدين لخدرها

عساها بنا ترضى ويجلى التواصل

فلما رأتنا واقفين ببابها

أشارت «لفتح الباب» منها الأنامل

وكان رحمه الله على خبث لسانه، طرفة من الطرف، وأعجوبة من العجائب، في حسن المنادمة وحضور الذهن وسرعة الجواب.

رآه مرة بعضهم وهو مسافر إلى الزقازيق في القطار، ومعه جراب يحمله بيده، فقال له مداعبا: أظن هذا جراب الحاوي، أي: المشعبذ.

فقال: لا يا سيدي، هذا جراب الحوي.

رضوان محمد المخللاتي

1250ه-1311ه

هو الأستاذ الحجة الثقة في عصره، شيخنا العلامة الجليل الشيخ رضوان بن محمد بن سليمان المكنى بأبي عيد المعروف بالمخللاتي، الشافعي المذهب، ولد بالقاهرة في حدود سنة 1250ه/1834م، وبعد أن حفظ القرآن الكريم وجوده تلقى علومه بالجامع الأزهر على علماء عصره، ثم تخصص في دراسة علوم القرآن «القراءات والرسم» فنبغ فيهما نبوغا عظيما، وأنتج فيهما مؤلفات قيمة دلت على سعة علمه ووفرة اطلاعه، حتى شهد له بالتفرد علماء عصره، وعلى رأسهم شيخ القراء الشيخ محمد المتولي.

وقد أجازه في سنة 1277ه/1860م صديقه ومعاصره الشيخ محمد عبده السرسي، وكان من أجلة علماء الأزهر، وعنهما تلقى علم القراءات خلق كثير، ويقول في إجازته له: «ولما جاد الزمان بحبيبنا أعز الإخوان في الله تعالى الشيخ رضوان بن محمد بن سليمان، الشهير بأبي عيد، جاء وقرأ علي ختمة كاملة من أولها إلى آخرها، عن طريق الشاطبية والدرة معا، بالتحرير والتجويد، على أتم بيان وأكمل عنوان، واستجازني فأجزته بأن يقرأ ويقرئ في أي مكان حل.»

ويقرظ الشيخ محمد المتولي شيخ القراء أول مؤلفاته: «فتح المقفلات» بقوله: ... أما بعد، فقد اطلعت على هذا التصنيف البديع، اللطيف الصنيع، فوجدته في غاية الضبط والإتقان، ونهاية النفاسة والإحسان، [شمسا في الاقتدا]، وبدرا في الاهتدا، فيا له من عروس يفوح شذاه، ويلوح سناه، قد تجلى فيه بدر المعاني في أصداف المباني، جعله الله خالصا لوجهه الكريم، وغفر لمن تلقاه بقلب سليم، وأوجب لمؤلفه رضوانه، ووفقه للخير وأعانه، قاله بلسانه، ورضيه بجنانه، ذو التقصير الكلي، محمد المتولي، عفي عنه آمين.

وكذلك قرظ كتابه «إرشاد القراء والكاتبين إلى معرفة رسم الكتاب المبين»، ومما جاء فيه: ... أما بعد، فقد سمعت هذا الكتاب الرائق، والسفر البليغ الفائق، فوجدته في بابه آية، قد بلغ من جادة الإفادة الغاية، قد نظم مؤلفه فيه شمل المتفرقات، بعد التفرق والشتات، ونبه على عجيب أوضاع الرسوم، وبين فيه ما لأنواع الضبط من الرقوم، يتعين على قراء القرآن الكريم مطالعته، ويتأكد على كتاب المصاحف مدارسته ومراجعته، ويحتاج إليه من يريد التحري والضبط، حيث لم يقع له نظير في علم الخط، كيف لا ومتعلقه أحد أركان القرآن، وأهم ما تدعو إليه ضرورة المقري على ممر الزمان، فيا له من كتاب أينعت أثماره، وسطعت بين سطوره أنواره، أوضح فيه مؤلفه خفايا الرسوم بأفصح إيضاح، وفتح من أبواب رقوم الضبط لكل ضابط مطلوبه بدون مفتاح، به أمن كتاب المصاحف من الزلل، وحفظوا إذ صاروا بسببه في جنة من طوارق الخلل:

ففي كل لفظ منه روض من المنى

وفي كل سطر منه عقد من الدر

جعله الله مقبولا لديه، وسببا للفوز يوم العرض عليه، قاله بلسانه، ورضيه بجنانه، ذو التقصير الكلي، محمد الشهير بالمتولي.

وكذلك قرظ كتابه «شفاء الصدور» بقوله: ... أما بعد، فقد اطلعت على هذا الكتاب المسمى: «شفاء الصدور بذكر قراءات الأئمة السبعة البدور» فوجدته صريح المباني، صحيح المعاني، مفيدا في فنه، فريدا في شأنه، على جودة من التسهيل والتقريب، وغاية من التحرير والتهذيب، سيما وقد تضمن كتاب «حرز الأماني» ليقبل على من تلقاه بوجه التهاني، جعله الله مقبولا لديه، وأثاب مؤلفه رضوانه يوم العرض عليه، آمين.

وقرظ الشيخ حسن الجريسي، الملقب بالديب، كتابه: «إرشاد القراء والكاتبين إلى معرفة رسم الكتاب المبين»، كما قرظه أيضا العالم الجليل السيد محمد عوض الدمياطي تقريظات تعبر عن تقديرهما لهذا المؤلف.

وكان لنبوغ الشيخ رضوان في علمي القراءات والرسم أثر في تصويب المصاحف وتحقيق نشرها، فأشرف على طبع مصحف وضع له مقدمة، نشره الشيخ أبو زيد سنة 1308ه/1890م، ويعتبر من أضبط المصاحف، وقد تلقى عليه كثيرون، واستفادوا من علمه وأجازهم، وقد وقفت على إجازة منه إلى تلميذه الشيخ محمد البدري.

ولم يكن نبوغ المترجم مقصورا على علوم القرآن، بل نبغ في العلوم الشرعية والعقلية والعربية والأدب، فدرس النحو في مدرسة حافظ باشا، وتتلمذنا عليه فأخذنا عنه العلوم العربية والفنون الأدبية، وكان رحمه الله يفتخر بالأخذ عنه، كما تتلمذ عليه من أولاد شقيقتنا المغفور لها السيدة عائشة: محمود وإسماعيل.

وتولى الخطابة في مسجد جوهر المعيني القريب من داره بغيط العدة، وخطب احتسابا في مسجد سلطان شاه، وكان يلقي درسا في مسجد الأمير حسين ويخطب فيه الجمعة أحيانا.

وقد بارك الله في حياته، فأنتج إنتاجا علميا في مختلف العلوم، كما نقل الكثير من المؤلفات بخطه، وكتب نسخا من مؤلفاته أودعت المكتبات العامة، فضلا عن نسخه الخاصة.

انتقل إلى رحمة الله تعالى في يوم الجمعة 15 جمادى الأولى سنة 1311ه، ودفن في جبانة باب الوزير بالقرب من الضريح المعروف بمحمد بن الحنفية، وترك مجموعة من المؤلفات القيمة ما زالت مخطوطة، وهي: (1)

كتاب فتح المقفلات لما تضمنه نظم الحرز والدرة من القراءات، أوله: الحمد لله الذي أودع كتابه العزيز كنوز معاني العلوم. فرغ من تأليفه في الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1286ه، وهو مؤلف كبير في 224 ورقة مسطرة 21 سطرا، ويقول في ختام الكتاب: «يقول مشيد مبانيه، ومحرر ألفاظه ومعانيه: هذا آخر ما يسره الله سبحانه وتعالى من جمع هذا الكتاب المستطاب، الصافي ورده لأولي الألباب، فلقد أعملت الفكرة في تنقيحه، وبذلت الجهد في تصحيحه، حسبما تلقيت عن أشياخي السادة الكرام، مع مراجعة نفائس النفوس من الرغبات، والمرجو ممن طالع فيه فاطلع على هفوة أو زلة ألا يبادر قبل التحقق بالإنكار، فذلك أمر لم يسلم معه من كان مثله:

والعذر عند خيار الناس مقبول

واللطف من شيم السادات مأمول

والكريم من يقيل العثرات، ويعفو عن السيئات، خصوصا من مثلي البائس الفقير، فإن ذهني كليل وسهوي كثير، وأي لسان من الأنواع البشرية، ما عدا الحضرات النبوية، مصون عن الغلط، أو أي مؤلف ألف بين العالمين حتى قيل من جميعهم ما أخطأ قط؟!

وإذا كنت أيها الأخ تعلم أن ذلك أمر جائز عليك، وهذا المؤلف شيء قد ساقه الله بلا مشقة عليك إليك، فاحمد الله مولاك، وقابل بالجميل واعذر أخاك، واشكر للناس؛ فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله، ومن نظر إلى عيب أخيه ونسي عيب نفسه فقد عميت عيناه، ثم خذ الدر من الصدف، وانتهز الفرص فإنها صدف، وانظر إلى القول دون القائل، وإلا فليس ذلك تحته طائل، ولا تأخذك العزة استكبارا، ولا تحملك الأنفة على الإعراض استحقارا لصاحبه واستصغارا، بل انظر نظر مستخبر مستبصر، فإن رأيت ما يسرك فاقبل وأقبل وإلا فأدبر، والحمد لله على ما يوليه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.»

وبهذا الختام المليء بالتواضع والاعتزاز ختم الكثير من مؤلفاته، ومنها: (2)

كتاب شفاء الصدور بذكر قراءات الأئمة السبعة البدور. فرغ من تأليفه سنة 1291ه/1874م. (3)

أرجوزة في التوحيد. فرغ من تأليفها سنة 1293ه/1876م. (4)

انتشاق النفحات المسكية من طي تخميس البردة الشريفة المحمدية. فرغ من نظمها سنة 1294ه/1877م. (5)

انتشاق الروائح المسكية من طي تخميس القصيدة النونية السويجعية للإمام اللوذعي عبد الرحيم البرعي. فرغ من نظمها سنة 1294ه/1877م. (6)

كتاب إرشاد القراء والكاتبين إلى معرفة رسم الكتاب المبين، في 190 ورقة مسطرة 21 سطرا. فرغ من تأليفه سنة 1296ه/1879م. أوله: الحمد لله الذي رسم في صحائف الأوقات خطوط لطائف الإتحاف ... (7)

القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز، أوله: الحمد لله الواحد لا من قلة وعد، الأحد فما له من كيفية ولا حد، فرغ من تأليفه سنة 1297ه/1880م، وعدد أوراقه 106 مسطرة 21 سطرا. (8)

الإفاضة الربانية بشرح ألفاظ البردة المحمدية. فرغ من تأليفه سنة 1305ه/1887م. أوله: حمدا لمن أطلع أزهار الأسرار في رياض الأفكار بتسبيح الأشواق، وأسجع بلابل الأيك في البكور والآصال بتحميد العشاق، جل شأنه من على أهل المحبة والوداد، باقتفاء آثار أشرف العباد، محمد صفوة الخلق ... وهو شرح كبير في 200 ورقة مسطرة 21 سطرا. (9)

رسالة فيما رواه ورش في موضوع «آلآن» من طريق «حرز الأماني»، أولها: حمدا لمن أنزل القرآن نورا ... فرغ من تأليفها سنة 1308ه/1890م. (10)

مقدمة مصحف، طبع سنة 1307ه/1890م. (11)

ديوان خطب منبرية «الكوكب السائر فيما يتعلق بخطب المنابر». (12)

اللؤلؤ المنظوم فيما يلزم من الشروط في حق الإمام والمأموم، وهي رسالة في شرح منظومة له فيما يتعلق بالمأموم والإمام، في 30 ورقة مسطرة 15 سطرا، فرغ من تأليفها في شهر المحرم سنة 1308ه.

ولما توفي

1

رحمه الله رثاه أحد الفضلاء بهذه الأبيات:

ما لعروض الدمع فاض هاطلا

يجري دما على الخدود نازلا

أظن في مصر قضى إمامها

نحبا وجد للكريم راحلا

وذاك رضوان النجيب المنتقى

من بالقران زين المحافلا

فكم تآليف له بفنه

منها سقى القراء عذبا سائلا

وكم لطه صاغ أغلى مدح

كبردة ألبسها غلائلا

حين لمولاه على الطهر سرى

وبات ضيفا للكريم آملا

رحمة ربي نظمت تاريخه

رضوان للجنان جد نائلا [رضوان = 1057، للجنان = 164، جد = 7، نائلا = 83].

1311ه

حسن الطويل

1250ه-1315ه

هو شيخنا الإمام العلامة حسن بن أحمد بن علي، شيخ الشيوخ وأستاذ الأستاذين، وأحد من تفرد في مصر بالبراعة في المعقول والمنقول، أتقن العلوم العديدة مع الزهد الصحيح والورع، وعلو النفس، والتأدب بآداب الشرع، والتمسك بالكمالات. ولد - كما سمعت من تلميذه الخاص الشيخ أحمد أبي خطوة - بقرية منية شهالة - إحدى قرى المنوفية - حوالي سنة 1250ه. وذكر الشيخ بشير الظافر في كتابه «اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة » أنه ولد سنة 1256ه.

وتربى بهذه القرية، فقرأ القرآن الكريم وحفظه، ثم انتقل إلى طنطا وهو صغير، فاشتغل بتجويد القرآن وحفظ المتون بالمسجد الأحمدي نحو سنتين أو ثلاث، ثم حضر للقاهرة واشتغل بطلب العلم بالجامع الأزهر، فقرأ على شيوخ العصر مثل الشيخ محمد عليش المالكي، والشيخ حسن العدوي الحمزاوي، والشيخ إبراهيم السقا، والشيخ محمد الأشموني، والشيخ محمد الإنبابي، والشيخ أحمد شرف الدين المرصفي، فظهرت عليه النجابة، وابتدأ في حضور «السعد». وكان من دأبه في أول أمره معاكسة الشيوخ في الدروس بكثرة الأسئلة والمناقشات، حتى حدث ما اضطره إلى الانقطاع عن الأزهر؛ وسبب ذلك أن أبناء العمد وأقاربهم طلبوا للدخول في الجندية بقانون وضع لذلك في عهد سعيد والي مصر سابقا، ولما كان المترجم من أقارب بعض مشايخ قريته، طلب وجند، وبقي مواظبا على الصلوات والأوراد، وكان الوالي يكره من الجند من يصلي!

وحدث أن المترجم جاءه من شيخه الشيخ أحمد شرف الدين المرصفي كتاب فيه استغاثة يأمره بتلاوتها عقب كل صلاة؛ رجاء أن تفرج كربه وتخلصه من الجندية، فوقع الكتاب في أيديهم، وعدوه لذلك مذنبا، وكان عقاب المذنبين عندهم إهمال تعليمهم الفنون العسكرية وتشغيلهم في السكك الحديدية وما أشبهها من الأعمال الشاقة، فكان المترجم يشتغل في هذه الأعمال بهمة زائدة تأديبا لنفسه؛ لأنه ظن ما وقع له عقابا على جراءته على مشايخه، وكان سعيد باشا يلقب المطيعين من الجند بالفراعنة، والعاصين المذنبين بالنماردة، فغضب مرة على النماردة وأمر بطردهم من الجيش، فخرجوا منه، إلا أنهم بقوا تابعين، وهم ما كانوا يسمونهم «بالعساكر الإمدادية»، وخرج المترجم معهم فأقام بقريته مدة.

وكان قبل ذلك يجتمع مع الشيخ خالد أحد مشايخ الطرق، فرأى أن يسافر إليه، فسافر إلى بلدته المسماة بالسريرية من أعمال «منية ابن الخصيب

1 » ولزمه بضعة أشهر عكف فيها على الاشتغال بالعلم والطرق الصوفية.

ثم طلب إلى الجندية مرة ثانية، فذهب إليه أبوه ليحضره من عند الشيخ خالد، وحاول هذا منعه فلم يرض، بل عاد مع أبيه إلى قريته، وتبين أنهم أهملوا طلبه فحمد الله.

وأمره والده بالبقاء معه في القرية وحظر عليه أن يعود إلى الصعيد، فضاق المترجم بهذا الأمر، وخرج من القرية بغير علم أبيه وهو لا يملك شيئا، وقصد القاهرة ماشيا، يبيت في أية بلدة تصادفه، حتى وصل.

وذهب إلى الأزهر، فصادف الشيخ محمد السقاري في طريقه، فلما رأى المترجم أسرع إليه وهش له، وأخبره أنه يطلبه من مدة، ثم أنزله بداره وحلف أن يبقى بها شهرا لا يتكلف شيئا من عنده، وكان مراد السقاري أن ينظم قصيدة يمدح بها أحد الأمراء، فنظمها له، وأخذ السقاري عليها أربعين دينارا جائزة.

ولما انقضى الشهر حف الله المترجم بعنايته، فطلبه الشيخ حسن العدوي لتصحيح البخاري، وكان قد شرع في طبعه، فانتفع بأجر التصحيح، ثم طلب إلى ديوان الجهادية لتصحيح ما يطبع به، فقابل هناك أحمد عبيد بك رئيس الترجمة، وامتحنه فأعجب به، وكاد يطير فرحا، وقال عنه: «هذا جوهرة خفيت علينا»، واستخدمه للتصحيح بالديوان، وسعى له حتى محوا اسمه من الجيش حتى لا يعاد طلبه.

وفي هذه المدة عاد المترجم لطلب العلم والاشتغال به، مع القيام بالتصحيح بالديوان، حتى شهد له شيوخه بالتأهيل للتدريس، فدرس بالأزهر، وكان أول درس قرأه في شوال سنة 1283ه وابتدأ فيه بالقراءة في الأزهرية، ولم يقتصر رحمه الله على العلوم المتداولة بالأزهر، بل بحث ونقب، واجتمع بالشيخ محمد أكرم الأفغاني فتلقى عنه العلوم الحكمية وبرع فيها، وتلقى عن تلميذه خلاصة الحساب لبهاء الدين العاملي، ونظر في الهندسة والجبر وسائر العلوم الرياضية، وقرأ التاريخ قراءة إمعان وتدبر، وطالع كتب اللغة والأدب، ونظم الشعر السهل، وكتب الترسل البديع، وكان لا يسمع عن أحد يعرف علما إلا سعى إليه ليتلقاه عنه كائنا من كان، حتى صار نسيج وحده، وقريع دهره في سائر العلوم، مع بعد النظر في السياسة، وسعة العقل، وسلامة العقيدة، وشدة الإنكار على البدع المستحدثات في الدين.

وقد قرأ عليه في الأزهر كثيرون من علمائه المشهورين، فكان الشيخ الأجل أحمد أبو خطوة، والشيخ الإمام محمد عبده، والسيد أحمد الشريف، وإبراهيم (بك) اللقاني، والشيخ محمد راضي البوليني في الطبقة الأولى من تلاميذه.

ثم قرأت عليه طبقة ثانية، منها: الشيخ عبد الرحمن فودة، والشيخ محمد الغريني، والشيخ عبد الرحمن قراعة، وقرأ عليه أيضا الشيخ محمد بخيت، والشيخ داغر، والشيخ محمد المغربي، والشيخ أحمد الزرقاني، وغيرهم ممن لا يحصون، واختص به الشيخ أحمد أبو خطوة، والشيخ راضي البوليني، والشيخ عبد الرحمن فودة، والشيخ عبد الرحمن قراعة، فكانوا يقرءون عليه في داره دروسا غير الدروس الأزهرية، وصحبوه ولازموه، فانتفعوا به في دينهم وأخلاقهم فوق انتفاعهم بعلمه.

ثم نقل إلى نظارة المعارف وعين للتفتيش فيها، ولما مات الشيخ زين المرصفي مفتشها الأول سنة 1300ه وأقيم بدله الشيخ حمزة فتح الله المفتش الثاني جعل المترجم مفتشا ثانيا، ثم نقل مدرسا بمدرسة دار العلوم، فعم الانتفاع به وتخرج عليه أحسن من نراهم الآن

2

من الأساتذة المتخرجين في هذه المدرسة؛ كالشيخ الفاضل حسن منصور، والشيخ محمد المهدي، والشيخ محمد الخضري، والشيخ عبد الوهاب النجار.

وبقي في هذه المدرسة إلى سنة 1317ه، وكانوا قد شرعوا في الامتحان قبل الإجازة المدرسية كالعادة، فلما كانت ليلة السبت 17 صفر سهر كعادته، ثم ذهب لداره معافى ليس به شيء، واستيقظ فتوضأ وصلى الصبح، ثم طلب الإفطار والقهوة، وأخذ غفوة كان فيها القضاء المحتوم، فلم تشرق شمس ذلك اليوم إلا والنعاة ينعونه، والمؤذنون يؤذنون على المآذن كالعادة في موت كبار العلماء، وأم داره شيخ الأزهر الشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ محمد عبده المفتي، وجميع العلماء والفضلاء، وكبار نظارة المعارف، وتلاميذه من الأزهر ودار العلوم، وشيعت جنازته تشييعا سنيا، فصلوا عليه في الأزهر، ودفنوه بمقابر المجاورين، رحمه الله وغفر له عدد حسناته.

وكان من عادته الخروج إلى الريف كل خميس ترويجا للنفس، فكان يذهب إلى الأميرية من ضواحي القاهرة عند تلميذه الشيخ عبد الرحمن فودة، فيقضي عنده الخميس والجمعة ويعود يوم السبت، فلما عرفته صار يذهب للأميرية بعض الأخمسة ويسافر في بعضها إلى ضيعتنا التي بقويسنا، أو إلى حلوان حينما نسكن بها شتاء، فكنت أقضي معه هذين اليومين في مطالعة واشتغال، حتى في حالة المشي والتنزه كنت أحمل الكتاب معي وأسمعه فيه فيقرر لي المسائل ونحن سائران.

وكان رحمه الله سني العقيدة، صوفي المشرب، لا يحيد عن الشرع قيد إصبع، آخذا بمذهب الإمام ابن تيمية في مسألة الاستغاثة بالقبور والاستشفاء بالموتى، منكرا على المبتدعة أشد إنكار، آية من آيات الله في معرفة التفسير وحل مشكلات الكتاب المبين، متضلعا من الحديث، متحصنا بالشريعة في كل علم يقرؤه من كلام أو حكمة أو تصوف أو رياضيات أو طبيعيات، وخص باستحضار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الاستشهاد بها على حل المشكلات الدينية، فكان أمره في ذلك عجبا، وشأنه فيه مستغربا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ومع انحراف علماء الأزهر عنه؛ لإنكاره عليهم بدعهم وما درجوا عليه، فإنهم كانوا مقرين بفضله، وكثيرا ما كانوا يحتاجون إليه في معرفة أسرار الشريعة، وحل مشكلاتها، والرد على الطاعنين عليها من أرباب النحل الأخرى أو المرتدين.

أما أخلاقه فزهد غريب، وعلو نفس عن الدنايا، وبعد عن الرياء، وتواضع مع كل إنسان، وسذاجة في المطعم والملبس والمسكن، لا ينفق على نفسه من مرتبه إلا القليل، ويتصدق بالباقي في الخفاء، فلما مات قام الصراخ في دور كثيرة يسكنها فقراء وأرامل، كان يعولهم كل شهر بما فضل من نفقته، وما علم بهم أحد قبل موته حتى أقرب الناس إليه وأخصهم به.

وكان كثير الاشتغال بأمور المسلمين، دائم الهموم لما أصابهم من التأخر في مشارق الأرض ومغاربها، منتظرا فرجا يأتيهم، ولطفا من الله يحفهم، فتقوم فيهم دولة شعارها الدين تقوى على جمع شملهم؛ ولذلك لما قام المهدي بالسودان وانتصر انتصاراته المشهورة واستولى على البلاد السودانية، أحسن المترجم فيه الظن وقام بنصرته بقلبه ولسانه، وبلغ الإنجليز ذلك فسيروا وراءه عينا يخبرهم بحركاته وسكناته، وكاد يقع فيما لا تحمد عقباه، لولا أن سلمه الله.

ولمداومة اشتغاله بالإقراء وتربية النفوس لم يؤلف تأليفا، غير أن نظارة المعارف لما كلفت كل مدرس أن يجمع ما يلقيه من الدروس، وكان يدرس التفسير بمدرسة دار العلوم،

3

شرع في جمع ذلك في كتاب سماه «عنوان البيان» لم يطبع منه غير المقدمة سنة 1316ه أي قبل وفاته بسنة.

ومن غريب المصادفات أنه زارني

4

قبل وفاته بيومين في ليلة مقمرة، فجلسنا في صحن الدار نلعب الشطرنج، وكان مولعا به مع قلة إجادته فيه، فقال لي عندما أراد الذهاب: نحن الآن في الامتحان، وقد قربت الإجازة، وصدري ضيق في هذه الأيام من الناس، ونفسي تجنح للعزلة، فهل تعرف لي مكانا أقضي فيه بعض أيام بعيدا عنهم؟ فقلت: يا سيدي، إذا انتهى الامتحان فالأوفق أن نسافر معا إلى ضيعتنا التي بقويسنا فنخلو فيها بكتاب نقرؤه. فقال: نعم الرأي هذا، وسأستصحب معي ولدي حسنا ليشترك معنا في القراءة، ثم لم يمض يومان حتى نقله الله إلى جواره ويسر له العزلة ولكن في دار قراره، فأصبت فيه مصيبة لم أصبها في بعيد ولا قريب؛ لما كان له علي من الفضل، ولو لم يكن له علي سوى تصحيح العقيدة وتأديبي بآداب الحنيفية السمحة لكفى.

أما سبب اجتماعي به وقراءتي عليه فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يتلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين، وقد علق بالعقيدة شيء من آثار التربية بهذه المدارس، إلا أني كنت مولعا من الصغر بالإسلام ومحاسنه، والمطالعة في السيرة النبوية ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء وينقبض من أشياء تعرض لي فيها شبهات، ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التناقض والتصادم، فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم لعلي أجد عندهم مفرجا، فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات، حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين: فإما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة. وإما أن يكون ما نراه حقا ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس، حتى أرشدني بعض الأصحاب للمترجم ، فأخذت في السؤال عنه من أهل العلم، فكانوا ينفرونني منه، حتى بالغ بعضهم - عامله الله بما يستحق - ورماه بالزندقة. فقلت: إذا كنت لم أجد طلبتي عند من تسمونهم بالصلاح والورع، فلعلي أصيبها عند الزنادقة، ثم سعيت في الاجتماع به، وسألته القراءة عليه والاهتداء بهديه، فقرأت عليه العلوم العربية والمنطق، وأعدت عليه الصرف بتوسع وعلوم البلاغة، ثم قرأت طرفا من الحكمة في شرح الدواني على هياكل النور للسهروردي، وشرح «رسالة الزوراء» وغيرهما. ولما رآني مجدا في التحصيل، قرر لي درسا ثانيا بعد العشاء كنا نقرأ فيه كتب الأدب ونحوها، وأنا في كل هذه المدة أستوضح منه ما أشكل علي فيحله لي، فكان اجتماعي به ومصاحبتي إياه من أكبر نعم الله علي في ديني.

وكثيرا ما كان يغضب مني ويؤنبني إذا رأى مني تهاونا في الصلاة، فعليه رحمة الله تعالى.

مصطفى السفطي

1250-1327ه

الشيخ مصطفى السفطي ابن مصطفى الفاكهاني السفطي ابن علي السفطي ابن أحمد شلبي، نسبة إلى سفط القطايا.

ولد بمصر القاهرة حوالي سنة 1250ه، وأرسل إلى المكتب في السابعة من سنيه، ثم تنقل من مكتب لآخر حتى حفظ القرآن الكريم، واشتغل بتجويده في الأزهر، ثم شرع في طلب العلم على شيوخ عصره، فقرأ الكفراوي على أحد العلماء المبتدئين في التدريس، فكان يحفظ العبارات ولا يفقه لها معنى، ولما أعيا عليه أمره وتعذر عليه إعراب أمثلة من غير هذا الكتاب أعاد قراءته ولكنه لم يستفد شيئا، وكان بجوار داره دار السيد أحمد البقلي أحد المدرسين بالمدارس، وله ولد أراد أن يقرأ القرآن مع المترجم، فشكا المترجم له من تعسر النحو عليه، فأشار عليه بشراء متن الآجرومية وأمره أن يحفظه، ثم شرع في إعرابه له على الطريقة الأزهرية فلم يستفد شيئا أيضا، وشكا من ذلك للشيخ محمد الدمنهوري فأمره بترك طلب النحو كلية حتى ينسى ما علق بذهنه منه، ففعل واقتصر على الفقه، فحضر ابن قاسم على الشيخ البيجوري، وكان يتفهمه بخلاف النحو، فمالت نفسه إليه فحضره مرة ثانية على الشيخ فتوح البجيرمي، ثم مرة ثالثة على الشيخ عبد الرحمن القباني أحد تلاميذ الشيخ فتوح المذكور، وكان يطالعه لإخوانه المبتدئين.

ثم قرأ الكتب المتداولة بالأزهر، ولم تفتر نفسه عن طلب النحو على ما لاقاه فيه من الصعوبة، فصار يتردد على الشيخ محمد الدمنهوري ومعه متن الآجرومية فقط، وصار الشيخ يقول له: اقرأ هذه الجملة ثم تفهم معناها بنفسك ولا تنظر لأقوال الشرح، فيفعل، فتارة كان يخطئ وتارة يصيب، وسهل عليه فهم هذا العلم بهذه الطريقة، وكان أحد أصحابه مبتلى بمثل ما ابتلي به، وأخبره أن عند علي أفندي العروسي شرحا للرملي على الآجرومية فاستعاراه منه وقرآه معا فكانا يفهمان ما فيه فهما جيدا.

ثم اجتمع المترجم بإنسان كفيف البصر اسمه الشيخ علي الفيومي له باع في العربية، فقرأ عليه مع صاحبه كتاب الشيخ خالد والأزهرية والقطر وابن عقيل، ثم أعاد المترجم القطر على الشيخ الشبيني بالأزهر، وقرأ الخطيب على الشيخ علي الأشموني عم الشيخ محمد الأشموني الشهير، وقرأ التحرير والمنهج على الشيخ مصطفى المبلط، وهو آخر حضوره في الفقه.

ثم قرأ علوم البلاغة بالأزهر، وقرأ العروض مع إعادة البيان بالمطالعة مع بعض تلاميذ رفاعة «بك»؛ كقدري «باشا» وإبراهيم «بك» مرزوق.

وبعد ذلك انتخب مدرسا بالمدرسة التجهيزية سنة 1290ه في أول نظارة رياض «باشا» على المعارف، وكانوا إذ ذاك يقرءون بها الأنموذج للزمخشري في النحو، ثم كلف بتأليف رسالة في الصرف ففعل، وقرأ للتلاميذ نحو ثلاث سنوات، ثم اتفق مع بعض المدرسين على تأليف رسائل في البلاغة والصرف بتوسع أبسط من الرسالة الأولى، وقرأ بها سنوات.

ثم أمر بقراءة العروض والقوافي في المدارس، فاستحسن رسالة أبي الجيش وأقرأها، ثم وضع رسالة في العروض والقوافي أتم بها ما أراده أبو الجيش، ولكن وقع ما منعه من تقديمها للمدارس، ثم كلف بوضع رسالة في علم الرسم، فوضع رسالته: «عنوان النجابة في قواعد الكتابة» وقرئت بالمدارس.

ونقل بعد ذلك للمدرسة الابتدائية المسماة «بالمبتديان»، وكان ذلك سنة 1306ه، فألف بها رسالة بالاشتراك مع غيره في المترادفات، ثم نقل إلى المدرسة السنية الخاصة بتعليم البنات، فبقي بها سنتين ألف فيها رسالته «محاسن الأعمال»، ولما عرضت على المجلس العالي بنظارة المعارف استحسنها أعضاؤه جدا، وقالوا: الأولى أن تكون بيد المعلمات لا بيد المتعلمات.

ثم أخذت قوته في الوهن، وبصره في الضعف، لكبر السن، فعرض استقالته على النظارة، مبينا السبب، فأحيل على الكشف الطبي، ثم أحيل على المعاش.

وله من التآليف غير ما تقدم: رسالة في الصرف اسمها: «قرة الطرف» أوسع من المتقدمة، وأخرى في النحو وهي: «منحة الوهاب في قواعد الإعراب» وهي نظم، ومن شعره:

الحمد لله لا فقر يضر ولا

غنى يغر فلا حزن ولا فرح

وليس لي مطمع في الناس يلجئني

للذم والمدح إن ضنوا وإن سمحوا

وأسأل الله حاجاتي فيمنحني

من فضله فوق ما أهوى وأقترح

وله:

قد يسر الله أسباب المعاش لنا

بالعقل، والرزق موقوف على القسم

ليعلم العبد أن الله يرزق من

يشاء بالفضل لا بالسعي والهمم

فيطلب الرزق بالأسباب معتمدا

على الذي أوجد الأشياء من عدم

ولا يخاف ولا يرجو سواه ولا

يحيد عن منهج الأحكام والحكم

وكان رحمه الله طيب الخلق، حسن المعاشرة، اعتكف في داره بعد فصله من المدارس، وعكف على الاشتغال بالعبادة ومذاكرة العلم مع من يسمر معهم من إخوانه وأخلائه أو استقلالا بنفسه، وكان في مبتدأ أمره مولعا بالسماع، وتشبث بتعلم الموسيقى، فلازم الشيخ محمدا شهاب الدين الشاعر المشهور، وكان متقنا لها، فأخذها عنه وأتقنها، ولكثرة مطالعته لكتب الأدب صارت له ملكة أدبية ومعرفة بجيد الشعر ونقده.

ثم ما زال على هذه الحالة المحمودة حتى أرهقه الكبر، وضعف عن المشي، فلزم داره، لا يخرج إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه، ومع ذلك فلا يبلغه إلا بمشقة زائدة، وتوفاه الله إلى رحمته في يوم الثلاثاء 21 رمضان سنة 1327ه.

أحمد الرفاعي1

1250ه-1325ه

اشتغل الشيخ أحمد الرفاعي بالحضور في الأزهر على مشايخ وقته، حتى تأهل للتدريس، فدرس الكتب المتداولة، وقرأ عليه كثيرون من كبار علمائه: كالشيخ محمد عبده، والشيخ محمد بخيت، والشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، والشيخ محمد حسنين العدوي، والشيخ محمد النجدي الشرقاوي، وغيرهم، وقد أصبح في أواخر أيامه وليس في الأزهر إلا من هم من تلاميذه أو في طبقتهم، إلا الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ سليم البشري.

وكان من عادته ألا يقطع الإقراء طول السنة، ولا يسامح في أوقات المسامحات، ولا يقعده عن الاشتغال بالتدريس إلا المرض، فقرأ الكتب المتداولة مرارا، ومهر فيها بسبب كثرة اشتغاله، حتى صار المستعصي منها عنده بمنزلة السهل عند غيره، وأتقن فن التجويد فجعل شيخا على المقارئ مدة طويلة.

ولما أقيم الشيخ حسونة النواوي شيخا على الأزهر في المرة الأولى ولم يجد له إقبالا من علمائه، صاحبه المترجم وتحبب إليه ولازمه في غدواته وروحاته، ثم لما انحرف الخديو السابق عباس بن توفيق عن الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر والعضو بمجلس إدارة الأزهر وأراد كف يده عنه، ساعده المترجم على ذلك وأخذ في معاكسة الشيخ وتدبير المكايد له وتنفير الأزهريين منه، وتقرب من الخديو، وأكثر من الترداد على قصر القبة ومداخلة الحاشية، حتى حظي عنده وأقبل عليه إقبالا عظيما، فلما عزل الخديو الشيخ سليم البشري عن الأزهر في 2 ذي الحجة سنة 1320ه، وأراد إرجاع الشيخ حسونة النواوي أو تنصيب الشيخ محمد بخيت ولم يرض النظار، رشح المترجم واستدعاه وأعلمه بانتخابه له، فعاد إلى داره جذلا وأشاع الأمر، وهيأ السكر لشرب المهنئين، والرمل الأصفر لفرشه بصحن الدار، وكاد الأمر يتم له لولا أن بعض مبغضيه من المقربين للخديو صرفه عن توليته وذكر عنه هنات - الله أعلم بها - فعدل الخديو عن تنصيبه والتمس لنفسه مخرجا من وعده الذي وعده به، فأعمل بعض المقربين الحيلة واستدعوه بحضرة الخديو وسألوه عن قبوله التولية، فقال لهم: نعم ولاني مولاي الخديو وقبلت.

فأخذوا يذكرون صعوبة مراس أهل الأزهر والمشاق التي يعانيها شيخهم لإخضاعهم، ولمحوا له أنهم لا يظنونه يقوى عليهم. فقال: ومن أهل الأزهر؟ أنا أدوسهم بقدمي.

فقالوا: إنك ستكون مع الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان العضوين بمجلس الإدارة، فهل ترضى بأن يشاركاك في الإدارة؟ وكيف يكون شأنك معهما؟

فقال: كلا، لا أرضى أن يشاركاني، بل أشترط لقبول التولية عزلهما، وهما عندي كافران لا يوثق بهما.

فاستغرق الخديو في الضحك، وقال: شرطك لا يمكن تنفيذه، ونحن نريحك من رياسة الأزهر، ونعوضك عنها بشيء نجريه عليك من الأوقاف، فأسقط في يده، ورضي مرغما، ثم صرفوه.

ثم وقعت منه في أواخر أيامه زلة. قيل إنه تصرف في وقف بغير وجه شرعي، ولكن الله لطف به، فلم يقع له بسبب ذلك غير فصله من المقارئ، وكثرت غمومه وهمومه لما لاكته الألسنة في هذه المسألة، فانقطع عن التدريس لمرض أصابه، إلى أن توفي بعد ظهر يوم الاثنين 18 صفر سنة 1325ه ودفن يوم الثلاثاء، وأذنوا له على المآذن كالعادة في موت كبار العلماء، وقد بلغ من السن نحو خمس وسبعين سنة، وكان قصيرا دحداحا خفيف الحركة، رحمه الله وتجاوز عنه.

وله من المؤلفات: حاشيته على شرح لامية الأفعال لابن مالك، طبعت بمصر.

علي محمد الببلاوي

1251ه-1323ه

هو السيد علي بن محمد بن أحمد المالكي الحسني الإدريسي، من قرية ببلاو التابعة لعمل ديروط الشريف من أعمال مديرية أسيوط، ولد بها في شهر رجب سنة 1251ه، ونشأ بها فحفظ القرآن ومبادئ العلوم، وحضر للأزهر سنة 1269ه، فقرأ به على شيوخ وقته؛ كالشيخ محمد عليش، والشيخ منصور كساب، والسيد محمد الصاوي، والشيخ علي مرزوق، والشيخ إبراهيم السنجلفي، والشيخ أحمد الإسماعيلي، والشيخ محمد الإنبابي، والشيخ علي بن خليل الأسيوطي، وكان له به نوع اختصاص في الحضور، وصحب مدة حضوره الشيخ حسونة النواوي، فكانا يسكنان معا، ويحضران معا الدروس إلا في درس الفقه، فإن المترجم كان مالكيا والشيخ حسونة النواوي حنفيا.

ولم يزل يجد ويجتهد حتى تأهل للتدريس، فدرس بالأزهر والمسجد الحسيني الكتب المتداولة، وفي سنة 1280ه سافر للحجاز فحج، ثم استخدم بدار الكتب بالقاهرة مغيرا، حتى كانت الثورة العرابية، واتجهت الأنظار لتنصيب المصريين في المناصب الكبيرة، فساعده صديقه ومريده محمود سامي باشا البارودي على إقامته ناظرا على هذه الدار سنة 1299ه فتمت له نظارتها بعدما سعى كثيرون لها فلم يوفقوا.

ثم لما هدأت الأمور وانتهت الثورة، كان المترجم يتوقع القبض عليه كما فعل بكثيرين، للعلم بأنه من صنائع البارودي، ولكن الخديو السابق توفيق رأى الاكتفاء بفصله من دار الكتب وتعيينه خطيبا في المسجد الحسيني، ثم جعل شيخا لخدمة هذا المسجد في ثاني صفر سنة 311ه.

ولما غضب الخديو على السيد محمد توفيق البكري نقيب الأشراف وشيخ الطوائف الصوفية، وأمره بالاستقالة من النقابة فاستقال، سعى للمترجم صديقه ورفيقه في الحضور الشيخ حسونة النواوي وكان إذ ذاك رئيسا لمجلس إدارة الأزهر قبيل إقامته شيخا عليه، فأمر الخديو بتعيين المترجم نقيبا للأشراف في 6 شوال سنة 1312، فاعتنى بضبط مدخولها وجدد من أوقافها ست دور بناها بجهة الحلمية، وصار يصرف الاستحقاقات في أوقاتها، وسئل في رياسة الخدمة بالمسجد الحسيني. فقال: إن كانت النقابة تمنعني من خدمة سيدنا الحسين لا أقبلها، فأبقي كما كان.

وأقام المترجم في النقابة نحو ثماني سنوات يجدد معالمها ويحيي ما درس منها، حتى نقل منها شيخا للأزهر، وكان سبب ذلك أن الخديو انحرف عن شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري، وانتهى الأمر باستقالته يوم الأحد 2 ذي الحجة سنة 1320ه، وأراد الخديو إعادة الشيخ حسونة النواوي أو تنصيب الشيخ محمد بخيت المطيعي فلم يوافق النظار على ذلك، فرشح الشيخ أحمد الرفاعي المالكي وأعلمه بذلك، وكادت تتم له لولا عوارض اعترضت، ثم سعى الشيخ علي يوسف - صاحب صحيفة المؤيد ومن أكبر المقربين من الخديو - للشيخ المهدي ابن العلامة محمد المهدي العباسي، فرد عليه بأنه لا يصلح لخموله وعدم توليته أمورا قبل الآن، فأجاب بأنه وإن كان كذلك فهو من بيت علم وغنى، تربى في نعمة فلا تطمح نفسه لشيء مما في الأيدي، وتدربه على الأمور قريب مدرك، فرضي الخديو به، ولكن النظار لم يوافقوه عليه لأمور نقمها عليه ناظر الحقانية مدة ما أقامه عضوا بالمجلس الحسبي، فحار الخديو وحنق، وطلب دفتر أسماء العلماء فوقع نظره على اسم المترجم فارتضاه وجنح إلى توليته، ولم يكن خطر على بال أحد، وساعد الشيخ علي يوسف على ذلك ليتمكن من رد السيد محمد توفيق البكري إلى النقابة، فتم له الأمر ورضي به النظار، وأعيد البكري إلى النقابة مضافة إلى ما بيده من رياسة الطرق الصوفية، وصدر الأمر في 2 ذي الحجة بإقالة الشيخ سليم من الأزهر وتنصيب المترجم، فلما ذهب لشكر الخديو كالعادة استصحب معه ولده الأصغر السيد محمود، والتمس إقامته شيخا على المسجد الحسيني بدله، كما أقيم أخوه الأكبر السيد محمد قبله خطيبا له، فقبل ملتمسه وأجيبت رغبته.

وكان الخديو في ذلك الحين منحرفا عن الشيخ محمد عبده مفتي مصر والعضو بمجلس إدارة الأزهر وصاحب الكلمة العليا فيه، فكان يظن أن المترجم يوافقه في معاكسة الشيخ ومعارضته وعرقلة مساعيه، فأخطأ ظنه؛ لأن المترجم مال للشيخ كل الميل، ووافقه في كل مشروع، واتحد به واندرج فيه، حتى لم يكن له من الرياسة غير رسومها، والكلمة كلمة المفتي.

ولما سئل في ذلك، اعتذر بأن الرجل لا يريد غير الإصلاح فلا يرى وجها لمعارضته، فكان ذلك سببا لميل الخديو عنه بعد إقباله عليه.

ولما اعتزم الإمام محمد عبده نفض يده من الأزهر، رأى المترجم أن الأمور لا تجري على مرغوبه، فاستقال من الأزهر يوم الثلاثاء 9 المحرم سنة 1323ه، فأقيل يوم السبت 12 منه، وأقيم بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، واستقال أيضا المفتي من مجلس الإدارة مرغما.

وأقام المترجم بعد ذلك بداره التي بجهة المناصرة، بعد أن رتب له الخديو خمسة وعشرين دينارا مصريا من الأوقاف الخيرية تصرف له كل شهر، وظل مواظبا على تلاوة القرآن كعادته، مقبلا على العبادة، حتى ازداد به المرض سنة 1323ه، وتوفاه الله في غروب يوم الجمعة الثالث من ذي القعدة من تلك السنة، فشيعت جنازته بعد عصر يوم السبت، وصلي عليه بالمسجد الحسيني وطيف به حول المقام كوصيته، ثم دفن بقرافة المجاورين في بستان العلماء، رحمه الله رحمة واسعة.

وله من المؤلفات رسالة اسمها: «الأنوار الحسينية على رسالة المسلسل الأميرية»، ورسالة فيما يتعلق بليلة النصف من شعبان، لولده السيد محمود تعليق عليها سماه: «عروس العرفان في الحث على ترك البدع وشوائب النقصان، على الرسالة الببلاوية المتعلقة بليلة النصف من شعبان».

حسونة النواوي

1255ه-1343ه

ولد الشيخ حسونة بن عبد الله النواوي سنة 1255ه في قرية «نواي» التابعة لملوي من أعمال أسيوط، ولما ترعرع حضر إلى الأزهر وتلقى به العلم على شيوخ وقته، وكان حضوره الفقه الحنفي على الشيخ عبد الرحمن البحراوي، والمعقول على الشيخ محمد الإنبابي، والشيخ علي بن خليل الأسيوطي.

ثم تولى التدريس في الأزهر، وأحيل عليه تدريس الفقه بدار العلوم ومدرسة الإدارة التي سميت بعد ذلك بمدرسة الحقوق،

1

مع درس آخر بمسجد محمد علي بالقلعة، فكان له من مجموع وظائف هذه الدروس ما حسن به حاله.

وألف في أثناء ذلك كتابه: «سلم المسترشدين» في الفقه الحنفي لتلاميذ مدرسة الإدارة، وقد سطع نجمه وتألق، وأصبح علما خفاقا يهتدي به الحائرون.

وحينما بدأ إصلاح نظام الأزهر وإدخال بعض العلوم الحديثة فيه؛ كالرياضيات وتقويم البلدان والتاريخ وغيرهم، بسعي الإمام الشيخ محمد عبده، ثم تأليف مجلس لإدارته، مع إبقاء الشيخ محمد الإنبابي شيخا له، واختير الشيخ حسونة رئيسا لهذا المجلس بعد أن رشحه لذلك بعض كبار رجال الحكومة ممن سبق لهم التلقي عليه بمدرسة الإدارة، فأخذ في إدارة أمور الأزهر حتى انحصرت فيه كلياتها وجزئياتها، ولم يصبر الشيخ محمد الإنبابي على ذلك، واعتلت صحته، فاستقال في 25 ذي الحجة سنة 1312ه، وأقيل في ثاني المحرم 1313ه.

وكانت تولية الشيخ حسونة مكانه ضد رغبة العلماء الأزهريين؛ إذ كانوا يرون أن فيهم من هم أكبر سنا وأكثر علما وأحق بالرياسة عليهم منه، ولأنه جاء مؤيدا لتدريس الحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان وما إليها في الأزهر، وكانوا ينفرون منها بدعوى أنها علوم مستحدثة، وما هي إلا علوم قديمة اشتغل بها المسلمون وألفوا فيها، وكانت تدرس بالأزهر قبل انحطاطه، وإنما نفروا منها لبعد عهدهم بها، ولظنهم أنها من علوم الإفرنج وأنها ما أدخلت في الأزهر إلا للقضاء على العلوم الشرعية أو تقليل الرغبة فيها.

كذلك كان من أسباب ضيق الأزهريين بتولية الشيخ حسونة شيخا للأزهر، أنه تولى خلفا للشيخ الإنبابي المشهود له بالعلم والفضل والتقوى بين الخاصة والعامة، وقد أشاع بعض الحاقدين أن الشيخ حسونة مطبوع على الشدة والجفاء في مخاطبة الناس ومعاملتهم، وأنه بعد التولية داخله شيء من الزهو والخيلاء، كما أشاعوا أنه ممالئ للإنجليز على هدم مكانة الأزهر بإدخال العلوم الجديدة فيه.

وفي عهد توليته على الأزهر، وقعت حادثة الوباء التي امتنع فيها الطلبة بإغراء بعض متهوريهم عن الإذعان لأوامر الحكومة، واعتصموا بالأزهر، وقاوموا رجال الشرطة ورموهم بالأحجار، حتى أصيب محمد ماهر «باشا» محافظ القاهرة بحجر أدمى وجهه، فأحيط بهم ورموا بالرصاص، فجرح بعضهم، ثم قبض على زعمائهم، وحكم على بعضهم بالسجن وعلى البعض الآخر بالنفي، وأغلق رواق الشوام لأن حركة التمرد بدأت منه.

وانتهز هذه الفرصة أعداء الشيخ النواوي وانتصروا للطلبة، وأخذوا يرمون الشيخ بالضعف والتهاون عن الدفاع عن حرمة المسجد والمحاماة عن أهله، فرد الله كيدهم في نحورهم.

ولما توفي الشيخ محمد المهدي العباسي سنة 1315ه، أضيف منصب الإفتاء الذي كان يشغله إلى الشيخ النواوي بجانب رياسة الأزهر.

واستمر الشيخ النواوي جامعا للمنصبين، حتى وقع الخلاف الكبير أواخر سنة 1316ه بشأن إصلاح المحاكم الشرعية، وعرض على مجلس شورى القوانين اقتراح بندب قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية ليشاركا قضاة المحكمة الشرعية العليا في الحكم، فوقف الشيخ حسونة ضد ذلك الاقتراح، وجرت مناقشة بين الشيخ ورئيس النظار مصطفى فهمي «باشا» انتهت بأن غادر الشيخ المجلس مغضبا محتجا.

وأكبر الناس موقف الشيخ، ولا سيما بعد أن سرى إلى الأذهان أن الحكومة تريد هدم الشريعة بذلك المشروع، ولكن النظار أحفظهم ما واجه به الشيخ رئيسهم، وحرك ذلك ما كان في صدورهم منه يوم أرادوا منع الحج احتجاجا بالوباء، واستفتوه ليجعلوا فتواه عصا يتوكئون عليها كلما أرادوا منع الحج، وظنوا أنه يوافقهم، لكنه أخلف ظنهم وأفتى بعدم جواز المنع، فلما كانت حادثته مع رئيس النظار، شكوه إلى الخديو وطلبوا عزله.

وحاول الخديو حمل الشيخ على قبول الاقتراح بعد تعديله وتغيير ما يراه مخالفا الشرع منه، فأصر على الامتناع، وقال: «إن المحكمة الشرعية العليا قائمة مقام المفتي في أكثر أحكامها، ومهما يكن من التغيير في الاقتراح فإنه لا يخرجه عن مخالفته للشرع؛ لأن شرط تولية المفتي مفقود في قضاة الاستئناف.»

وتألم الخديو من الشدة في كلام الشيخ، فمال لرأي نظاره فيه، ثم أصدر أمره يوم السبت 24 المحرم سنة 1317ه بعزل الشيخ عن رياسة الأزهر والإفتاء، وإقامة ابن عمه الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي شيخا على الأزهر، والشيخ محمد عبده المستشار بالاستئناف الأهلي مفتيا.

ولما أذيع الأمر كثرت وفود العلماء والوجهاء على دار المترجم، وانطلقت الألسنة بمدحه والثناء عليه، وتعلقت به القلوب، وأقبل الناس عليه أي إقبال، وتحققوا بطلان ما اتهمه به خصومه.

والحقيقة أن الشيخ لم يعهد عليه ما يشين دينه ولا دنياه، بل عرف بالعفة وعلو الهمة ونقاء اليد. ولولا جفاء كان يبدو بعض الأحيان في منطقه، وشدة فيه يراها بعض الناس غلظة، ويعدها البعض شهامة، لحفظ ناموس العلم، خصوصا مع الكبراء الذين أفسدهم تملق علماء السوء وحملهم على الاستهانة بهذه الطائفة.

ولم يزل المترجم معتكفا في داره، مقبلا على شأنه، حتى انتقل إلى دار ابتناها بجهة القبة، ولم يقم ابن عمه في الأزهر طويلا، بل توفي فجأة بعد نحو شهر من ولايته سنة 1317ه، فولي على الأزهر الشيخ سليم مطر البشري المالكي، ثم استقال فأقيل يوم الأحد 2 ذي الحجة سنة 1320ه، وأراد الخديو إعادة المترجم أو تولية الشيخ محمد بخيت، فلم يوافق النظار، ثم تولى على الأزهر الشيخ علي بن محمد الببلاوي المالكي نقيب الأشراف، واستقال يوم الثلاثاء 9 المحرم سنة 1323ه، فأقيل يوم السبت 12 منه، وفي اليوم التالي عين الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي شيخا للأزهر، ثم استقال فأقيل يوم الأربعاء 16 ذي الحجة سنة 1324ه، ورتب له 15 دينارا مصريا في الشهر من الأوقاف الخيرية ليكمل مرتبه 25 دينارا، وفي اليوم نفسه أعيد الشيخ حسونة النواوي شيخا على الأزهر، ولكنه لم يمكث في المنصب طويلا بسبب اختلال الأحوال في الأزهر، فاستقال سنة 1327ه، وأعيد إلى الأزهر الشيخ سليم البشري، ولزم المترجم داره بالقبة يزوره محبوه ويزورهم حتى آخر حياته، وكان خلال توليته الأولى قد عين عضوا دائما غير قابل للعزل بمجلس شورى القوانين؛ ولهذا بقي في المجلس بعد عزله من الأزهر والإفتاء، حتى ألغي المجلس واستعيض عنه بالجمعية التشريعية سنة 1332ه.

وقد أصيب الشيخ في أواخر أيامه بأمراض ووهن في القوى وضعف في النظر، وانتقل إلى رحمة مولاه صباح يوم الأحد 24 من شوال سنة 1343ه، ودفن بقرافة المجاورين.

عبد الله نديم

1261ه-1314ه

هو عبد الله نديم أفندي بن مصباح بن إبراهيم الأديب الألمعي، والخطيب المفوه، نادرة عصره، وأعجوبة دهره.

ولد أبوه ببلدة «الطيبة» بالشرقية في شهر ذي الحجة سنة 1224ه، ثم انتقل إلى ثغر الإسكندرية، فكان في مبتدأ أمره نجارا للسفن بدار الصناعة، ثم اتخذ له مخبزا لصنع الخبز، ومات بالقاهرة في 4 رجب سنة 1310ه.

وولد المترجم بالثغر المذكور في عاشر ذي الحجة سنة 1261ه، ونشأ في قلة من العيش، ومالت نفسه إلى الأدب فاشتغل به واسترشد من أهله وطالع كتبه، وحضر دروس الشيوخ بمسجد الشيخ إبراهيم، وكان قليل الاعتناء بالطلب، غير مواظب على الدرس، إلا أن الله وهبه ملكة عجيبة وذكاء مفرطا، فبرع في الفنون الأدبية، وكتب وترسل ونظم الشعر والزجل، وطارح الإخوان، وناظر الأقران، ثم بدا له أن يتعلم صناعة للكسب، فتعلم فن الإشارات البرقية، واستخدم في مكتب البرق ببنها العسل. ثم نقل إلى مكتب القصر العالي بالقاهرة وبقي به مدة عرف فيها كثيرا من أدباء القاهرة وشعرائها، مثل: محمود سامي البارودي، ومحمود صفوت الساعاتي، والشيخ أحمد وهبي، ثم غضب عليه «خليل أغا» أغا القصر، وكان في سطوة لم يبلغها كافور الإخشيدي، فأمر بضربه وفصله، فضاقت به الحيل، ورقت حاله، حتى توصل إلى الشيخ أبي سعدة عمدة «بداوي» في الدقهلية، وأقام عنده يقرئ أولاده، ثم تشاحنا وافترقا على بغضاء، واتصل بالسيد محمود الغرقاوي أحد أعيان التجار بالمنصورة، فأحسن منزله، وفتح له حانوتا لبيع المناديل وما أشبهها، فكانت نهاية أمره أن بدد المكسب ورأس المال، وجعل يجوب البلاد وافدا على أكابرها، فيكرمون وفادته ويهشون لمقدمه؛ لما رزق من طلاقة اللسان، وخفة الروح، وسرعة الخاطر في النظم والنثر ، فيطوف ما يطوف ثم يأوي إلى دار الغرقاوي بالمنصورة.

ثم عاد إلى طنطا سنة 1293ه واتصل بشاهين «باشا» كنج مفتش الوجه البحري إذ ذاك، ولاتصاله به سبب لا بأس من ذكره؛ وهو أن الباشا المذكور كان بينه وبين الشيخ محمد الجندي أحد العلماء بالمسجد الأحمدي صحبة وتزاور، وكان الشيخ يعرف غلاما حلاقا حسن الصوت، فأمره مرة أن يغني بحضرة الباشا، فغنى بقول المترجم:

سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه

وكفوا إذا سل المهند حاجبه

وعودوا إذا نامت أراقم شعره

وولوا إذا دبت إليكم عقاربه

ولا تذكروا الأشباح بالله عنده

فلو أتلف الأرواح من ذا يطالبه؟

أراه بعيني والدموع تكاتبه

ويحجب عني والفؤاد يراقبه

إلى أن قال:

ولو أن طرفي أرسل الدمع مرة

سفيرا لقلبي ما توالت كتائبه

وكان كثيرا ما يتغنى بها، فطرب الباشا طربا شديدا، واستظرف قائل الأبيات وتمنى رؤيته، فأرسلوا له بالحضور، فلما حضر إلى طندتا

1

وواجهه استقبح صورته، إلا أنه أعجبه ظرفه وأدبه، ومال إليه، فاتخذه نديما لا يمل، ورفيقا حيث حل، فلما استقرت به النوى وملأ يده من الباشا، استعداه على أبي سعدة الذي كان يقرئ أطفاله وادعى أنه أخر له ثلاثين دينارا من أجرة التعليم، فأمر الباشا بإشخاصه إلى طنطا، وألزمه أن يدفع للمترجم مائة، فدفعها عن يد وهو صاغر.

وكان مجلس شاهين باشا محط رحال الأدباء، ومنتجع الشعراء والندماء، لا يخلو من مطارحات أدبية، ومساجلات شعرية، وللمترجم بينهم المقام الأعلى، والقدح المعلى، وحسبك ما وقع له من طائفة «الأدباتية»، وهم مشهورون بالقطر المصري، يستجدون الناس في الطرق بإنشاد الأزجال والضرب على الطبل، وأغلب أزجالهم مرتجلة في مقتضى الحال، فكان للمترجم معهم يوم مشهود، ذكره في مجلة الأستاذ، ومنها نقلناه، قال: «اتفق لي أني كنت بمولد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه سنة 1294ه هجرية، وكان معي السيد علي أبو النصر، والشيخ رمضان حلاوة، والسيد محمد قاسم، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري، فجلسنا على قهوة الصباغ نتفرج على أديب

2

وقف يناظر آخر، فلما فطن أحدهما لانتقادنا عليهما لفت أخاه إلينا وخصانا بالكلام، فأخذا يمدحاننا واحدا فواحدا، إلى أن جاء دورهما إلي، فقال أحدهما يخاطبني:

انعم بقرشك يا جندي

والا اكسنا امال يا أفندي

إلا انا وحياتك عندي

بقى لي شهرين طول جوعان

فقلت على سبيل المزح معه:

أما الفلوس أنا مديشي

وانت تقول لي مامشيشي

يطلع علي حشيشي

أقوم أملص لك لودان

ثم أخذنا نتبادل الكلام نحو ساعة حتى غلبا عندما فرغ محفوظهما، فلما قمنا وتوجهنا إلى منزل المرحوم شاهين باشا، وكنا نازلين عنده جميعا، أخبره السيد علي أبو النصر بما كان مني مع الأديبين، فلما أصبحنا استدعى شاهين باشا شيخ الأدباتية وطلب منه أن يستحضر أمهر من عنده، ووعده أن يعطيهم ألف قرش إن غلبوني، فإن غلبتهم ضرب كل واحد منهم عشرين كرباجا، فرضي بذلك، واستحضر الشيخ داود، والحاج إسماعيل، الشهيرين بعمل الزجل وإنشاده ارتجالا في أي غرض، واستحضر معهما ستة من أشهر الحفظة المقتدرين على الارتجال أيضا، وعقد الباشا لذلك مجلسا أمام بيته بطنطا، وأجلسني بينه وبين المرحوم جعفر «باشا» مظهر، وقد وقف الناس ألوفا والعساكر تدفعهم عنا، ثم ابتدأ الشيخ فقال:

أول كلامي حمد الله

ثم الصلاة على الهادي

ماذا تريد يا عبد الله

قدام أميرنا وأسيادي

فقلت:

أنا أريد أحمد ربي

بعد الصلاة على المختار

وإن كنت تطمع في أدبي

أسمعك حسن الأشعار

فقال:

دعنا من الأدب المشهور

وادخل بنا باب الدعكه

ندخل على أسيادنا بسرور

ونغنم الخير والبركه

فقلت:

هيا احتكم في البحر وشوف

فن النديم ولا فنك

دلوقت تسمع يا متحوف

أحسن أدب وحياة دقنك

فقال: هات مدح في الحضرة على قد:

تعمل عمايلك يا منصان

يا ابو الشفيفه العسليه

يا صاحب الحجل الرنان

ودي الأمور الحيلية

ماذا تريد من دي الولهان

قل لي واسعف

أحسن أنا من خمر الحان

قصدي أرشف

وإن كنت تسمح يا ابو الخير

يبقى الوصال «الدوا» ليه

فقلت:

المجلس العالي محمود

فيه الأماره والأعيان

واليوم دا يوم باين مشهود

خلعت عليه حلة إحسان

شاهين باشا فيه موجود

حظه أزهر

أما المدير هذا المسعود

جعفر مظهر

فإنه في الناس معدود

من ضمن أرباب العرفان

فقال:

القصد منك يا نديمنا

تعمل زجل هيله بيله

إلا انت دلوقت غريمنا

قصدي احدفك بالقلقيله

فقلت:

انت صغار لسه نونو

وفي الزجل منتش مجدع

اتبع نديم تلقى فنونو

تأتيك من المعنى الأبدع

وبعد أن دار الكلام بيني وبينه في كثير من هذا الوزن، قام الشيخ داود وقال:

قصدي أقول كلام - يحكي لضمات الزهور - هات اشجنا بنظام

من فن «كان وكان»

ادخل بنا لمعان - كالبكر من خلف الستور - في قلب متحلي

في النظم بالإتقان

فقلت:

اسمع كلام نديم - من طيه كل السرور - واعقل نصيحة خبير

يدعوك للعرفان

لا تستخف بخصم - لو كان من أوهى الطيور - واصفح فكل صفوح

يعلو على الأعيان

واخش اللئيم دواما - فاللؤم داع للشرور - واحفظ مودة حر

في عهده ما خان

هذي نصيحة حر - إن قلت زانت للنحور - والفكر فكر ذكي

لا يعرف النسيان

فأعرض عن «كان وكان» عجزا منه، وقال: هات فخرا على قد:

يا صبا نجد ورامه

هجت للمشتاق وجدا

كل صب في غرامه

ما اشتكى في الليل سهدا

والهوى أحرق ضرامه

كل أحشائي وقلبى

فقلت:

فخر مثلي في بيانه

والغبي يفخر بماله

والأدب أحسن صفاتي

فالذكي حسنه كماله

كل قول المرء يفنى

غير محمود المآثر

دور

قد كان لي سعد السعود خدام

لما التقينا في الطريق

وقلت بالحاجب أروح قدام

وانت ورايا يا صديق

فصرت أنظر للقوام بالقام

وعادل القد الرشيق

حتى ملكت الروح وا روحاه

لو يرجع اليوم ينظر

دور

قال المدلع عاشقي: ما الحال؟

جفني جرح منك الفؤاد

كم من شجي مثلك سباه الحال

حتى غدا خصم الرقاد

قلت ارحموا من في التصابي مال

عن كل أبواب الرشاد

قال إن ترم مني الوصال وصفاه

هات اليمين الأكبر

ثم طلبت منه أن يأتي باليمين من هذا الوزن، فوقف، فقصدت الحاج إسماعيل، فوقف، فطلبت من الستة، فوقفوا، فقال المرحوم شاهين باشا: نحسبها لك واحدة.

ثم قال الشيخ: هات غزلا بمعنى بديع على قد:

أهيف رشقني بقوام

مثل المران

والوجد عذبني بناره

فقلت له: أقول تحميلة وتقولون أخرى من جنسها، فقال: هات، فقلت:

يا أهل الصبابة يا عشاق

سلوا المشتاق

فالعشق ما له غير أهله

فوقف الجميع، ولم يستطع واحد منهم الدخول معي في هذا المضيق، فقلت ومشيت إلى آخر الأدوار الآتية:

أشكو إليكم أحزاني

بل هجراني

من أهيف صادني نبله

أهيف بنظرة في خده

خدني عبده

وجت سقامي تشهد له

وأدمعي نزلت تجري

تنظر صدري

رأت فؤادي بيرقص له

قالت لو أتلفت عيوني

قال: سيبوني

سيد الملاح يعرف شغله

ما يعرف العشق الأجلاف

يا أهل الإنصاف

ما للعذول يكثر عذله

عاقل رأى مجنون يشرب

حتى يطرب

فراح شعوره مع عقله

إلى أن قلت:

لما رآه سلب الألباب

خاف الأسباب

وراح يعضعض في نعله

وصرت وحدي متهني

أفضل أغني

للحب إن شخشخ حجله

أرعى النجوم والنار تكوي

قلبي المشوي

والوجد كتفني بحبله

قد بعت روحي للفتان

من غير أثمان

وبعت ملكي من أجله

كيف الخلاص والقلب كسير

والصب أسير

والجفن يجرحني بنصله؟

ثم قلت:

يقول لي يا مسكين مالك

بين حالك

عسى يكون عندي حله

فقلت يا سيدي عبدك

من نار خدك

حرق اللهيب جسمه كله

أخدت حبيب قلبي النخوة

بعد القسوة

وجه يغازلني بدله

خطر ولكن في قلبي

بهجة لي

وجاد لمسكينو بوصله

من فرحتي هرولت ابكي

من غير ما اشكي

والدمع من كترو بله

حركت قلبه للرحمة

من دي الفحمة

فجاد بياسمينو وفله

فقلت: أحييت الفاني

يا إنساني

الله يجازيك من فضله

وكل ما يرجو العاشق

غير الفاسق

والسر لا يحسن نقله

وإلى هنا صفق الباشا والحاضرون، ثم عدنا للزجل المعتاد بما يطول ذكره، فإن الشيخ رمضان كتب من زجل هذا المجلس خمس كراريس، وكله محفوظ عندنا لم يضع منه شيء، وقد استمرت المناظرة ثلاث ساعات.» •••

ولقد سألت بعض من حضر هذا المجلس عما كتبه المترجم فأنكره، وأخبرني أنه تغالى فيما كتب، وذكر أناسا لم يكونوا حاضريه ، والله تعالى أعلم.

ثم اتصل المترجم بالتنونجي «بك» فجعله وكيلا على ضياعه، ثم لحق بالإسكندرية مسقط رأسه ومنبت غرسه، وكان منه ما سنقصه عليك.

تلك خلاصة ترجمته في أول أمره ومبتدأ خبره، وكان القطر المصري في أثناء ذلك في اضطراب، وهرج ومرج، من اختلال الأحوال، وفساد الحكام، واعتلاء الإفرنج على الأهلين، وقد سئم الناس حكم الخديو إسماعيل وتمنوا زوال دولته.

فلما وفد المترجم على الثغر رأى لفيفا من الشباب ألفوا جمعية «مصر الفتاة» يتآمرون فيها سرا خوفا من بطش الخديو، فعرف منهم البعض، واشتغل بالكتابة في صحف الأخبار، فأعجب الكتاب بمقالاته، واقتدوا به في تحسين الإنشاء، وكان سقيما منحطا في ذلك العهد، ثم سعى مع جمع من الأدباء، فألفوا جمعية سموها «الجمعية الخيرية الإسلامية» سنة 1296ه آخر سني إسماعيل في الحكم، وجعلوه مدير مدرستها، ثم عزل الخديو وتولى ابنه توفيق، ففرح الناس وظنوا انفراج الأزمة، وجد المترجم واجتهد في إنجاح مسعاه في الجمعية، حتى حمل الخديو على زيارة مدرستها، فزارها يوم امتحان تلاميذها، وجعلها تحت رعاية ولي عهده عباس، وفتحت لهم أبواب المدرسة البحرية ليدرسوا بها، وقررت الحكومة مائتين وخمسين دينارا في السنة مساعدة لهم.

وطفق المترجم يؤلف القلوب، ويحض الأهلين على الاتحاد بالمقالات والخطب، ينفثها قلمه ولسانه، وألف قصة سماها: «الوطن وطالع التوفيق»، وأخرى سماها: «العرب»، شرح فيهما ما كانت عليه حالة القطر وما طرأ عليه، ثم مثلهما هو وتلاميذه بأحد ملاعب الثغر بحضور الخديو، فكان لهما تأثير كبير في النفوس، واشتهر المترجم، وعلا كعبه، ولهج الناس بذكره.

ثم طرأ فساد على الجمعية نسبوه إليه فانفصل منها، وكان قد شرع في إنشاء صحيفة سماها: «التنكيت والتبكيت» مزج فيها الهزل بالجد، وظهر أول عدد منها في 8 رجب سنة 1298ه، وظهر في أثناء ذلك وميض الثورة العرابية من خلل الرماد، فوافقت هوى في نفس المترجم، وضمه قادتها إليهم، وشدوا أزرهم به، فملأ صحيفته بمحامدهم، ودعا إلى القيام بناصرهم، وخطب الخطب المهيجة، ونظم القصائد الحماسية، وندب الوطن ورثاه، وحض على الاجتماع والتكاتف ونبذ أضاليل الإفرنج، فأثرت قالته في النفوس وأشربتها القلوب.

وانتسب المترجم إلى الإمام الحسن السبط رضي الله عنه، وإن كان بعض من عرفوه ينكرونها، ثم أوقف صحيفته بعد أن ظهر منها ثمانية عشر عددا، آخرها تاريخه 23 ذي القعدة سنة 1298ه، وكانت أسبوعية تظهر يوم الأحد، وانتقل إلى القاهرة وهي جذوة من نار، وغير اسم صحيفته بأمر من عرابي كبير الثوار، فسماها: «الطائف» تيمنا باسم بلدة بالحجاز مشهورة، وتفاؤلا بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب «أحمد فارس»، واسترسل المترجم مع رجال الثورة حتى صار جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، ولقبوه بخطيب الحزب الوطني، وقام سراة القطر وأعيانه يعقدون المجتمعات ويولمون الولائم للعرابيين، ويدعون المترجم للخطابة، وكانت له بها المواقف المشهودة، والأيام المعدودة، حتى قامت الحرب بالإسكندرية بين الإنكليز والمصريين يوم الثلاثاء 25 شعبان 1299ه فسافر إليها مع جماعة من رؤساء الجند وبات بها ليلة، ولحق بعرابي وقد رجع إلى كفر الدوار، ثم انتقل معه إلى التل الكبير وهو ينشئ صحيفة «الطائف» بالمعسكر، فيضمنها أخبار الانتصار، ويحشوها بما فيه تهدئة للأفكار، حتى وقعت الوقعة الكبرى على المصريين بالتل الكبير، فجاء مع عرابي وعلي الروبي إلى القاهرة يوم الأربعاء 29 شوال من السنة المذكورة، واتفقوا على إرساله إلى الإسكندرية بكتاب يطلبون به مطلبا من الخديو. فسافر به يوم الخميس، ولما وصل إلى كفر الدوار بلغه القبض على زعماء الثورة ودخول الإنكليز القاهرة، فعاد إليها ليلا، وبقي في داره بجهة العشماوي إلى الصباح، وخرج مع والده وخادمه فركبوا عجلة وقصدوا بها بولاق، ورآه شاهين فؤاد المفتش بالمصرف العقاري وهو من مماليك القصر السابقين، فظنه غير مطلوب، ولولا ذلك لقبض عليه، وودعه أبوه عند وصوله إلى بولاق واختفى مع خادمه تسعة أعوام لا يهتدى لمكانه، حتى أعيا الحكومة أمره فجعلت ألف دينار لمن يرشد إليه. وبثت عليه العيون فلم يظفروا بطائل وأعيتهم الحيل، فحكم عليه بالنفي من القطر المصري مدة حياته، ويئس أصحابه من وجوده، وأشيع القبض عليه وخنقه أو موته حتف أنفه أو هربه إلى بلاد الإفرنج، ولا غرو إذا عد اختفاؤه من الأمور الغريبة فأمره غريب من أوله، وكان حين ودع أباه ببولاق قصد دار صديق له يدعى الشيخ مصطفى فأقام بها أياما، ثم غير زيه فلبس ثوبا من الصوف الأحمر (زعبوطا) واعتم بعمامة حمراء وسدل على عينيه منديلا، وأخفى شاربه، وأعفى لحيته، فتغيرت هيئته، ونزل مع خادمه في سفينة قاصدة «بنها» ومنها إلى «منية الغرقى» بقرب طلخا، وقصد الشيخ شحاتة القصبي من مشايخ الطريقة الصاوية كان أخذ عليه العهد، وكان مشهورا بالصلاح والتقوى، فلم يعرفه لتغير شكله، فجلس هنيهة حتى انصرف من في المجلس فعرفه حاله، وأقام عنده ثلاثا، ثم أشار عليه الشيخ بالانتقال معتذرا بكثرة الواردين، فتحول إلى دار أحد الدراويش الموثوق بهم فآواه شهرا، ثم قصد بلدة أخرى، وطوحت به الطوائح ولقي الأهوال.

وحدث أنه نزل مرة عند قوم فأخفوه في قاعة مظلمة يتوصل إليها من سرداب طويل شديد الظلمة، ترشح أرضها بالماء لانخفاضها وقربها من خليج مار بجانب تلك البلدة، وكان لا يتمكن من الكتابة والمطالعة إلا على مصباح صغير من زيت الحجر وهو الغاز أو الجاز كثير الدخان، فقاسى، الشدائد بهذا المكان تسعة أشهر، ولما خرج منه كاد لا يبصر الطريق لما غشي عينيه، وكان كلما حل أو ارتحل يغير اسمه وحليته، فتارة يبخر لحيته بالكبريت حتى تبيض ويخضبها بالحناء أخرى، وغير اسم خادمه حسين فسماه صالحا، وظنه الناس شيخا من الصلحاء، حتى لقي مرة بعض من يخشاه وحادثه فستره الله وشمله بعنايته حتى فارقه، ثم ألقت به يد الأقدار إلى بلدة «العتوة القبلية» في الغربية، فاختفى عند عمدتها الشيخ محمد الهمشري فأكرم مثواه، وأقام في داره ثلاث سنوات ونيفا، تزوج فيها وولدت له بنت وماتت ولم يشعر به أحد، وزوج خادمه حسينا بأخت زوجته، ثم مات في أثنائها رب الدار، وكان شهما ذا مروءة كبيرة، وله امرأة مثله شهامة ومروءة، فاستحضرت أكبر أولادها وأعلمته أن ضيفهم المختفي عندهم هو «عبد الله نديم» طريد الحكومة، وسألته: هل يطمع في الجعل ويسلمه، أو يكون كأبيه في حفظ الجار وحماية الذمار؟ فاهتز الولد لقولها وأبى إلا أن يقتدي بأبيه في الكرم، ولعمري إن ما آتته تلك الأسرة من مكارم الأخلاق وعلو الهمة لمما يندر مثله في هذا الزمن.

وتنقل من بلدة إلى أخرى، وماتت زوجته، فذهب إلى القرشية نزيلا عند أحمد «باشا» المنشاوي، فكان يجتمع به صديقه القديم الأديب محمد أفندي التميمي وغيره، وتزوج هناك ببنت مصطفى منى من أهل المحلة الكبرى، إلا أنه لم يحمد المقام، فانتقل إلى دار التميمي في شهر ذي القعدة سنة 1305ه، فأقام بها شهرا، ثم سافر إلى «الدلجمون» في البحيرة فلم يمكث بها غير أسبوع، وعاد إلى الغربية، وقصد «البكاتوش» فكان يقيم تارة عند عمدتها الشيخ إبراهيم حرفوش، وينتقل تارة إلى دار جاره أحمد جودة، وكان رجلا قوي الجنان، لا يبالي بظلام الليل أنى سار فيه، فصار يصحب المترجم إذا أراد الانتقال في الليل الحالك، ويتجشم معه أضيق المسالك، وجعل المترجم إقامته بين «البكاتوش» و«شباس الشهداء»، ينزل فيها عند «محمد معبد» الحلاق، فيلقى عنده من الكرم والمروءة ما لقيه إبراهيم بن المهدي عند ذلك الحلاق المشهور مدة اختفائه من المأمون، ولم يزل كذلك حتى انتقل عند صديقه وصديقنا الأديب الكامل الشاعر الناثر محمد شكري المكي كاتب المركز بدسوق الذي أخبرني قائلا: بينما أنا بالمركز يوما إذ دخل علي الشيخ إبراهيم خرفوش عمدة البكاتوش، فسلم وجلس، ولمحت منه أنه يريد أن يسر إلي أمرا، فترقب خلو المكان، ثم أخبرني أن شخصا عنده مشتاق إلي، وهو صديق لي لم يرني منذ ثماني سنوات، فاستخبرته عنه فانصرف ولم يخبرني به، ثم صار يتردد علي بعد ذلك يذاكرني في هذا الصديق ولا يبوح باسمه، حتى وثق مني، فأخبرني أنه مختف واسمه «عبد الله»، فقلت: لعله عبد الله نديم؟ فقال: نعم، فكتبت له بيتين من نظمي وسألته توصيلهما إليه، وهما:

ولقد نذرت إذا لقيتك سالما

لأقبلن مواطئ الأقدام

ولأثنين على سجاياك التي

حثت على التحرير والإقدام

فذهب بهما، وعاد لي بعد يومين بقصيدة من نظم المترجم بخطه، عدتها مائة بيت من البحر والقافية، يتشوق فيها إلي ويذكر ما لاقاه أيام الثورة والاختفاء، ويتمنى لو فرج الله عنه فيفعل كيت وكيت، وكأنه نسي نفسه وما هو فيه من الضيق، فكتبت له أبياتا أطلب الاجتماع به، وبعد أسبوع حضر لي إبراهيم حرفوش ومعه ورقة بخط المترجم يطلبني فيها إليه يوم الجمعة بشباس الشهداء، فذهبت في الميعاد، فوجدت محمد معبد الحلاق ينتظرني، فذهب بي إلى داره وهي دار صغيرة على تل، وقد أنزلوا المترجم في مكان عال لا سلم له، فصعدت إليه على سلم من الخشب رفعوه بعد صعودي ، فلما التقينا ووقعت العين على العين تعانقنا طويلا، وأدركتني عليه شفقة، فقبلت يده، ثم جلسنا نتحادث في القديم والحديث، وأطلعني على كتبه التي ألفها مدة الاختفاء، منها: بديعية له شرحها شرحا لطيفا لم يكمله، وثلاثة دواوين من نظمه، وجزء من «كان ويكون»، ثم فارقته وقت العصر. •••

وانتقل المترجم عند صديقه المذكور بزوجته وكتبه، مدعيا أنه ابن عمه أتاه زائرا من الحجاز، وسمى نفسه عليا اليمني، فمكث نحو ستة أشهر، ثم انتقل بمفرده إلى شباس الشهداء، ولحقت به زوجته بعد عشرين يوما، ثم أعادها بعد خمسة وعشرين يوما إلى دار شكري «أفندي» بدسوق، ولحقها فمكثا ستة أشهر أخرى، ثم عاد إلى البكاتوش عند أحمد جودة، وكانت زوجته هذه تسيء إليه وتغاضبه، فجمعت عليه مع ضيق الاختفاء سوء معاشرة الأهل، حتى ضاق ذرعه منها مرة، وهم بإظهار نفسه للحكومة، ثم تراجع وأصلح أمره معها، ولكمته مرة على فمه فكادت تسقط ثنيتيه من الفك الأعلى فربطهما بخيط من الحرير، وكان خادمه حسين مختفيا مع زوجته ببلدة الجميزة التابعة لمركز السنطة، فطلبت زوجة المترجم الذهاب إليه فأذن لها، فلما استقرت عنده تشاحنت مع زوجته، وكاد الأمر ينفضح، فأسرع الخادم لسيده بالبكاتوش مستغيثا، فانتقل المترجم إلى الجميزة وأصلح بينهما، وبقي هناك نحو شهرين فاستأنس وطاب له المقام، وعرفه عمدة البلدة فتغاضى عنه وكتم أمره، فكان يخرج للتنزه على غير عادته في الاختفاء، فيلتف عليه العمدة وبعض أناس من البلدة، وهو يقرأ لهم ويعظهم ويسامرهم وهم مبتهجون به.

وكان يتردد على البلدة رجل يقال له «حسن الفرارجي» كان منتظما في العسكر، ثم استخدم جاسوسا سريا، فلما بصر بالمترجم أنكر حاله لما رآه عليه من سيما الاختفاء، ورجح أنه «عبد الله نديم»، فكتب إلى الديوان الخديوي ينبئهم بوجود رجل من العرابيين مختف بالجميزة، وأسرع إلى ديوان الداخلية فأوضح لهم أمره، فأعطوه ورقة بحليته، فلما تحقق منه أخبرهم به، فأمروا بالقبض عليه، وحضر من طنطا محمد أفندي فريد وكيل الحكمدار ومعه نفر من الشرطة ستروا ملابسهم بثياب أخرى ، فأحاط بعضهم بالبلدة متفرقين، وصعد وكيل الحكمدار مع الآخرين على تل مشرف على أفنية الدور، وأحس المترجم بتلك الحركة، فأوجس في نفسه خيفة، وأراد الانتقال إلى دار أخرى، فأخذ عيبته على كتفه وصعد على سطح المكان، فأبصره الذين على التل، فصاحوا وصوبوا بنادقهم عليه، وأمروه بالنزول فنزل، ثم أحاطوا بالدار، وطرقوا الباب طرقا عنيفا، وأيقن المترجم أنه مأخوذ لا محالة، ففتحه لهم، وواجههم متجلدا، فسأله محمد أفندي فريد عن اسمه، فقال له: «سبحان الله، أتجهل اسمي وأنت مأمور بالقبض علي! أنا عبد الله نديم، ذو الذنب العظيم، سلمت أمري لله»، فقبضوا عليه هو وخادمه، وأعماهم الله عن كتبه وأوراقه، ولولا ذلك لأصابه شر عظيم بسبب أهاجيه في الخديو وأسرته، وكان القبض عليه في 29 صفر سنة 1309، ولم ينل الواشي به شيئا من الجعل لفوات الأجل المضروب للمكافأة، ثم استاقوهما إلى المركز، وسألوه عمن اختفى عندهم فلم يقر بأحد، وسألوا خادمه وضربوه فأقر بالبعض، ونقلوهما إلى طنطا، فسجنا بعض أيام، ووكيل النيابة يوالي سؤالهما، وانتهى الأمر بعفو الخديو عنه وعمن آواه، ونفيه خارج القطر، فاختار يافا ثغر القدس الشريف، ووصل إليها في غروب يوم الجمعة 12 ربيع الأول، ونزل عند السيد علي «أفندي» أبي المواهب مفتيها، ولما دخل داره وعرفه بنفسه، قام واعتنقه، وضحك وبكى، فأقام عنده شهرا، ثم اتخذ له دارا، وعرفه أعيانها وفضلاؤها، وأكرموه وواسوه، جزاهم الله خيرا، ثم رحل رحلته إلى نابلس وسبطية وقلقيلا وغيرها من البلاد الفلسطينية، واجتمع بطائفة السامرة واطلع على كتبهم ومعتقداتهم كما رأيته بخطه في كتاب أرسله لأحد أصدقائه في مستهل رمضان من تلك السنة، ولم يزل مقيما بيافا حتى مات الخديو توفيق، وتولى ولده عباس في جمادى الثانية، فعفا عنه وأباح له العود إلى مصر، قال في آخر ذلك الكتاب: «عزمنا على الحضور بعد العيد إن شاء الله تعالى، فإن موسم سيدنا موسى الكليم يعمل في نصف شوال، ولا أحضر حتى أزوره مرة ثانية، فإنه صاحب الأمر بالعفو عني، وإن كان الظاهر خلافه، وذلك أني عند دخولي حضرته الشريفة أنشدته في الحال:

رجوتك يا كليم الله حاجا

أرجيها وقد حققت فضلك

فقل لي مثلما لك قبل أوحى

إله الخلق قد أوتيت سؤلك

فرأيته ليلا يقول لي: قم روح، ثلاثا.» •••

ولما عاد إلى مصر استوطن القاهرة، وأنشأ مجلة «الأستاذ» في شهر صفر سنة 1310، فبرزت موشحة ببديع مقالاته، وغرر أزجاله وموشحاته، وبدت الوحشة في أثناء ذلك بين الخديو والإنكليز، وكان ما كان من عزل صنيعتهم مصطفى فهمي كبير الوزراء ومعاكستهم فيما يريدون، فقام المترجم يستنهض الهمم ويحض على مؤازرة الخديو ونبذ طاعة سواه، وكتب في ذلك المقالات الطويلة «بالأستاذ»، حتى أحفظ الإنكليز وخشوا من اتساع الخرق لمكانته السابقة في النفوس، وانتهزها حساده فرصة فسعوا بما سعوا، ولفقوا له ما لفقوا، فأوقفوا مجلته في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة، وأعادوه إلى يافا منفيا، بعد أن أعطوه أربعمائة دينار، وأجروا عليه خمسة وعشرين كل شهر، واشترطوا ألا يكتب بشأن مصر كلمة، ولم ينفعه الخديو لقصر يده.

فلما استقر المترجم بيافا لم يسلم من السعاية به لدى السلطان فأمر بإبعاده، فعاد إلى إسكندرية متحيرا، وقد لفظته البلاد لفظ النواة، فسعى له الغازي مختار «باشا» ومساعده حتى قبله السلطان عبد الحميد بدار السلطنة، واستخدمه في ديوان المعارف، ووظف له خمسة وأربعين دينارا مجيديا في الشهر، فأمضى بها بقية أيامه شريدا عن وطنه، بعيدا عن أهله وخلانه، حتى اشتدت عليه علة السل، فلقي حمامه في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 1314 رحمه الله.

ودفن بمقبرة يحيى أفندي في بشكطاش، وضاعت مؤلفاته ودواوينه، ولم يظهر منها إلا جزء من «كان ويكون» كان يطبعه ذيلا للأستاذ، وكتاب آخر نسبوه إليه، اسمه «المسامير» محشو بالهجو القبيح في الشيخ أبي الهدى الصيادي نزيل دار السلطنة. •••

ومن تأمل بعين الاتعاظ في تقلب الأحوال بالمترجم، وما ذاقه من حلو الزمان ومره، وقاساه مدة الاختفاء، ثم النفي حتى مات غريبا طريدا، حق له العجب، وعرف كيف يعبث الزمان بأهل الفضل من بنيه.

ونشأ المترجم فقيرا كما قدمنا، وعاش في قلة، فإن أصاب شيئا بدده بالإسراف، وكان في أول أمره يرتدي الملابس الإفرنجية المعلومة، فلما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقفطان، واهتم بعمامة خضراء إشارة إلى الشرف، وكان شهي الحديث حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقامته بمصر، فرأيت رجلا في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ، أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا، وقد انتخب أخوه عبد الفتاح أفندي جملة صالحة من مقالاته، جمعها في كتاب سماه: «سلافة النديم»، فارجع إليه إن شئت.

ومن مختار شعره قوله من قصيدة لم نعثر منها إلا على هذا القدر:

سيوف الثنا تصدا ومقولي الغمد

ومن سار في نصري تكفله الخمد

ومنها:

ومن عجب الأيام شهم أخو حجا

يعارضه غر ويفحمه وغد

ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما

لتحفظ أعراض تكفلها المجد

ويقال إنه نظمها بحضرة شاهين باشا تبكيتا لمن زعم قصور الشعراء عن معارضة أبي الطيب المتنبي في قوله:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بد

ومن شعره قوله أيام اختفائه، وكتب بها إلى صديق له يسليه على نازلة نزلت به:

يا صاحبي دع عنك قول الهازل

واسمع نصيحة عارف بالحاصل

اجهل تجد صفو الزمان فإنه

من قسمة الفدم الغبي الجاهل

ودع التعقل بالتغفل يستقم

أمر المعاش فحظه للغافل

وارض البلادة تغتنم من بابها

مالا وجاها بعد ذكر خاملس

وإذا أبيت سوى العلوم فلا تضق

بحروب دهر لا يميل لفاضل

قلب تواريخ الألى سبقوا تجد

دنياك ما قيدت بغير الباطل

تجد الأفاضل في الزوايا كلهم

حال الحياة وبعدها بمحافل

العلم ستر كالسحاب به ترى

شمس الحقيقة خلف ذاك الحائل

هل أبصرت عيناك ديوانا به

مدح البليغ جميل سعد حافل

إن قلت: إي فاذكر لنا من ناله

أو: لا، فعش كالناس في ذا الساحل

ضدان لا تلقاهما في واحد

مال الغبي وحكمة للكامل

ثم ذيلها بنثر أضربنا عن ذكره.

ومن شعره ما ضمنه كتابا كتبه مدة اختفائه لأحد أصدقائه:

وبعد فهذا شرح حالة غائب

عليه من اللطف الخفي ستور

تدور به الأهوال حول مدارها

فيصبر والقلب الرضي صبور

عسى فرج يأتي به الله إنه

على فرجي دون الأنام قدير

محمد عبده

1266-1323ه [كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مقدمة العلماء الذين اصطفاهم المغفور له أحمد تيمور باشا لتلقي العلم والمعرفة عنهم، وقد سجل التاريخ أن الإمام محمد عبده كان يتخذ من دار تيمور «باشا» في درب سعادة ندوة يلقي فيها دروسه على صفوة من العلماء والأدباء النابهين وغيرهم.

وقد عثرت لجنة نشر المؤلفات التيمورية بين مخلفات المغفور له أحمد تيمور «باشا» على جذاذات عدة تضمنت الكثير من سيرة الإمام وأعماله، رأت نشر موجزها التالي في هذا الكتاب.]

ولد الإمام محمد عبده ونشأ في قرية صغيرة بعيدة عن المدائن، وهي قرية محلة نصر بمركز شبراخيت بالبحيرة.

وكان والده من أهل الطبائع السليمة والأخلاق القويمة، أما أمه فكانت من قرية «حصة شبشير» بمركز طنطا، تنتمي إلى بيت من بيوتها المعروفة يعرف ببيت آل عثمان.

ويقول الإمام محمد عبده رحمه الله فيما كتبه من تاريخ حياته: «كنت أعتقد أن والدي أعظم رجل في القرية، وكل من فيها دونه، وهو بذلك أعظم رجل في الدنيا، فإن الدنيا لم تكن أوسع عندي من محلة نصر، وكان ينزل عنده بعض الحكام ولا ينزلون في بيت العمدة مع أنه أغنى وأكثر دورا وأرضين، ونشأ في بذلك الاعتقاد بأن الكرامة وعلو المنزلة لا يتعلقان بالثروة وكثرة المال، وكنت أعقل من صغري ما كان عليه والدي من ثباته في عزيمته، وشدته في المعاملة، وقسوته على من يعاديه، وأخذت عنه ما عدا القسوة، أما والدتي فكانت منزلتها بين نساء القرية لا تنزل عن مكانة والدي، وكانت ترحم المساكين وتعطف على الفقراء، وتعد ذلك مجدا، وطاعة لله وحمدا.»

شب الأستاذ على قدم أبيه محبا للفروسية والرماية والسباحة، حتى شهر بذلك بين أترابه في القرى المجاورة.

بعد تعلمه القراءة والكتابة بمنزل والده بلغ العاشرة من عمره سنة 1276ه/1859م فانتقل إلى دار حافظ للقرآن لم يكن بالقرية غيره، فقرأ الكتاب المجيد أول مرة واستظهره بعد ذلك في عامين، ويظهر لمن رأى خط الإمام، وهو لطيف من غير أن يكون جميلا، أن معلمه الأول كان على شيء من النظام والمهارة في كتابته.

وفي سنة 1279ه/1862م ذهب إلى الجامع الأحمدي بطنطا ليجود القرآن، وكان هناك أخوه لأمه الشيخ مجاهد الذي يقال إنه كان قارئا مجيدا وصل إلى أن صار شيخا للمقارئ بطنطا.

أتم الشيخ فنون التجويد في نحو سنتين على الوجه الأكمل، ولم تنفر فطرته السليمة من أساليب هذا التعليم في الجامع الأحمدي المشهور بتعليم القرآن وفنون القراءات منذ زمان، وكان رحمه الله من أحفظ الناس للقرآن، وأجودهم في تلاوته نغمة، وأحسنهم ترتيلا.

وفي سنة 1281ه/1864م جلس في دروس العلم في المسجد الأحمدي. قال الأستاذ في الترجمة التي كتبها لنفسه: «وقضيت سنة ونصفا لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم، فأدركني اليأس من النجاح، وهربت من الدرس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر علي أخي وأخذني إلى المسجد الأحمدي، وأراد إكراهي على طلب العلم، فأبيت وقلت له: قد أيقنت ألا نجاح لي في طلب العلم، ولم يبق علي إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي، وانتهى الجدل بتغلبي عليه، وأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع ورجعت إلى محلة نصر على نية ألا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة 1282ه/1865م على هذه النية.»

قال الأستاذ بعد ذلك: «فهذا أول أثر وجدته في نفسي من طريقة التعليم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر، وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذا السبيل في التعليم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون، تغشهم أنفسهم، فيظنون أنهم فهموا شيئا، فيستمرون على الطلب، إلى أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يبتلى بهم الناس ، وتصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية؛ لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد، ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم، ويحولون بينه وبين نفع الناس بعلمه.»

وبعد أن تزوج الفتى الهارب من طلب العلم، قهره والده على الرجوع إلى طنطا، فهرب في الطريق إلى بلدة «كنيسة أورين» من قرى مركز شبراخيت، وغالب سكانها من خئولة أبيه، وصادف في مهربه من داوى نفرته وسهل عليه من طلب العلم ما وجده عسيرا؛ إذ اتصل بالشيخ درويش خضر أحد أخوال أبيه، وهو رجل سبقت له أسفار إلى صحراء ليبيا، ووصل إلى طرابلس الغرب، وجلس إلى السيد محمد المدني والد الشيخ ظافر، وتعلم عنه شيئا من العلم، وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ بعض كتب الحديث ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته واشتغل بالزراعة.

ووصف الأستاذ الأثر الذي وجده في نفسه من صحبة الشيخ درويش خضر، فقال: «رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير العالم الذي كنت أعهده، واتسع لي ما كان ضيقا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرا، وعظم عندي من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرا، وتفرقت عني هموم النفس، إلا هما واحدا، هو أن أكون كامل المعرفة، كامل أدب النفس.»

وبعد أن قضى الشاب في «كنيسة أورين» خمسة وعشرين يوما، ذهب إلى طنطا في شهر جمادى الآخرة سنة 1282ه/أكتوبر سنة 1865م، مشروح الصدر لطلب العلم، مقبلا عليه ببركة إرشاد الشيخ درويش.

وإذا كانت التربية الحديثة تدعو إلى تهذيب الذوق بفنون الجمال، فإن التربية الصوفية تدعو إلى تلطيف السر بأنواع الرياضة، كالعبادة المشفوعة بالفكرة، والألحان المستخدمة لقوى النفس، هذه التعاليم من شأنها أن تربي الوجدان، وتلطف السر، وتكمل النفس وتزينها، ولا جرم أنه كان صوفي الأخلاق.

قضى الإمام نحو أربع سنين في بداية تكوينه الفكري بالجامع الأحمدي بطنطا - نسبة إلى السيد أحمد البدوي أشهر أولياء القطر المصري - وقد نبهت هذه السنوات عقله إلى البدع الدينية وعملها في العقول والأخلاق، بيد أنها مست أيضا بعض الجوانب من نفسه فتركت في منازعها المتسامية إلى الكمال والفهم موطن تأثر. قال الأستاذ فيما كتبه من تاريخ حياته: «وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة (1282ه) كنت أطالع بين الطلبة وأقرر لهم «معاني شرح الزرقاني»، فرأيت أمامي شخصا يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب، فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلواء مصر البيضاء! فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله! من جد وجد، ثم انصرف، فعددت ذلك القول إلهاما ساقه الله إلي ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا.»

ذهب المجاور الشيخ محمد عبده بتصرفه إلى الأزهر في شوال سنة 1282ه فبراير سنة 1866م قبل ست سنوات من وضع الشيخ المهدي العباسي شيخ الأزهر أول قانون للتدريس فيه، وأراد الجيل العلمي الجديد في ذلك العهد أن يعرب كتبا أوروبية مكتوبة في الغالب بلسان فرنسي، ولم يجد من المصطلحات القديمة متسعا، فوضع عبارات محدثة، وأوجد أسلوبا جديدا لم يرض عنه الأزهريون، ومنذ يومئذ دخل إلى الأزهر التنازع بين القديم والجديد.

أما الروح السائدة في التعليم الأزهري فكانت على ما وصفها بعض علماء الفرنجة في قوله: «ولئن كانت أنماط التعليم والبحث في الأزهر تختلف عما هو مستعمل في الغرب الآن اختلافا أساسيا، فهي لا تختلف في شيء عن الأنماط التي كانت عندنا قديما.» وفي قوله: «أثر العلوم النقلية في قهر العقول الذي أخذ في التلاشي عندنا منذ قرون لا يزال في عنفوان سطوته في الجامعات الإسلامية.»

وليس الغرض من العلم عند أهل الأزهر يومئذ هو البحث للتحقيق والمقارنة والتمحيص، ولكنه النقل الصحيح لما ترك الأقدمون.

والمفروض أن الأجيال متراجعة إلى الانحطاط، والأجيال الحاضرة والمقبلة تتصل بعصر النبي

صلى الله عليه وسلم

من خلف إلى سلف، وأن الأئمة المجتهدين بعداء في عصور ذاهبة في أعماق الماضي لا يستطيع الحاضر أن يدرك غبارها.

ونسارع إلى بيان أن أستاذنا صرح في تفسير سورة «العصر» بفساد ما عليه الناس من ذم عصورهم، ونسبة ما شاءوا من الخير إلى ما كان قبلهم من العصور، كما صرح في كثير من أقواله وكتاباته بعيب التعليم الأزهري ومناهجه.

هذا وكان في الأزهر نفسه تدافع بين الشرعيين والصوفية؛ فأولئك كانوا يرون في الخروج عن العلوم النقلية المتداولة في الأزهر تمردا على الدين، وهؤلاء كانوا يطمحون إلى أنواع من المعارف التي لها مساس بالتصوف.

ودليل هذا التدافع ما ذكره الصوفي الأزهري الشيخ حسن رضوان المتوفى سنة 1310ه/1892م في منظومته المسماة «روض القلوب المستطاب»، وقد كان للشيخ المذكور مريدون بين علماء الأزهر وطلابه، منهم الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمد البسيوني، وهما من أساتذة الشيخ محمد عبده، ومنهم الشيخ محمد عبده نفسه، وجماعة من إخوانه، وبذلك يظهر أن الشيخ حينما جاء إلى الأزهر انضم إلى حزب التصوف، وهو أقل الحزبين جمودا، وأقلهما نفرة من الجديد.

كان الأستاذ متصوفا مدة الدراسة مع شيوخه وزملائه، متصوفا في أيام المسامحات، مع خال أبيه الشيخ درويش خضر، حتى انطبع تفكيره بنوع من الخيال الصوفي الذاهب في الروحانيات إلى ما يجاوز مدى الفهم أحيانا.

انساق بعض الأساتذة في الأزهر إلى دراسة الفلسفة الإسلامية بحكم نزوعه إلى التصوف الإسلامي الذي صار متأثرا بمذاهب الفلسفة، وخصوصا مذهب أرسطو الذي يعتبر إماما لفلاسفة العرب، كما انساق بعضهم أيضا إلى مدارسة الأدب باعتباره من الفنون الجميلة، وقد كان الشيخ حسن الطويل والشيخ محمد البسيوني من أساتذة الشيخ محمد عبده، فهو كان متصلا بالحركة الصوفية المخلوطة بالفلسفة، وكان متصلا بالحركة الأدبية، على أنه لم يبعد كل البعد عن المحافظين على القديم، فحضر دروس زعمائهم المشهورين؛ كالشيخ عليش، والشيخ رفاعي، والشيخ الجيزاوي، والشيخ الطرابلسي، والشيخ البحراوي.

ولما حضر إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني في سنة 1288ه/1871م صاحبه الأستاذ الشيخ محمد عبده؛ يحضر دروسه، ويلازم مجالسه التي كانت مجالس حكمة وعلم، وكان يومئذ فتى متأثرة عواطف قلبه الفتي بمنازع التصوف، ورياضاته ومواجده، وكان يتلقى علوم الأزهر على أنماطها المعروفة، شاعرا بأن وراءها كمالا علميا لا يجده فيما حوله. وكان السيد الأفغاني وحده قادرا على تخليص الشيخ محمد عبده من خموله الصوفي، وتخليصه من الحيرة في التماس الكمال العلمي؛ إذ كان السيد جمال الدين الأفغاني، الكبير بمواهبه الفطرية، وبسعة علمه، وحسن نظام فكره، وسمو مطامحه، وعلو نفسه القوية، المشتعلة حياة وعزما، والمملوء بالحوادث الجلى والآلام، قد صاحبه الشيخ محمد عبده تلميذا وصديقا منذ سنة 1288-1296ه/1871-1879م، وبعد سنتين من صحبة الشيخ محمد عبده للسيد جمال الدين ظهر لنا ذلك الشاب المتصوف، الذي كان ينطلق في القول على وجل إذا سأله العامة عن شيء من أمر دينهم في تلك المجامع التي كان يقوده إليها خال أبيه الشيخ درويش، مؤلفا جريئا يكتب رسالة سنة 1290ه/1873م، وفيها الكثير من المذاهب الفلسفية والصوفية.

وفي سنة 1292ه/1875م ألف الشيخ محمد عبده حاشيته على شرح الجلال الدواني للعقائد العضدية، ولم يكن يومئذ قد جاوز السادسة والعشرين من عمره، ولكنه ظهر فيها محيطا بمذاهب المتكلمين والفلاسفة المتصوفة إحاطة فهم ونقد، وقد ضمنها توضيحا لمختلف المذاهب في الإلهيات والنبوات.

وأول ما نشر على الناس من آثاره هو ما كتبه في جريدة «الأهرام» لبداية نشأتها سنة 1293ه/1876م وهي فصول سامية المنزع مشتملة على أصول الدعوة الإصلاحية التي صرف حياته في سبيلها، وقد استرعت تلك الفصول نظر الناس إلى ذلك الفتى الناهض إلى السابعة والعشرين من عمره نهضة المصلحين الكبار عاقلا جريئا.

وفي سنة 1294ه/1877م نال الشيخ محمد عبده الشهادة العالمية الأزهرية من الدرجة الثانية وهو ابن ثمان وعشرين سنة.

وأخذ يدرس كتب المنطق والكلام المشوب بالفلسفة في الجامع الأزهر، ويدرس في داره لبعض المجاورين كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه، وكتاب التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوروبية، تأليف الوزير فرانسوجيزو، وتعريب الخواجة نعمة الله الخوري.

وفي أواخر سنة 1295ه/1879م نفي من مصر بمساعي الإنجليز السيد جمال الدين الأفغاني الذي كان عمله السياسي شجى في حلق ممثل إنجلترا بمقدار ما كان تجديده لدرس الفلسفيات غيظا للجامدين من أهل الأزهر، وعزل الشيخ محمد عبده من مدرسة دار العلوم ومدرسة الألسن، وأمر بأن يقيم في قريته «محلة نصر» لا يفارقها أبدا إلى بلد آخر.

في أوائل حكم الخديو توفيق حصلت هذه الحادثة، وكان الوزير الكبير رياض «باشا» خارج القطر، وهو الذي قد زين للسيد جمال الدين المقام في مصر، وأمده بالمعونة ليستعين بها على تربية شباب مصلح، وإذا كان الوزير الكبير قد عجز عن رد ما فات من نفي السيد الأفغاني، فما كان ليفوته أن ينتفع بتلاميذه، وما كان ليترك خليفة السيد جمال الدين منفيا في قرية من قرى البحيرة محرما عليه أن يخرج منها، فاستصدر له عفوا من الخديو سنة 1297ه/1880م، وعينه محررا في الجريدة الرسمية ثم جعله في آخر السنة رئيس تحريرها.

ولقد نهض الشيخ محمد عبده بحركة إصلاح هيأت له مساعدة رياض وسائلها، وأعانه عليها خيرة تلاميذ السيد جمال الدين الذين كانوا يشتغلون معه في تحرير الجريدة الرسمية، إلا أن صلة الأستاذ بالأزهر قد انقطعت يومئذ، فلم يعد معلما يريد أن يصلح طرق التعليم فيه، ويرشد أهله إلى العلوم الجديدة، ولكنه أصبح صحافيا يحاول الإصلاح الاجتماعي والسياسي على مبادئ الحرية والعدالة والشورى.

ألم الشيخ رئيس تحرير الجريدة الرسمية «الوقائع المصرية» في فصوله الكبيرة الفائدة القوية الروح بوجوه الإصلاح التي كانت تنبعث عزيمته إليها، فدعا إلى التعاون على الخير، وحبذ فكرة الحرية ورفع المظالم عن الأهالي، وعاب على الشعب كله، ونادى بإصلاح التعليم والتربية في المدارس، وحمل على الرشوة وأهلها، وبين أن الحق للقانون لا للقوة، وذم إسراف الأهالي وتمسكهم بظواهر المدنية مع الغفلة عن وسائل المدنية الصحيحة، وعالج إصلاح منتدياتنا وإصلاح بيوتنا، وذكر رأيه في خطأ العقلاء الذين يريدون الرقي طفرة ووثوبا.

ثم تعرض الأستاذ لنوع من الإصلاح الديني، شغف به في أدوار حياته الإصلاحية كلها ذلك هو تطهير الإسلام من البدع التي شوهت شعائره وجنت عليه، وهذه المقالات تجمع مبادئه الوطنية، ومذاهبه في الحرية، وطريقه في الإصلاح.

كان الشيخ وطنيا يرى أن خير أوجه الإصلاح للوطن هو تحقيق وحدته ليمتنع الخلاف والنزاع فيه، على أنه نصير للمبادئ التي تدعو إلى المحافظة العامة على دعائم السلام والإخاء بين الناس، وهو داع إلى الحرية، حرية العمل، ورفع سوط القسوة غير القانونية، بحيث لا يسخر أحد في عمل من الأعمال إلا فيما يعود بالمنفعة العامة على البلاد، أما سبيل الأستاذ في الإصلاح، فهي سبيل التدريج، يريد أن يحفظ للأمة عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض تحسينات فيها لا تبعد عنها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج، حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى من حيث لا يشعرون.

وتأثر الشيخ بمبادئ أستاذه، ومع ذلك كان لمذاهبه الإصلاحية استقلال يجعل لها شخصية وحدها، ولقد كان حين توليه تحرير الجريدة حديث عهد بصحبة أستاذه، حديث عهد بالتخرج على يديه، وكانت له على هذا سبيل في الإصلاح ليست من كل وجه سبيل السيد جمال الدين؛ إذ كان السيد مشتعل الحماسة، يريد أن يلهب النفوس فيؤجج نارها، ثم يصوغ من ضعفها قوة، ومن ذلها عزا؛ كان يرى أن الثورات هي سبيل الإصلاح الاجتماعي والسياسي، أما الشيخ محمد عبده أيام تحرير الجريدة الرسمية فكان معلما مصلحا يطلب الأناة في دفع الأمم إلى الرقي، ليعلمها ويهذبها أولا، ثم يسوقها برفق إلى ما علمت.

ولقد كانت له وهو رئيس لتحرير الجريدة الرسمية يد عاملة في حركة الأفكار، ولم يكن ممن يدعون إلى الإصلاح من طريق الثورة عندما هبت أعاصير الثورة العرابية، ولما أن رآها قائمة لنصرة أغراض هي مبادئه ومبادئ أستاذه اتصل بها، وألقى في نارها حطبا، وقد حوكم مع زعمائها، وحكم عليه بالنفي ثلاث سنين وثلاثة أشهر، فسافر رحمه الله إلى سورية في حدود سنة 1299ه/1883م وأقام فيها سنة، وسافر إلى أوروبا على موعد بينه وبين أستاذه وصديقه السيد جمال الدين، فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس، وهناك أصدرا معا جريدة «العروة الوثقى» التي كان السيد الأفغاني مدير سياستها والشيخ محمد عبده محررها الأول.

وكانا ألفا جمعية من مسلمي الهند ومصر والمغرب وسورية، غرضها السعي في جمع كلمة المسلمين، وإيقاظهم من رقادهم، وإعلامهم بالأخطاء المحدقة بهم وإرشادهم إلى طريق مقاومتها، إلا أنه في آخر سنة 1301ه/1884م احتجبت الجريدة بعد ثمانية أشهر لقيت فيها كل مصادرة في الهند ومصر، وأخفق حلم السيد جمال الدين الأفغاني بإنشاء دولة إسلامية تنهض بالشرق نهوضا يزاحم الغرب بالمناكب ويحد من عدوانه.

ثم سافر الأستاذ إلى تونس فأقام فيها أياما، وسافر إلى بلاد أخرى متنكرا لتوثيق عقود العروة الوثقى السرية، وألقى عصا السير بعد ذلك إلى بيروت، فأقبل عليه أهل العلم والفضل من جميع الملل والطوائف، وكانت داره مدرسة يؤمها الأذكياء وعشاق المعارف والآداب، وقد وصلته روابط ود بمحيي الدين بك حمادة فتزوج بنت أخي هذا الصديق بعد وفاة زوجته الأولى.

وفي أوائل سنة 1303ه/1885م دعي للتدريس في المدرسة السلطانية لإحياء اللغة والدين فيها، وكان يشتغل مع التدريس بالتأليف والكتابة، وقد ألف «رسالة التوحيد» هناك، ونقل إلى العربية رسالة «الرد على الدهريين» التي كتبها السيد جمال الدين باللغة الفارسية، وشرح كتاب «نهج البلاغة» و«مقامات بديع الزمان الهمذاني».

وعاد الأستاذ في سنة 1306ه/1888م من منفاه، ولكن الخديو توفيق خشي أن يربي له تلاميذ على أفكاره ومنازعه، فلم يرض بتعيينه معلما كما كان يشتهي، بل عينه قاضيا بمحكمة بنها الأهلية، ومنها انتقل إلى محكمة الزقازيق فمحكمة عابدين.

وفي سنة 1308ه/1890م عين مستشارا بمحكمة الاستئناف الأهلية، وفي سنة 1312ه/1894م جعلته الحكومة المصرية عضوا في مجلس إدارة الأزهر، وهو أول مجلس أسس بسعيه ليكون رسول الإصلاح.

ولست بقين من المحرم سنة 1317ه/3 يونيه 1899م عين مفتيا للديار المصرية، وفي هذه السنة عينها جعلته الحكومة عضوا في مجلس شورى القوانين.

كان عند الأستاذ ميل إلى تعلم لغة أجنبية، فلم تدع له الحوادث متسعا، لكن تعلم لغة أجنبية كان أمنية من أمانيه لم تزل تعالجها همته الكبيرة حتى بلغتها، تعلم اللغة الفرنسية بعد أن عاد إلى مصر واشتغل بالقضاء ، وهو ابن أربع وأربعين سنة، وأحكمها قراءة وكتابة وحديثا، كما ذكره أكثر من ترجموا له، وكان رحمه الله يقول: «من لم يعرف لغة من لغات العلم الأوروبية فلا يعد عالما في هذا العصر.»

وقد سافر إلى أوروبا عدة مرات، واستفاد من سياحاته ومن مطالعاته لكتب الغربيين في الفنون المختلفة، وظهر أثر ذلك في أفكاره وكتاباته ودعواته الإصلاحية.

أقام الأستاذ في القضاء الأهلي حوالي عشر سنين، ظهرت فيها كمالاته الأخلاقية والعلمية، وانصرف في أثنائها إلى درس اللغة الفرنسية والمطالعة والقيام بأعباء منصبه، وتلك كانت مدة تجمع لوثبة الإصلاح التي بدأت يوم دخوله مجلس إدارة الأزهر فتعيينه مفتيا للديار المصرية.

في ذلك العهد أزهر نشاط الأستاذ في الإصلاح الديني والعلمي والاجتماعي، ووصل الشيخ محمد عبده كما يقول قاسم بك أمين في تأبينه: «إلى مقام الإمام بأوسع معناه، مقام مكنه من أن يمسك بيده زمام أمة، ويحركها نحو الخطة التي رسمها، ويسوقها في طريق المستقبل الذي هيأه لها.»

وظل الأستاذ الإمام يجاهد في سبيل الإصلاح والرقي، غير منهزم أمام جمود الجامدين، وظلم الظالمين، وكيد الكائدين، حتى ذهب إلى ربه يوم 8 جمادى الأولى سنة 1323ه/11 يوليه سنة 1905م رحمه الله تعالى.

وقد كتب الشيخ محمد عبده بقلمه في ترجمته لنفسه، ملخصا سيرته وأعماله بقوله: «ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على هذا الوجه يعد صديقا للعلم باعثا على البحث في أسرار الكون، داعيا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبا بالتعويل عليها في آداب النفس وإصلاح العمل، وكل هذا أعده أمرا واحدا، وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم.

وأما الأمر الثاني: فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، سواء كان ذلك في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشأ أو مترجما من لغات أخرى، أو في المراسلات بين الناس، وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة العرب.

وهناك أمر آخر، كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه؛ وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت ممن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنا.

دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه ولا يقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول والفعل.

جهرنا بهذا القول، والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس عبيد له وأي عبيد.

نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع، غير أني كنت روح الدعوة، وهي لا تزال في كثير مما ذكرت قائمة.

ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة فقد تركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره؛ لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن، والله المستعان.»

وقد نعته أكثر الصحف العربية والإفرنجية وأفاضت القول في رثائه، واحتفل بتشييع جنازته رسميا في الإسكندرية والقاهرة، واشترك فيها ألوف من مختلف الطوائف والهيئات.

وفي اليوم الأربعين لوفاته أقيم حفل كبير لتأبينه تحدث عنه فيه الأساتذة حسن عاصم «باشا»، والشيخ أحمد أبو خطوة، وحسن عبد الرازق «باشا »، وقاسم أمين «بك»، وألقى العالم الأديب حفني ناصف «بك» قصيدة عصماء، كما ألقى شاعر النيل حافظ إبراهيم «بك» قصيدة رثاء أخرى استعيدت أبياتها مرات، ونذكرها فيما يلي:

سلام على الإسلام بعد محمد

سلام على أيامه النضرات

على الدين والدنيا، على العلم والحجى

على البر والتقوى، على الحسنات

لقد كنت أخشى عادي الموت قبله

فأصبحت أخشى أن تطول حياتي

فوا لهفي والقبر بيني وبينه

على نظرة من تلكم النظرات

وقفت عليه حاسر الرأس خاشعا

كأني حيال القبر في عرفات

لقد جهلوا قدر الإمام فأنزلوا

تجاليده في موحش بفلاة

ولو أضرحوا بالمسجدين لأنزلوا

بخير بقاع الأرض خير رفات

تباركت، هذا الدين دين محمد

أيترك في الدنيا بغير حماة

تباركت، هذا عالم الشرق قد قضى

ولانت قناة الدين للغمزات

زرعت لنا زرعا فأخرج شطأه

وبنت ولما نجتن الثمرات

فواها له ألا يصيب موفقا

يشارفه والأرض غير موات

مددنا إلى الأعلام بعدك راحنا

فردت إلى أعطافنا صفرات

وجالت بنا تبغي سواك عيوننا

فعدن وآثرن العمى شرقات

وآذوك في ذات الإله وأنكروا

مكانك حتى سودوا الصفحات

رأيت الأذى في جانب الله لذة

ورحت ولم تهمم له بشكاة

لقد كنت فيهم كوكبا في غياهب

ومعرفة في أنفس نكرات

أبنت لنا التنزيل حكما وحكمة

وفرقت بين النور والظلمات

ووفقت بين الدين والعلم والحجى

فأطلعت نورا في ثلاث جهات

وقفت لهانوتو ورينان وقفة

أمدك فيها الروح بالنفحات

وخفت مقام الله في كل موقف

فخافك أهل الشك والنزعات

وكم لك في إغفاءة الفجر يقظة

نفضت عليها لذة الهجعات

ووليت شطر البيت وجهك خاليا

تناجي إله البيت في الخلوات

وكم ليلة عاندت في جوفها الكرى

ونبهت فيها صادق العزمات

وأرصدت للباغي على دين أحمد

شباة يراع ساحر النفثات

إذا مس حد الطرس فاض جبينه

بأسطار نور باهر اللمعات

كأن قرار الكهرباء بشقه

يريك سناه أيسر اللمسات

فيا سنة مرت بأعواد نعشه

لأنت علينا أشأم السنوات

حطمت لنا سيفا وعطلت منبرا

وأذويت روضا ناضر الزهرات

وأطفأت نبراسا وأشعلت أنفسا

على جمرات الحزن منطويات

رأى في لياليك المنجم ما رأى

فأنذرنا بالويل والعثرات

ونبأه علم النجوم بحادث

تبيت له الأبراج مضطربات

رمى السرطان الليث والليث خادر

ورب ضعيف نافذ الرميات

فأودى به ختلا فمال إلى الثرى

ومالت له الأجرام منحرفات

وشاعت تعازي الشهب باللمح بينها

عن النير الهادي إلى الفلوات

مشى نعشه يختال عجبا بربه

ويخطر بين اللمس والقبلات

تكاد الدموع الجاريات تقله

وتدفعه الأنفاس مستعرات

بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة

وضاقت عيون الكون بالعبرات

ففي الهند محزون وفي الصين جازع

وفي مصر باك دائم الحسرات

وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب

وفي تونس ما شئت من زفرات

بكى عالم الإسلام عالم عصره

سراج الدياجي هادم الشبهات

ملاذ عياييل ثمال أرامل

غياث ذوي عدم إمام هداة

فلا تنصبوا للناس تمثال عبده

وإن كان ذكرى عبرة وثبات

فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا

إلى نور هذا الوجه بالسجدات

فيا ويح للشورى إذا جد جدها

وطاشت بها الآراء مشتجرات

ويا ويح للفتيا إذا قيل من لها

ويا ويح للخيرات والصدقات

بكين على فرد وإن بكاءنا

على أنفس لله منقطعات

تعهدها فضل الإمام وحاطها

بإحسانه والدهر غير موات •••

فيا منزلا في عين شمس أظلني

وأرغم حسادي وغم عداتي

دعائمه التقوى وآساسه الهدى

وفيه الأيادي موضع اللبنات

عليك سلام الله ما لك موحشا

عبوس المعاني مقفر العرصات

لقد كنت مقصود الجوانب آهلا

تطوف بك الآمال مبتهلات

مثابة أرزاق ومهبط حكمة

ومطلع أنوار وكنز عظات

أحمد أبو خطوة

1268ه-1324ه

يتصل نسبه بالإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجده السابع أبو خطوة مدفون في «مطوبس»، وجده الحادي عشر محمد أبو خطوة أول من نزل من الأسرة في بلدة كفر ربيع بمركز تلا في المنوفية، وقد هاجر إليها بعد موت أبيه سالم المدفون بالحدين بالبحيرة، ومن أجداده: السيد عبد الرحيم القنائي صاحب الضريح المشهور بقنا.

وقد ولد الشيخ أحمد أبو خطوة في 20 ذي القعدة سنة 1268ه ببلدة كفر ربيع، ونشأ بها فحفظ القرآن وبعض المتون، ثم سافر للقاهرة لطلب العلم بالأزهر في 16 شوال سنة 1281ه، واشتغل فيه بقراءة الفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.

ومن شيوخه الشيخ محمد البسيوني البيباني، والشيخ أحمد الرفاعي الفيومي، والشيخ عبد الرحمن البحراوي، والشيخ عبد الله الدرستاوي، والشيخ حسن الطويل.

وكان أكثر تحصيله للعلوم العقلية على الشيخ حسن الطويل، ولازم صحبته، وتخلق بأخلاقه، وتلقى عنه في داره العلوم الحكمية والرياضية وكثيرا من كتبها، مثل: «شرح الهداية» للمبيدي، و«الطوالع»، وأكثر «المقاصد والمواقف»، و«إشارات ابن سينا» بالشروح لنصير الدين الطوسي والإمام الرازي، و«المحاكمات»، وبعض كتاب «النجاة» لابن سينا، و«أشكال التأسيس» بشروحها في الهندسة، و«تحرير إقليدس»، وفي الهيئة: «شرح الجغميني»، وتذكرة «نصير الدين الطوسي»، وفي الحساب: خلاصة بهاء الدين العاملي بشرح البورصاوي، و«المعونة»، وشرح ابن الهائم، وغيرها، وفي المنطق: «القطب» بحواشيه، و«المطالع»، و«الخبيصي»، و«إيساغوجي»، وغيرها.

وامتحن للعالمية والتدريس في 18 صفر سنة 1293، وكان مجلس الامتحان مكونا من الشيخ عبد الرحمن البحراوي والشيخ عبد القادر الرافعي الحنفيين، والشيخ أحمد شرف الدين المرصفي والشيخ زين المرصفي الشافعيين، والشيخ أحمد الرفاعي والشيخ أحمد الجيزاوي المالكيين، برياسة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد المهدي العباسي، فلما امتحنوه أعجبوا به إعجابا شديدا لجودة تحصيله وشدة ذكائه فأجازوه، إلا أنه أخر التدريس لاشتغاله بتتميم ما كان يقرؤه على الشيخ حسن الطويل، ثم ابتدأ في القراءة بالأزهر سنة 1296ه فقرأ به الكتب المتداولة به وغيرها، وتخرج عليه جمع من الأفاضل، منهم: الشيخ محمد شاكر، والشيخ محمد حسنين العدوي، والشيخ محمد بخاتي، والشيخ سعيد الموجي، والشيخ محمد الغريني، والشيخ مصطفى سلطان.

ثم جعل مفتيا لديوان الأوقاف فكانت له اليد الطولى في إصلاحه، وعاون من به على تحسين أموره بجودة عقله وحسن رأيه، وحسبك أنه دخله وإيراده مائة وعشرون ألف دينار وخرج منه وإيراده يربو على مائتي ألف دينار، ثم نقل عضوا في المحكمة الشرعية الكبرى بالقاهرة، ورأس المجلس العلمي للنظر والفصل في القضايا الكبرى، ثم انتدب للمحكمة العليا بعد ذلك فكانت له اليد الطولى في إصلاحها، ومنع شهادات الزور، وإصلاح حال المحامين، وكانت وفاته في شوال سنة 1324ه عليه رحمة الله.

أحمد مفتاح

1274-1329ه

هو العالم الشاعر الناثر الشيخ أحمد بن مفتاح بن هارون بن أبي النعاس، ينتهي نسبه إلى عمار - بضم العين المهملة وتخفيف الميم - أحد العرب النازلين من الصفراء إلى أرض مصر حوالي القرن العاشر، وبين أبي النعاس وعمار جدان أو ثلاثة.

ولما ورد عمار «مصر» قطن بإقليم منية ابن الخصيب

1

في صعيد مصر، وقام بين عرب تلك الجهة منازعة أدت إلى مقاتلة كان جد المترجم أبو النعاس له اليد الطولى فيها. ويقال: إنه حضر بعض الوقائع بدون سلاح، ولقوته أمسك جحشا صغيرا من رجليه وضرب به حتى مات الجحش.

وقطن هارون الجد الأدنى للمترجم في بلدة على الشاطئ الغربي للنيل بإقليم المنية تابعة لبني مزار، أنشأها حسن بن عبد العزيز أحد أجداد المترجم من جهة والدته، وهي بلدة صغيرة اشتهرت بين العامة باسم بني عجيز محرفا عن أبي عزيز، يعنون به حسن بن عبد العزيز مؤسسها على عادتهم في تكنية الرجل باسم أبيه، وما زال هارون المذكور بها حتى ولد له مفتاح أبو المترجم سنة 1229ه، وكان في هذه البلدة رجل اسمه علي أبو محمد من أقارب والدة المترجم جعلته الحكومة شيخ المشايخ، وهو لقب كان يطلق إذ ذاك على من يحكم عدة بلاد، وكان جائرا في معاملته، فاعتدى على أناس من أهل البلد بالضرب حتى أشرفوا على الهلاك، فاضطر بعض أهلها إلى الشكوى للمدير مستعينين بعلي أفندي الشريعي والد حسن باشا الشريعي، وبعد اللتيا والتي ساعدوهم على الانفصال فانفصلوا واختطوا بلدة أخرى شمالي أبي عزيز سنة 1264ه سموها نزلة عمرو، وانتقل إليها هارون بولده أبي المترجم وابتنى بها دارا كبيرة، وبقي بها حتى مات بعد أن أسن، وكان سديد الرأي يرجع إليه في المشكلات.

ثم سكن هذه البلدة بعده ولده مفتاح وتزوج بها، وأعقب جميع أولاده، وحج سنة 1304ه فأرخ حجه ولده المترجم بقوله:

حج مفتاح أبي معتمرا 1304.

ومات سنة 1308ه، وكان طويلا، خفيف اللحية، وقد وخطها الشيب، وكان اشتغاله بالزراعة دون غيرها، ويتحرى الحلال في كسبه، ويقول الحق ولو على نفسه، وتعلم القراءة والكتابة في الكبر ولم يجدهما.

ولما وصل نعيه إلى ولده المترجم بالقاهرة رثاه على البديهة بقوله:

قضى والدي بالرغم مني وليتني

سبقت لأمر ساورتني غوائله

لقد عاش دهرا لم يشبه بريبة

حياة سخي فاض بالقوم نائله

وقام بعبء الدين والفضل صادقا

وما المرء إلا دينه وفضائله

عليه سلام كلما غاب كوكب

وسالت من الجفن القريح هوامله

وكانت ولادة المترجم ليلة السبت الرابع من شعبان سنة 1274ه، ونشأ بالبلدة المذكورة في حياطة والده، وابتدأ القراءة على الشيخ جاد المولى، فقرأ عليه القرآن وبعض المتون، ومكث بعدها نحو ثلاث سنوات، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1289ه لطلب العلم بالجامع الأزهر، وتلقى عن شيوخ وقته، فقرأ النحو: على الشيخ محمد الشعبوني المغربي، والشيخ عرفة سالم السفطي، والشيخ عبد الله الفيومي، والشيخ محمد البحيري، والشيخ سالم البولاقي، والشيخ محمد الإنبابي، والفقه الحنفي: على الشيخ عبد الرحمن السويسي، والشيخ صالح قرقوش. وحضر بعض دروس الأستاذ الكبير الشيخ محمد العباسي المهدي شيخ الجامع الأزهر ومفتي مصر إذ ذاك، والبيان: على الشيخ عرفة، والشيخ علي الجنائني، والشيخ محمد البحيري، وآداب البحث: على الشيخ محمد البحيري المذكور، والمنطق: على الشيخ محمد عبده، والشيخ أحمد أبو خطوة، والشيخ سالم البولاقي، والشيخ محمد البحيري، والعروض: على الشيخ محمد موسى البجيرمي.

وفي أثناء مجاورته كان مسافرا من بلدته إلى القاهرة في سفينة كبيرة أيام زيادة النيل، ونزل يغتسل على سكان السفينة مع جماعة، فانحدر مع الماء في وسط النيل، وتبعه أحد المغتسلين لإنجاده، فما زال سابحا حتى كلت سواعده وكاد يغرق، ثم نجا، وخرج على الشاطئ الغربي للنيل، وأرسل له من بالسفينة زورقا وصل به إليها ، وسافر مرة من القاهرة عائدا إلى بلدته في سفينة، فتشاحن مع ربانها تشاحنا أدى إلى إخراجه منها، فخرج إلى بلدة يقال لها الرقة بإقليم بني سويف، لا يملك شروى نقير سوى كتاب مخطوط رهنه في أجرة القطار إلى بلدته، وله نوادر كثيرة أمثال ذلك من المشي على القدمين مسافات بعيدة، والمبيت على الطوى في كل غدوة وروحة بين القاهرة وبلدته.

وبعد أن قضى سبع سنوات بالأزهر مجدا في طلب العلم ومباحثة الشيوخ، عاد إلى بلدته ومكث بها نحو سنتين مشتغلا بحفظ الشعر ونظمه، ولم يكن له بالأزهر كبير عناية به لانصرافه إلى تحصيل العلوم.

ثم حضر إلى القاهرة، ودخل مدرسة دار العلوم سنة 1298ه فأعاد بها معظم العلوم العربية مع الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون المشهور بالمقدمة على الشيخ حسين المرصفي، ثم خلفه في تدريس اللغة العربية شيخنا الشيخ حسن الطويل، فتلقى عنه بعض المثل السائر، ورسالة ابن زيدون الهجوية، والزوراء للجلال الدواني في الحكمة، وانتفع به كثيرا، وقال فيه وفي الأستاذ المرصفي:

دار العلوم شكت فراق أبي الهدى

المرصفي الحبر أوحد ذا الزمن

فأجبتها حسن المعارف بعده

لا تجزعي إن الحسين أخو الحسن

وتلقى التفسير والحديث بالمدرسة عن الشيخ أحمد شرف الدين المرصفي، والفقه الحنفي عن الشيخ حسونة النواوي، والعلوم الطبيعية والرياضية على أساتذة آخرين بالمدرسة، ثم خرج منها بعد أن نال الشهادة الدالة على براعته سنة 1302ه، فقال بعد مفارقته المدرسة مضمنا:

دار العلوم نثرت نظم أحبة

كانوا بدورا في سماء علاك

حتى بلي عهدي بهم وتغيروا

يا دار غيرك البلى ومحاك

واشتغل بعد خروجه من المدرسة بالكتابة في صحف الأخبار كالأعلام والقاهرة، وبالتدريس لبعض أناس منهم السيد توفيق البكري.

ولما اتصل به حسن له خلع العمامة والجبة وإبدالهما بالملابس الأفرنكية والطربوش، ثم فارقه واستخدم كاتبا بمحكمة بني سويف الأهلية نحو عشرة أشهر، ثم امتحن للدخول بمدرسة دار العلوم مدرسا للإنشاء، فحاز قصب السبق وعاد للعمامة والجبة، وأقام بها تسع سنين انتفع فيها الطلبة، وتخرج عليه كثيرون ممن يحسنون الكتابة الآن.

2

ثم نقلوه بعد ذلك مدرسا للنحو بالمدارس الابتدائية في الأقاليم، فحطوا من درجته، إلا أنهم أبقوا له مرتبه، وكان أخيرا بمدرسة بني سويف، ومرض بها فأحيل على المعاش، واختار السكنى بالقاهرة، وابتغى مكانا يعتزل فيه الخلق ويشتغل بالمطالعة وإتمام بعض تآليفه، فاختار مصر الجديدة واكترى

3

بها دارا صغيرة، أقام فيها بمفرده مع خادم مسن كان يقضي به حاجاته من السوق ويقوم بتنظيف المكان.

وكان الشيخ مريضا بمرض يعرف عند الأطباء بتصلب الشرايين، وهو لا يعلم بأمره ولا يهتم بنفسه، حتى اشتد عليه أخيرا وهو يظنه ضيفا مرتحلا، ثم تركه الخادم وعاد لبلده، فبقي وحيدا بالدار حتى أدركه أجله المحتوم فجأة والأبواب مغلقة عليه، وبقي أياما لا يعلم به أحد، حتى ظهرت رائحته للجيران، فأخبروا رجال الشرطة، فحضروا وكسروا الأقفال فألفوه مائلا في سريره وجزء من كتاب الأغاني ملقى بجانبه، وكان ذلك يوم الأحد 28 من المحرم سنة 1229ه، وقرر الطبيب أنه مضى على وفاته ثلاثة عشر يوما، فنقلوه ودفنوه، تغمده الله برحمته.

ولم يكن اشتغاله بالعلوم على السواء، بل كان جل اعتنائه بمتن اللغة والشعر والنثر، فحفظ من اللغة مقدارا وافيا من الغريب وغيره، وكلف بتصحيح شرح القاموس عند ضبطه برمته في المرة الثانية، وكان اشتغاله بالشعر في الأزهر قليلا كما قدمنا، ولم يبرع فيه إلا عند دخوله دار العلوم طالبا، وقد أرخ أول إجادته فيه بقوله:

أقول الشعر عن فكر سليم 1298.

ونظم بعد ذلك القصائد المتينة، والمقطعات السمينة، وكان ينهج فيها منهج العرب لكثرة نظره في دواوينها، واقتناء الكثير منها استنساخا أو نسخا بيده، ولو تم له الخيال الشعري كما تمت له الديباجة وجزالة الألفاظ لكان أشعر أهل زمانه بلا منازع.

ولما عاد الأمير محمود سامي «باشا» أشعر شعراء العصر من منفاه بسيلان، وكان بعيد العهد بشعراء مصر، واطلع على إنتاج الشعراء المصريين في ذلك العهد، لم يعجبه إلا شعر المترجم في رصانة البناء وسلامة التركيب، وقد ترك من التآليف: «رفع اللثام عن أسماء الضرغام» جمع فيه ما ينيف على خمسمائة اسم للأسد، طبع بمصر، و«مفتاح الأفكار في النثر المختار» جمع فيه مختار النثر من رسائل وخطب في الجاهلية إلى هذا العصر،

4

وهو كتاب جليل الفائدة، طبع بمصر أيضا، و«مفتاح الأفكار في الشعر المختار»، جمع به مختار الشعر من الجاهلية إلى عصرنا هذا،

5

لم يطبع ولم نطلع عليه، وله «ديوان حماسة» من شعر العرب استدرك به على أبي تمام ما فاته، و«مفتاح الإنشاء» لم يكمله، وأخذ في أواخر أيامه في جمع شعره ونثره وترتبيه في ديوان، ولا أدري ما فعل الدهر به.

وكان رحمه الله غريب الأطوار، سريع الغضب، سريع الرضا، مع صفاء الباطن، له شذوذ في أخلاقه يتحمله من عرفه وعاشره، أسمر اللون، أسود اللحية والشاربين كبيرهما، أميل إلى الطول، له هزة وتخطر في مشيه لمرض كان أصابه في ظهره ورجليه.

ولما انتقل إلى مدارس الأقاليم صار يحضر إلى القاهرة في فترات، فينزل عندنا،

6

ويجتمع به إخوانه وأصدقاؤه في ليال كنا نحييها بالمطارحات الأدبية وإنشاد الأشعار.

ومات ولم يعقب غير بنتين زوجهما في حياته. ومن شعره قوله يرثي صديقه محمد بك بيرم ابن الشيخ بيرم التونسي ويعزي أخويه:

لقد مات في سن الثلاثين بيرم

فإن كان قول فالرثاء المقدم

مضى سابقا سبق الجواد إلى المدى

ولا يدرك الغايات إلا المطهم

فتى كان مثل السيف يفري قرابه

ويعجب منه الناظر المتوسم

فتى كان في حاليه للمجد كاسبا

كباد يرود العشب أو يتجرثم

فتى كان مثل الليث طلاع أنجد

وكالفحل يحمي شوله وهو مقرم

فما بال هذا الفحل تقدع أنفه

ولم ذل ذاك الضيغم المتأجم

وقد كان يرعى عهده وجواره

فلا العهد منقوض ولا الجار مسلم

وقد كان مأوى لليتامى يظلهم

إذا السنة الشهباء ظلت تجهم

وكان ذوو الحاجات منه بنجوة

إذا ساقهم سيل من الذل مفعم

وما كان مجزاعا إذا الخطب عضه

ولا وكلا يغشاه ما ليس يعلم

ولكن أخو جأش وحزم كلاهما

أبر من السيف الجراز وأحكم

وما الطود ممنوع الذرى هضباته

أنفن فلم يفرع ذراهن أعصم

بنت فوقه الأسد الضواري على الطوى

زبى يتقيها الصاعد المتجشم

بأثبت ركنا منه يوم عظيمة

وأوفر حلما والظنون ترجم

تسنم في عقباه متني وظيفة

هي القطر يتلوه من الغيث مسجم

وسلم تسليم البشاشة جاعلا

قصارى المطايا أن يقيم المسلم

فما كان إلا أن أناخ ببابه

من البين ركب لا يريم مخيم

فودع توديع امرئ غير راجع

سجيس الليالي أو يئوب المثلم

ليبك عليه ضارع طوحت به

يد الدهر واستهوته دهياء صيلم

يذكرنيه الخير والشر دائبا

إذا زاغ ظلام وصاح مظلم

وتعتادني ذكراه للضيف كلما

طغت برمة أو مرجل يتهزم

فقدناه فقد الروض ماء غمامة

على ظمأ والقلب حران أهيم

فهل عهده العهد الذي هو راجع

ألا إنما عهد المنايا مصرم

وهل حلمه يوم القيامة حلمه

إذا خف رضوى واستحال يلملم

رمته شعوب فاتقاها بصدره

وسهم المنايا في المقاتل محكم

فلم يغن عنه فكره وهو صارم

ولا ذاد عنه عرفه وهو عيلم

عفاء على تلك الحياة فإنها

تفاريق نهب بين قوم يقسم

فلو كان رد الموت يسطاع لانبرت

كماة لها قرع الظنابيب مغنم

إذا الشر أبدى ناجذيه حسبتهم

أسود شرى أظفارها لا تقلم

ولكنه الموت الزؤام إذا عدا

تداعت لمأتاه زبيد وخثعم

متى يرم أشلاء العشيرة أغمضت

حذام ولم يغن النطاسي حذيم

وليت المنايا أخطأته وصادفت

عدى يبتغون الشر إما تيمموا

لهم سيرة في السوء شتى فعالها

ومن ذا يعاني السوء إلا المذمم

وعما قليل يزجر الدهر طيرهم

فيغدو سنيحا وهو بالموت أشأم

ويطوون طي الثوب أخلفه البلى

على غرة، والدهر عرس ومأتم

فيا راكب السوداء في البحر ترتمي

على صفحات الماء والبحر خضرم

تمر كما مرت نعاج تعسفت

رمال الفلا واليوم ضحيان يبسم

تسير فلا تلوي على ابن طريقة

وترسو كما ذاق الغرار المهوم

إذا أنت ألقيت الرحال بتونس

لدى معشر في بهرة الحي خيموا

لهم أول في السابقين وهضبة

من العز شماء الذرى لا تسنم

هنالك فانزل عزهم بمحمد

وقل له دمع يراق معندم

وقل غاب من ترجون فضل إيابه

فليس لشيء آخر الدهر يقدم

هنالك تلقى الخيل حطت سروجها

وخر لمنعاه البناء المهندم

وتلفى عذارى الحي شقت جيوبها

عليه ودقت بينها العطر منشم

وكنتم ثلاثا فرق الدهر بينكم

كأنكم اسم في النداء مرخم

نعم إن ذاك السر ما زال فيكما

ولا عجب فالحرف في الحرف مدغم

خذا بيد الصبر الجميل فإنه

هو السيف لا ينبو ولا يتثلم

ولا تحفلا للحزن يغشى فإنما

رسوم الأسى قفر لمن يتردم

ودوما على الأيام عنوان راحل

طوته النوى طي الكتاب فيختم

محمد أكمل

1280-1343ه

هو محمد أكمل بن عبد الغني بك فكري ابن لطف الله بن حسين الشاعر الأديب الظريف، ولد بالقاهرة ونشأ بها، واعتنى والده بتعليمه وتهذيبه، ثم أدخله في مدة الخديو إسماعيل الديوان الخديوي للتعلم كتلميذ، وكان من كبار كتاب هذا الديوان، فجود الخط به وألم باللغة التركية، وكان له حدبة بظهره شوهت خلقه، ورأى والده ألا مطمع في استخدامه بمنصب لائق لحدبته وقصر قامته فاستحسن له طلب العلم بالأزهر. وكان يرجو أن يكون من كبار العلماء، فلازم الطلب به، وقرأ النحو والعلوم العربية على الشيخ أحمد المنصوري، والشيخ محمد البجيرمي، وكان أحدب مثله، وكثيرا ما كان يقعده بجواره في حلقة الدرس، ثم انقطع عن الطلب ولازم والده، وكان والده جماعة للكتب مغاليا في اقتنائها شراء واستنساخا، ينفق عليها جل ما يصل ليده، ويحيي الليالي في مقابلة ما يستنسخه منها وتصحيحه وضبطه، فكان المترجم يعاونه في ذلك، واطلع بهذا السبب على كثير من الكتب العلمية والأدبية والدواوين الشعرية، عاشر من كان يجتمع بوالده من العلماء والأدباء وتردد عليهم واستفاد منهم، وعرف مدة طلبه بالأزهر كثيرا من أدبائه وشعرائه المجيدين: كالشيخ عبد الرحمن قراعة، والشيخ أحمد مفتاح، وحفني «بك» ناصف، وغيرهم، فاستفاد منهم أيضا، ونظم الشعر والزجل وأدوار الغناء، واشتهر بحسن المحاضرة وملاحة التندير وسرعة الجواب وخفة الروح. وكان كثيرا ما يجعل محور تنديره دائرا على حدبته فيأتي بما يضحك الثكلى، بل كان لا يأنف من ذكرها في شعره، كقوله من زجل في الوباء الذي حل بمصر سنة 1320ه وما فعله الأطباء من الهجوم على الدور وترويع ربات الخدور:

شاعر وناثر زجال عال

فن الأدب فيده

1

لعبه

لطيف زكي وفهمه سيال

ورقته من الله وهبه

مخلص لإخوانه وميال

نادرة زمانه وله حدبه

مافيهش عيب ظاهر معروف

قصير ولكن فيه أقصر

واللي يعيش ياما بيشوف

واللي بيمشي يشوف أكتر

ومن ولوعه بحدبته شرع في جمع كتاب في نوادر الحدبان وما قيل فيهم من الأشعار وتراجم مشهوريهم، أخبرني أنه جمع منه جزءا إلا أنه لم يتمه.

ونقل والده مدة محمد توفيق الخديو من الديوان إلى المحاكم الأهلية قاضيا، وتوفي يوم الثلاثاء 29 المحرم سنة 1307ه وخلف له ولإخوته ضيعة بالصعيد، أصاب المترجم منها 60 (ستون) فدانا باعها وبدد ثمنها بالإسراف، حتى احتاج للاستخدام بديوان الأوقاف بمرتب قليل دون الكفاف، وعاش في ضيق ومضض بعد ما تعوده من السعة والرفاهية، وأخذ يتقرب للخديو بنظم التواريخ في كل عيد واحتفال، وحل وترحال، وينشرها في صحف الأخبار رجاء أن تبلغه فيأخذ بيده، فلم يستفد شيئا وراح تغزله في الريح، وكان قصر شعره في أواخر عمره على هذه التواريخ فنظم منها الغث والسمين، وكنا إذا قرب عيد أو سفر أو قدوم للخديو لا ننتفع به لاشتغاله بالنظم والحساب وإعمال الروية، فيصير هذا ديدنه في غدوه ورواحه وقيامه وقعوده، حتى يمن الله عليه بشيء يرتضيه.

وترك له والده غير الضيعة دارا بسوق الزلط بيعت أيضا، وترك خزانة كتب كبيرة قل أن تضارعها خزانة في نفائس الكتب ونوادر الأسفار، وهي التي أفنى عمره وماله في جمعها وأتعب نفسه في تصحيحها وضبطها وصبغ الورق وصقله لنسخ ما كان يستنسخه منها، فوق ما كان يتكلفه من السعي في البحث عنها في الخزائن المهجورة وعند الوراقين، واتخذ له في داره مصنعا للتجليد واستخدم عدة نساخ أجرى عليهم المرتبات فاختصوا بالنسخ له لا يشتغلون لسواه. وكان هو وعبد الحميد «بك» نافع من أدباء القرن الثالث عشر يتباريان في ذلك ويتسابقان، أخبرني المترجم عن والده أنه بلغه أن تاجرا من الوراقين قدم من سفر بكتب أوصاه عبد الحميد «بك» نافع بجلبها له وبينها ديوان البحتري، وكان إذ ذاك لم يطبع بل لا يعرف في مصر إلا باسمه، فأسرع إليه وبذل له مالا فوق قيمة الديوان على أن يعيره له يوما وليلة فقط يطالع فيه، فرضي وأعاره إياه، فلما أتى به لداره أعطاه لمجلده ففك له تجليده وأحضر في الحال عدة نساخ فرقه عليهم كراريس فنسخوه وقابلوه، ولم يمض اليوم والليلة إلا وقد ردت النسخة الأصلية لصاحبها مجلدة كما كانت، ثم قابله بعد ذلك عبد الحميد «بك» وأخذ يفاخره بوجود الديوان عنده واختصاصه به، فقال له: خفض عليك يا أخي هذا شيء أكلنا عليه وشربنا حتى مججناه، ثم أخرج له نسخة الديوان من الخزانة.

وبلغه مرة وهو يسمر مع بعض أصحابه أن بعضهم رأى عند فلان الوراق رسالة من الرسائل، وكان هو يتطلبها من زمن وينشدها فلا يجدها، فلم يسعه إلا أن قام في الحال وأخذ يسأل عن دار الوراق من هنا وهناك، حتى اهتدى إليها بعدما مضى هزيع من الليل، فأيقظه من نومه وساومه في الرسالة بقيمة فوق قيمتها، ولم يمهله للصباح، بل أنزله من الدار وذهب معه إلى حانوته ففتحه ليلا وأخرجها له، ولم يهدأ له بال حتى باتت الرسالة عنده.

فلما مات عرض المترجم كتبه للبيع فبيعت وتفرقت، واقتنى نفائسها ونوادرها الكونت لندبرج قنصل السويد بمصر وكان من مستعربي الإفرنج المولعين بجمع الكتب العربية، وأدركت أنا

2

أواخرها فاقتنيت منها بضعة عشر كتابا، منها ما هو بخط عبد الغني «بك» نفسه وبحواشيها آثار التصحيح واختلاف النسخ التي كان يقابلها بها.

وكان أول التقائي بالمترجم في دار ابن أختي محمود توفيق «بك»، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رحال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيرا في أول الطلب، وقد تعذر علي فهم باب أفعل التفضيل وأجهدت نفسي في درسين متواليين على تفهمه فلم يفتح علي بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت علي فهمه، فكان بعد ذلك كثيرا ما يقول لي ممازحا: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني.

ثم تأهل ببنت حنفي «بك»، وكان لأسرتها نوع اتصال بنا، فاتصلت المودة بيني وبينه بهذا السبب، وازدادت ملازمته لي لما سكن بجوارنا، فكان يزورني عصر كل يوم ويبقى حتى نسمر معا ثم ينصرف، فتارة كنا نحيي الليالي بمسامرات أدبية ومذاكرات علمية أو بمطالعة بعض الكتب، وتارة بمقابلة ما كنت أستنسخه وتصحيحه، وكان لا يمل من المقابلة مهما يطل الوقت فيها ويقول: هذا شيء دربني عليه والدي وعودني إياه من الصغر.

وأشار علي مرة أستاذنا العلامة محمد محمود الشنقيطي أن أطالع «أمالي أبي علي القالي» مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، وأخبرت المترجم أنني سأحتجب عن الناس بضعة أيام حتى أستوفي ما بهذه الكراريس، فغاب عني ثلاثة أيام، ثم حضر ومعه هذا الزجل ينحي فيه على الأستاذ وعلى أبي علي القالي اللذين تسببا في انقطاعي عن الإخوان، ويذكر فيه بعض من كان يجتمع بنا:

المذهب

مشتاق قوي ليدي السحنه

دي مودتك حيطي ميطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور

يا سيد احمد يا تيمور

ياللي مانعنا من أنسك

هو ودادك من بنور

حتى كسرته من نفسك

أهديك سلام يشحن وابور

يقطع محطات على حسك

هو الكتاب ده م الجنه

ولا كلام المجريطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور

بكره يجينا الشيخ مفتاح

يحلى السهر في القماري

نفضل ندردش للإصباح

والشيخ بروحه موش داري

عبيط خفيف عالم فلاح

بجوز شوارب هواري

أوقات كده يبقى زنه

وآوقات تشوفه رهريطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور

إذا مشى تلقاه يجري

راخي تملي كيعانه

م الكهربا تشوفه دغري

رمح وطرطق إودانه

وإذا اشترى حاجه يوري

جميع ما جابه لإخوانه

وتبقى زيطه لها رنه

وأحوال معيشته رطريطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور

عبد الملك راجل زنديق

وابنه صبح منه مخلول

والبابى لاخر بالتحقيق

جاهل ثقيل دينه محلول

ومذهبه مذهب تلفيق

كله خراف من غير معقول

لا فرض عنده ولا سنه

ده دين إباحي شليطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور

أما القدوري بنياته

أفغاني لكن يتدحدح

غريب ف شكله وصفاته

نادر ف بابه متلحلح

يدي ملامح للورنه

أو الزغاليل الغيطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور

أما الدميري القلعاوي

تيس تركي أبيض وبلحيه

وابو فصاده الشناوي

أعرج ملوي كالحيه

بدقن بيضا حلفاوي

وزعيق يبطل على ميه

غبي وسخ كالشيخ منه

فكره قذاره مخيطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور

أهل الأدب ماتوا بحسره

م اللي شفوه في دي الأيام

الناس بقت بينهم نفره

والمسلمين صارت أخصام

وكل يوم تلقى نشره

تملا قلوب الناس أوهام

بيقفشو لهم على لحنه

بالوهم عايشين سلبيطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور الاستغفار

يا رب أنا مذنب عاصي

محتاج لعفوك والغفران

من العذاب أرجو خلاصي

ودخولي في جنة عدنان

أنا نحيف موش جعاصي

مليش تجلد ع النيران

عفو الكريم أعظم منه

على عبيده الحفليطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

دور الختام

يا أهل الأدب راجي منكم

غض العيون عن زلاتي

فن الزجل يروى عنكم

أما أنا موش أدباتي

الله يخلي أفضالكم

وانول سعودي لمماتي

وأبقى كيده ف طنه وشنه

وافرح وترقع زغاريطي

أبو علي كان لك محنه

الله يجازي الشنقيطي

وإنما يظهر حسن هذا الزجل لمن يعرف المذكورين فيه فيطبق ما ذكره عنهم على هيئاتهم وأحوالهم، ومراده بالقدوري والدميري شخصان كان يلقبهما بهذين اللقبين، والسبب في ذلك أنني أطلعته على رسالة عندي جمعها الشيخ أحمد الفحماوي صاحب الخط الحسن المشهور بكتابة لزوم ما لا يلزم للمعري، وسماها «بنات أفكار وعرائس أبكار» في ألقاب أهل العصر، ذكر بها كنى وألقابا وضعها لفضلاء أواخر القرن الثالث عشر عبد الحميد بك نافع وإبراهيم أفندي طاهر الشاعر الرقيق المشهور على سبيل المزاح والدعابة، فلقبا كل واحد بلقب شاعر متقدم أو رجل مشهور يوافق اسمه هيئة الملقب به أو شيئا يغلب على أخلاقه وأحواله، كتلقيبهما مصطفى أفندي المنعوت بكامل بالعكوك لأنه كان قصيرا جدا معوج القدمين، وتلقيبهما الشيخ محمد الرافعي الكبير شيخ رواق الشاميين بالأزهر وأحد كبار علمائه بملا مسكين لأنه كان نحيفا وبقوامه بعض احديداب يرى كأنه تواضع وانكسار، وتلقيبهما عبد الغني «بك» أبا المترجم بالأخطل؛ لأنه كان ضخم الجسم كبير الهامة.

فلما اطلع المترجم عليها جن بها جنونا، وشرع في وضع رسالة تماثلها في فضلاء عصره، وسألني مشاركته فيها كما فعل ذانك الأديبان، فامتنعت خشية اللوم، فانفرد هو بتأليفها، وأتى فيها بغرائب ذهب أغلبها عن الذهن لطول العهد، فمن ذلك تلقيبه للعالم الفاضل علي رفاعة «باشا» ابن رفاعة «بك» المشهور: بابن المقفع لنحافته ودخول شدقيه، وتلقيبه للعالم الفاضل يحيى أفندي الأفغاني: بالقدوري لغرابة شكله وقصر ساقيه تشبيها له بالقدر من الفخار، والقدوري اسم عالم من الحنفية مشهور، وكان الشيخ محمد الحفني المهدي ابن أخي مفتي مصر الشيخ العباسي المهدي ولعا بذم الناس، منقبا عن معايبهم، لهجا بها في المجالس، لم يسلم منه أحد حتى عمه، واشتهر بذلك حتى أبغضه عارفوه وتحاموا عن الاجتماع به، فلقبه: بابن هرمة، وهي كلمة سب عند العامة، فقلت له: هذا لا يستقيم لك؛ لأن ابن هرمة الشاعر بفتح أوله، فتأفف وقال: لا أجد له لقبا ينطبق عليه غير هذا، فدعني من شنقيطيتك.

ثم لما فرغ منها سألته عما لقب به نفسه، ففكر وقال: أحسن لقب ينزل علي: ابن قتيبة، ثم تركه وتلقب بالمقوقس، وضاعت هذه الرسالة فيما ضاع من أوراقه وأشعاره، ويغلب على الظن أنه مزقها لأنه وقع له بسببها نفور بينه وبين بعض من لقبهم، فإنه لما لقب صاحبنا وصاحبه الشيخ أحمد مفتاح لسلامة طويته: بالأبله البغدادي، غضب منه وكاد يتفاقم الشر بينهما، وغضب منه صاحب آخر كان قصيرا ممتلئا يتدحدح في مشيته كما يتدحدح البط؛ لأنه لقبه بابن بطوطة، فأخفى الرسالة لهذا السبب وطوى ذكرها.

وكان رحمه الله مجيدا في الزجل، متقنا لصياغة الأدوار التي يتغنى بها، وأكثر ما كان متداولا منها بين المغنين في عصره كان من نظمه، وأما شعره فالإجادة فيه قليلة، إلا ما ضمنه النكت والتنديرات العامية، فمن أحسن ما وقفت عليه منه قوله من مرثية في صاحبه علي رفاعة «باشا»:

جزعت وللحر أن يجزعا

وودعت صبري إذ ودعا

وجادت عيوني على بخلها

وحق لها اليوم أن تدمعا

وروع قلبي النوى بعدما

أمنت ومثلي كم روعا

لحا الله يوما أشاعوا به

وقالوا أمير العلا شيعا

فما كان أصعب تأبينه

وما كان أسوأه موقعا

وما كان حقي البكاء ولكن

فزعت ولا بدع أن أفزعا

تجرعت من هوله كل صاب

وغيري من الناس كم جرعا

وما دار في خلدي أنني

أرى البدر يرضى الثرى مضجعا

ولكن شأن الزمان عجيب

فما كان أضيع عهدا رعى

يقول النعيي: علي قضى

ولم يدر أن العلا قد نعى

نعى سيدا صيته طائر

حوى الفضل في شخصه أجمعا

فدكت رواسي الدنى بعده

وماد الزمان بما أودعا

وغابت شموس المعارف لما

ذوى غصنه بعدما أينعا

فقل للخطابة: ذوبي أسى

ولا تطلبي بعده مصقعا

وقل للكتابة: لا تحفلي

بمن يتبجح في المدعى

وقل للعلوم: فقدت أميرا

مضى تاركا فضله مشرعا

وقال موريا باسم الطبيب سعد «بك» سامح:

يا سعد ما لك معرضا

عني وقلبي فيك طامح

إني أتيتك قائلا

أنا تائب يا سعد سامح

وقال موريا باسم محمد ثابت:

إن كنت في ريب بصدق محبتي

وسمعت عني ما تقول شامت

فاعلم فديتك دائما أني على

عهد المحبة يا محمد ثابت

ولما مرضت شقيقتي السيدة عائشة التيمورية وأحست بدنو الأجل، نظمت في مرضها أبياتا لتكتب على قبرها، وتركت مصراع التاريخ لمن ينظمه بعدها، وهي:

قد كنت عائشة فنوديت ارجعي

للقبر مأوى كل حي فان

فأتيت صفر الكف عن مرضاته

ومقرة بالعجز والعصيان

جردت من ثوب الهدى لكن لي

تاجا من الإسلام والإيمان

ونزلته مستشفعا بمحمد

وتوسلي عفوا من الرحمن

أصبحت ممن زار لحدي راجيا

خير الدعا وتلاوة القرآن

لكم البقا إخوان ديني أرخوا

قبر لعائشة سما بجنان

فنظم المترجم التاريخ بقوله: [قبر لعائشة سما بجنان = 302-811-101-106].

1320

وله عجائب مما ذهب عن الذهن الآن، ولكثرة ممارسته للتواريخ الشعرية كان يأتي فيها أحيانا بغرائب في إبراز المقصود بدون حشو، كقوله في تاريخ ولادة ولده عبد الغني: «عبد الغني بن أكمل.»

ولم يشتهر ولده عبد الغني «بك» بعلم، بل كان بارعا في الكتابة التركية والعربية فقط، وكان يقرض الشعر أحيانا، فمن ذلك قوله هاجيا الشيخ مصطفى قشيشة، مدعيا أنه لم يرد إليه كتبا استعارها منه، وكان الرجل من الفضلاء، وكانت له زريبة لتربية البقر يتكسب منها ببيع اللبن، فقال فيه:

شيخ سوء بفعله المنكور

أنسى معنا بحلمه المشهور

عامل الناس بازدياد دهاء

زاد في الوقع نغمة الطنبور

واستمال البسيط من لم يطالع

من خداع القصير في المسطور

أشعل الذهن في اللآمة حتى

أورث الصهر أسوأ المقدور

قل ما يلحظ الصحيح بعين

غير خلط المنظوم بالمنثور

صار دهرا بصحبتي مستفيدا

وفر مال من كنزي الموفور

واقتداء بحبك الشيء يعمي

كان ما صار من خطا المشعور

وتمادى الضلال بضع سنين

نال منها ما ليس بالمحصور

واحتدام الخصام نكران كتب

شذ فيها عن نهجها المبرور

وانثنى الآن منكرا مستغيثا

كافرا نعمتي لدى الجمهور

جعل الله عسره مستديما

وثواه الإله في التنور

وقال فيه أيضا:

تشرب الخمر للتداوي احتيالا

لا شفى الله منك للجسم عله

دمت في منقع الزريبة روثا

بك يشتم في الخياشيم جله

والجلة عند العامة هي روث البقر، ولا يخفى ما في القصيدة من الضرورات، كقوله: «أنسى» ولا يستقيم الوزن إلا بحذف الياء، وقوله: وتمادى الضلال، فعداه وهو لازم، وغير ذلك.

فلما اطلع الشيخ مصطفى على القصيدة والبيتين طلب من صديقنا الشيخ أحمد مفتاح أن يجيبه على لسانه، فنظم قصيدة وبيتين من البحر والقافية في 24 ذي الحجة سنة 1304، فقال:

لهوى النفس في اقتحام الأمور

حكمة تستفز لب الخبير

كل داء يبرا ولو بعد حين

غير داء الهوى وداء الغرور

قف قليلا وأمعن الفكر فيما

أظهرته الغيوب كل الظهور

ظن بعض الرعاع والظن إثم

يورد النفس أسوأ المقدور

أن سيفي لدى الهجاء كهام

وقناتي تلين في كف زور

فتعامى ومج من فيه روثا

وقبيح بالمرء خبث الضمير

يشير بهذا البيت إلى قول عبد الغني بك: دمت في منقع الخ ...

عشت معه على الضغائن سرا

لا أرى منه غير نذل فخور

فانتقى لي بعد انتقالي سطورا

هو أولى بلفظها المهجور

ظنها الشعر ضلة ليس يدري

أن دون القريض خوض البحور

إن «عبد الغني» عبد جهول

ليس يدري قبيله من دبير

فيه ما شئت قله غير ميال

من ضلال وخدعة وفجور

عرفته الإخوان بالخفض حتى

ميزته بالخفض والتنكير

فاتقوه وأخبث الناس طرا

رجل تتقيه خوف الشرور

ورماني زورا بنكران كتب

وبكسبي من وفره الموفور

أي وفر أفاد أم أي كتب

تبتغى من لدن لئيم حقير

حمل الكتب لا لعلم ولكن

لترى الناس أنه كالحمير

وانتمى للثقات في العلم حتى

أوهم الناس أنه ابن كثير

يا عديم الذمام في كل أمر

وقليل الرجاء للمستجير

هاك مني عديمة المثل أنحت

بمساو على عديم النظير

وقال:

إن عبد الغني عبد فقير

لم ير الناس في السفاهة مثله

جمع الدهر فيه ضدين حتى

أبرزته العيون للخلق مثله

رحم الله الجميع وتغمدهم بعفوه وغفرانه.

محمد الإدريسي

1293-1364ه

هو الإمام السيد محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن إدريس، ولد في صبيا سنة 1293ه وتلقى العلوم الدينية بمسجد جده بها، ثم أتى مصر سنة 1314ه وأخذ العلوم الدينية والعربية في الأزهر الشريف، وكان أيام تحصيله مكبا على الاجتهاد، مواظبا على الحضور في حلقات التدريس لدى مشاهير العلماء.

وفي سنة 1317ه زار السيد محمد الهدى السنوسي بالكفرة عن طريق الجغبوب، ثم عاد إلى الأزهر الشريف فبقي إلى أواخر سنة 1321ه.

وبعد إتمام التحصيل، توجه إلى دنقله، وزار قبر عمه سيدي السيد عبد العال الإدريسي، وبقي هناك مدة، ثم عاد إلى صبيا، ووصل إليها سنة 1323ه الموافقة سنة 1905م، فوجد كثيرا من أتباعه وأتباع أبيه وجده متعطشين لطريق يبينه لهم ويسلكونه، فشرع يبين لهم ما هو الأصلح لدينهم ودنياهم، وأرشدهم الإرشاد الذي يستنيرون به، وصار يمهد لهم طرق العدالة والوقوف على حد أحكام الشرع الشريف.

وكان جميع الذين حوله وبعض البعيدين عنه والسامعون بحسن سيرته وعظيم مجده يقصدون إليه للتلقي عنه والسير على طريقته المحمودة، ولم يلبث قليلا حتى وجد أتباعا وأنصارا يقولون بقوله، ويعملون بعمله، ويسلكون محامد سيره، ومحاسن أمره، وهنالك قام الأمير الخطير سيدي السيد محمد بن علي الإدريسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب ما كان عليه آباؤه وأجداده الطيبون الكرام، فصار حينئذ لدعوته وقع عظيم في نفوس أهالي تلك الأنحاء، وهو لا يحيد عن الشرع الشريف قيد شعرة، وبينما كان على هذه الحالة التي استحسنها منه كل من شاهد أعماله وسمع بها، إذ ظهر أناس يناقشونه في أعماله الحسنة حسدا أو من باب جهل حقيقة حاله، ولا يخفى على أحد أن من سلك مثل هذا الطريق لا بد أن يكون له من يعارضه، فكانت نتيجة تلك المعارضة وقوع التنافس المؤدي إلى حروب نشأت في الحقيقة عن سوء التفاهم.

ولما رأى الأمير وأنصاره حرج الموقف، التزموا طرق المدافعة المطلوبة شرعا.

ولما كتب له التفوق بكثرة الأتباع ومزيد المحبة والسير الحكيم حفظ المركز الذي وفقه الله إليه، وفي تلك الأيام وقعت الهدنة، وأمرت الحكومة العثمانية بسحب جيوشها من عسير وتهامة اليمن وتسليم جميع المهمات الحربية إلى الأمير السيد محمد بن علي الإدريسي، وبمقتضى الأمر سلم القواد كل ذلك إليه، وخرجوا وهم شاكرون فضله، مقدرون حسن إنعامه ومكانته الدينية.

وبعد ذلك مال جميع أهالي عسير وتهامة اليمن إليه، وأصبح بعد ذلك قائما بتدبير شئونهم ولم شعثهم والمحافظة عليهم، وسعى السعي الحثيث لتأمين الطرق، حتى أصبح الإنسان يسافر في أي جهة شاء بكمال الطمأنينة ولا يتعرض له أحد في أثناء الطريق، وضرب على أيدي المجرمين والساعين للفساد، حتى استتب الأمن كما ينبغي سنة 1341ه.

وهو - على جلالة علمه وعظيم قدره وفخامة مكانته - متواضع زاهد، متمسك بالتقوى.

وقد درج منذ نشأته على حب العلم والأدب وأهلهما، وكره الظلم والاستبداد، وأعطاه الله من شدة الذكاء، وكرم الخلال، وعزة النفس، والغيرة على الدين والوطن، بقدر حسن سيرته، ونقاء سريرته، وحبه للناس، وبخاصة الصالحون.

ولقد كان والده سيدي السيد علي الإدريسي صالحا تقيا محبوبا، وأقام بصبيا بعد وفاة والده السيد محمد الإدريسي الذي كان معدودا من أكابر الأولياء، وتوفي بصبيا سنة 1324ه، وقد صدق فيهم قول القائل:

إن لله رجالا فطنا

طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

وكان من صفوة العلماء الذين يشار إليهم بالبنان في مجالس العلم والتدريس، ولم يزل متعبدا حتى إنه بعد وفاة والده انتقل من صبيا إلى الحديدة، وهي أكبر مواني اليمن، وأقام في خلوته الخاصة أربعين سنة لم يخرج منها، ثم أمر أن يحمل إلى صبيا، فمكث فيها أربعة أيام، وتوفي إلى رحمة الله ورضوانه، ودفن بجوار والده سيدي السيد أحمد بن إدريس.

أما أبو جده فهو سيدي السيد أحمد بن إدريس الحسني نسبا، من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله من السادة الإدريسية ملوك المغرب، وقد ذكر من تراجمهم في «الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى» ما يغني المطلع عليه.

ولد رضي الله عنه ببلدة «ميسور» بالقرب من مدينة فاس سنة 1171ه، وقبيلته «العرايش»، واشتغل من أول عمره بتحصيل العلوم الدينية إلى أن برع فيها، وصار في شبابه إماما في جميع العلوم، وأذن له في التدريس، وحضر درسه أكابر علماء ذلك العهد.

ثم توجه رضي الله عنه سنة 1213ه إلى بلاد المشرق قاصدا مكة المشرفة بطريق مصر، ووصل إلى مكة سنة 1214ه، ومكث بها نحوا من ثلاثين عاما ذهب في خلالها مرة إلى الصعيد.

وفي عام 1244ه توجه إلى اليمن ومكث مدة بمدينة زبير وغيرها، ثم أقام بمدينة صبيا ومكث فيها نحوا من تسع سنين، وتوفي بها إلى رحمة الله ورضوانه عام 1253ه وله بها مقام شريف يزار من جميع أنحاء اليمن وغيرها.

وكان رضي الله عنه جامعا بين فنون العلوم الدينية، وله اليد الطولى فيها والشهرة التامة، وأذعن لفضله الخاص والعام، وأخذ عنه العلماء الأعلام والجهابذة الكرام، ومنهم: مفتي الأنام، وشيخ الإسلام، العلامة المحقق، والمحدث البارع المدقق، سيدي السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل مفتي زبيد في ذلك العصر، وعلامة وقته من الفحول، الجامع بين علمي المعقول والمنقول، سيدي السيد محمد بن علي السنوسي الحسني شيخ الطريقة السنوسية المدفون بالخغبوب من أعمال طرابلس الغرب، ومنهم: العلامة الإمام العارف بالله تعالى مربي المريدين، الشريف الحسيني سيدي السيد محمد عثمان الميرغني شيخ الطريقة الميرغنية المدفون بمكة المكرمة، ومنهم: العارف بالله تعالى صاحب الكرامات سيدي الشيخ إبراهيم الرشيدي شيخ طريقة الرشيدية الأحمدية المدفون بمكة المشرفة.

ومنهم: العارف بالله تعالى الشيخ محمد المجذوب السواكني من أولياء السودان المدفون بها.

ومنهم: المحدث شيخ علماء وقته بالمدينة المنورة الشيخ محمد عابد السندي صاحب الثبت في الأسانيد.

وكان للسيد أحمد بن إدريس رضي الله عنه غير من ذكر من الخلفاء والأتباع ما لا يدخل تحت حصر.

وبهذا يعلم جيدا طيب العنصر الباهر، وما لآبائه وأجداده من الفخر والفضل الظاهر، ولا شك أنه إذا طاب أصل المرء طابت فروعه، ولا غرو فقد جمع الله لسيدي الأمير السيد محمد بن علي الإدريسي أمير عسير وتهامة اليمن بين سعادتي الدنيا والآخرة.

عبد الحميد نافع

هو عبد الحميد نافع «بك».

كان والده خليل أفندي من كبار الأثرياء بالقاهرة، وكان له قصر كبير في شبرا تحيط به حديقة فيحاء كبيرة.

وقد نشأ المترجم له في القاهرة، وشغف وهو فتى بالأدب، وأكثر من الاجتماع بشيوخه، وتلقى منهم الكثير المفيد، وحبب إليه اقتناء نفائس الكتب والمغالاة بها، فجمع خزانة عظيمة منها شراء واستنساخا، وكان يعتمد على الشيخ نصر الهوريني في مقابلتها وتصحيحها، وكانت له مع المغالين بالكتب من فضلاء عصره نوادر وغرائب في التسابق لاقتنائها، وسمع به الوراقون فحملوها إليه من الآفاق، وهو يسخو عليهم ولا يماكس في الأثمان، حتى صارت خزانة كتبه يضرب بها المثل، وكان يجاريه في ذلك عبد الغني فكري «بك»، ولا يكاد يلحقه مع اشتهاره بالمغالاة بها، ثم اشتغل المترجم بالموسيقى، وألف فيها رسالة، وأتقن العزف على القانون، وأكثر من المطالعة في كتب الأدب ودواوين الشعر ومن مطارحة الأدباء ومناظرتهم، حتى صارت له ملكة أدبية يعتد بها، وصارت داره مجتمع الفضلاء وشيوخ الوقت وأدبائه، فكانوا يجتمعون عنده في الغالب كل ليلة جمعة فيجري بينهم من المطارحات الشعرية والمناظرات العلمية ما ينشرح له الخاطر.

وائتلف المترجم بصاحبه وصديقه إبراهيم أفندي طاهر أحد الشعراء المجيدين، فعاشا أليفي وفاء ونديمي صفاء، حتى فرق الموت بينهما، وقد قام بهما أن يلقبا من كان يجتمع بهما من الفضلاء بألقاب قديمة لأعيان وشعراء مشهورين مع مراعاة مطابقة اللقب لهيئة الملقب به أو أخلاقه، وقد جمع في ذلك الشيخ أحمد الفحماوي رسالة كبيرة كثيرة الطرف.

وللمترجم من المؤلفات عدا رسالة الموسيقى: «تاريخ أعيان القرن الثالث عشر وبعض الثاني عشر» بيع لما بيعت كتبه، وهو موجود الآن في «ليدن» بهولندة، كما جمع المترجم ديوان صاحبه صفوت أفندي الساعاتي مختصرا.

ولم يطل به العمر إذ مات شابا في مدة حكم سعيد، وبعد وفاته استولى محمد عارف «باشا» زوج أخته على كتبه، فكانت له مادة ثمينة في الكتب التي طبعها بجمعية المعارف، ثم تشتتت وبيعت.

أحمد خيري

كان أحمد خيري باشا جركسي الأصل، إلا أنه لم يكن رقيقا، بل حضر مع والده من بلاده لمصر لتلقي العلم، فنزلا في زاوية بأول عطفة عبد الله من جهة سوق السلاح وكان بها نفر من مجاوري الأتراك، وواظب على الطلب بالأزهر، فقرأ على الشيوخ، وساعده ذكاؤه على التحصيل، حتى صار مقرئا للشيخ المنصوري الحنفي الضرير، ثم حضر المطول على الشيخ العلامة إبراهيم السقاء لما قرأه أول مرة، وكان ممن يحضر معه الشيخ محمد الإنبابي الشهير وإخوانه، فكان الشيخ كلما مرت بهم كلمة فارسية في المطول سأل المترجم عن معناها فيفسرها، وكان زيه إذ ذاك زي أهل العلم من الأتراك: الجبة والقفطان، إلا أنه كان يعتم بشقة من الحرير الملون المسماة بالكوفية، ثم اتصل بأولاد أحمد باشا يكن ابن أخت محمد علي باشا، وهما منصور وداود، فجعل معلما لهما، ومن هناك اتصل بحاشية والي مصر عباس باشا، فجعل في آخر مدته كاتبا بديوانه، فغير زيه وصار من الأفندية، ولما تولى سعيد باشا عرف فضله وقدره فجعله معلما لولده طوسون باشا، وأخذ بعد ذلك في الترقي.

وفي ولاية إسماعيل باشا جعل من كبار كتاب المعية إلخ. وكان وقورا كثير السكوت لا ينطق العوراء، انتقد مرة مكاتبة كتبها بالتركية محمد عارف باشا الشهير رئيس جمعية المعارف التي طبعت الكتب بمصر، ثم اجتمع به في بعض المجالس، فأخذ عارف باشا يقرعه ويسبه من غير ذكر اسمه، بل قال: بلغني أن أحد من تخرج من إصطبل الأزهر انتقد كتابتي، ثم أخذ في سبه وبالغ، والمترجم ساكت لا يتكلم.

فلما افترقا لامه بعض أصحابه على السكوت مع أن التعريض كاد يكون تصريحا، فقال: رجل سفيه رأيت مداراته والإغضاء عنه أولى به.

وما زال أحمد خيري باشا في مدة إسماعيل الخديو في منصبه «مكتوبجي»، أي كاتب السر الخاص، ثم ترقى إلى أن صار مهردارا، وبعد الاحتلال نقل من المهردار إلى رياسة الديوان.

ولم يخل من قول بعض أدعياء الانتقاد: إنه لما تولى المناصب الكبيرة أخذه شيء من أبهتها، حتى قيل إنه إذا أراد أن يشير بالسلام على أحد لا يرفع يده إلا قليلا، وهذه حالة ليست ذات أهمية أمام ما سبق ذكره من مداراته وإغضائه عمن تعرض له بالسب وبالغ فيه، رحمه الله.

إبراهيم باشا

جاء كبيرا مع والده من بلده، وأمه هي أم طوسون وإسماعيل وزهرة وناظلة، وكانت أشرف بيتا من بيت محمد علي، وتزوجت قبله بأحد أبناء الكبار ثم نشزت منه فطلقها وغضب أهلها وأقسموا ألا يزوجوها إلا بشخص منحط عن مرتبتها فتزوجها محمد علي، ومن يريد الطعن في نسب إبراهيم يقول إنها تزوجت محمد علي وهي حامل من زوجها الأول فولدت إبراهيم على فراشه فهو ليس بولده. وهو قول لم يثبت، وبسبب شرف بيتها كانت تتعاظم على محمد علي وهو يحتمل لها، حتى لما قتل ولدها إسماعيل بالسودان وبلغها الخبر ، دخلت على محمد علي ورمت طربوشه من رأسه، وأخذت بلحيته وهي تبكي وتصرخ وتقول: من أحل لك الرمي بأولادي إلى تلك المجاهل وقتلهم؟ وهو لا يزيد على البكاء ويقول لها: أمر الله، أمر الله، ولما ماتت قال: الآن صرت والي مصر؛ لأنها كانت تتحكم فيه وفي أموره.

وكان إبراهيم باشا معتلا في أواخر مدة والده، وكان يسكن بقصر القبة، فذهب والده مرة لزيارته هناك ومعه سليم

1

أغا السلحدار، فقال له في أثناء الطريق: لقد طال اعتلال إبراهيم فلا هو في حال يرجى معها ولا يموت فيستريح ويريحنا، فأبلغها السلحدار لإبراهيم.

فلما قابل والده مرة أخرى فاتحه في ذلك، وقال: ما هو ثقلي عليكم حتى تتمنوا موتي؟!

فامتعض محمد علي وصار يحلف له أن مبلغه كذاب، ولم يزل إبراهيم معتلا حتى لما تولى وذهب لاستنبول كانوا يرون في القارورة التي يتفل بها بصاقه معرقا بالدم، ولما تولى انتقل إلى القلعة وسكن بها، وأحضروا له جندا من الحرس كالعادة، فقال: لا حاجة لي بالحرس، فقد شهدت عدة حروب

2

ولم يكن لي حرس، ومات بالقلعة، ونزلوا بجنازته ودفنوه في مقبرتهم التي بجوار الإمام الشافعي، وكان عندهم بين معلمي القصر العالي رجل فارسي اسمه سنجلاخ خطاط مشهور، فناطوا به كتابة الكتابات على تربته، واعتنوا بها كثيرا، فيقال إنها كلفتهم نحو ثلاثين ألف دينار، ولما تممت أعطاه أولاده الثلاثة، أحمد رفعت وإسماعيل ومصطفى، كل واحد مائة كيس كالجائزة، فلم ترضه وسافر لبلاده فمات بها.

أعلام الشام

رقم مسلسل

أسماء الأعلام

التاريخ

1

محمد صنع الله الخالدي

1140-1205ه

2

كمال الدين الغزي

1148-1213ه

3

محمد العطار

1177-1243ه

4

موسى الخالدي

1181-1247ه

5

عبد الرحمن الكزبري الثاني

1184-1264ه

6

أحمد الحجار الحلبي

1190-1270ه

7

مصطفى الخالدي

1202-1260ه

8

مصطفى المغربي التهامي

1205-1280ه

9

محمد التميمي المغربي

1222-1286ه

10

أحمد الحلواني

1228-1307ه

11

محمود الحمزاوي

1236-1305ه

12

أحمد عبد الغني عابدين

1238-1307ه

13

محمد علاء الدين عابدين

1244-1306ه

14

أحمد الفحماوي

1246-1309ه

15

حسين عودة

1252-1332ه

16

محمد المبارك الحسني الجزائري

1263-1330ه

17

محمد بدر الدين

1267-1344ه

18

طاهر الجزائري

1268-1338ه

19

سليم الآمدي البخاري

1268-1347ه

20

محمد أبو الخير عابدين

1269-1343ه

21

حسن المدور البيروتي

1279-1342ه

محمد صنع الله الخالدي

1140-1205ه

وقفت له على ترجمة بخط الأديب المعروف خليل الخالدي، قال:

هو أحد أجلاء شيوخ المتأخرين الجامع أطراف الكمال، والرجل الذي يعد بكثير من الرجال، العالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، الرحالة المجتهد، شيخ الإسلام الشيخ محمد صنع الله الخالدي، ابن المحقق العلامة الشيخ محمد صنع الله الكبير ابن خليل ابن القاضي شرف الدين الديري الخالدي.

ولد في السنة الموفية الأربعين ومائة وألف بعد وفاة أبيه؛ فلذلك سمي باسم أبيه، كان رحمه الله عالما عاملا، ورعا زاهدا تقيا نقيا، بارعا في العلوم خصوصا الفقه والعربية، أخذ وتلقى عن صفوة من أعلام الأزهريين، وأجازه كثير من أجلاء المصنفين، وقد حضر في مبدأ أمره على العلامة الشيخ محمد بن علي المقري الحنفي الأزهري: شرح الآجرومية للشيخ خالد، والأزهرية، ومراقي الفلاح، والملتقى، والدر، وشرح بدء الأمالي، والأربعين النووية.

وحضر على العالم الشيخ مصطفى الأسقاطي: شرح الكنز لمنلا مسكين، وحاشية الكنز لخاتمة المحققين الشيخ أحمد الأسقاطي، وأخذ عن علامة المعقول والمنقول الشيخ علي العدوي الصعيدي المالكي: شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، وشرح السنوسي في المنطق، وغير ذلك، وسمع الأربعين النووية، وشرح الرجبية، وقطعة من «الإتقان في أحكام القرآن» على الشيخ محمد أبي زيد الشهرزتي الأزهري، وأخذ وتلقى: التوضيح لابن هشام، وألفية ابن مالك، وجوهرة اللقاني، وإيساغوجي، على العلامة علي بن خضر بن أحمد العروسي أحد أصحاب الشيخ أحمد النفرواي تلميذ العلامة محمد الخرشي الآخذ عن الشيخ عبد الباقي الزرقاني، وقرأ على العلامة الشيخ محمد المصيلحي: شرح جمع الجوامع للمحلي، وشرح التلخيص للتفتازاني، وشرح التهذيب له أيضا، وشرح قواعد الإعراب للشيخ خالد، والأربعين للنووي، ونبذة من الشمائل، ومتن السمرقندية، ومتن البردة، وغير ذلك.

وسمع على العالم العلامة الشيخ حسن بن نور الدين علي المقدسي: الكنز وشروحه المعتبرة، والدرر والغرر مع الحواشي.

وحضر على المحقق العلامة الشيخ أحمد بن يونس الخليفي الشافعي الأزهري: مختصر السعد للتفتازاني، وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك، وعصام الدين في البيان، وشرح الرسالة العضدية، وشرح المحلي على جمع الجوامع، وشرح الخبيصي على التهذيب، وشرح القطب على الشمسية.

وحضر على العلامة الأجل المجتهد الشيخ عيسى البراوي: الشرح المختصر للسعد التفتازاني، وشرح السنوسية، وشرح العلامة ابن عقيل على ألفية ابن مالك مرات، وشرح الأشموني، وشرح الفاكهي على القطر، وشرح الاستعارات للعصام، وشرحها للشيخ أحمد الملوي، وشرح الحديث، وغير ذلك.

وقرأ على العلامة المدقق الشيخ أحمد الدمنهوري شرحه على متن الاستعارات للسمرقندي، وشرحه على السلم في علم المنطق، ومتن «الكبرى» المسماة بتحفة الملوك، و«الصغرى» المسماة بدرة التوحيد في علم الكلام، وبعض كتب النحو.

وقرأ على المحقق العلامة الشيخ أحمد الجوهري الخالدي الأزهري: شرح المصنف للسنوسي، وشرح الجوهرة للشيخ عبد السلام مرتين، وقطعة من شرح الشيخ عبد السلام على الجزرية، ومتن الأربعين النووية وشرحها لابن حجر، وقطعة من شمائل الترمذي، وقطعة من متن الشفاء.

كما تلقى عن علماء آخرين كثيرين، منهم: العلامة حسن بن علي المدابغي الأزهري، والعلامة الشيخ سليمان الزيات الشافعي الأزهري، والعلامة الشيخ سليمان المنصوري الحنفي، والمدقق الشيخ محمد الفارسي الفارسكوري الأزهري، وقد أجازه العلامة الشيخ عبد الله الشبراوي، والعلامة الشهاب أحمد بن عبد الفتاح الملوي، والعلامة عمر بن علي الطحلاوي المالكي الأزهري، والعلامة المحقق محمد سالم الحفناوي وأخوه يوسف الحفناوي.

وأجازه من أقرانه العلامة محمود ابن الملا علي العاني تلميذ المحقق ملا إلياس الكردي، ومدلج البغدادي، والشيخ محمد الدلجي الحنفي تلميذ الشيخ سليمان المنصوري، والشيخ محمد بن بدير بن محمد المعروف بابن حبيش المقدسي تلميذ الشيخ عيسى البراوي، والشيخ أحمد الراشدي.

وقد حج المترجم سنة 1178ه، وأجازه الشيخ أحمد الدمنهوري وهو في دار منى حينما كان حاجا في تلك السنة بصلاة شريفة نصها كما رأيت بخطه:

اللهم صل على أشرف مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله عدد معلوماتك ...

وتوفي رحمه الله سنة 1205ه، ودفن بتربة: مأمن الله خارج القدس، وترك ثلاثة من الذكور هم: محمد، وموسى، وعمر، وأكبرهم محمد، ولد سنة 1174ه، وتبحر في العلوم، وأجازه والده ومحدث الشام الشيخ محمد بن عبد الرحمن الكزبري، وتوفي سنة 1205ه.

كمال الدين الغزي

1148-1213ه

وقفت له على ترجمة بخط الأستاذ العالم السيد عيسى إسكندر المعلوف، في كتابه «مغاوص الدرر في أدباء القرن التاسع عشر» ملخصة مما جمعه من مخطوطات ومصادر كثيرة، قال:

هو السيد كمال الدين محمد بن أبي الكمال محمد شريف بن شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن زين العابدين بن زكريا بن بدر الدين محمد بن رضي الدين محمد بن رضي الدين محمد أيضا بن شهاب الدين أحمد بن عبد الله الدمشقي العامري الحسني الصديقي الشهير بابن الغزي؛ لأن أجداده كانوا فيها وانتقل بعضهم إلى دمشق كما في كتابي «تاريخ الأسر الشرقية».

ولد في دمشق سنة 1148ه بدارهم شمالي الجامع الأموي الكبير، وتخرج على والده وغيره من علماء عصره مثل: أبي الإقبال السقطي الصالحي، وأبي الأسرار السلمي، وأبي العباس بن حيمور البقاعي، وأبي الحسن علاء الدين الغزي العامري، وأبي الإخلاص المرجاني البقاعي المعروف بالطباخ، وأبي الصفاء بن أويس الحموي الدمشقي الشهير بالعلواني، وأبي الأسرار قطب الدين العبدلاني الكردي، والكمال بن قطب الدين مصطفى البكري، وخال المترجم أبي البركات الأيوبي، وتاج الدين بن إلياس المدني، وعبد الرحمن الكردي الباني.

وهو من بيت علم شريف، فوالده أبو الكمال محمد شريف بن شمس الدين محمد الغزي، وعمه أبو الوفاء وجيه الدين عبد الرحمن، وجدته لأبيه طاهرة خاتون ابنة الشيخ عبد الغني النابلسي.

وكان له ولع بالأدب والتاريخ والتراجم؛ فمن مؤلفاته: «الورد الأنسي والورد القدسي في ترجمة سيدي الشيخ عبد الغني النابلسي»، وهو مجلد ضخم فيه فوائد كثيرة عن ذكر الصالحين وآثار الأولياء، وذكر نسب آل النابلسي وتراجم أسلافه، ثم ترجمته مفصلة وأطواره وأحواله وزهده ومكارم أخلاقه وذكر مشايخه في أنواع العلوم وأصناف الفنون، وذكر طريقة النقشبندية والقادرية بتفصيل كاف، ثم تراجم تلاميذه والآخذين عنه ومريديه والمتصلين به، ثم تآليفه النافعة وتحريراته الجامعة، والمكاتبات والمدائح الواردة عليه، وكراماته وكلماته وحكمه [ونسختي بقطع نصف كبير في 420 صفحة بخط جميل دبجها عبد الكريم الحمزاوي].

1

ومنها تذكرته التي هي آخر التذاكر المفيدة، وتقع في 14 جزءا، وفيها أدب وتاريخ وتراجم وحوادث، وكتابه المفيد «النعت الأكمل» في طبقات الحنابلة، وكتاب «إتحاف ذوي الرسوخ» وهو معجم شيوخه، وديوان شعره، وقد ذكره مرارا في «الورد الأنسي»، ورسالة سماها «لمعة النور بتضمين من عادة الكافور» أكثر فيها من التضمين للمصراع المشهور «من عادة الكافور إمساك الدم».

وله أشعار كثيرة ذكرها «المرادي»، كما جمع كثيرا من دواوين الشعراء كالبهلول والدكدجي.

ولا نعرف من كتبه الباقية الآن سوى «الورد الأنسي»، وبعض أجزاء من «التذكرة»، ولعل بقيتها في مكاتب الخاصة.

ثم كتب إلينا الأستاذ المعلوف أن صاحب الترجمة له بعض المجاميع، وفي بعض أجزاء تذكرته أشعار تركية تدل على إتقانه هذه اللغة، وكانت بينه وبين الشيخ خليل المرادي مفتي دمشق صاحب تاريخ «سلك الدرر» مودة وثيقة العرى ومساجلات ومراسلات، ونقل المرادي كثيرا من شعره.

ثم استطرد قائلا: وممن راسله شعرا الشيخ السيد أحمد البربير الذي جمعت ديوانه بيدي، وهو بليغ نادر مشتت في ثنايا المخطوطات والكنانيش.

وقد كتب على ضريحه في مدفن أسرته الغزية في «تربة الدحداح» تاريخ وفاته سنة 1213ه في بيتين من نظم صديقه السيد عبد الحليم اللوجي، وهما:

أيا سحب الرضا والعفو سحي

على قبر حوى النفس الزكيه

محمد الفتى الغزي أرخ

كمال الدين مفتي الشافعيه [كمال = 91، الدين = 95، مفتي = 530، الشافعيه = 497].

1213ه

وهو يخالف المتعارف من أن وفاته كانت سنة 1214ه، فإما أن الشاعر اضطر إلى تنقيص سنة لما في شطر التاريخ من المحاسبة التي لا يمكن زيادة واحد عليها، وإما أن وفاته في تلك السنة، والله أعلم.

والمترجم لم يعقب، بل إن «بني الغزي» في دمشق هم من سلالة ولدي شقيقه، وقد انقطع العلم فيهم منذ عهده.

محمد العطار

1177ه-1243ه

وقفت له على ترجمة جمعها بخطه الأديب المعروف السيد عيسى إسكندر المعلوف، قال:

توجد ثلاث أسر مشهورة باسم العطار، ولا نسبة بين إحداها والأخرى، وإن اشتركت في صنعة العطارة.

فبنو العطار في مصر أصلهم من المغرب، وبنو العطار في دمشق أصلهم فيما يقال من حماة من بني عسكر، ومنهم أسرة حلبية منها المترجم له،

1

وتوجد أسرة العطار أيضا في اللاذقية ولا تمت إلى أحد من هذه الأسرة بقرابة.

والمترجم هو الشيخ محمد بن حسين الشهير بالعطار وبالمدرس الحنفي، ولد بدمشق في 27 رمضان سنة 1177ه، وأخذ عن والده الشيخ حسين وغيره من العلماء، واشتغل بالعلوم العقلية واشتهر فيها، وظهر ميله إلى مذهب «الوهابية»، فتجافاه الناس واعتكف في داره يقرأ ويؤلف في فنون الحرب والعقليات، فوضع رسائل، وتوفي بالطاعون سنة 1243ه.

وكانت له مكانة رفيعة علمية لاختصاصه بفنون الفلك والحساب وسائر الرياضيات، واتصلت أوراقه بمكتبة آل الشطي في دمشق، وهي اليوم في حوزة صديقي السيد محمد جميل الشطي النائب والإمام الحنبلي في دمشق.

وله ترجمة في كتابه «روض البشر في أعيان القرن التاسع عشر»

2

باختصار، ولاعتزاله الناس لم يدرس عليه إلا قليل من مريديه تلقوا عنه بعض العلوم العقلية، وترك رسائل نفيسة بخطه وخط غيره، أشهرها رسالة «بلوغ المطلوب في القنبرة والطوب»، وله قصيدة موجودة بخطه في المكتبة الشطية.

ومنها: «رسالة المزولة» في ثماني ورقات بخطه، ومنها نسخة بغير خطه في مكتبة الشيخ عبد الرزاق البيطار.

ومنها: «رسالة في القبان» وكيفية عمله بطرق هندسية بديعة، وعندي منها نسخة حديثة الخط.

وبين أوراقه جداول كثيرة منها لسهم القوس وقوس السهم في الربع المجيب، كتب عليها الشيخ محمد الطنطاوي ما نصه: إنه يمكن أن يستخرج منها جيب القوس وقوس الجيب.

ومنها: رسالة في «علم التنجيم» بخطه في عشر صفحات، رحمه الله.

موسى الخالدي

1181-1247ه

هو السيد موسى الخالدي الابن الثاني للعلامة الشيخ محمد صنع الله الخالدي، كان عالما محققا، ومصنفا مدققا، تقلد المناصب العالية؛ كقضاء القدس والمدينة المنورة، وتدرج فيها حتى ارتقى إلى الوزارة العلمية وهي قضاء عسكر أناضولي في عهد السلطان محمود الثاني، وكان يجله ويعتمد عليه حتى لقد أرسله للفصل في حادثة مهمة وقعت بالقرب من أنطاكية سنة 1247ه، فتوفي رحمه الله بأنطاكية مسموما في تلك السنة ودفن بها، وهو جد «يوسف ضيا» «باشا» الخالدي لأمه، وقد ذكر في «تاريخ الوقائع العثمانية الرسمي»، وذكره جودت «باشا» أيضا في تاريخه العثماني عند ذكر تلك الحادثة.

وكان مولده كما وجد بخط أبيه ليلة الثلاثاء بعد المغرب من الليلة الموفية لعشرين من ربيع الأول سنة 1181ه، أخذ العلوم عن كثير من العلماء والأعلام، منهم الشيخ محمد البديري المقدسي، وأجازه والده بجميع مروياته ومسموعاته، كما أجازه في الطريقة الخلوتية والقادرية وبجميع الأحزاب القادرية والخلوتية والشاذلية السيد كمال الدين الصديقي ابن السيد مصطفى البكري وهو سند في الطريقة رفيع، وخليفته الشيخ محمد أبو السعود.

وكان رحمه الله ذا خط حسن، وعقل راجح في الفقه، له فيه رسائل تدل على طول باعه فيه وسيلان قلمه، كما أن له يدا طولى في الفلك والأزياج.

وله في القدس وقف وقفه على أولاده وذريته، ولم يخلف من الذكور سوى ولده السيد مصطفى رحمه الله.

عبد الرحمن الكزبري الثاني1

1184-1264ه

وقفت له على ترجمة كتبها السيد محمد أبو الخير عابدين الذي كان مفتيا للشام، نصها:

هو الشيخ الإمام الدمشقي الأصل والمنشأ الشافعي المذهب، محدث الأقطار الشامية على الإطلاق، بل إمام العصر في جميع الآفاق، الحائز من طارف الرواية وتلادها أعظم الذخائر، المالك لأزمة التحقيق والدراية كابرا عن كابر، بركة الدنيا في زمانه، وخاتمة الحفاظ في أوانه، أستاذ الأساتذة العظام، وشيخ الشيوخ الأعلام، العالم الكبير، والإمام المحدث الشهير، شيخ مشايخنا أبو المحاسن زين الدين الأثري، سيدي الشيخ عبد الرحمن الكزبري، الملقب بوجيه الدين، مدرس الحديث بجامع بني أمية، ابن المرحوم بركة الأنام الإمام المحدث الشهير الأثري الشيخ شمس الدين محمد الكزبري المولود بدمشق سنة 1140ه والمتوفى بها سنة 1221ه، ابن المرحوم الشيخ عبد الرحمن الكزبري الكبير المولود بدمشق سنة 1100ه والمتوفى بها سنة 1185ه، ابن محمد بن زين الدين الكزبري الدمشقي، تغمدهم الله برحمته وغفرانه، وأغدق على ضرائحهم سحائب رحمته وإحسانه.

أخذ عن جملة ممن أسانيدهم في غاية العلو والاشتهار، كالشمس واسطة النهار، يقاربون الخمسين من دمشقيين وحجازيين، وعراقيين ومصريين، وغالبهم بالإجازة مشافهة وكتابة، أو مكاتبة من بلادهم، كما ذكره الشيخ عبد الغني الميداني شارح متن القدوري في الثبت الذي جمعه له.

وكانت ولادته غرة شوال سنة 1184ه بدمشق، وتوفي بمكة المكرمة نهار الأربعاء 14 من ذي الحجة سنة 1264ه، وصلي عليه بالحرم الشريف المكي، ودفن في «المعلى» كما رأيته بخط شيخنا المرحوم ابن العم السيد محمد علاء الدين عابدين، رحمه الله تعالى.

وقد اطلعت على إجازة للمترجم ولولديه المرحومين الشيخ عبد الله والشيخ أحمد مسلم مدرس الحديث ولأولادهم من الشيخ محمد بن أحمد العطوشي الملتجئ إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطه المتبوع بخاتمه بتاريخ عاشوراء سنة 1259ه.

أحمد الحجار الحلبي

1190-1270ه

وقفت له على ترجمة بخط أحد أتباعه وتلامذته، قال: هو علم العلم الباذخ، وطود الفضل الشامخ، عالم الأئمة، إمام العلماء، العالم العابد الورع الناسك الزاهد، سيف الله البتار، القائم بالله لله في جميع الأطوار، أبو عبد الرحمن أحمد الحجار ابن قاسم شنون، الحلبي وفاة ومولدا، الدمشقي محتدا.

ولد رحمه الله في حدود التسعين من المائة الأولى بعد الألف من الهجرة، وأخذ القرآن الكريم عن الشيخ الإمام الورع عبد الكريم الترمانيني والد السيد أحمد الترمانيني، وقرأ عليه مقدمات العلوم؛ كالآجرومية وغاية أبي شجاع وغيرهما، ثم لازم الإمام الشهير بالشافعي الصغير السيد أحمد الهبراوي المتوفى سنة 1224ه، وأخذ عن طائفة من أجلاء العلماء في ذلك العصر، وتلقى علوم التوحيد عن العارف بالله زين المرشدين أبي محمد إبراهيم الكبير الهلالي المتوفى سنة 1238ه، وسلك عليه الطريق الهلالي المأخوذ من الطريقين القادري والخلوتي، وأدخله الخلوة الأربعينية مرات، حتى ظهرت عليه أمارات النجابة، وسطعت عليه أنوار المعارف والفتوحات الإلهية، فأذن له في الهجرة إلى دمشق، وقال له: لا تأكل غير البصل، فهاجر إليها وأقام مجاورا في المدرسة البدرائية عشرين سنة ونيفا، معتكفا على أكل البصل في جميع تلك المدة، ولم يتناول غيره أدما سوى مرة اشتهى الدسم فأذاب شحما وقلى به بصلا، فاعترته الحمى المثلثة ثمانية أشهر، فأحسن التوبة، وعاد إلى البصل بقية إقامته بدمشق.

وكان إذا اتفق له حضور وليمة في تلك المدة يقول لصاحب الدعوة: أحضر لي بصلا فإني لا آكل غيره، بهذا أمرني شيخي.

ومن فضلاء ذلك العصر الذين أخذ عنهم: سعيد الحلبي، وحامد العطار، وعبد الرحمن الكزبري، والسراج الداغستاني، والضياء خالد الكردي النقشبندي، الذي اصطحبه لزيارة بيت المقدس وعادا معا إلى دمشق حيث ألبسه الخرقة النقشبندية وأقامه خليفة له، لكن غلب عليه الاشتهار بالعلم وتدريسه، وانتفع به خلق كثير هناك منهم السيد إبراهيم العطار، ثم استدعاه أهل حلب للاحتياج إليه، وقلد بها فتوى السادة الشافعية، والتدريس في مدرسة بني العشائر والصلاحية وغيرهما، مع الإمامة والخطابة في الشعبانية، وانتفع به خلق كثير، وتهذب على يديه رجال وأبطال، منهم العلامة محقق المعقول والمنقول، مدقق الفروع والأصول، أبو محمد عبد القادر بن عمر بن صالح الشهير بالحبال، الزبيري نسبا الحنفي مذهبا، صاحب «نتيجة الأفكار نظم تنوير الأبصار» وغيرها من التآليف المنقحة المفيدة، المتوفى أواخر شعبان سنة 1300ه، والعلامة الشيخ هاشم بن عيسى الشافعي صاحب «شرح الألفية» وغيره، المتوفى آخر رمضان سنة 1292ه، وزينة البلاد، ومفخرة الزهاد، وعالم العباد، السيد إسماعيل اللبابيدي، شارح الآجرومية بلسان الحكمة والوعظ شرحا نفيسا واسعا في نحو عشرين كراسة، وصاحب التصانيف العديدة نظما ونثرا، المتوفى سنة 1290ه، ومنهم العلامة الشيخ صالح أفندي الجندي العباسي مفتي معرة النعمان.

وحينما أراد السلطان العثماني عبد المجيد الاحتفال بختان ابنه السلطان عبد الحميد، أمر باستدعاء صاحب الترجمة في مقدمة من دعاهم من علماء البلاد الإسلامية، فلما دخل على السلطان للتسليم صافحه وقرأ عليه ويده في يده «سورة العصر»، فهملت دموع السلطان اتعاظا، وحظي عنده بالمرتبة العليا. وعرض عليه كثيرا من الخلع والهدايا السنية فلم يقبل منها شيئا، وعاد إلى حلب معززا مكرما، حيث واصل الاشتغال بالعلم تدريسا وتصنيفا.

ومن مصنفاته: «كنز المعاني شرح رسالة الشيخ قاسم الخاني في الميزان»، وقد أفاد فيه وأجاد، ولم يترك مجالا لأحد من النقاد، بين فيه الموجهات بشباك ظريف، ووضع شباكا آخر للأشكال الأربعة بين فيه كيفية وضع تركيب ضروبها، وأتى فيه بعجائب وغرائب لم يسبق إليها، وافتتحه بقوله: «الحمد لله الذي زين نوع الإنسان بفصيح المنطق والكلام.» واختتمه بقوله: «وقد وافق الفراغ منه في دمشق المحمية، في المدرسة البدرائية، قبيل الزوال من السبع الرابع من العشر السادس، من الثلث الثاني من السدس الثالث، بعد الواحد الصحيح، من هجرة النبي الفصيح، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وعظم، والحمد لله رب العالمين.» وكتب ولده عبد الرحمن عليه حاشية نفيسة سماها «تحفة المعاني على كنز المعاني».

ومن مصنفاته: «نظم مختصر المنار وشرحه»، و«نظم الرسالة الفتحية في أعمال الربع المجيب وشرحه»، و«نظم معفوات الصلاة وشرحه»، و«نظم الجمل»، ونظم الحل والكسور سماه: «مخدرات الحور»، وشرحه ولده عبد الرحمن شرحا نفيسا سماه: «الجوهر المنثور على مخدرات الحور»، ورسالة في الجهاد رتبها على ثمانية أبواب عدد أبواب الجنة، وهي رسالة جيدة في بابها، في نحو خمسة كراريس، ورسالة في النحو سماها: «تمرين الطلاب» رتبها ترتيبا حسنا، وهي أول ما ألف في حداثة سنه، وأقرأها لجماعة من المبتدئين، كان منهم السيد أحمد الترمانيني الشهير، وبذا عده في شيوخه، وله شعر رائق، منه:

إني لأعجب والحجارة صنعتي

وأشد ما فيها علي يهون

كيف ابتليت بقلبك القاسي الذي

عمري أعالجه وليس يلين

وله مشطرا بيتي الخفاجي:

وحق المصطفى لي فيه حب

بديع في البرايا لا يشبه

محا حب الورى عني ولكن

إذا مرض الغرام يكون طبه

ولا أرضى سوى الفردوس مأوى

لألقى وجه من أمسيت صبه

ولا تحلو جنان الخلد إلا

إذا كان الفتى مع من أحبه

وكان مع اشتغاله بالعلم، كثير الشغف والولع بقضاء مصالح العامة عند الأمراء والحكام، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا يرد مستشفعا به قط، وطالما تحمل المكاره من العامة وصرف زمنه مسلوب الراحة لأجلهم، وكثيرا ما كان يأتيه المستشفع في حال تهيئه للوضوء، فيخرج معه إلى دار الحكومة بهيئته التي هو عليها، مشمرا عن ذراعيه، من غير سراويل ولا حزام.

وكان في داره شجرة رمان ، فربما أخذ في يده عودا منها كهيئة عصا يشير إلى الحكام بها وقت حديثه معهم فترتعد منه فرائصهم ويتهيبونه، وربما أغلظ لهم القول؛ إذ كان لا تأخذه في الله لومة لائم.

كما كان أعظم ولعا بإحياء المساجد المندرسة والبحث عن أوقافها حتى أحيا جملة منها، من بينها مسجد كان أحد قناصل الدول الأجنبية قد أدخله في إصطبل دوابه، فتصدى الشيخ لإعادته مسجدا، وجاء به بفعلة فتحوا بابه، وأنشئوا محرابه، ثم انصرفوا إلى بيوتهم، وعادوا في الصباح لإتمامه، فإذا بالمسجد كله قد هدم ووضعت على أرضه قاذورات نجسة، وما وصل نبأ ذلك إلى الشيخ في داره حتى غادرها مسرعا إلى المسجد، وهو يبكي وينتحب، وتجمع الناس حوله خاصة وعامة وارتفعت أصواتهم بالبكاء معه، ثم اشتد هياج العامة وصمموا على البطش بذلك القنصل، وانطلقت جموعهم تحاصره في الخان الذي كان مقيما به، وهو أشبه بالحصن كأغلب أبنية حلب، فتملكه الذعر، وأطل عليهم من طاق في الخان مناديا: «يا معشر المسلمين انصرفوا ولكم علي أن أبني المسجد أحسن بناء»، ولكنهم لم ينصرفوا، وأخذوا يضيقون الحصار عليه، والشيخ معهم.

ولم يجد الوالي بدا من النزول بنفسه لتدارك الأمر، وأعلن أمام الجموع الكبيرة أنه سيبدأ فورا إعادة بناء المسجد ولن ينصرف حتى يتم بناء المحراب أمامه وأمام الشيخ، فهدأت ثورتهم وعدلوا عن حصار القنصل، وتم بناء المسجد على أحسن صورة تليق بعزة الإسلام ومجده، طيب الله ثرى الشيخ وأجزل مثوبته، ورحم الله من عاونهم وعاونوه.

مصطفى الخالدي

1202-1260ه

لا يحضرني تاريخ ولادته [وقبل سنة 1202ه]، وكان شهما فاضلا، ذا ديانة ورياسة، عظيم القدر، تقيا نقيا، خطه حسن، تلقى الفرائض من سليمان أفندي ابن أحمد البوزقيري من أفاضل الروم، وتلقى طرفا من الأمهات الست والشفاء والأربعين النووية وكتاب الشمائل للترمذي عن العالم الأجل المحدث يوسف بدر الدين المدني، الذي تلقى صحيح البخاري سماعا لجميعه مع التحقيق والإتقان والنظر والإمعان على محدث عصره الشيخ عبد الرحمن بن محمد الكزبري الدمشقي الشافعي، عن شيخه السيد علي بن عبد البر الونائي المدني عن المعمر عبد القادر بن أحمد الأندلسي.

وقد رأيت بخط المحدث يوسف بدر الدين أن محمد الأمير الصغير قد أجازه حسبما حواه ثبت والده محمد الأمير الكبير، وقد أجيز السيد مصطفى المشار إليه من جماعة، منهم: السيد يوسف بدر الدين المشار إليه، ومحدث الشام الشيخ حامد بن أحمد العطار، ووالده موسى الخالدي، والسيد محمد وفا، وصاحب الطريقة الشيخ محمد عثمان الميرغني الختم المكي، والشيخ عبد الله بن محمد البديري المقدسي، وكان رحمه الله معروفا بفضله وعلو قدره، وجاهه وعراقة مجده، وهو مصطفى حامد بن موسى بن محمد صنع الله بن خليل بن القاضي شرف الدين بن صالح، ولا عجب فهو من أهل بيت جميعهم علماء ذوو دين وتقوى، كما أشار إلى ذلك محقق المعقول والمنقول صاحب التصانيف المفيدة العلامة الكفوي في تأليفه «طبقات الحنفية» حين ذكر السعد الديري الخالدي أحد أجداد صاحب الترجمة وغيره من بني الديري الخالديين.

وقد توفي السيد مصطفى في السنة الموفية لستين ومائتين وألف، وهو قاض بالقدس الشريف، ودفن بباب الأسباط قرب الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

مصطفى المغربي الدرغوثي

1205-1280م

وقفت له على ترجمة في كتاب ألفه ابنه الشيخ عبد القادر المغربي أحد أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق،

1

وسماه: «آل درغوث في طرابلس الشام المشهورين بآل المغربي»، أودعه ذكر أصل أسرتهم في تونس ثم تراجم أجدادهم في طرابلس الشام، وقد جاء فيه أن والده الشيخ مصطفى المغربي الدرغوثي نزل دمشق الشام في حدود سنة 1275ه، وكان يحضر مجلس الأمير عبد القادر الجزائري الشهير حيث يجتمع العلماء والفضلاء ويتبارون في المسائل العلمية والمناظرات الجدلية، ومنهم الشيخ مصطفى المغربي التهامي ابن عمة الأمير، فكان يعجب بمناظراتهما خاصة، واتفق أن تناظرا يوما في مجلسه في قول الشاعر:

فأصبحت بعد خط بهجتها

كأن قفرا رسومها قلما

وهو من ألغاز النحاة، فكان كل منهما يوجهه توجيها في الإعراب والمعنى يناقض به الآخر، وقد حمل هذا الجدل الشيخ مصطفى المغربي الدرغوثي على أن كتب رسالة في هذا البيت وما يتعلق به من جهة اللغة والإعراب والمعنى.

وذكر الأستاذ «المغربي» أيضا في مؤلفه المذكور أن والده ألف رسالة تفسير «قل هو الله أحد» وقد قرظها علماء الشام وغيرهم في ذلك العصر؛ كالأمير عبد القادر الجزائري، والشيخ عبد الله الحلبي، والشيخ الكزبري، والشيخ محمد مصطفى التهامي المغربي، وكان تقريظه الأخير لها نظما ونثرا، وقال فيه بعد الديباجة ما نصه: «وبعد، فقد استقرأت سطور هذه الصفائح، واستقصيت معاني طروسها الصبائح، فتمثلت لي رقوم أقلامها بآثار سيوف قواطع، ورسوم أعلامها بأزهار ونجوم طوالع، بواطن دلائل حججها هداية تذكار للمسترشدين، وظواهر غلائل لججها رجوم للشياطين والمعتدين، معالم سليم الفطرة للذوق، ومكارم مريد الحلية بالطوق، حائزة من حوز البلاغة السحر الحلال، جائزة من فوز البراعة الشوط الحلال، قمن أن تسمى عند الأنام، بما سمى به الإمام، فرائد الاغتنام، رسالة التأسيس والتقديس في الرد على أهل التلبيس، أو منهاج الخلاص، في تفسير سورة الإخلاص؛ فلقد أبدع فيها مؤلفها غاية الإبداع، ورصع فوائد فرائدها ترصيع الاختراع والابتداع، وقف فيها على الحقائق، ودعمها بدعائم الدقائق:

فهاك عقودا قد حكتها جواهر

بلى، وحكتها في سناها زواهر

لها زجل الترصيع يسبي نظامه

مكللة بالدر تنمو الظواهر

مضمنة الألغاز يزدان حسنها

على القمر المكمول والسر ظاهر

فإن حكت الإبريز قل ذاك وصفها

بلى، وحكاه البدر إن تم باهر

وحينئذ فاسمع تماثيل مبتغ

يسرك من بشراه ليلا يساهر

يماثلها الإكليل إن زان برجه

وشولتها للغيث والنهر ناهر

كذا علم يتلو الغروب ابتهاجه

بحمرته والوقت حانت مظاهر

نعم فلق الإصلاح أبدى سفوره

ودل على شمس المسرات قاهر

سماء سرايا الغزو إن نظمت به

لها دبران الجور ولى يعاهر

فذي مثل الأوراق في نسج رقمها

وفي قمر وقت اتساق مزاهر

وشيمته قد صانها الضوء معدلا

بذا كرمت رفعا وعلوا تجاهر

إليك ومنك انحاز للعلم مصطفى

مآثر حلتها الرقوم الأشاهر

لقد ظفر القرم الذي حاز مجدكم

بمنبتكم فامتاز بالشهم ماهر

كتبت لكم ذاك النوال الذي جرى

به القلم المعلوم والدهر داهر

نعم هو في الأعراق قد حق ظاهرا

ولا أحد عن منبت الأصل ناهر

أتتك بنات الفكر منها ابتكارنا

ببكر عذار اللب تعنى تصاهر

لها كفؤ بالغرب أنسى لوحشها

ويؤنسها من تونس الفخر طاهر

خلص الله أعمالنا وأعماله، وسدد أقواله وأفعاله، ويسر لنيل المراد آماله، كتبه خديم العلماء، ومقبل الثرى تحت أقدام الكرماء، المقتفي باعتقاده منهجهم السامي «محمد المصطفى بن أحمد بن التهامي» المالكي الأشعري المغربي الفريسي نجارا، الوهراني تعلما، ثم الدمشقي دارا، الحسني الحسيني حسبا ونسبا وشعارا، عرفه الله قدر نفسه، ولطف به في الدنيا وحال حلوله في رمسه، وغفر له ولوالديه وللمسلمين أجمعين، آمين، والحمد لله رب العالمين.» ا.ه.

ووقفت على ترجمة للشيخ مصطفى التهامي بخط نسيبه المرحوم السيد محيي الدين الحسني، قال رحمه الله:

غاية ما أعلم من ترجمة نسيبنا المرحوم العلامة السيد الحاج مصطفى التهامي أنه حينما تولى الأمير عبد القادر الجزائري عينه كاتبا لسره، ولما شرع في تنظيم العساكر عينه خليفة يقود قطعة من الجيوش، وقد شاهد عدة حروب مع الأمير عبد القادر،

2

ولا زال على سيرته الحسنة إلى أن صحبته إلى «امبواز» قرب مدينة باريز، ثم إلى بروسة، ودمشق، وكان يدرس في عدة فنون في جامعها الكبير، وتقلد إمامة المالكية في الجامع الأموي، وكان رحمه الله له جلد عجيب في العبادة؛ ففي شهر رمضان من كل عام كان بعد أن يصلي صلاة التراويح، ينفرد وحده في الجامع ويشرع في صلاة ركعتين يختم فيهما القرآن الشريف بتمامه، ويظل هذا دأبه في كل ليلة من الشهر.

وما زال على تلك الحالة المرضية،

3

إلى أن قضى نحبه على رأس الثمانين بعد المائتين والألف، وكان الأمير عبد القادر غائبا في البقاع الحجازية.

محمد التميمي المغربي

1222-1286ه

ترجمه العلامة الآلوسي في تاريخه «غرائب الاغتراب»، قال:

حضر لمصر كبيرا من بلده، فلم يتلق العلم بالأزهر بل جاءها عالما، ولقي شيوخها فأقروا بفضله وسعة علمه وذكائه، ثم جعل ناظرا لمسجد محمد بك أبي الذهب وأوقافه، وكانت نظارة المساجد المشهورة إذ ذاك تعطى للعلماء بتقرير من القاضي، فيباشرون شئونها وشئون الطلبة المقيمين بها ويستغلون أوقافها، فباشرها بعفة وأمانة وصرامة، واتصل بإبراهيم باشا ابن محمد علي فعرف فضله وأجله وائتنس بمجالسته، وجعله معلما للعربية لأولاده: أحمد ومصطفى وإسماعيل، وكان يرسل له عجلته

1

تنتظره عند الأزهر، فإذا أنهى الشيخ دروسه به ركب فيها وذهب إلى القصر العالي، فدرس للأمراء وتغدى مع والدهم وجالسه في غالب الأحيان، ثم يعود بالعجلة إلى مقره.

وحسنت حاله، واشترى دارا كانت ملاصقة للمسجد الحسيني وأزيلت بعد ذلك لما جددت عمارته، وكانت فيه حدة قل من يتحملها؛ لذلك لم يحضر عليه من شيوخ الأزهر إلا قليلون، منهم: الشيخ إبراهيم السقاء، والشيخ مخلوف المنياوي، وآخرون.

وكان عالما علامة متينا في مباحثه، ذا ذكاء مفرط، وكان الشيخ إبراهيم السقاء يأسف لأن أحدا من أهل الأزهر لا يعلم أستاذه هذا كما ينبغي.

وطلب منه الشيخ مخلوف مرة أن يقرأ لهم «المطول» فأبى وتعلل بعدم وجود الأكفاء لحضوره، فكتب الشيخ مخلوف شكوى طاف بها على الطلبة فوقعوا عليها، ثم بعث بها إلى الديوان الخديوي، وفيها أنه لا يوجد بين علماء الأزهر من هو أقدر منه على قراءة «المطول»، ولكنه لا يريد قراءته، فطلبوا الشيخ في الديوان وألزموه أن يقرأ الكتاب، فصدع بالأمر وقرأ منه دروسا، ثم حال نفيه من مصر دون إتمامه.

وسبب نفيه أن عباسا الأول كان قبل توليته يحضر مجلس عمه إبراهيم والشيخ معه، وكان عمه يؤنبه على لعبه بالحمام ولهوه ويشتد عليه، فيساعده التميمي، ويسمع عباسا الكلام القارص، حتى كان يخاطبه بالتصغير، ويقول له: يا غلام، اسمع نصائح عمك، فحقد عليه عباس، ولما مات عمه إبراهيم وتولى هو بعده، خشي المترجم العاقبة وذهب إلى عباس في قصره لترضيته وإزالة ما في نفسه منه، فقال له عباس: ليس عليك بأس، ولكن لا تساكنني في بلد أنا فيه، وأمر بنفيه في الحال، وأرسل من أعوانه من حمل متاعه وتولى ترحيله إلى الحجاز.

ولم تطل إقامة الشيخ بالحجاز إذ سافر مع المحمل الشامي في عودته للشام، وأبحر من بيروت إلى القسطنطينية، وذلك بمساعدة بعض الأمراء المنفيين معه، كما سعوا له عند السلطان عبد الحميد فرتب له حوالي خمسين دينارا في الشهر، وأقام بها يقرئ ويفيد حتى وافاه أجله ودفن بها حوالي سنة 1286ه.

وحدث الشيخ زين المرصفي قال: لما وفدت على القسطنطينية لم يكن لي هم إلا رؤية الشيخ، فسألت عن داره حتى اهتديت إليها، وطلبت مقابلته فأبى، ثم احتلت لمقابلته بأني قادم من مصر ومعي أمانة له، فنزل وقابلني، وأخذ يسألني عن الأزهر وأحواله ومن يدرس فيه، فذكرت له بعض كبار المشايخ مثل: السقاء، والدمنهوري، والأشموني، وأضرابهم، فأظهر الاستنكار والأسف، وصار يصفق بيديه ويقول: «خلا لك الجو فبيضي واصفري» ويكررها، ثم سألني عن الأمانة التي حملتها إليه، فلما أجبت بأنها تحيات زملائه وتلاميذه، قام وتركني.

واجتمع به أيضا السيد جمال الدين الأفغاني في زيارته الأولى للقسطنطينية، وكتب يصف هذه المقابلة، قال: فلما قابلني قال لي: أنت جمال في الدين أم جمال للدين؟ فقلت: جمال للدين؛ لأن الإضافة بمعنى «في» لا تخلو من ركاكة هنا، فضحك.

وكان ربعة بدينا، أبيض اللحية، يلبس جبة وعليها برنس على طريقة المغاربة، ولم يلبس الفرجية التي كان يلبسها علماء الأزهر، وعمر طويلا.

وحدث عبد الله فكري باشا قال: ذهبت مع الخديو إسماعيل مرة إلى القسطنطينية مدة السلطان عبد العزيز، وجاء المترجم للسلام على الخديو، وكان يتأهب لمقابلة السلطان، فلم يمكث معه إلا قليلا معتذرا بأنه لا يستطيع التخلف عن مقابلة السلطان في الموعد المحدد، وسأله البقاء حتى يعود، وأوصى بإكرامه، ولكن المترجم لم يقبل عذره وانصرف غاضبا ولم يعد.

ولما ذهب إسماعيل بعد توليته إلى الآستانة لم يزره الشيخ، فصار يسأل عنه إلى أن اهتدى إلى مقره، وأرسل في طلبه، ثم أمر أحمد طلعت «باشا» كاتبه أن يعطيه مائة دينار عند خروجه من مقابلته، ولكن الشيخ أبى أخذها وقال: أنا والحمد لله في غنى عن الصلة ولم أزر الخديو التماسا لشيء.

وكان مولعا بجمع الكتب، مغاليا في اقتناء النفيس منها، فلما مات بيعت بالقسطنطينية وتفرقت في البلاد، ولم يعقب غير بنت واحدة حضرت لمصر بعد موته تتقاضى ثمن داره التي أزيلت وأدخل بعضها في المسجد الحسيني عند عمارته، وتزوجت بعدما شاخت؛ لأن أباها لم يكن يرى لها كفؤا في زعمه رحمهما الله.

أحمد الحلواني

1228-1307ه

ولد العلامة الأستاذ الشيخ أحمد الحلواني في دمشق سنة 1228ه، وتربى تربية دينية برعاية والده التقي الصالح المرحوم السيد محمد علي الرفاعي الحلواني، وكان أول أستاذ له المرحوم الشيخ راضي المصري الذي أتم عليه حفظ القرآن الكريم، ثم درس العلوم العقلية والنقلية على أساتذة عصره، مثل: خاتمة المحدثين المرحوم الشيخ عبد الرحمن الكزبري، وشافعي زمانه المرحوم الشيخ عبد الرحمن الطيبي، وأبي حنيفة وقته المرحوم الشيخ سعيد الحلبي، ومفسر الديار الشامية المرحوم الشيخ حامد العطار، وما زال يتلقى عنهم العلوم والفنون حتى أذنوا له في التدريس في غرة شوال سنة 1253ه، وبعد ذلك رحل حاجا إلى بيت الله الحرام مع الوفد الشامي، ولما وصل إلى مكة المكرمة اجتمع فيها بخاتمة المحققين شيخ قراء مصر العلامة الشيخ أحمد المرزوقي المجاور لبيت الله الحرام، فاستبقاه فيها بعد أداء الحج لما رأى فيه من المقدرة والتضلع في العلوم وعدم التعلق بأعمال الدنيا، وخلوه من الأهل والولد، وأمره بحفظ «الشاطبية» فحفظها، وقرأ عليه القرآن كله بالتجويد على رواية حفص، مع مطالعة شروح الشاطبية، وبعد ذلك شرع في دراسة القراءات السبع، ثم قرأ القرآن كله بها على الشيخ المرزوقي، فأقام له عقبة ذلك حفلة تكريم تجاه باب الكعبة المشرفة حضرها الأشراف والعلماء والقراء وغيرهم، وبعد ذلك حفظ عليه «الدرة» في القراءات الثلاث المتممة للعشر، كما قرأ عليه شرحها، والقراءات العشر على طريقي الشاطبية والدرة، فلما أتمها أقام له حفلة تكريم أخرى، ثم أمره بحفظ الطيبة، وقراءة شرحها ومطالعة التحارير المتعلقة بها، فلما أتم ذلك أقرأه القرآن كله كاملا بطريقة «الطيبة»، ثم جمع أفاضل مكة المكرمة وأجازه أمامهم بأن يقرأ ويقرئ في أي مكان حل بما لقنه إياه مما أخذه عن شيخ الإقراء وملاذ القراء في مصر المرحوم السيد أحمد المحملجي الهندي، فأسكنه داره متكفلا له بما يلزم له من كتب وملبس ومشرب ومأكل وغير ذلك.

ولما انتهت دراسته سنة 1258ه استأذن أستاذه في الرجوع إلى دمشق، وكانت خالية من علوم القراءات فنشرها فيه، وحفظ عليه القرآن العظيم عدد كثير، وممن تلقى عليه القراءات السبع المرحوم الشيخ عبد الله الحموي، والمرحوم الشيخ صالح الكردي، وقد كرمهما عقب ذلك أمام جمع من أفاضل دمشق، وكان ذلك مستهل سنة 1262ه.

وما زال مثابرا على نشر فن القراءات وتجويد القرآن العظيم إلى غاية شهر شوال سنة 1263ه، وفيها رجع مع موكب الحج الشامي إلى مكة المكرمة، ولما بلغها نعي إليه شيخه المرحوم السيد أحمد المرزوقي، فجلس مكانه متصديا لنشر القراءات في البلاد الحجازية، وتخرج عليه عدد عظيم من أبنائها وأبناء البلاد الإسلامية المختلفة، وفي سنة 1278ه رجع إلى دمشق مع المحمل الشامي، وجمع عليه القراءات السبع والعشر كثيرون من أهل الشام وغيرهم، وفي مقدمة تلاميذه في القراءات العشر من الدمشقيين: الشيخ أحمد دهمان، والشيخ محمد القطب، ونجله الشيخ محمد سليم الحلواني، والشيخ محمد المجذوب، والشيخ محمد سبانو، والشيخ عبد الغني البيطار، ومن أهل حماة: الشيخ محمود الكيزاوي وتلاميذه، ومن تلاميذه في القراءات السبع: الشيخ نجيب كيوان، والشيخ راغب الحموي، والشيخ صالح الديراني.

أما مؤلفاته فمنها: أرجوزة في رواية ورش من طريق الأزرق مع شرح لها، وأرجوزة في علم التجويد مع شرح لها أيضا.

وكانت وفاته رحمه الله تعالى في 27 من جمادى الآخرة سنة 1307ه، ودفن في تربة «مرج» الدحداح بدمشق، رحمه الله وأكرم مثواه.

محمود الحمزاوي

1236-1305ه

وقفت له على ترجمة كتبها السيد محمد أبو الخير عابدين الذي كان مفتيا للشام، قال فيها:

هو الإمام العالم العلامة الشهير، والناقد الخبير البصير، الحنفي المذهب، تولى إفتاء الشام اثنتين وعشرين سنة وأشهرا حتى وفاته، وكانت الأسئلة المشكلة في جميع الفنون ترد إليه من بلاد كثيرة، منها البلاد الأوروبية، فيجيب عنها بالأجوبة المرضية، وكان رحمه الله عالما نحريرا، فقيها أديبا، شاعرا مفننا، له مؤلفات عديدة، منها: التفسير بحروف المهمل المسمى بدر الأسرار، ونظم «الجامع الصغير» للإمام محمد صاحب أبي حنيفة، ونظم «مرقاة الأصول» لمنلا خسرو، و«اللآلي البهية في الفوائد والقواعد الفقهية»، و«الطريقة الواضحة في البينة الراجحة»، و«بغية الطالب شرح رسالة الصديق لعلي بن أبي طالب» رضي الله تعالى عنهما، و«قواعد الأوقاف »، و«كشف الستور في المهايأة في المأجور»، و«منظوم غريب الفتاوى»، و«الفتاوى الحمزاوية»، وشرح لبديعية والده اسمه «كشف القناع»، و«دليل الكمل إلى المهمل في اللغة»، و«التفاوض في المتناقض»، و«كشف المجانة عن الغسل في الإجانة»، و«رسالة في جواز أخذ الأجرة على التلاوة».

وقد ذكر مشايخه الذين أخذ عنهم في ثبته المسمى «عنوان الأسانيد»، ومنهم: الشيخ عبد الرحمن الكزبري الثاني، وشيخ الحنفية بدمشق الشيخ سعيد الحلبي، والشيخ حامد العطار، والشيخ عمر الآمدي عن السيد محمد الزبيدي شارح «الإحياء» و«القاموس».

وكانت ولادته رحمه الله بدمشق سنة 1236ه، وتوفي في اليوم الحادي عشر من المحرم سنة 1305ه، ودفن بتربة مرج الدحداح بدمشق.

وقد رأيت سلسلة نسبه بخط السيد أبي الخير محمد عابدين، وفيها: أن والده السيد محمد نسيب نقيب الأشراف بدمشق ابن حسين بن يحيى نقيب الأشراف بدمشق ابن حسن نقيب الأشراف بدمشق (المولود سنة 1091ه كما وجد بخط السيد مرتضى الزبيدي) ابن عبد الكريم نقيب الأشراف بدمشق (ترجمة المحبي والمرادي والغزي العامري) ابن محمد نقيب الأشراف بدمشق ابن كمال الدين محمد نقيب الأشراف بدمشق ابن حسين نقيب الأشراف بدمشق (الملقب بشرف الدين أو بدر الدين، المولود سنة 926ه، والمتوفى في ذي القعدة سنة 971ه) ابن الحافظ كمال الدين محمد مفتي مصر ونقيب الطالبيين بدمشق (المولود سنة 850ه، وقدم القاهرة سنة 871ه) ابن عز الدين حمزة المعروف بابن أبي هاشم (ولد سنة 820ه، وتوفي سنة 874ه، كما وجد بخط السيد مرتضى الزبيدي) ابن أحمد الشهاب أبي العباس (المولود سنة 787ه، والمتوفى سنة 848ه) ابن علاء الدين علي نقيب الأشراف بدمشق (المكنى بأبي هاشم) ابن الحافظ شمس الدين أبي المحاسن محمد (المتوفى سنة 765ه) ابن علي بن حسن بن حمزة بن محمد بن ناصر بن علي الشجاع ابن حسين المحترف ابن إسماعيل (وهو أول من جاء دمشق نقيبا للأشراف سنة 330ه، وترجم له ابن عساكر في تاريخه) ابن حسين المنتوف (وبخط السيد مرتضى الزبيدي: المفتون) ابن أحمد صاحب الشام ابن إسماعيل الثاني ابن محمد بن الإمام إسماعيل الأعرج ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب.

هذا وقد قرظ المغفور له الأمير عبد القادر الحسني الجزائري تفسير العالم السيد محمود الحمزاوي مفتي الشام بأبيات، فقال:

سرح سوادك والطروس سماء

ما للسماك لدى العروس علاء

حمدا لملهم أوحد العلماء مح

مود علوما ما لها إحصاء

هو أعلم العلماء واحد عصره

هو طود سر هدى له إهداء

وأرسل سمو الأمير عبد القادر الجزائري أبياتا مع هدية، قال:

تفضل بالقبول لها فإني

أرى الدنيا جميعا دون قدرك

لأنك بضعة المختار صرفا

ففخر الخلق طرا دون فخرك

أحمد عبد الغني عابدين

1238-1307ه

هو العلامة أحمد عبد الغني عمر المشهور كأسلافه بعابدين، وبقية نسبه في ترجمة العلامة محمد علاء الدين عابدين، وقفت له على ترجمة كتبها ولده مفتي الشام الشيخ محمد أبو الخير عابدين، نصها:

هو العلامة الفقيه الصوفي الزاهد العابد المحدث أحمد بن عبد الغني عابدين، كان رحمه الله تعالى حنفي المذهب، مشتغلا بالعلم، يقرأ الدرس للطلبة في داره وأحيانا في جامع الورد، قرأ النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان مع ابن عمه السيد علاء الدين عابدين، وأخذ الفقه والحديث عن عمه السيد محمد أمين عابدين، وعن فقيه الشام وعالمها الشيخ هاشم الناجي، وأجازه الشيخ عبد الرحمن الكزبري، وسمع هو وابن عمه الكتب الستة من شيخ الشيوخ الشيخ سعيد الحلبي، وكانا صغيرين، وكان يحضرهما ويقعدهما في شباك حجرته، وحصل لهما إجازة كسائر الحاضرين، وأخذ التوحيد والتفسير عن المنلا أبي بكر الكلالي المفسر عن شيخه الشيخ محمد الخطي، وله إجازات عديدة من علماء عاملين، وأئمة معتبرين، منهم: الشيخ داود بن سليمان البغدادي، والشيخ عمر الآمدي عن الشيخ محمد الكزبري، وكان يسلك في الطريقة النقشبندية، أخذها عن الشيخ محمد الخاني، ثم في الطريقة الخلوتية عن القطب الرباني الشيخ محمد المهدي المغربي الزواوي.

وله مؤلفات تنيف على العشرين، منها: كتاب في الطهارة والأنجاس، وشرح قصة المولد الشريف لابن حجر المكي في عشرين كراسا، وشرح علم الحال، وشرح العقيدة الإسلامية ومتنها للسيد محمود الحمزاوي، ورسالة بتبرئة الشيخ الأكبر مما نسب إليه من القول بالحلول والاتحاد، ورسالة في إهداء ثواب الأعمال للنبي

صلى الله عليه وسلم

والمؤمنين ردا على من قال: إن النبي صلى الله تعالى عليه منته في درجات الكمال فلا يقبل الزيادة، ورسالة في زواج النبي

صلى الله عليه وسلم

بالسيدة زينب رضي الله عنها، وشرح حديث ابن عباس: «احفظ الله يحفظك» الحديث، ورسالة في قوله عليه الصلاة والسلام: «السعيد سعيد في بطن أمه»، ورسالة في «الكبائر»، ونسبه الشريف متصل بالسيد السبط عليه الرضوان، وكانت ولادته سنة 1238ه، ووفاته في 26 ربيع الثاني سنة 1307ه، ودفن في تربة باب الصغير بدمشق في جوار عمه السيد محمد وجده السيد عمر عابدين، رحم الله الجميع رحمة واسعة، وأعاد علينا من بركاتهم، آمين.

محمد علاء الدين عابدين

1244-1306ه

وقفت له على ترجمة كتبها ابن عمه العلامة محمد أبو الخير عابدين الذي كان مفتيا للشام، نصها:

هو الشيخ الإمام العالم، الفقيه الصوفي، الملازم لاتباع الشريعة الغراء المحمدية، بسيرة حسنة وأخلاق رضية، أخذ الفقه عن شيخه الإمام فقيه وقته وأوانه، وعالم الشام في زمانه، الشيخ هاشم الناجي رحمه الله، وأخذ الحديث عن الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والطريقة الخلوتية عن قطب الوقت الشيخ محمد المهدي الزواوي المغربي، وقد رباه وسلكه في الطريقة وأدخله الخلوة، واستخلفه، وأجازه بتلقين الذكر وتربية المريدين وكتب له إجازة حافلة، وأمره بالدخول في سلك الموظفين في الدولة العثمانية، فتولى كثيرا من المناصب منها: قضاء طرابلس الشام، وسافر إلى إستانبول، ودخل في عداد أعضاء المجلة العلمية، وأكمل حاشية والده، وله من المؤلفات: كتاب «معراج النجاح شرح نور الإيضاح»، و«الهداية العلائية»، ورسالة في «زلة القاري».

وأخذ عن والده وحصل منه على إجازة بخطه، وله غير ذلك تحريرات رائقة، وأبحاث فائقة، في جملة من علوم الفقه والحديث والأصول والتوحيد والتفسير، وبالجملة كان رحمه الله تعالى من الأفراد الذين يعول عليهم في حل المشكلات.

وسمع هو وسيدي الوالد السيد أحمد الكتب الستة من شيخ الشيوخ الشيخ سعيد الحلبي، وكانا صغيرين، فكان يحضرهما ويقعدهما في نافذة حجرته في جامع بني أمية، وحصلا على إجازة منه.

ونسبه الشريف يجتمع مع نسب السيد الحمزاوي، وكانت ولادته في ربيع الثاني سنة 1244ه كما رأيته بخط والده على ظهر نسخته «الدر المختار» في شرح تنوير الأبصار، قال: وسميته باسم الشارح رجاء أن يكون من العلماء، وقد حقق الله رجاءه، وتوفي رحمه الله في اليوم الحادي عشر من شوال سنة 1306ه، ورثاه جماعة كثيرون، وأرخ وفاته الشيخ محمد الهلالي الحموي الشاعر المشهور بأبيات كتبت على لوح قبره، وهي:

توارى من الدين الحنيف علاؤه

بلحد سقاه العفو صوب غمامه

إلى دار خلد من بني عابدين قد

مضى كوكب الإسلام بدر تمامه

بني الشرف المأثور علما ومحتدا

إلى سر ملك الله أصل نظامه

أناس على الإيمان منهم مؤرخا

زها لعلاء الدين طيب ختامه

وكتب على اللوح الآخر:

زر ضريح الحبر الهمام علاء الد

ين تظفر (به) بنيل مرام

فهو من بيت أشرف الرسل طه

فعليه والآل أزكى السلام

قد قضى نحبه فحل بأبهى

روضة في جوار قوم كرام

قدس الله روحه وحباه

من جنان الفردوس أعلى مقام

قد دعي للقا فلبى مجيبا

أرخوا يا فوزي بحسن الختام

1306

ودفن بمقبرة باب الصغير ملاصقا لقبر والده وجده السيد عمر ولقبر الشيخ العلائي صاحب «الدر المختار»، رحم الله الجميع ونفعنا بهم والمسلمين آمين. انتهى ما نقلته من خط العلامة أبي الخير عابدين.

قلت: وقوله: «ونسبه الشريف يجتمع مع نسب السيد الحمزاوي .» يريد السيد محمود مفتي الشام المعروف بمحمود حمزة الحمزاوي؛ فإن نسبه يجتمع بنسب المترجم في «إسماعيل» أول من جاء «دمشق» من أجدادهما وولي بها نقابة الأشراف سنة 330ه، وترجمه «ابن عساكر» في تاريخه، وقد ذكرنا نسب العلامة محمود حمزة في ترجمته، ونذكر هنا نسب المترجم منقولا من خط العلامة أبي الخير عابدين، قال:

هو محمد علاء الدين بن محمد أمين عابدين صاحب الحاشية على الدر المختار ابن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن صلاح الدين - وهو أول من اشتهر بعابدين - ابن نجم الدين بن محمد كمال بن تقي الدين (المدرس في بلد الله الأمين) ابن مصطفى بن حسين بن رحمة الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن محمود بن عبد الله عز الدين بن قاسم بن حسن بن إسماعيل (أول من جاء دمشق منهم وولي نقابة الأشراف سنة 330ه، وترجمه ابن عساكر في تاريخه) ابن حسين المنتوف (والذي بخط السيد مرتضى الزبيدي: المفتون) ابن أحمد صاحب الشام بن إسماعيل الثاني بن محمد بن الإمام إسماعيل الأعرج بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم.

أحمد الفحماوي

1246-1309ه

هو الشيخ أحمد الفحماوي

1

ابن الحاج إسماعيل ابن الحاج قاسم بن إسماعيل بن عامر بن منصور، ومنصور هذا من قبيلة المحاميد نسبة إلى محمود القرشي.

ولد صاحب الترجمة بأم الفحم بمركز جنين بمديرية نابلس بولاية بيروت ببر الشام، وأم الفحم قريبة من بيت لحم مسقط رأس سيدنا عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام؛ ولذا قال صاحب الترجمة تحدثا بنعم الله: «بلدنا بني في وسط الحول المذكور في قوله تعالى:

سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ...

فبلدتنا في وسط البركة، فلله الحمد والشكر.» ولد رحمه الله في سنة 1246 هجرية الموافقة لسنة 1830 ميلادية، وتوفي إلى رحمة الله بمصر المحروسة في سنة 1309ه الموافقة لسنة 1892م، ودفن بحوش الترجمان أمام حوش المرحوم الشيخ الحداد، بتربة الشيخ حسن الشبراخيتي شارح الأربعين حديثا النووية، معه في لحد واحد، وذلك بقرافة المجاورين.

وخلف من الذكور محمد ماجد أفندي الأجزاجي بشارع شبرا، ومحمد عارف أفندي معلم العلوم الرياضية والعمارة بمدرسة المهندسخانة سابقا ومن وكلاء النائب العمومي لاحقا.

أرسله أبوه للجامع الأزهر لطلب العلم، وكان عمره إذ ذاك نحو خمسة وعشرين سنة، فبعد سنتين أو ثلاث تزوج بالست أليفة بنت السيد أحمد العبساوي الجواهرجي الحسيني فخلف منها ولديه المذكورين آنفا، ثم توفي أبوه إلى رحمة الله، فسافر لبلدة أم الفحم لحضور العزاء، ثم عاد وأقام بمصر حتى قضى نحبه، وكان أبوه ينفق عليه، فلما توفي سعى على معايشه بتعاطي صنعة نسخ كتب العلم بحبر مطبعة الحجر لصاحبها كاستلي؛ أشهر مطبعة وقتها بعد مطبعة بولاق الأميرية.

فطبع بخطه مجموع المتون وكتب التصوف لسيدي عبد الوهاب الشعراني، وديوان سيدي عمر بن الفارض، والشفا للقاضي عياض، وأخيرا اللزوميات لأبي العلاء المعري، وكتبها كذلك بالحبر العادة لكثير من الذوات، وكتب كثيرا من المصاحف والربعات ودلائل الخيرات.

وتوظف بوزارة المعارف المصرية بقلم الترجمة، ثم انتقل إلى الدائرة السنية أمينا لكتبخانتها.

وكان رحمه الله نجيبا أديبا، نادرة زمانه، يحفظ كثيرا من قصائد الأدب، وكثيرا من الحكم، وكثيرا من الأحاديث النبوية والقدسية، وكان صالحا تقيا، عالما عاملا، مخلصا صادقا، أمينا كريما، زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة.

وكان رحمه الله نصوحا لأولاده وأحبابه. أحفظ له ثلاث نصائح لي؛ أحدها وأنا تلميذ حديث البلوغ، وهي أنه أوصاني بالاستبراء عقب الحدث «البول»، وأخبرني بأن المبني على الفاسد فاسد، والمبني على الصحيح صحيح، وأن هذا أساس العبادات. والثانية وأنا معلم بمدرسة المهندسخانة، وهي أنه أخبرني أن الناس في غفلة عن الله سبحانه، وأن اللازم أن العبد يتوجه بوجهه وقلبه دائما إلى الله تعالى، وأوصاني بقوله: الزم يا بني هذا الدعاء: «اللهم لا تحول قلبي ولا وجهي إلا إليك، ومثل ذلك لأصحاب الحقوق علي وللمسلمين.»

والثالثة: ذكر الحديث: بين العبد وربه سبع عقبات، أهونها الموت، وأصعبها الوقوف بين يدي الله عز وجل إذا تعلق المظلومون بالظالمين يقول هذا أخذ مالي وظلمني وهذا هتك عرضي وفضحني، وأخبرني بأن المنجي من كل ذلك المواظبة على الصلوات الخمس، وأن الإنسان بعد السلام من كل فرض يقول: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثا، أستغفر الله العظيم لي ولوالدي ولأصحاب الحقوق علي ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات خمسا، وذلك قبل أن يغير جلسة التشهد من كل فرض.

ولما تزوج ولداه محمد ماجد أفندي ومحمد عارف أفندي، وكانت الست والدتهما مطلقة خارج منزله، وكان على ذمته غيرها، عزما على أن تكون أمهما معهما بالمنزل، فكتبا له عريضة بطلبهما هذا حياء منه أن يطلبا إليه ذلك شفهيا.

وهذه صورة العريضة:

عريضة مقدمة بين يدي حضرة والدنا للنظر في إصلاح ورفعهما في الدارين، فنعرض أحوالنا الدنيوية والأخروية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الحليم الحكيم العادل، والصلاة والسلام على رسوله خير الأواخر والأوائل، وعلى آله وصحبه أولي الفضائل والشمائل، أما بعد: فإن المنة لله ولرسوله وللوالدين، حفظهما الباري تعالى ورفعهما في الدارين، فنعرض يا أبانا على شريف مسامع جنابك، أنه من مننك على أولادك، أنك أحسنت مثوانا، وسعيت لنا في صنعتين شرفتنا بهما، جعل الله يدنا العليا بالعطاء، ولم يجعل يدنا السفلى بالاستعطاء، لما ألهمك ربك وأنت مسافر بإسلامبول حديث: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول، ودوام السعي لنا بكل الهمة، على ما فيه صلاحنا، فلك المنة، واتخاذك إيانا كأخويك، مع الشفقة بنا ولين جنبيك، وتحريضنا على صلة الأم والأرحام، وقولك لنا إن أمنعكما عنهم حرام، وتعليمك إيانا أمور ديننا، وحثنا على الزواج حفظا لسيرنا، وغير ذلك من مننك التي لا تحصى، وإرشاداتك المخلصة التي لا تستقصى، فحق علينا أن نقول، موقنين من الله القبول: سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، حيث من الله علينا بوالد بار، شفوق صالح صبار، وحق لنا أن نقول ، وعلى الله بلوغ المأمول:

حيث إن متوسط مكاسب ولديك شهريا مدة السبع سنوات نحو الخمسة عشر جنيها تنصرف مع مكسبك الشهري تقريبا في المنزل مع وجود الدين، ولم يصل للست أمنا من مكاسبنا إلا جنيهان شهريا، فلما من الله علينا بالزواج ألهمنا سبحانه أننا قادمون فضلا عما سبق على ما هو أصعب، فإنه إذا كان الأمر الأول هو في حالة خلونا من الزواج، فما يكون شأن الأمر الثاني ووجود الأزواج، وفي الأول والثاني تكون أمنا محرومة منا، وقد من الله علينا بحل هذه المسألة هكذا:

أولا:

ألا نصرف زيادة عن حدنا.

ثانيا:

ألا نأخذ شيئا بالدين.

ثالثا:

أن تبقى الست والدتنا في منزلنا.

وفي ذلك يا أبانا مزايا دنيوية وأخروية:

أما الدنيوية:

فإنها توفر علينا اثنين جنيه، وهدو سرنا من جهة الست أمنا واحتياجاتها الشرعية.

وأما الأخروية:

فإنها الحصول على رضاء أمنا عنا، كما تحصلنا بفضل الله على رضاء أبينا.

وقد تكلم موسى عليه الصلاة والسلام ثلاثة آلاف وخمسمائة كلمة، فكان آخر كلامه: يا رب أوصني، قال: أوصيك بأمك حسنا، وقد كررها تعالى سبع مرات، قال: حسبي، ثم قال: يا موسى، ألا إن رضاها رضاي وسخطها سخطي. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لابن مهران: لا تأتين أبواب السلاطين وإن أمرتهم بمعروف أو نهيتهم عن منكر، ولا تخلون بامرأة وإن علمتها سورة من القرآن، ولا تصحبن عاقا؛ فإنه لن يقبلك وقد عق والديه.

وجاء رجل إلى النبي

صلى الله عليه وسلم

فقال: يا رسول الله، إن لي والدة أنفق عليها وهي تؤذيني بلسانها فكيف أصنع؟ فقال النبي

صلى الله عليه وسلم : أد حقها، فوالله لو قطعت من لحمك ما أديت ربع حقها، أما علمت أن الجنة تحت أقدام والدتك، فسكت الرجل وقال: والله لا أقول لها شيئا، ثم أتى الرجل إلى والدته وقبل أقدامها، وقال: يا والدتي بذلك أمرني رسول الله

صلى الله عليه وسلم . وقد قال

صلى الله عليه وسلم : ما عبد الله بشيء أفضل من جبر الخواطر. وقد سمعنا منك مرارا: البر بار بأهله. وقال عليه الصلاة والسلام: رحم الله امرأ أعان ولده على بره. ونرى أنه بعد الوصول إلى ذلك لا ريب أن الله تبارك وتعالى يوصلنا إلى الخير، وفي الحديث القدسي: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت له اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته. وقال

صلى الله عليه وسلم : من أحب أن ينسأ له في عمره ويبسط له في رزقه فليصل رحمه.

وعرضنا مسألتنا هذه لحضرتك يا أبانا تحريريا هو لشدة الحياء منك، ولتمكن حضرتك من التأمل والتفكر والتدبر والتروي في هذه التجارة المنجية لنا جميعا من النار، فأعنا يا أبانا في الدنيا يعنك في الآخرة.

والحاصل أن مطمح نظرنا معيشتنا في الدنيا ممتعين بالحزم، ووصولنا للفتوح ورضاء الوالدين ما استطعنا كما أمر الله ورسوله، محاربين أنفسنا والشيطان والدنيا والهوى، خالصة قلوبنا لله فإنا هدنا إليه، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ولا زلتم ملجأ لنا وللقاصدين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وعلمنا الكتاب والحكمة وزكنا إنك أنت العزيز الحكيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

فأجاب صاحب الترجمة طلبهما، فرحمه الله وإيانا رحمة واسعة.

حسين عودة

1252-1332ه

وقفت له على ترجمة بخط الأستاذ العالم السيد عيسى إسكندر المعلوف،

1

قال:

هو الدكتور حسين بن مصطفى أبي عودة، ولد في دمشق نحو سنة 1252ه، ودرس الطب على بعض معاصريه، ثم أتمه في مدرسة قصر العيني المصرية

2

مدة ست سنوات من سنة 1284ه حتى سنة 1290ه، وكانت المدرسة في هذا العهد تشتمل على نحو مائتي طالب من طبيب وصيدلي، وطلبة الشام عشرة، ورئيس المدرسة محمد علي البقلي، وأساتذتها: حسين بك عوف، وسالم باشا سالم، ويوسف بك جاستنيل، وحسن بك عبد الرحمن، ومصطفى أفندي أبو زيد، وغيرهم من مشاهير الأطباء والعلماء، فلما نال المترجم شهادته الطبية عاد إلى صيدا نحو سنة 1291ه، وكان يتردد بين صيدا ودمشق، ويبحث في المكتبات عن الكتب الطبية القديمة، فاقتنى بعضها وطالع معظمها، واختار منها طرق العلاج القديمة بالعقاقير واعتمد عليها في معالجاته.

فكانت مزيته في الطب أنه يقتصر على أبسط الأدوية النباتية مما يجمعه بيده منها ويستحضره بطرق خاصة، ويحرص على المعيشة البسيطة والتغذية النباتية، حتى اعتقد أنه بهذه الذرائع سيعيش أكثر من مائة وخمسين سنة وكان واثقا باعتقاده، وطبب الفقراء مجانا أو بقيمة زهيدة، وتجافى عن تطبيب الأغنياء ولو أعطوه مالا كثيرا.

ومن مزاياه العامة أنه كان ينزع إلى القناعة والكفاف، كريم الأخلاق، محبا للخير، مواليا لجميع الناس، صبورا لين الجانب، حتى عد لذلك غريب الأطوار، ينحو نحو الفلاسفة.

وصادق كثيرا من العلماء وعاشرهم أو راسلهم، مثل المرحومين: أحمد فارس الشدياق، وحسن حسني باشا الطويراني، والشيخ طاهر الجزائري.

وبينما كان يعتقد أنه سيعمر، زلت قدمه وهو سائر في مدينة صيدا فجرح، ولم يلبث أن قضى نحبه في ربيع الأول سنة 1332ه عن نحو الثمانين، وله أطوار غريبة في طرق حياته ومعيشته ومعاشرته وأفكاره وطبائعه.

ومن آثار قلمه: فهرست للمادة الطبية سماه: «عمدة المحتاج في علمي الأدوية والعلاج»، وقد طبع في مصر بمطبعة بولاق سنة 1278ه (ربما 1287ه) فيكون قد ألفه وهو تلميذ، وله تعليقات ومقتطفات من كتب الطب في وصف العلاجات النباتية والنباتات، وترجمة لحسن باشا الطويراني.

هذا ما أمكن الوقوف عليه من ترجمته بعد البحث الكثير والمراجعات الجمة، ومن مصائب العلماء والمؤلفين أنهم قلما يترجمون، بل قلما يضبط زمن وفاتهم باليوم والشهر والسنة، أو تاريخ ولادتهم، وأكبر خطأ يقع في الصحف عدم الاعتناء بذلك.

محمد المبارك الحسني الجزائري

1263-1330ه

وقفت له على ترجمة بخط العلامة الشيخ طاهر ابن الشيخ صالح الجزائري السمعوني، قال:

ولد رحمه الله تعالى في مدينة بيروت على رأس سنة 1263ه، كان والده السيد المبارك أول المهاجرين إليها من الجزائريين.

وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء خامس جمادى الآخرة سنة 1330ه، وبقي حتى وفاته مجموع الحواس، يؤانس أصحابه، ويرسل خلف من لم يحضر، وكان يودعهم واحدا بعد واحد، وقد استحضر كلمة الشهادة ونطق بها مادا بمسبحته ومشيرا بها، وذلك بحضور أصحابه.

وخرجت جنازته رحمه الله على هيئة السنة حسب وصيته، كما أنه أوصى أن يدفن في الصالحية في سفح جبل قاسيون وينزل على والده، واشترك في تشييع جنازته كثير من الناس، وصلي عليه في جامع الشيخ الأكبر بعد صلاة العصر، ثم صعد بجنازته إلى الجبل ونزل على والده العارف بالله تعالى السيد المبارك المتوفى سنة 1268ه، في المقبرة المسماة بالروضة، بين ضريح سيدنا ذي الكفل عليه السلام وبين قبر جده لأمه الإمام الكبير الصوفي الشيخ محمد المهدي، رحمه الله رحمة واسعة.

وقد كتب إليه الأمير عبد القادر الحسني الجزائري قدس الله سره ملغزا في الهرم [أي الشيخوخة]:

أقول على صدق لأهل النهى طرا

ولست بمستثن لئيما ولا حرا

ألا خبروني أين ضلت عقولكم

وكلكم يستهجن الشر والضرا

ويغفل عنه وهو منتبه له

ويطلب هذا الشر أعظم به شرا

وحينئذ يقلوه كل موادد

ومن مس هذا الضر هيهات أن يبرا

فأجابه الشيخ محمد المبارك الجزائري بإشارة منه رضي الله عنه:

أيا جهبذا رقت معاني رموزه

ودقت فلم يدرك لها ذو الحجا سرا

لقد ضل فكري في مهامه لغزكم

ولم يلف من يوليه من طيه نشرا

وما هو إلا كنز در معارف

له رصد يحمي جواهره قسرا

فحاولت أن أجلو براقع وجهه

وأكشف عن معنى بلاغته السرا

فخيل لي أن الرياسة سره

وخلت إذن أني أحطت بها خبرا

ولا ريب أن الجاه أعظم مشتهى

على أنه شر وأعظم به شرا

ومن بعد ذا أمعنت فكري فلاح لي

هو الكبر المستلزم البأس والضرا

وهذا لعمري ليس يرقى سليمه

ولكن ينال الأجر إن أحرز الصبرا

فأسأل رب العرش يحفظ ذاتكم

بجاه ختام الرسل خير الورى طرا

وقد وقفت للشيخ محمد المبارك

1

الحسني الجزائري على ترجمة أخرى بخط الأستاذ العالم السيد عيسى إسكندر المعلوف عضو المجمع العلمي العربي بدمشق الشام، قال فيها:

هو الشيخ محمد بن الشيخ محمد المبارك المغربي الجزائري الدلسي الحسني المالكي الدمشقي، ولد في بيروت سنة 1263ه في أثناء هجرتهم من المغرب؛ لأن أمه كانت حاملا به، فنقل طفلا مع أسرته إلى دمشق، فوصل إليها قبل دخول الأمير الجزائري إليها، فكان أول مهاجر مغربي وصل إلى دمشق في القرن الماضي ومعه كثير من طلبته.

وقرأ على علماء دمشق؛ كالشيخ الطنطاوي، والشيخ الجزائري، واتصل بالأمير عبد القادر الجزائري الحسني وخصه بشعره فلم يمدح أحدا غيره به، وكان يقرئ مقامات الحريري لأولاده، وحضر دروسه الأخرى السيد عبد الباقي الجزائري الحسني ابن أخي الأمير عبد القادر، وهو الذي تولى إفتاء المالكية في دمشق، والشيخ محمد الحكيم، والأستاذ محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق، وكانت مجالسه عامرة بالأدباء، ومال إلى الأدب والتصوف، وله حواش وتعاليق على ما قرأه من الكتب ولا سيما على تفسير ابن جرير الطبري.

وكان يصرح أن مبدأه ليس تأليف الكتب، ولكن تصحيح كتب السلف وضبطها؛ فلهذا لم يكلف بالتأليف كلفه بالضبط والتصحيح، فترى في مكتبته كتبا كثيرة محشوة بالفوائد، مثل: «سيرة ابن هشام»، و«نوادر الأصول» للترمذي الحكيم، و«الذريعة إلى مكارم الشريعة»، و«مقامات الزمخشري»، وكثيرا من كتب التصوف والأدب عليها تقارير ومقابلات، وجمع في مكتبته مخطوطات نفيسة آلت من بعده إلى ولده الشيخ عبد القادر.

وله قصائد تملأ ديوانا مجموعا بخطه، ورسائل ست أشبه بالمقامات طبعت في دمشق، وهي: (1) «غناء الهزار

2

ونضرة البهار في محاورة الليل والنهار». (2) «أبهى مقامة في المفاخرة بين الغربة والإقامة» ذكر فيها الأمير عبد القادر ورحلته إلى بعلبك وهو يرافقه. (3) «المقالة اللغزية والمقالة الأدبية». (4) «بهجة الرائح والغادي في أحاسن محاسن الوادي» ضمنها رحلته إلى غوطة دمشق. (5) «غريب الأنباء في مناظرة الأرض والسماء» طبعت بدمشق سنة 1302ه.

ولقد نال رتبة «قاضي أزمير»، وأقطعته الحكومة أرضا في «حوران» فلم يقبل القطيعة، ولا حضر مجالس الرتبة الرسمية.

وكانت أخلاقه رضية، وله إحسانات للمحاويج، وتوفي سنة 1330ه.

ومن شعره قوله في مدح الأمير عبد القادر الجزائري من قصيدة رائعة:

قد أسفرت بين العذيب وحاجر

خود سبت أهل الهوى بمحاجر

هيفاء طرتها غدت تحكي دجى

ليل، وغرتها كصبح زاهر

يفتر جوهر ثغرها عن لؤلؤ

أجريت منه عقيق دمع هامر

إلى أن قال متخلصا لمدحه:

يصفو بطيب وصالها وقتي كما

يحلو المديح بذكر عبد القادر

مولى حكت أخلاقه في لطفها

مسرى النسائم في رياض أزاهر

بزغت به شمس المعارف بعدما

أفلت فأرشد كل لاه حائر

وختمها مؤرخا سنة 1295ه بقوله:

ما قال ممتدحا مؤرخ شكره

هام الوجود بسر عبد القادر

محمد بدر الدين

1267-1344ه

هو العالم العلامة المحدث الكبير الشيخ محمد بدر الدين الحسني، كان والده الشيخ يوسف ابن الشيخ بدر الدين من علماء الأزهر الشريف، وهاجر إلى الشام، وهو من ذرية سيدنا الحسن، وكان من أعظم علماء الأزهر في عهد الشيخ إبراهيم السقا وقبله، ولما هاجر إلى الشام عمر «دار الحديث» بعد خرابها وجلس للتدريس فيها، وله تآليف عديدة في سائر العلوم، وكان معظما عند علماء مصر والشام، ثم تزوج من بيت الكزبري، وولد له شيخنا الشيخ محمد بدر الدين، ولما أن صار عمر المترجم سبع سنوات رأى والده النبي

صلى الله عليه وسلم

يطعمه ثمرة، ثم رآه مرة ثانية يسقيه حليبا، وقال له: هذا الولد ينتفع به المسلمون.

ولما صار عمر المترجم عشر سنوات انقطع لطلب العلم إلى أن صار عمره ثلاث عشرة سنة، ثم توفي والده فصار يقرأ عند الشيخ أبي الخطيب، وظل كذلك سنتين حفظ خلالهما ستة آلاف بيت من «متون» مختلفة في علوم القرآن الكريم والحديث الشريف، وكان يحفظ كتب الحديث كتابا بعد كتاب مع الإسناد، ثم صار يشرح ويؤلف، وأول شرح هو في مصطلح الحديث، طبع في مصر، ثم جلس في المسجد الأموي لتدريس سائر العلوم للخاصة والعامة، ثم طاف في بلاد مختلفة، منها القاهرة والإسكندرية والحجاز والأقطار العربية الأخرى.

وكان يقرأ درسه في الحديث من البخاري بالإسناد غيبا، ويطبق عليه من سائر كتب الحديث مع الإسناد غيبا، ويطبق مأخذ المذاهب والأصوليين وعلماء التوحيد على الأحاديث، ويبين من الأحاديث العلوم العقلية والنقلية، حتى إن درسه العام في المسجد الأموي كان يشتمل على علوم الطب والهندسة والجغرافية والحساب وغيرها من العلوم الرياضية، وكان يجلس لذلك الدرس بعد صلاة الجمعة من الظهر إلى العصر، ويسرد الأحاديث من سائر كتب الحديث غيبا مع الإسناد، ويسعى الناس من البلاد الإسلامية المختلفة لاستماع الحديث منه وأخذ الإجازة عنه، وقد أخذ هو الإجازة في الحديث عن العلامة الكبير المرحوم مولانا الشيخ إبراهيم السقا رفيق والده في الطلب، وصار العلماء من سائر البلاد يرسلون إليه القصائد والمدائح، ويصفونه بأنه المجدد، وصاحب الوقت، وقطب الزمان ، وترجم له كثير منهم في كتبهم ومؤلفاتهم، ومنهم العالم الهندي الشيخ عاشق إلهي.

ولما بلغ العشرين زوجه ابنته العلامة الشهير شيخ الشام الشيخ محيي الدين العاني الرفاعي، وجاءه منها أولاد أكثرهم نساء، وله ولد واحد اسمه الشيخ محمد تاج الدين صار من علماء دمشق الأعلام.

وقد عين في عهد الحكومة العثمانية مفتيا للجيوش، وفي عهد الأمير فيصل شيخا للإسلام، وعرف منذ حداثته بأنه يقوم الليل ويصوم النهار، ولا يفطر إلا أيام العيدين، وجلوسه على الحصيرة، ولباسه من ثياب القطن، ولا يذهب إلى الحكام.

وقد سمع درسه كثير من علماء مصر، منهم: الشيخ محمد بخيت، والشيخ رضوان العدل، والشيخ مصطفى الجندي، وتخرج عليه في «دار الحديث» كثير من علماء الشام، آخرهم الشيخ محمد المبارك، والشيخ أمين السويد، والشيخ توفيق الأيوبي، واستمر حتى بلغ الخامسة والسبعين مواظبا على درسه الخاص يوم الثلاثاء ودرسه العام يوم الجمعة.

وحينما هاجر إلى الشام العلامة الكبير الشيخ الكتاني جلس في درسه وأخذ منه الإجازة في الحديث، كما طلب الإجازة منه كثير من علماء الآستانة ومصر والعراق والحجاز واليمن وغيرها من الأقطار الإسلامية.

وقد جمع مكتبة نفيسة من المخطوطات خصوصا بعدما احترق قسم من مكتبة والده النادرة.

وللأستاذ الهلالي قصيدة طويلة في مدح الشيخ بدر الدين يقول فيها:

يا عالما جل قدره

ومن حكى البحر صدره

الدين أعلى سماء

وأنت لا شك بدره

رحم الله الشيخ وأكرم مثواه جزاء وفاقا.

ترجمة أخرى

ووقفت له على ترجمة أخرى بخط السيد محمود بن رشيد العطار، قال:

ولد الأستاذ العلامة الشيخ محمد بدر الدين بدمشق سنة 1267ه، وقد مدحته بقصيدة طويلة قلت فيها مؤرخا مولده:

من قد سما بين الأنام قدره

حافظ دين الله فهو بدره

من نشأة قد طهرت أنفاسه

مولده تاريخه «أغراسه»

1267

وولادته كانت بداره - قرب دار الحديث بالأشرفية - مقر المترجم ومقر أئمة الحديث من سبعمائة سنة من أبوين فاضلين تقيين ورعين، فوالدته السيدة عائشة من أسرة الكزبري الدمشقية العريقة المشهورة بالعلم والفضل والحسب والنسب، خصوصا علم الحديث المنتهي رياسته إليها، وقد اعتنت بكفالته بعد وفاة والده أشد الاعتناء وسلمته لشيوخ العصر للتلقي عنهم. أما والده فهو العلامة الإمام الشهير الشيخ يوسف ابن العلامة السيد بدر الدين ابن السيد عبد الرحمن ابن السيد عبد الوهاب ابن السيد عبد الملك ابن السيد عبد الغني المراكشي السبتي الحسني المالكي، وقد ولد الشيخ يوسف في محلة ورياد العروس في مراكش، وينتهي نسبه إلى الولي الكبير الشيخ عبد العزيز التباع أستاذ الولي الشيخ الجزولي صاحب دلائل الخيرات، والشيخ عبد العزيز ينتهي نسبه إلى سيدنا الحسن رضي الله عنه، وقدم دمشق بعدما صار العلم الأوحد، والأستاذ المفرد، في سائر العلوم العقلية والنقلية، خصوصا علم الأدب، فكان حامل لوائه بلا خلاف. وكان تحصيله العلوم بالجامع الأزهر، فأخذ عنه العلامة الشيخ حسن العطار شيخ الإسلام الأسبق، والعلامة الصاوي، والشيخ الفضالي، والأمير الصغير، والسيد محمد الحسيني الشهير بفتح الله، والشيخ حسن القويسني، وغيرهم من شيوخ العصر، واستجاز من الشيخ المحدث عبد الرحمن الكزبري، ومن رفقائه في الدرس: كالعلامتين الأشموني والطهطاوي وأضرابهما، وله مصنفات كثيرة تشهد له بالتفرد وطول الباع في سائر الفنون خصوصا الأدب، فمنها: شرحه على «مولد الدردير» في مجلد سماه «فتح القدير»، ونظم «درة الغواص» للحريري، وهي مفيدة جدا، ومنظومته الشهيرة في فن الرسم العربي، وشرحها المسمى: كشف النقاب عن وجوه مخدرات الطلاب، وهي فريدة في بابها.

أما نظمه فكثير جدا يكاد لا يحصى، مع حسن صياغة وإبداع تفرد بهما في عصره، وكان ينظم على البداهة، ويكاتب أصدقاءه الكثيرين المتفرقين في سائر الأقطار بالشعر ويجيز به أيضا، وقد أجاز العالم الشريف السيد أحمد عابدين صاحب المكتبة الشهيرة بالمدينة المنورة بقصيدة عصماء ساق فيها شيوخه الكثيرين وعددهم، ثم رحل إلى الآستانة واتصل بالسلطان محمود بواسطة صديقه الحميم شيخ الإسلام عارف حكمت، وبسط للسلطان قضية «دار الحديث» المشهورة مقر حفاظ الحديث وشيوخه وأئمة الدين من سبعمائة سنة إلى وقتنا هذا،

1

مثل: ابن الصلاح والنووي والذهبي والمدني والسبكي وأولاده، فقام قومة الأسد الهصور، وسل سيف الحق، وهو حامل لواء الشريعة في زمنه وحامي ذمارها، حتى أيده الله باستخلاص القسم المغصوب من تلك المدرسة «دار الحديث» وأتم تعميرها، وافتتحت باحتفال كبير حضره العلماء والأمراء، ومنهم الأمير عبد القادر الجزائري الحسني صاحب اليد الطولى في مساعدته لاسترداد المغتصب، وقد كان له العون الكبير بواسطة شيخ الإسلام عارف حكمت بنيل مبتغاه واختياره معلما بعد ذلك لنجلي السلطان محمود «عبد المجيد وعبد العزيز» فعلمهما أصول العربية، وقد أجازهما بعد تلقيهما منه، كما مدح العلامة الشيخ يوسف بدر والد صاحب الترجمة السلطان محمود ونجليه في مقدمة منظومته، وكذلك شيخ الإسلام عارف حكمت بقصائد كثيرة.

وقد ترجم له المؤرخان: السيد مراد والسيد جميل الشطي، فقال الأخير في طبقاته بعد أن ساق نسبه كما ذكرناه آنفا: «هو المصري المولد، المغربي الشهرة والمحتد، نزيل دمشق ودفينها الشيخ الإمام العلامة الفقيه المحدث الكبير الأديب البارع الشاعر البليغ المتضلع المتفنن الهمام الأوحد والعلم المفرد، توطن دمشق بين سفر وإقامة، ولما عاد إلى دمشق الأمير عبد القادر الجزائري الحسني أحبه محبة عظيمة، وقدره حق قدره، فقد أخذ العلم في مصر عن مشايخ كثيرين، وقرأ القراءات وأتقنها، وصنف المصنفات الكبيرة مع الدين المتين والورع والزهد، وأخذ عن الشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري، ودرس في الجامع الأموي، وحضر العلماء والأفاضل درسه في مدرسة دار الحديث الشهيرة، وهي التي فتحها ودرس بها وأسكن بها الطلبة، وكان ذلك سنة 1270ه فصارت له أثرا باقيا وخيرا جاريا، وقد نظم فيها قصيدته المشهورة «التحديث عن نازلة دار الحديث»، وهي تزيد على أربعمائة بيت ساق فيها القصة بتمامها، وحسب المطلع عليها أن يعلم ما له من القدم الراسخة في العلم والأدب، وبالجملة كان آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، قوالا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، كان مهيبا تفر العظماء من بين يديه مهابة له وإجلالا، حتى إن السيد طاهر أفندي مفتي الشام المشهور كان يتوارى منه؛ لأنه تراخى عن نصرته في قضية «دار الحديث»، ثم سكن مدة طويلة بالمدينة المنورة، وهناك نظم قصيدته التوسلية الشهيرة في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأولها:

إليك رسول الله وجهت وجهتي

لأنك باب الله في أي محنة

وأنت ملاذ العارفين بأسرهم

إذا ما استغاثوا سيما يوم حسرة

وهي قصيدة سارت بذكرها الركبان، تقرأ عند اشتداد الكروب ونزول المصائب، ولقد أخبرنا أحد الثقات أنه كان إذا دخل من باب الجامع الأموي وأحس به بعض المدرسين قام مختفيا خشية الوقوف على درسه والتكلم معه، كما أخبر بعض المعمرين أنه كان يأتي بعض ضواحي دمشق وقراها؛ كقرية دوما وكفر سوسه، فيدخل الجامع فيجتمع عليه الناس للوعظ والانتفاع بعلمه وفضله، فيقرأ أولا عشر من القرآن الكريم بالقراءات العشر، ثم يشرع بالوعظ بلا كتاب، وقد أخبرنا الشيخ عثمان الدرماني الحنبلي الفقيه إمام مسجد درما أنه جلس مرة للوعظ مبتدئا ببيت من البردة فشرحه بأنواع الفنون، ثم توقف هنيهة فأنشأ عدة أبيات من بحر البردة وقافيتها، كما نظم تاريخا بديعا منقوشا على جدار درما الشهير.

وله مع الأمير عبد القادر الجزائري الكبير واقعة مشهورة، وهي أنه في أثناء احتدام قضيته «دار الحديث» دخل على الأمير عبد القادر الجزائري وهو يقرأ البخاري لتلامذته فقال موجها الخطاب للأمير: أصلي أربع تكبيرات على هذا الميت، فكان هذا سببا لقيام الأمير بنصرة الشيخ، وبالجملة كان مجدد عصره بلا خلاف، وحامل لواء السنة بالاتفاق .

ورأيت بخط تلميذه الشيخ عبد السلام الشطي أنه توفي يوم الخميس 19 جمادى الآخرة سنة 1279ه في دمشق، ودفن في تربة باب الصغير، وقبره ظاهر يزار ويتبرك به.

وأعقب المترجم نجليه: العلامة الشيخ محمد بدر الدين وأخاه المرحوم الشيخ أحمد بهاء الدين، وكان الأخير من أهل العلم إماما في مدرسة دار الحديث، ثم صار شيخا للتكية المجيدية يقيم بها الذكر والطريقة النقشبندية إلى أن توفي إلى رحمة الله، وخلف ولدا دعاه يوسف ضياء الدين، وهو في كنف عمه يطلب العلم أسوة بأسلافه.»

نشأة الأستاذ الأكبر الشيخ بدر الدين

وقد نشأ الأستاذ الأكبر مولانا الشيخ بدر الدين في حجر والده العلامة الشيخ يوسف المشار إليه آنفا، وحفظ القرآن الكريم بمعونته وإرشاده، وقرأ عليه مبادئ العلوم حفظا وفهما، وحينما أشرف والده على الموت كان يقول له: تركتك لله يا بدر الدين، وكان لوالده شغف عظيم به ومحبة شديدة له، وقد ذكره في قصيدته التوسلية، وكان غائبا عن دار الخلافة لأجل قضية «دار الحديث»، قال:

وأما الذي قد أورث القلب حسرة

ففرقة من للعين أعظم قرة

محمد ابني من به امتن خالقي

علي عقيب الشيب إبان شيخة

ففارقته قهرا ولا كافل له

سوى من قضى بالبعد عنه لحكمة

وقولي على من رام لي عنه فرقة

بمحض الأذى: الله حسبي بحرقة

وأهدي صلاتي الهاشمي محمدا

تمتعني قبل الممات برؤية

عليه صلاة الله ما حن غائب

وما اكتحلت عين برؤيا الأحبة

وبمناسبة «دار الحديث» تذكر حادثة أخرى لها وقعت خلال الحريق الهائل الذي شب في دمشق والتهم سوق الحميدية الشهير، فقد احترق قسم منها، فبلغ الوالي عزت باشا العابد، الذي اعتزم عمارتها على أحسن طراز بعد زيارته لها وتفقدها مع المرحوم السيد عبد الحميد الزهراري، وجدد العزيمة الصادقة على عمارتها، وصرف مالا كثيرا في هذا السبيل، وبالرغم من قيام بعض أحفاد الذين عارضوا تعميرها من قبل لصرف همته، ولكن الله أبى إلا أن تعمر وتعود لما كانت عليه، وهي بحمد الله عامرة بأهل العلم والطلبة من الصباح إلى المساء، وهي المعهد الوحيد الذي تدرس فيه العلوم على اختلاف أنواعها، وتقصد من أطراف الأرض فيزورها الجاوي والبخاري والهندي والصيني والأفغاني والمدني والمصري والداغستاني واليمني والتتري، فهي تعج بالأجناس المختلفة.

وفي حقها قال «السبكي»:

وفي دار الحديث لطيف معنى

أصلي في جوانبها وآوي

لعلي أن أمس بحر وجهي

مكانا مسه قدم النواوي

ويقال إن نعل المصطفى عليه الصلاة والسلام بحائطها القبلي، والله أعلم.

ولما توفي والد المترجم كان عمره اثنتي عشرة سنة، فقعد في غرفة والده بدار الحديث، ولها اتصال بداره، وصار يطالع الكتب التي تركها له والده بهمة عظيمة، ويحفظ المتون في أنواع الفنون بحافظة غريبة.

وقد أخبرني رجل مغربي صالح ثقة اسمه الحاج أحمد، وكان مختصا بخدمة بيت الشيخ، أن المترجم لما جلس مكان والده في الحجرة وصار يطالع الدرس بالليل، كان والده يتجلى له ويرشده بروحانيته إلى ما استعصى عليه فهمه من المشكلات.

وقص على أمه ما يرى، فقالت له: إن أرواح الصالحين تحضر وتزور من تحب. وكانت من العابدات الصالحات، قل مثلها في زمنها، ثم إنها أخذت الأستاذ وذهبت به إلى العلامة أبي الخير الخطيب في دمشق وأوصته به خيرا، فعامله الشيخ المذكور معاملة ولده؛ لما رأى عليه من سيماء النجابة والذكاء المفرط مع خلق كريم وورع عظيم، وشغله بحفظ المتون في الفنون المختلفة، فحفظ الألفية والشاطبية وألفية الحديث للعراقي وغيرها مما يقدر بستة آلاف بيت، ثم شفعها بقراءة شروحها بفهم وإتقان، ولم يكمل الثامنة عشرة من عمره، حتى نبغ نبوغا باهرا خارقا للعادة، لفت إليه أنظار مشايخه، فأجازوه إجازة عامة، وأذنوا له في التدريس والتأليف، فشرح «غرامي صحيح في مصطلح الحديث» ولما يكمل العشرين من عمره، وطبع الشرح سنة 1286ه، ثم أقبل على المطالعة لنفسه بهمة شماء وعزيمة صحيحة، لا يفتر عن ذلك آناء الليل وأطراف النهار، وحفظ من الأحاديث بأسانيدها ما شاء الله أن يحفظ. ويقال إنه يحفظ البخاري ومسلم بأسانيدهما، ولا يغيب عنه حديث قط من الكتب الستة، ومن رأى الأستاذ في درسه العام وهو يسرد الأحاديث بأسانيدها ويتكلم عليها بأنواع العلوم، علم أن الله اختصه بقوة حافظة خارقة للعادة لم يسمع بمثلها، ثم صار يكتب على بعض المتون شروحا؛ فشرح «الإظهار» شرحا مفيدا جدا، ومنظومة «موافقات سيدنا عمر» للسيوطي، وشرح «البيقونية»، ومتونا كثيرة في الصرف، وكتب حاشية على «شرح المحلي على البردة»، وحاشية على «الجلالين» في أربعة مجلدات، وكتب شرحا على «مختصر ابن الحاجب»، وقد رأيت ذلك كله بخطه، وله تقييدات كثيرة على أطراف الكتب، ولعل له تآليف أخر لم أطلع عليها؛ لأنه يريد ألا ينسب له شيء منها تواضعا، وقد محا اسمه عنها كلها هضما لنفسه، كل ذلك ولم يتجاوز العشرين من عمره ، ثم صار يقرأ للطلبة في الجامع الأموي النحو والصرف والبلاغة والمنطق والفقه وغيرها.

وقرأ درسا عاما بين العشاءين، وسمعت أنه كان يقرأ تفسير البيضاوي عن ظهر قلبه دون أن يحمل كراسا، وكان جهوري الصوت، يجتمع عليه الخلق الكثير صفوفا صفوفا، فتعطلت دروس غيره من الشيوخ لشدة فصاحته ولإخلاصه الخالص.

ثم اعتزل في حجرته بالمدرسة ولم يخرج منها مدة سبع سنوات، حتى يقال إنه ما كان يرى أبدا، ويصلي فيها حتى الجمعة لالتصاق حجرته بالمسجد من جهة الشرق، فأكب خلالها على المطالعة والحفظ، مقبلا بكليته على علم الحديث حتى صار فيه الحجة البالغة، ثم رحل إلى حمص، فأقبل عليه أهلها إقبالا عظيما وأخذوا عنه، وكان ذلك في سنة 1294ه، ثم رجع إلى حجرته في المدرسة حتى جاوز الثلاثين، فقرأ درسا عاما في جامع السادات عن ظهر قلبه من صحيح البخاري، وقد بهرت الناس فصاحته وتكلمه على الحديث الواحد من علوم شتى لم تعرف بديار الشام، مثل الحكمة والطب والرياضيات وغيرها، وانتقل لكثرة الخلق عليه - لما ضاق بهم الجامع - إلى جامع سنان باشا، فكان يقرأ ليلتي الجمعة والاثنين من بعد المغرب إلى العشاء، ويجتمع عليه الألوف من الناس، ويأتون من قبل المغرب فيصلون في الجامع، ويمكثون لشدة الزحام في أماكنهم لامتلاء المسجد بسدتيه العليا والسفلى حتى الرواق وصحن المسجد الخارجي، وكان يحضر درسه العام عزت أفندي متصرف دمشق التركي إذ ذاك بعد أن يبدل ثيابه ويلبس جبة وعمة على هيئة أهل العلم، وأحبه محبة عظيمة، وما إن اجتمع في الآستانة بالوزراء وأهل الحل والعقد حتى أخبرهم بالأستاذ وأنه مع حداثة سنه من أجل المحدثين، متكلما عن ظهر قلبه في سائر الفنون مع فصاحة وطلاوة تأخذان بمجامع القلوب، فأثمرت مساعيه تعيين عشرة ليرات معاشا شهريا للأستاذ دون علمه، حتى إن الأستاذ كان على عاداته يقرأ الدروس في الأصول والتوحيد والمعاني والوضع والمنطق كحاشية الأزميري على المرآة وحواشي التلويح والمطول والأطول والخيالي وحواشيه والعصام والكفوي على الوضعية والقطب على الشمسية وشرح حكمة الإشراق وغيرها، وبينما هو يقرأ الدروس جاءه رسول الوالي فقدم له ظرفا كبيرا يحوي براءة سلطانية بالمعاش المذكور، فقال الأستاذ له: ليس هذا لي، وامتنع عن أخذه مع أنه كان في أشد الحاجة، ثم لم ير بدا من قبوله.

ثم تزوج المترجم بكريمة العارف بالله ذي الكرامات الظاهرة والمناقب الفاخرة العالم الكامل السيد الشريف محيي الدين العاني الرفاعي، ورزق منها أولاده، وصار أخو المترجم الشيخ أحمد بهاء الدين يتناول المعاش ويتولى أمر البيت، والأستاذ مشتغل بقراءة الدروس.

وفي سنة 1298ه أسند إليه التدريس في الجامع الأموي، فقرأه باحتفال حضره أعيان العلماء والرؤساء والوالي وجماعته، وكان إذ ذاك «مدحت باشا»، فابتدأ بالحديث الأول من صحيح البخاري ذاكرا سنده ومشايخه، وأتى على مقدمة عظيمة في علم الحديث شارحا منقوله ومعقوله، وما ترك علما من العلوم إلا ذكر شيئا منها، واختتم بالدعاء بالصلاح والتوفيق لولاة الأمور، واستمر كذلك في إلقاء هذا الدرس كل يوم جمعة بعد صلاتها إلى أذان العصر، مبينا ما يبنى على الحديث من الأحكام الشرعية على اختلاف مذاهب المجتهدين، مرجحا الأقوى منها مأخذا وأدلة، وقد تبلغ الأحاديث التي يذكرها مما يتعلق بحديث الباب مائة حديث، ويدلل على المسألة الواحدة بما يطبقه من علم الأصول وآداب البلاغة في البحث والتفسير والتوحيد والأدوات كلها حتى الحكمة والفلسفة والطب والهيئة والهندسة ، مما يبهر السامعين ببديع تقريره، ومن بينهم أحد الذين تخصصوا في الطب والرياضيات مثلا فيشهد له حين يسمعه باليد العليا في هذه الفنون.

وعلى الرغم من حضور درسه الحكام والأمراء والقضاة جلوسا جانبه وحوله، وأكثر الحاضرين وقوف، فإنه يبلغهم جميعا صوته بلا توقف ولا تلعثم منتقلا من البحث إلى الآخر بأدنى مناسبة، ويذكر الأحاديث المخوفة مشددا الأمر على من بيدهم أمور الناس فيبكيهم ويذكرهم بالعودة إلى الرجاء والثواب للعادلين والذين لأماناتهم وعهدهم راعون، بين ترغيب وترهيب في وصف العلاج، شأن الحكماء، مع إجابته متيسما متلفتا عما يخطر ببال المتخصص بعلم من الأسئلة متكلما فيه مفيدا ومجيدا، ويختم درسه بآيات مطبقا إياها بما يحير الألباب، ومن عادته الجلوس في مصلاه بعد صلاة الفجر مع الجماعة قارئا أوراده إلى طلوع الشمس مؤديا صلاة الضحى وما قطعها مرة حتى في الحج، فيقوم للوضوء مستقبلا القبلة داعيا ومصليا بعد عودته إلى غرفته نوافل كثيرة، فإذا أذن للظهر صلاه مع الجماعة إلى صلاة العصر قارئا درسا أو أكثر إلى قبيل المغرب فيصليه جماعة أيضا، ذاهبا إلى داره بعد الصلاة، فيفطر ويجلس للدرس في بيته ويحضره الكثير من الخاصة والعامة، إلى أن يصلي العشاء جماعة، ثم يذهب إلى مضجعه، علما بأنه لم يصل إماما في حياته، مع كونه لم يترك صلاة الجماعة أصلا، وكان يزور أهل الصلاح والتقوى والفقراء متفقدا مدارس الأولاد الصغار طالبا الدعاء منهم ومن معلميهم ماسحا برءوس الأيتام، وكذلك زيارته المسجونين ناصحا واعظا متلطفا معهم، ولم يدخل طول عمره دواوين الحكومة، متورعا كثيرا في الفتاوى الفقهية، وكثيرا ما يحيلها إلى بعض تلامذته، وقد وصفه أحد علماء الهند بقطب الزمان ومجدد الأوان، كما كان شيخ الإسلام في الآستانة يقول عنه إنه قطب العالم الإسلامي، ورحل إلى الحجاز مرتين، فقرأ بمكة المكرمة بعض كتب الحديث، كما زار مصر مجتمعا بالشيخ الأشموني رفيق والده في الأزهر، وذهب إلى القدس الشريف وغيرها.

وكانت زيارته للروضة النبوية الشريفة في حجته الأخيرة سنة 1333ه قبيل صلاة الجمعة، فاغتسل ولبس أحسن ثيابه، ثم توجه إلى الحرم النبوي، فلما دخله اجتمع عليه الخلق، ولكنه لم يكلم أحدا منهم حتى خرج، ثم أخذ يستقبل أفواجا بعد أفواج من العلماء والطلبة وغيرهم، ثم رحل إلى الآستانة مرتين، وعين أستاذا للعلوم الدينية، وتولى مشيخة الإسلام في حكومة الملك فيصل الأول.

وكان رحمه الله ربعة، خفيف العارضين، قليل شعر الوجه، مرتفع الجبهة وعليها أثر السجود، وآية المهابة والنجابة والذكاء المفرط تلمع من وجهه الأبيض وعينيه الحادتين جاذبية، ويداه كالحرير لينا والفضة بياضا، يلبس الثياب البسيطة التي لا تميزه عن غيره، قليل الكلام إلا في الدرس، ورعا، مضرب الأمثال، ما قبل هدية قط، ولا رئي مفطرا فيما عدا الأيام المنهي عن صيامها، مهتما بأمور الخلق أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، حريصا على نفعهم ومنفعتهم، شافعا لهم عند الحكام فلا ترد شفاعته، كما كتب إلى كثير من الملوك والأمراء والحكام في أقطار الأرض، حاثا لهم على العمل وإقامة الحق بين الخلق، فلسان الخلق أقلام الحق، رحمة الله عليه وعلى أمثاله من أهل الصدق بين العالمين.

طاهر الجزائري

1268-1338ه

يرجع نسب الشيخ طاهر الجزائري إلى أسرة الأدارسة بالمغرب، ويعتبر والده السيد محمد صالح بن أحمد بن موهوب الجزائري الإدريسي الحسيني آخر من قدم من أفراد أسرته إلى المشرق، إذ قدم إلى دمشق سنة 1263ه، واشتهر فيها بتبحره في العلوم والمعارف، والتزامه مكارم الأخلاق، وبها توفي سنة 1285ه، تاركا عدة أولاد أشهرهم الشيخ طاهر المترجم له.

وقد ولد الشيخ طاهر بدمشق بعد قدوم والده إليها بخمس سنوات، وعني والده بتنشئته وتربيته، فتلقى علوم العربية وآدابها على مشاهير علماء عصره، وعني بجمع الكتب والمخطوطات منذ حداثة سنه إلى آخر حياته، كما عكف على دراسة اللغتين الفارسية والتركية فأتقنهما بجانب إتقانه علوم العربية، وفي الوقت نفسه حذق اللغة الليبية، وهي لغة قبائل الجزائر المغربية.

وكانت هوايته للكتب سببا لتنقله في مختلف البلاد لجمع نفائسها، فأكسبته رحلاته معارف جمة جديدة، وتوثقت صلاته بكثير من العلماء والأدباء في البلاد التي زارها، وصار مرجعا يعتد به في فن وصف المخطوطات ومعرفة مظانها.

وإلى الشيخ طاهر الجزائري يرجع الفضل في السعي الحثيث في إنشاء كثير من المؤسسات النافعة في دمشق، وفي مقدمتها الجمعية الخيرية التي ضم إليها مشاهير العلماء والوجهاء السوريين، وتم تأسيسها سنة 1894م وأنشأت مدارس عديدة، كما أنشأت مطبعة قامت بطبع كثير من الكتب المدرسية.

ومن مساعيه الحميدة تأسيس المدرسة الظاهرية بدمشق، وإنشاء مكتبتها الكبيرة التي جمع فيها ما كان مبعثرا من الكتب والمخطوطات القيمة في المساجد والمدارس وغيرها فحفظها بذلك من الضياع ويسر الانتفاع بها.

كما يرجع الفضل إلى الشيخ طاهر الجزائري في إنشاء المكتبة الخالدية بالقدس.

وإلى جانب هذا كله، عكف رحمه الله على جمع نفائس المخطوطات ونوادر المطبوعات، وواصل جهوده في التأليف والترجمة، وقام برحلات عدة إلى جزيرة العرب وغيرها من بلاد المشرق ثم أعقبها برحلات أخرى إلى الآستانة ومصر والبلاد الأوروبية.

وفي سنة 1316ه/1898م عين مفتشا لمكاتب الشام، ولبث في هذا المنصب أربع سنوات قدم خلالها خدمات جليلة لتنظيم هذه المكاتب والنهوض بها.

وحدث أن قام بعد ذلك برحلة إلى فلسطين، وفي أثناء غيبته هناك قامت السلطات الحاكمة في دمشق بتفتيش داره فيها ومصادرة كتبه وأوراقه والتحفظ عليها في مكتبه الخاص بمدرسة عبد الله العظم «باشا»، فاستاء من هذه المعاملة، واستقر رأيه على المهاجرة إلى مصر، وتم له ذلك في سنة 1905، وحمل معه إليها أكثر محتويات مكتبته الثمينة تاركا بقيتها في المكتبة الظاهرية بدمشق بعد أن وقفها عليها، وقد رحب به علماء مصر وأدباؤها وبقي فيها محوطا بالإجلال والتكريم، حتى أصيب بمرض طال علاجه في سنة 1919، فعاد إلى دمشق حيث عين مديرا للمكتبة الظاهرية ثم عضوا في المجمع العلمي هناك، ولكن مرضه ما لبث أن اشتد وأسلم روحه الطاهرة إلى بارئها بعد قليل.

وقد ترك الشيخ طاهر الجزائري عدة مؤلفات مخطوطة، منها: التفسير الكبير، والمعجم العربي، والسيرة النبوية، وجلاء الطبع في معرفة مقاصد الشرع، وموسوعة باسم «التذكرة» في عدة مجلدات ضمنها ما اختاره من فرائد المخطوطات والكتب النادرة.

أما مؤلفاته المطبوعة، فمن أهمها: كتاب «بديع التلخيص وتلخيص البديع» وقد طبع على الحجر سنة 1878م، وكتاب «منية الأذكياء في قصص الأنبياء»، عربه عن التركية وطبع سنة 1881م، وكتاب «الفوائد الجسام في معرفة خواص الأجسام» وموضوعه الحكمة الطبيعية، وقد جمع بين قديمها وحديثها، وطبع سنة 1883م، وكتاب «عقود اللآلي في الأسانيد العوالي»، وطبع سنة 1885م، وكتاب «مدخل الطلاب إلى فن الحساب»، وطبع ثلاث مرات، وكتاب «تمهيد العروض إلى فن العروض»، وطبع سنة 1886م.

وله مؤلفات كثيرة أخرى منها كتابان في مصطلح الحديث، هما: «مبتدا الخبر في مبادئ علم الأثر»، و«توجيه النظر إلى أصول الأثر»، وكتاب في التجويد اسمه «تدريب اللسان على تجويد البيان»، وكتاب باسم «البيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن»، وقد انتفع بهذه المؤلفات في حياته وبعد مماته كثيرون من طلاب العلم والمعرفة في سوريا ومصر وغيرهما من البلاد العربية.

سليم الآمدي البخاري

1268-1347ه

وقفت له على ترجمة بخط الشيخ سعيد الباني أحد مريديه، قال: هو الشيخ سليم الآمدي أصلا، البخاري شهرة، نسبة إلى بخارى بلدة أمه، ولد في دمشق سنة 1268ه، ونشأ على حب العلم منذ نعومة أظفاره، فكان نابغة في العلوم التي حصلها في الآداب العربية واللغة والفقه والأصول والحديث، وألم ببعض العلوم، واقتنى مكتبة نفيسة، وقد تخرج في المدارس التحضيرية كأمثاله في زمانه، ثم تولى شئون تربيته العلمية الشيخ محمد البرهاني خال والدته، وكان من فقهاء الحنفية بدمشق، فلقنه العلوم الدينية من فقه وغيره، ووكل إلى العلامة الشيخ عمر الأصفهاني حفيد الشهاب العطار تعليمه العلوم العقلية من منطق وحكمة، وعلوم العربية من صرف ونحو ووضع ومعان وبيان وبديع.

ثم لزم المترجم له بعد ذلك العلامتين الجليلين: أستاذنا الشيخ بكري العطار، ومنلا طه الكردي، للتزود من علوم العربية والعلوم العقلية، وتلقى الحديث الشريف، رواية ودراية، من علامة دمشق ومحدثها الجليل الشيخ سليم العطار، كما أنه لزم علامة دمشق النحرير الشيخ محمد الجوخدار، والشيخ محمد الجزائري مفتي السادة المالكية بدمشق، وأجازه فقيه الديار الشامية السيد محمود أفندي الحمزاوي مفتي دمشق الأسبق بعد أن لزم مجالسه العلمية واقتبس منه كثيرا من الفوائد والقواعد.

وكان هو والسيد أبو الخير عابدين والمرحوم طاهر الجزائري رفاقا في الطلب منذ عهد الشباب، وأخذوا عن طبقة واحدة، ثم تخصص كل واحد منهم ببعض أنواع العلوم.

وحينما سافر إلى الديار الحجازية للحج وزيارة الروضة النبوية الشريفة، مكث بمكة المكرمة ستة أشهر، تلقى خلالها متن «الشمسية» في المنطق و«الربع المجيب» من الشيخ رحمة الله الهندي صاحب كتاب «إظهار الحق»، ودرس «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي على السيد أحمد الدهان من علماء مكة، كما لزم دروس السيد زيني دحلان مفتي مكة المكرمة.

ولما رجع من الحجاز أسندت إليه وظيفة مفتي لواء المدفعية في الفيلق الخامس، بعد أن أحرز السبق في الامتحان لها، ولإجادته اللغة التركية تكلما وكتابة مع إلمامه باللغة الفارسية، فنهج في وظيفته منهج النزاهة والأمانة، واستمر إلى ذلك يقرئ طلاب العلوم، ويتبحر في علوم العربية وآدابها، وفي التاريخ والطبقات والشريعة، واطلع على كثير من نفائس الكتب التي كانت كنزا دفينا فحاول هو وصديقه المرحوم الشيخ طاهر الجزائري كشفها وإحياءها، وكان بطبعه محبا للاطلاع على جميع المؤلفات الحديثة في علوم الاجتماع والعمران والسياسة والحكمة النظرية والعلوم الكونية، وعلى الصحف السيارة والمجلات العلمية التي تقتطف من ثمرات علوم الغرب.

لهذا كان من العلماء المجيدين ودعاة الإصلاح، وقد خدم المعارف خدمة تذكر فتشكر حينما كان عضوا في الجمعية الخيرية المؤلفة في عهد مدحت باشا الوزير العثماني قبل إحداث مديرية المعارف، وكان على جانب عظيم من الذكاء وسرعة الخاطر وقوة الحافظة، سليم الصدر، طاهر القلب لا يضمر السوء والغش لأحد، شديد الغيرة على الوطن والشعوب العربية، مستمسكا بدينه ومبادئه، لكنه يمقت التعصب الذميم والتنطع بالدين، رحب المحيا، رقيق الشمائل، يحب النظافة والإتقان والترتيب والنظام، فائق الهمة، جامعا بين تؤدة الشيوخ وهمة الشباب، صداعا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، وله مواقف عجيبة من هذا القبيل، كان آخرها موقفه مع جمال باشا؛ فقد كان الشيخ بوصفه من كبار الأحرار المصلحين لا يرضى عن الحكم المطلق، بل ينشد الإصلاح الذي من شأنه سعادة الوطن وعمرانه وحياة الأمة ورفاهيتها ورقي الدولة وصيانة كيانها، فاتحد رأيه مع رأي أحرار الترك أعضاء جمعية «تركيا الفتاة» وانتظم في سلك هيئاتهم السرية، وظل زهاء ثلاثين سنة يجاهد في هذا السبيل، معرضا نفسه إلى الخطر، حتى أعلن القانون الأساسي، وحينما رأى تهور الاتحاديين انسحب من جمعيتهم ولزم الحياد، وحينما تمادوا في طغيانهم وبدت عليهم علائم سوء النية نحو العناصر غير التركية، خصوصا العرب، اضطر إلى المجاهرة بمخالفتهم، وانتظم في سلك حزب الحرية والائتلاف، ثم كان في طليعة المنادين بالإصلاح والمطالبة بحقوق العرب المهضومة، فحنقت عليه الحكومة التركية وتربصت به الدوائر، حتى أعلنت الحرب العامة سنة 1914م ودخلتها الدولة، وتولى جمال باشا قيادة الحملة المعروفة، فقبض على الشيخ وزج به في سجن الشرطة شهرين، ثم سيق إلى مجزر عاليه، ونفي بعد ذلك إلى الأناضول، وكان ولده المرحوم محمود جلال في عداد الشهداء.

وفيما هو سجين في نزل «دمسكس بلاس» استدعاه جمال باشا وأفهمه أنه يريد إعفاءه من النفي على شرط أن يكف لسانه عن الطعن على الحكومة، فأجابه بقوله: «اقض ما أنت قاض»، فأيقن جمال أنه لن يسكت عن مظالم الحكومة وعدل عن العفو عنه.

وظل الشيخ يشنع على فظائع الحكم غير مبال ولا متهيب، وقد أعجب بعلمه وفضله وإخلاصه كل من صحبه من علماء الأتراك وسراتهم وأعيانهم.

وعقب الانقلاب العثماني، طلب أن يحال إلى التقاعد فأجيب طلبه ولزم بيته، وعكف على مطالعة كتبه ومزاولة درسه وبحثه، ثم ألح عليه إسماعيل فاضل باشا أحد ولاة سوريا في قبول عضوية لجنة الأوقاف فقبل بعد أخذ ورد طويلين.

ولما ذهب الحكم التركي، عين عضوا في مجلس الشورى، وانتخب عضوا في المجمع العلمي العربي، وعضوا في مجلس المعارف الكبير، إلى أن أسندت إلى عهدته رياسة العلماء في دمشق.

وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة 1347ه بدمشق رحمه الله.

محمد أبو الخير عابدين

1269-1343ه

وقفت له على ترجمة بخطه،

1

قال فيها رحمه الله:

إن هذا الحقير أبو الخير محمد بن أحمد بن عبد الغني بن عمر، المعروف كأسلافه بابن عابدين، المتصل نسبهم الشريف بالسيد الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم، كما هو مذكور في مشجر النسابة الحميدي وفي تكملة رد المحتار، وأما مولده فدمشق الشام سنة تسع وستين ومائتين وألف من الهجرة، نشأ في حجر والده، ودخل المدرسة سنة ثمانين ومائتين وألف، فأخذ النحو والصرف والفقه والكلام والحديث والأصول والمنطق والتصوف والفرائض والحساب والمصطلح والبيان والتفسير والآداب عن جملة من أفاضل العلماء، منهم: والده، وابن عمه السيد محمد علاء الدين صاحب التكملة، والشيخ محمد الطنطاوي، والشيخ بكري العطار، والشيخ محمد الملاطي، والشيخ عبد الرحمن البوسنوي الشهير بمغربي زاده، والشيخ سعيد الأسطواني، والسيد محمود الحمزاوي مفتي دمشق، ولازم أمانة الفتوى بدمشق ما ينيف على خمس وثلاثين سنة، ثم تولى نيابة قضاء درما، ثم قضاء بعلبك، ثم قضاء درعا، وسافر إلى الآستانة مرتين بعد أن تولى إفتاء دمشق الشام، وبعد أن دخلت الحكومة العربية دمشق الشام عزله الملك فيصل عن الإفتاء، وعين عضوا في محكمة التمييز للنقض والإبرام.

وأما سماعه الحديث وإجازاته به وبغيره فمن والده وابن عمه، ومن السيد الحمزاوي، ومن طاهر أفندي مفتي الشام الأسبق، ومن الشيخ محمد البيطار أمين الفتوى، ومن السيد محمد الكتاني حينما كان في المدينة المنورة، ومن كثير من المشايخ الأعلام، كتابة من أكثرهم، ومشافهة من الباقين.

وأما أخلاقه فحب العزلة وقلة التردد على أبواب الكبار، ولا يحب الدخول فيما لا يعنيه، ويرجح راحة البال، ويفضل الإقامة في أكثر الأوقات في قرية من قرى الشام.

وأما آثاره فله عدة رسائل لم ينشر منها سوى رسالة في «تكرار القصص الواردة في القرآن الكريم» حررها جوابا عن سؤال من بعض أهل العلم، والمرجو من الله سبحانه حسن الختام.

وهذه ترجمة أخرى للعلامة محمد أبي الخير عابدين

هو العلامة مفتي الشام محمد أبو الخير بن أحمد بن عبد الغني بن عمر، وبقية نسبه في ترجمة ابن عم أبيه السيد محمد علاء الدين عابدين، اشتغل بطلب العلم كأسلافه، وجد وحصل، وتولى الإفتاء بدمشق ثم تركه.

لقيته في رحلتي لدمشق فرأيت فضلا وكمالا وتواضعا وحسن سمت، واطلعت له على إجازة كتبها سنة 1339ه للعلامة المحقق السيد أحمد رافع الطهطاوي يطلب منه إيصال سنده بالعلامة السيد محمد أمين الشهير بابن عابدين عم والد المترجم، فاستخلصت منها أسماء شيوخه الذين أخذ عنهم، فمنهم: والده السيد أحمد عابدين، وابن عمه السيد محمد علاء الدين، والشيخ طاهر أفندي مفتي الشام، والشيخ محمد البيطار أمين الفتوى بدمشق، والسيد محمود الحمزاوي مفتي دمشق، والسيد عبد الله الصوفي الطرابلسي، والشيخ المفسر بكري العطار، والسيد حسين الغزي، وقرأ جملة من النحو والمنطق والحساب على عالم الشام الشيخ محمد الطنطاوي، وقرأ المختصر مع حاشية الدسوقي على الشيخ الصوفي محمد الملاطي، وانتفع كثيرا في النحو والصرف والحديث وغير ذلك بالأخذ عن الشيخ عبد الرحمن البوسنوي الشهير بمغربي زاده، وسمع بعض البخاري والحديث المسلسل من الشيخ سليم العطار والشيخ مسلم الكزبري، وقرأ على الشيخ سعيد الأسطواني: «الأشباه والنظائر»، مع مطالعة حواشي الحموي والكفوي والبيري وأبي السعود، وحاشية الشيخ صالح ابن صاحب التنوير، وسمع من الشيخ يوسف المغربي حديث الأولية، وأجازه إجازة عامة.

وللمترجم عناية وولوع باقتناء نفائس الكتب ونوادرها من المخطوط والمطبوع، وله خزانة جمعت كثيرا منها على ما بلغني، ولم أطلع على شيء منها بسبب قصر المدة التي قضيتها بدمشق.

حسن المدور البيروتي

1279-1342ه

وقفت له على ترجمة ملخصة من مقالة نشرت بإحدى جرائد سورية بقلم السيد طه المدور ابن أخيه، قال:

ولد سنة 1279ه، ودرس على الشيخ محمد رمضان، وبعد أن بلغ الثانية والعشرين من عمره، ذهب إلى دمشق، فأخذ عن علمائها، مثل الشيخ بدر الدين الخاني، والشيخ الكزبري، ومكث بها خمس سنوات، ثم رجع إلى بيروت واشتغل بها، ثم رحل إلى مصر، واشتغل بالحضور في الأزهر على شيوخه ومنهم الأستاذ الشيخ محمد عبده، ثم عاد إلى بيروت، وشرع في الإقراء، فكان يقرأ كل يوم 11 درسا بلا انقطاع، وبقي يدرس ويفيد 47 سنة.

وقبل إعلان الدستور العثماني بسنوات، أسس المدرسة العلمية، وجعل ناظرا لها، ثم تركها لأنها شغلته عن دروسه، وبعد إعلان الدستور بقليل جعل أمينا للفتوى، وأستاذا للدروس الدينية في المكتب السلطاني، وظل كذلك مع اشتغاله بالتدريس بالمساجد إلى وفاته، وكانت طريقته في التدريس حسنة يفهمها العامي والمتعلم.

وكان متوسط القامة، حنطي اللون، عسلي العينين، يميل إلى الزهد وعدم التأنق في ملبسه، حسن الأخلاق، متواضعا، كثير المطالعة، يكره المزاح، وكان متضلعا من المذاهب الأربعة، وفريدا في المذهب الحنفي، وفي المنطق، وعلم الميراث، وكثير من العلوم كالرياضيات والبلدان والتاريخ.

وأجازه كثيرون حتى لقد اجتمع عنده «55» إجازة، وكان نقشبندي الطريقة، وله من المؤلفات 20 (عشرون) مؤلفا لم يطبع منها غير ثلاثة في الفقه والتوحيد، رحمه الله.

أعلام العراق

رقم مسلسل

أسماء الأعلام

التاريخ

1

نعمان الآلوسي

1252-1317ه

2

محمود شكري الآلوسي

1272-1342ه

3

نائب بكتاش

1107-1187ه

4

الحاج عمر البغدادي (باقر زاده)

1167-1229ه

5

المنلا مختار فتحي

1160-1226ه

6

أبو محمد عبد الله الكردي البيتوشي

1161-1221ه

7

عبد الغفور البغدادي

1161-1251ه

8

علي السويدي

1163-1237ه

9

مكي إسماعيل ولي

1168-1228ه

10

نامي الأربيلي

1171-1241ه

11

سليمان الموصلي

1171-1233ه

12

عناية الله أغا القبولي

1174-1230ه

13

المنلا عبد الرحمن بن أبي بكر

1178-1242ه

14

عبد العزيز الشواف

1178-1249ه

15

محمد جواد السباهبوش

1179-1245ه

16

صالح التميمي

1180-1261ه

17

علي السويدي البغدادي

1184-1245ه

18

خالد النقشبندي

1190-1242ه

19

عبد الجليل البصري

1190-1253ه

20

أحمد السويدي

1218-1287ه

21

عبد الغفار الأخرس

1221-1290ه

22

أمين الواعظ

1223-1274ه

23

علي الكردي

1226-1316ه

24

المنلا عثمان الجبوري

1227-1304ه

25

داود الكرخي

1231-1299ه

26

حسين البثردري

1232-1322ه

27

عبد الفتاح البغدادي

1233-1299ه

28

عبد السلام أفندي

1234-1318ه

29

إسماعيل الموصلي

1236-1302ه

30

محمد فيظي المفتي

1237-1307ه

31

حيدر سليمان الحلي

1246-1304ه

32

أحمد المشاهدي

1262-1336ه

33

عباس الكرخي

1267-1335ه

34

عبد الرازق الأعظمي

1281-1328ه

نعمان الآلوسي

1252-1317ه

وقفنا على ترجمة له بخط السيد محمود شكري الآلوسي مؤرخة 22 رجب سنة 1339، قال رحمه الله:

هو السيد نعمان بن محمود بن عبد الله بن محمود الآلوسي البغدادي، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي آل أبي طالب رضي الله عنهما، ولد يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف للهجرة النبوية، وقد أرخ ولادته يومئذ شاعر عصره عبد الحميد الأطرقجي فقال:

بدا الكوكب الدري والقمر الذي

محاسنه للشمس أضحت تسامت

فلا عجب إن فاح كالمسك عرفه

فها هو من بيت النبوة نابت

له ثبت الحق الصريح من العلى

وتاريخه حق لنعمان ثابت

1252

وقد اشتهر بأنه السيد خير الدين نعمان أبو البركات ابن السيد محمود عبد الله الآلوسي كما تقدم، ولم ينبت منه العذار إلا وجمع من الفضائل ما يسعه أسفار، ولم يبلغ سن العشرين إلا وصار من الأساتذة المعتبرين، أخذ العلم عن والده المبرور وعن أجلة تلامذته ممن كان بالفضل مشهورا، وقد أجازه العلماء الأعلام والمشايخ العظام بجميع العلوم من منطوق ومفهوم، وجمع من الأسانيد والأثبات ما لم يجتمع عند غيره من ذوي الفضائل والكمالات، وقد اقتحم مشاق الأسفار لذاك، وطوى شقق البعاد لما هناك، له المحبة التامة بالعلم وذويه، والشغف الوافر بالفضل وحامليه، لا سيما ما كان عليه السلف الصالح، من الطريق المستقيم الواضح، فقد طوى قلبه على محبتهم، وسلوك نهجهم وطريقتهم، فأحيا ذكرهم بعد اندراسه، وأوقد مصباح هديهم بعد انطفاء نبراسه، سيف الله المسلول على أهل البدع والأهواء، والبلاء المبرم على من خالف الشريعة الغراء، ولا يجنح في الغالب لتأويل، ولا يميل إلى زخرف الأقاويل، فهو سلفي العقيدة، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، صادع بالحق؛ فلذا كثر معاندوه، وخصماؤه وحاسدوه، فإن الحق صعب على المغلوب، وترك مألوف العوائد تأباه القلوب، وكان في الوعظ لا يشق له غبار، ولا يدرك في مضمار، فهو كالسيل المنحدر، والغيث المنهمر، فهو كما قال القائل:

إذا ما رقي للوعظ ذروة منبر

لخطبته فالكل مصغ ومنصت

فصيح عن الشرع الإلهي ناطق

وعن كل مذموم من القول صامت

تولى أيام شبابه بعض المناصب العلية، فكان فيها محمود السيرة، حتى ترك جميع ألسنة الناس تلهج بالثناء عليه، ثم ترك ذلك وسافر إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر رسوله عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، ثم عاد إلى وطنه واشتغل بالتدريس والتأليف ، ثم سافر إلى دار الخلافة عن طريق الشام، واجتمع بغالب هاتيك الديار الأعلام، فاستجاز وأجاز، ومر أيضا على مصر لأجل طبع تفسير والده، واجتمع هناك أيضا بأفاضلها ومشاهير علمائها ومنهم السيد عبد الهادي الإبياري عليه الرحمة، فلما وصل إلى القسطنطينية ألقى بها عصا التسيار، فعومل هناك أحسن معاملة، وأحلوه من الاحترام محله، وبعد أن نال مقاصده عاد إلى وطنه قرير العين، بعد أن أقام في تلك الديار نحو سنتين، وعند ذلك مدحه الشعراء، وأثنى عليه الأدباء، ثم انتصب للتدريس في المدرسة المرجانية، ونشر الفضائل والسنن النبوية، وكان قد جمع ما جمع من الكتب النادرة فأوقفها على تلك المدرسة، فهي إلى اليوم محفوظة فيها، لم يزل المستشرقون يزورونها ويستكتبون منها ما ندر وجوده في غيرها، كانت هذه المدرسة مهجورة نعبت البوم في أكنافها، حتى أعادها كما كانت أيام منشيها.

ألف كتبا عديدة، وتصانيف مفيدة، منها: حاشية على شرح القطر لمصنفه، أكمل بها حاشية والده، وقد اشتملت على تحقيقات، ومنها: كتاب الشقائق، واسمه شقائق النعمان على شقاشق ابن سليمان، وابن سليمان هذا كان من متصوفة بغداد، اسمه داود، أصله من عانات، كان داعية للبدع، ألف رسالة دعا بها العوام إلى الغلو في أهل القبور، وقد قرظ الشقائق شاعر عصره عبد الباقي أفندي العمري بأبيات منها:

شقاشق ابن سليمان أضحت لها. ... إلى آخر الأبيات.

ومنها: الآيات البينات، نصر فيها ما قاله السادة الحنفية في باب الإيمان من عدم سماع الأموات، ولما نشرها قام لها القبوريون وقعدوا، ومنها: جلاء العينين في المحاكمة بين الأحمدين، وهو كتاب مشهور نصر فيه الشيخ ابن تيمية ورد فيه ما تقوله عليه ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي، ومنها: كتاب غالية المواعظ، وقد لخصه من كتب ابن الجوزي وغيره، ورتبه ترتيبا حسنا سهل فيه مسالك الوعظ، فهو اليوم عليه اعتماد أغلب الواعظين في الديار العراقية وغيرها، ومنها: الأجوبة النعمانية عن الأسئلة الهندية، وله كتاب مختصر مشتمل على كلام لا تختلف قراءته صدرا وعجزا، وكذا الكلمات، كلفظ «سلس»، وقد شرح كفاية المتحفظ للأجدابي ولم يتمه، وله غير ذلك، وله نثر لطيف وشعر رقيق قد جمع في مجموع مفرد.

ومن أجل مصنفاته: الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح، وهو الكندي الذي ألف رسالة وطعن فيها على الديانة الإسلامية، والرد بمجلدين طبع في الهند، وقد قرظه جمع من العلماء نظما ونثرا، منه قول علي بن سليمان أحد أفاضل علماء نجد من قصيدة طويلة:

هو البدر إلا أنه غير آفل

هو العلم الفرد الذي فاز بالشكر

تآليفه أمست جلاء عيوننا

وسارت بها الركبان في البر والبحر

ولا سيما الرد الفسيح فإنه

كتاب حوى علما يجل عن الحصر

وبان به شرع الإله ودينه

وأصبح مقطوعا به دابر الكفر

والقصيدة طويلة، وكان حلو المفاكهة، سريع المحاضرة، محبوب العشرة، كثير اللطائف والنكات، حسن الخط، وافر العقل، وكان مربوع القامة، أبيض اللون، يميل إلى الصفرة، صبورا على عناء المداراة، وترك أربعة بنين لم يزالوا مشتغلين بالعلم،

1

ثم إنه تمرض عدة أشهر، ثم انتقل إلى رحمة الله، وحضر جنازته جمع لا يحصون عددا، رحمة الله عليه.

محمود شكري الآلوسي

1272-1342ه

وقفت له على ترجمة كتبها بخطه، قال رحمه الله:

إني محمود شكري، المكنى بأبي المعالي، ابن السيد عبد الله بهاء الدين بن أبي الثناء السيد محمود شهاب الدين الآلوسي، وينتهي نسبي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، ولله الحمد على ذلك، وقد ولدت صباح يوم السبت تاسع عشر رمضان سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف.

ثم لما بلغت من العمر ثماني سنين ختمت الكتاب الكريم، وشرعت في قراءة بعض الرسائل، وقرأت طرفا من العربية على والدي، ثم أنخت مطايا التحصيل على الفاضل الكامل، والشيخ الواصل، علامة عصره، وفهامة دهره، الشيخ إسماعيل الموصلي رحمه الله، وكان في قوة الحفظ والذكاء وحسن الأخلاق على جانب عظيم، كما أنه كان في الزهد والورع «جنيد» زمانه، فلم تمض إلا أعوام يسيرة حتى شملتني بركته، فوصلت الليل بالنهار في التحصيل، وفارقت أخداني وأقراني، وانزويت عن كل أحد، فأكملت قسما عظيما من الكتب المهمة في المنقول والمعقول، والفروع والأصول، وحفظت غالب متون ما قرأته من الكتب المفصلة والمختصرة، وأدركت ما لم يدركه غيري، ولله الحمد.

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي

من وصل غانية وطيب عناق

وتمايلي طربا لحل عويصة

في الدرس أبلغ من مدامة ساق

وصرير أقلامي على أوراقها

أشهى من «الدوكاه» و«العشاق»

وألذ من نقر الفتاة لدفها

نقري لألقي الرمل عن أوراقي

ثم إني توغلت في اتباع سيرة السلف الصالح، وكرهت ما شاهدته من البدع والأهواء، ونفر قلبي منها كل النفور، حتى إني منذ صغري كنت أنكر على من يغالي في أهل القبور وينذر لهم النذور، ثم إني ألفت عدة رسائل في إبطال هذه الخرافات، فعاداني كثير من أبناء الوطن وشرعوا يغيرون على ولاة البلد، ويحرضونهم على كتابة ما يستوجب غضب السلطان علي، وفعلوا ذلك مرارا حتى ألجئوا بعض الولاة أن يكتب للسلطان بأن الأمر خطر إن لم يتداركه، وأن العراق تخرج من اليد، بسبب تغير عقائد الأعراب إلى ما يخالف ما عليه الجمهور من العوام، ولم يزل يلح حتى ورد الأمر بإبعادي إلى جهة ديار بكر.

فلما وصلت إلى الموصل قام رجالها على ساق ومنعوني أن أتجاوز بلدتهم، وكتبوا كتابات شديدة اللهجة إلى السلطان، فجاء الأمر بعد أيام بعودي إلى بغداد مع مزيد الاحترام والإكرام، وسقط في أيدي الأعداء، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

وقد وفق الله تعالى لتأليف عدة كتب ورسائل تتجاوز خمسين مؤلفا ما بين مختصر ومطول، ومنها ما قد طبع ونشر، ومنها ما لم يزل في زوايا الخمول والنسيان، وقد نظم في مدائحي شعراء العصر على اختلاف بلادهم وتباين أقطارهم مما قد دون في كتاب مفصل مع ما لهم من المنثور أيضا، من ذلك ما قاله

1

أديب بغداد أخي في الله أحمد بن عبد الحميد الشاوي الحميري مفتي البصرة، رحمه الله تعالى، في 16 جمادى الأولى سنة 1311ه:

معاتبتي لو أعتب الدهر للدهر

بما قد جرى لا تنقضي آخر العمر

وحربي مع الأيام لا صلح بعده

ولا هدنة حتى أوسد في القبر

وكيف وقد روعنني بفراق من

علي فراقيه أمر من الصبر

أخ ماجد ما دنس اللؤم عرضه

ولا خاط كشحيه على الغدر والمكر

ولا قلب قلب المودة إن يغب

له صاحب يدميه بالناب والظفر

ولكنه يعطي المودة حقها

ويجمع للخل الوفاء مع النصر

ولا هو ممن همه لبس فروة

يباهي بها أقرانه من بني المصر

وينفض تيها مذرويه مفاخرا

ويرفع من فرط التكبر بالصدر

ويرفل في أثوابه متبخترا

وينظر كيما يرهب الناس عن شزر

لعمري لقد جربت أبناء دهرنا

برمتهم في حالة الخير والشر

وقلبتهم ظهرا لبطن بأسرهم

مرارا لدى الحاجات في اليسر والعسر

فما سمعت أذناي ما سر منهم

ولا أبصرت عيناي وجه فتى حر

وما إن رأى إنسان عيني واحدا

كما شئت إنسانا يعد سوى شكري

ولو لم يكن في حاضر العصر مثله

لقلنا على الدنيا العفاء بذا العصر

فقل لغبي قاسه بسوائه

ولم يعرف التبر المصفى من الصفر

عداك الحجى أين الثريا من الثرى

وأين حصى الحصباء من درر البحر

وحيث إني قد بلغت من العمر اليوم ما بلغت، تذكرت قول بعضهم:

أعيني لم لا تبكيان على عمري

تناثر عمري من يدي ولا أدري

إذا كنت قد جاوزت ستين حجة

ولم أتأهب للمعاد فما عذري؟

فتوفرت على درس ألقيه، وكتاب أنظر فيه، وفرض أؤديه، وتفريط في جنب الله أسعى في تلافيه، لا يشغلني عن ذلك شاغل، ولا يكف كفي عن مثابرتي في نشر الفضائل، لعل الله سبحانه وتعالى يدخلني دار رحمته، ويسكنني مع من سبقت له الحسنى في جنته، فإن الرحيل قريب، وكأني للنداء مجيب، وما أحسن قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه:

وإن امرأ قد سار خمسين حجة

إلى منهل من ورده لقريب

وهذا ملخص حالي، وما جرى علي من حوادث الليالي، ونسأل الله حسن العواقب. •••

ولما علم فقيدنا العلامة أحمد تيمور باشا من إحدى رسائل العلامة الأب أنستاس الكرملي خبر نعيه، كتب إليه يقول: «قضى الله، ولا راد لقضائه، أن يفجع العلم بإمامه ونبراسه، وأن يحرم المستفيدون من سندهم في حل معضلاته، ويعلم الله ما كان لهذه المصيبة من الوقع في نفسي، ولكن ما الحيلة وقد نفذ القضاء وطوي الكتاب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.»

وقد رثاه شاعر العراق الكبير السيد معروف الرصافي بقصيدة عصماء جعل عنوانها «وا شيخاه»، وفيها يقول:

أزمعت عنا إلى مولاك ترحالا

لما رأيت مناخ القوم أوحالا

رأيتنا في ظلام ليس يعقبه

صبح فشمرت للترحال أذيالا

كرهت طول مقام بين أظهرنا

بحيث تبصرنا للحق خذالا

ولم ترق نفسك الدنيا ونحن بها

لسنا نؤكد بالأقوال أفعالا

وكيف تحلو لذي علم إقامته

في معشر صحبوا الأيام جهالا

لذاك كنت اعتزلت القوم منفردا

حتى أقاربك الأدنين والآلا

وما ركنت إلى الدنيا وزخرفها

ولا أردت بها جاها ولا مالا

لكن سلكت طريق العلم مجتهدا

تهدي به من جميع الناس ضلالا «محمود شكري» فقدنا منك حبر هدى

للمشكلات بحسن الرأي حلالا

قد كنت للعلم في أوطاننا جبلا

إذا تقسم فيها كان أجبالا

وبحر علم إذا جاشت غواربه

نغصت بالحزن شهر العيد شوالا

أعظم برزئك في الأيام من حدث

هزت علي به الأيام عسالا

أمست لروعته الأبصار شاخصة

أما القلوب فقد أجفلن إجفالا

طاشت حصاة العلا لما نعيت لها

وكل ميزان حلم بالأسى شالا

إذا نعيك وافى مصر منتشرا

جثا أبو الهول يشكو منه أهوالا

وإن أتى البيت، بيت الله، رج به

وأوجس الركن من منعاك زلزالا

أما العراق فأمسى الرافدان به

سطرين للدمع في خديه قد سالا

بكى الورى منك حبرا لا مثيل له

أقواله ضربت في العلم أمثالا

بكوك حتى قد احمرت مدامعهم

كأنهم نضحوا فيهن جريالا

ولو لفظنا لك الأرواح من كمد

لم نقض من حقك المفروض مثقالا

ولا نخصص في رزء بتعزية

إلا علوما أضاعت منك مفضالا

فإن رزءك عم الناس قاطبة

يا أكرم الناس أعماما وأخوالا

شكرا لأقلامك اللاتي كشفت بها

عن أوجه العلم أستارا وأسدالا

كتبن في العلم أسفارا سيدرسها

أهل البسيطة أجيالا فأجيالا

أمددتها بمداد ليس يبلغه

دمع الأنام وإن يبكوك أحوالا

وكنت أنت نطاسي العلوم بها

وكن في سبر جرح الجهل أميالا

يا مطلعا في سماء الفكر أنجمه

تهدي إلى العلم رحالا وقفالا

لو أنني بلغت زهر النجوم يدي

نحتها لك بعد الموت تمثالا

ما ضرنا بعد ما خلدت من كتب

ألا نرى لك بين الناس أنجالا

إذا ذكرناك يوما في محافلنا

قمنا لذكراك تعظيما وإجلالا

إني أخف لدى ذكراك مضطربا

وإن حملت من الأحزان أثقالا

لأشكرنك يا «شكري» مدى عمري

وأبكينك أبكارا وآصالا

فأنت أنت الذي لقنتني حكما

بها اكتسيت من الآداب سربالا

أوجرتني من فنون العلم أدوية

شفت من الجهل داء كان قتالا

فصح عقلي وقبلا كنت مشتكيا

من علة الجهل أوجاعا وأوجالا

أنا المقصر عن نعماك أشكرها

ولو ملأت عليك الدهر إعوالا

فاغفر عليك سلام الله ما طلعت

شمس وما ضاء بدر الليل أو لالا

2

أعيان في بغداد

وقفنا على هذه التراجم لبعض السادة العلماء والأدباء ببغداد بخط صديقنا الأديب الأستاذ علي أفندي ظريف، وهو معروف بعروبته وصدق لهجته ونبوغه في العلم والأدب، وفيما يلي بيان هذه التراجم:

نائب بكتاش (1107-1187ه)

كان السيد الشيخ نائب بكتاش أفندي ابن عمر أفندي البغدادي المعروف باسم بارودجي زاده عالما فاضلا فقيها فرضيا.

وكان يلقب بملتقى الأبحر لسعة علمه وغزارة اطلاعه، مشهورا بالذكاء والتقوى والورع، وقد عمر طويلا إذ عاش نحو ثمانين سنة، وتوفي إلى رحمة الله في سنة 1187ه.

الحاج عمر البغدادي «باقر زاده» (1167-1229ه)

كان الحاج عمر أفندي البغدادي المعروف بباقر زاده عالما فاضلا مشهورا بالخير والكرم والصلاح، وأصله دركزنلي، ونبغ في الفارسية، وعمر 62 سنة، وتوفي لرحمة مولاه سنة 1229ه بعد أن انتفع بعلمه وإرشاده جمع كثير من الدارسين.

المنلا مختار فتحي (1160-1226ه)

كان المنلا مختار أفندي ابن فتحي أفندي البغدادي عالما جليلا وفقيها فاضلا مولعا بالعلوم الرياضية، وتعين في آخر أيامه خطيبا في جامع شهرابان، وهي بليدة شرقي بغداد تبعد عنها بمرحلتين وأصل اسمها «شهراباذ»، وتوفي بعد ست وستين سنة قضاها في الفقه والدرس والتحصيل، وتوفي لرحمة الله سنة 1226ه، رحمه الله.

أبو محمد عبد الله الكردي البيتوشي (1161-1221ه)

هو أبو محمد عبد الله بن محمد الكردي البيتوشي، ولد سنة 1161ه، ونشأ في بيتوش، ثم هاجر إلى بغداد، وأخذ العلم عن علمائها حتى فاق أقرانه، وله عدة تآليف، منها: «شرح الفاكهي» على قطر ابن هشام، و«منظومة كفاية المعاني» وشرحها بشرحين مختصر ومطول، وله شعر رائق، ومن شعره قبل وفاته:

إني أحن إلى العراق ولم أكن

لا من رصافته ولا من كرخه

لكن في بغداد لي من قربة

أشهى إلي من الشباب وشرخه

وتوفي في بلدة الأحساء سنة 1221ه رحمه الله.

عبد الغفور البغدادي (1161-1251ه)

كان السيد عبد الغفور البغدادي من علماء الشافعية الأجلاء، وقد أخذ العلم عن الشيخ يحيى المروزي العمادي، وعن الشيخ خالد النقشبندي، وكان عالما فاضلا مشهورا بالتقوى والزهد والورع، نقشبندي الطريقة، وهو ينتمي نسبه إلى سيدنا الحسين رضي الله عنه، وبلغ عمره نحو التسعين، وتوفي ببغداد سنة 1251ه، رحمه الله.

علي السويدي البغدادي (1163-1237ه)

هو الشيخ علي أفندي السويدي ابن محمد سعيد أفندي ابن عبد الله أفندي المعروف بالسويدي، وكان عالما فاضلا نحريرا، فصيحا بليغا تقيا، وله اليد الطولى في علم الحديث، وله عدة تآليف، منها: «العقد الثمين»، و«رسالة في الخضاب»، وله كذلك شعر رائق، قال من قصيدة طويلة:

وأحسن رأي المرء ما كان حازما

بفصل خطاب يصطفيه المهند

ولا فضل إلا في ذرى السيف والقنا

ولا حكم إلا حكمه المتأيد

وتوفي بالشام سنة 1237ه، ودفن بجبل قاسيون، عليه رحمة الله.

مكي إسماعيل ولي (1168-1228ه)

كان مكي إسماعيل أفندي ابن ولي أفندي البغدادي عالما فاضلا، أخذ العلم بالتلقي عن أحمد أفندي الطبقجلي وعن غيره من علماء بغداد المشهورين في زمانه، وعينه الوالي عمر باشا كاتبا لديوانه، وكانت ولادته سنة 1168ه، إذ عاش ستين سنة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى سنة 1228ه.

نامي الأربيلي (1171-1241ه)

ولد في أربيل ونشأ بها، وبلغ من العلم والفقه ما أهله لتولي قضائها، ثم هاجر بغداد في أيام الوالي داود باشا بعد أن استقال من قضاء أربيل، فعينه معيدا لدرس البخاري عنده، ثم عينه بعد مدة قاضيا في البصرة، واستقال من منصبه بعد سنة، ورجع إلى بغداد، وتوفي بها سنة 1241ه، حيث كان من العلماء المشهورين، وعاش 70 سنة، رحمة الله عليه.

سليمان الموصلي (1171-1233ه)

كان سليمان بك الموصلي الأصل المعروف بفخري زاده عالما فاضلا جليل القدر، بارعا في اللغة العربية، ذا إلمام كامل بالفارسية، ماهرا في علم المنطق والفلسفة، قضى حياته مجدا في دراسات العلوم وتدريسها ليعم نفعها ويؤتى ثمرها، إلى أن توفي ببغداد سنة 1233ه رحمه الله، وعاش نحو اثنتين وستين سنة.

عناية الله أغا القبولي (1174-1230ه)

هو عناية الله أغا ابن أحمد أفندي القبولي البغدادي، وكان عالما فاضلا بارعا في علم الموسيقى، وكان مولعا باقتناء الكتب، مشهورا بالذكاء، عاش 56 سنة، وتوفي سنة 1230ه ببغداد، وله حاشية على «عبد الله اليزدي»، ووجد بعد موته في مكتبته 1463 كتابا، كلها من نفائس المخطوطات في علوم مختلفة، رحمة الله عليه.

المنلا عبد الرحمن بن أبي بكر (1178-1242ه)

كان المنلا عبد الرحمن بن أبي بكر البغدادي عالما فاضلا، اشتهر بالتبحر في الفقه الشافعي، وكان تمسكه بالمذهب الشافعي سببا في تقلده التدريس بمسجد الشواف في الكرخ، وقد توفي إلى رحمة الله سنة 1242ه، وقيل إنه من مواليد سنة 1178ه.

عبد العزيز الشواف (1178-1249ه)

كان عبد العزيز أفندي الشواف عالما فاضلا، وكان يدعى «سيبويه الثاني»، أخذ العلم عن أبيه العلامة محمد أفندي الشواف، وأخذ عنه عدة من علماء بغداد، وهو من بيت علم وجاه، وتوفي سنة 1249ه في الطاعون الجارف ببغداد، رحم الله ضحايا الطاعون ووقى المسلمين أجمعين.

محمد جواد السباهبوش (1179-1245ه)

هو السيد محمد جواد البغدادي المعروف بالسباهبوش، كان شيعي المذهب، طويل الباع في الشعر والنثر، واتهم بالزندقة، وبلغ داود باشا والي العراق أنه يحاول اختصار القرآن الكريم، فأحضره وسأله في ذلك، فأنكر وقال له: إن لي أسوة بجدي فقد رموه قبلي بأكبر مما رموني به.

ولما لم تثبت التهمة أطلقه الوالي، وتوفي إلى رحمة الله سنة 1245ه، ومن شعره من قصيدة طويلة يرثي بها الشيخ خالد النقشبندي:

خدين الهوى خف الخليط المعاهد

وأطلال أحباب هويت هوامد

وله قصيدة طويلة هجا بها بيوت التجار ببغداد في أيام داود باشا، وهي مشهورة، ومطلعها:

لا تبتغي غير فضل الله في الطلب

ومن يؤمل عطاء الله لم يخب

ولا تبدل نعيما دائما أبدا

بلذة قرنت بالبؤس والتعب

صالح التميمي (1180-1261ه)

هو الشيخ صالح التميمي ابن الشيخ درويش ابن الشيخ علي زيني التميمي البغدادي، ولد سنة 1180ه ببغداد، وتوفي بها سنة 1261ه وعمره 81 سنة، وكان من كتاب العربية الأوائل في أيام داود باشا والي العراق، وهو من شعراء بغداد المشهورين، ومن شعره من قصيدة في مدح داود باشا:

بطلعتك الزوراء أشرق نورها

فأعيادنا أيامها وشهورها

بعدلك والحلم استضاءت شموسها

وبأسك والحزم استنارت بدورها

لعمرك ما زاغت عن الرشد أمة

إذا كان عن داود يتلى زبورها

علي السويدي (1184-1245ه)

هو العلامة علي أفندي السويدي البغدادي العباسي، من أكابر علماء العراق، ومن أشرف البيوتات في بغداد علما وفضلا وأدبا وفقها وتشريعا، وقيل إنه من مواليد سنة 1184ه، وتوفي لرحمة الله سنة 1245ه.

خالد النقشبندي (1190-1242ه)

هو الشيخ خالد بن أحمد بن حسين النقشبندي، ولد سنة 1190ه في قصبة «قره طاغ» من بلاد شهرزور، والمشهور أنه من ذرية عثمان بن عفان رضي الله عنه، هاجر إلى بغداد في صباه، وأخذ العلم عن علمائها، ومنهم: السيد صبغة الله الحيدي، والسيد عبد الرحيم البرزنجي، والشيخ محمد بن آدم الكردي، وأخذ عنه جماعة من العلماء.

وله عدة تآليف قيمة، منها: «شرح مقامات الحريري»، و«شرح العقائد العضدية»، و«رسالة في إثبات مسألة الإرادة الجزئية»، وله ديوان شعر بالفارسية، وكان شافعي المذهب، نقشبندي الطريقة، عالما زاهدا أديبا، بارعا في العلوم العقلية والنقلية، وأخذ الإجازة الحديثية المتسلسلة من الشيخ الكزبري.

ولما علا صيته، واشتهر علمه، رحل إلى السليمانية لبث العلوم، ثم عاد إلى بغداد وأقام بها مدة طويلة، ثم سافر منها إلى الشام في أيام داود باشا والي العراق، وتوفي إلى رحمة الله في دمشق سنة 1242ه غير متجاوز الاثنين والخمسين عاما هجريا.

عبد الجليل البصري (1190-1253ه)

هو السيد عبد الجليل البصري ابن السيد ياسين الطباطبائي، كان عالما فاضلا أديبا، كاتبا شاعرا، أخذ العلوم عن علماء البصرة، وكان مشهورا بالتقوى والصلاح، كريم الخلق، على جانب عظيم من الحلم والتواضع والزهد والورع.

وكانت ولادته سنة 1190ه، وتوفي إلى رحمة الله سنة 1253ه.

أحمد السويدي (1218-1287ه)

هو الشيخ أحمد أفندي السويدي، كان عالما فاضلا، اشتهر بكثرة التحصيل وسعة الاطلاع في علوم الفقه والتشريع، وبرع في تفسير القرآن الكريم، وتولى القضاء مرارا في بلاد العراق، وقد عمر تسعا وستين سنة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى سنة 1287ه.

عبد الغفار الأخرس (1221-1290ه)

هو السيد عبد الغفار الأخرس ابن السيد عبد الواحد ابن السيد وهب، ولد في الموصل سنة 1221ه، ونشأ في بغداد، وهو سلفي العقيدة، علوي النسب، وكان يتجول في البلاد العراقية، وفي أيام صباه أرسله داود باشا والي العراق إلى الهند ليصلح لسانه من الخرس فرجع دون فائدة، وكان من الشعراء المشهورين، وتوفي سنة 1290ه رحمة الله عليه، وقد جمع له ديوانا من الشعر بعد وفاته أحمد عزت باشا العمري، وهذا الديوان مشهور بديوان الأخرس.

ومن شعره من قصيدة طويلة:

ظعن الركب ضحوة وأراني

لم يطب لي بعد الحبيب المقام

فاترك الهزل يوم جد بجد

إن هزل المقام بالشهم ذام

أمين الواعظ (1223-1274ه)

هو السيد أمين أفندي الواعظ ابن السيد محمد أفندي الشهير بواعظ القادرية، كان عالما نحريرا، وفاضلا أديبا، وهو من بيت علم ومجد ببغداد، وكان لاشتهاره بالتبحر في علوم الشريعة وفقه الحنفية يدعى أبا يوسف الثاني، وقد ولد سنة 1223ه، وتوفي سنة 1274ه رحمه الله.

علي الكردي (1226-1316ه)

هو علي أفندي الكردي؛ إذ كان كردي الأصل، بغدادي المنشأ، أخذ العلم عن عبد السلام أفندي، والسيد إسماعيل أفندي الموصلي، وكان محبوبا عند الخاصة والعامة، محترما مهيبا أينما توجه أو أقام، وقد تقلد وظيفة التدريس في مدرسة حسن باشا، وفي أواخر حياته تقلد وظيفة أمين الفتوى، وتوفي سنة 1316ه، وعمر نحو التسعين، وكان مشهورا بالورع والزهد، كما تخرج عليه جماعة من علماء بغداد، يرحمه الله.

المنلا عثمان الجبوري (1227-1304ه)

المنلا عثمان الجبوري البغدادي، كان عالما فقيها، مشهورا بالصلاح والورع والذكاء، حتى إنه اختير تعيينه خطيبا في جامع الحلة من بلاد بغداد فكانت حلقات دروسه غالبا ما يرد إليها جمهور كثير العدد من رواد العلم والتفقه في الدين، وعمر رحمه الله نحو سبع وسبعين سنة، وتوفي بالحلة سنة 1304ه.

داود الكرخي (1231-1299ه)

كان الشيخ داود أفندي الكرخي - من بلدة الكرخ - عالما فاضلا، تقيا ورعا زاهدا، مشهورا بالصلاح، وهو من كبار الصوفية في بغداد، نقشبندي الطريقة، حنفي المذهب، وقيل إنه ولد في سنة 1231ه، وتوفي إلى رحمة الله سنة 1299ه.

حسين البثردري (1232-1322ه)

كان حسين أفندي البثردري ابن عبد الله عالما فاضلا، اشتهر بالتبحر في العلوم العربية، وتقلد التدريس بمدرسة الأعظمية مدة طويلة، وكانت وفاته رحمة الله عليه سنة 1322ه، وعمره نحو التسعين، وقد مضى في تدريس العلوم العربية وإرشاد طلاب المعرفة إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، ومكث أكثر من ستين عاما يزاول مهنة التدريس وتثقيف الدارسين عليه، جزاه الله خيرا.

عبد الفتاح البغدادي (1233-1299ه)

كان عالما فاضلا جليلا مشهورا بالفقه، حتى كان يعرف بأبي يوسف الثاني، وعمل مدرسا بمدرسة القادرية، وعمر نحو ست وستين عاما، وتوفي إلى رحمة الله تعالى سنة 1299ه بعد أن انتفع بدراساته وتهذيبه جم غفير من الطلبة والرواد.

عبد السلام أفندي (1234-1318ه)

هو من أكابر علماء العراق، ولد سنة 1234ه في أيام داود باشا والي العراق، وأخذ العلم من العلامة السيد محمود شكري الآلوسي، وعن العلامة عيسى النبدنجي، وأخذ عنه جماعة من علماء بغداد، وكان زاهدا ورعا، عمر طويلا، وتوفي سنة 1318ه، وهو من سكان الجانب الغربي من بغداد، وكان مدرسا في مدرسة القادرية، محترما عند الولاة، محبوبا عند جميع البغداديين على اختلاف مذاهبهم، وله نفوذ ديني على أهل السنة ولا سيما أهل الجانب الغربي.

ولما مات أغلقت أسواق بغداد ذلك النهار، وكانت لموته رنة حزن، وهو حنفي المذهب، وله رسالة «شرح الإظهار» في النحو، و«شرح حديث جبريل عليه السلام».

إسماعيل الموصلي (1236-1302ه)

كان من أكبر علماء العراق، أخذ العلم عن علماء الموصل مسقط رأسه في سنة 1236ه حيث كان مولده، ثم هاجر إلى بغداد وسكن بها، ثم نصب مدرسا في مدرسة الصباغين، وأخذ عنه العلم جماعة من علماء بغداد، منهم: السادة شاكر أفندي الآلوسي، والسيد أحمد أفندي الخالدي، وعلي أفندي الكردي، وكان سلفي العقيدة، ذكيا، زاهدا، حسن الأخلاق، توفي سنة 1302ه ببغداد.

محمد فيظي المفتي (1237-1307ه)

هو الشيخ الجليل محمد فيظي أفندي المفتي، المشهور بالزهاوي، كان عالما فاضلا، هاجر من بلاده الكردية في صباه، وسكن ببغداد وأخذ العلم عن علمائها الأعلام، حتى فاق أقرانه، فولته الحكومة إفتاء بغداد، وبقي في منصبه إلى أن مات إلى رحمة الله بعد أن عمر سبعين سنة، وتوفي سنة 1307ه، وترك عدة أولاد: أشهرهم الشاعر جميل صدقي أفندي الزهاوي، ومحمد أفندي مفتي بغداد، ورشيد باشا، رحمهم الله جميعا.

حيدر سليمان الحلي (1246-1304ه)

هو السيد حيدر سليمان الحلي، ولد سنة 1246ه بالحلة إحدى بلاد بغداد، وهو من وجوه أعيان الشعراء المشهورين، ومن شعره من قصيدة طويلة هذين البيتين:

زارت على رقبة عذالها

فاقتبل العمر بإقبالها

طيبة الأردان ما استبخرت

بالمندل الرطب كأمثالها

أحمد المشاهدي (1262-1336ه)

هو السيد أحمد أفندي ابن السيد إبراهيم ابن السيد المشاهدي البغدادي، كانت ولادته سنة 1262ه، وقد أخذ العلم عن علماء العراق، ومنهم: السيد عبد الله أفندي الآلوسي، ومنلا إسماعيل أفندي الموصلي، وحسن بك الشاوي، فكان من أكبر علماء الشافعية ببغداد، وقد اشتهر بالعلم الغزير والزهد والورع، كما أخذ الطريقة النقشبندية عن الشيخ أبي بكر الصلاحيه لي الأربيلي، وفي أواخر أيام حياته تولى رياسة تكية الخالدية ببغداد، ولما بلغ نحو أربعة وسبعين عاما توفي لرحمة الله سنة 1336ه.

عباس الكرخي (1267-1335ه)

كان من علماء بغداد، ولد بمدينة الكرخ سنة 1267ه، وهي إحدى مدن العراق، واشتهر بالزهد والورع، وكان عالما جليلا، وله مؤلفات كثيرة نفيسة تحتوي على المخطوطات والمطبوعات، وعين أمينا للفتوى ببغداد، ثم عين مدرسا بمدرسة سامرا، وتوفي إلى رحمة الله سنة 1335ه.

عبد الرازق الأعظمي (1281-1328ه)

هو من أكبر رجال السلفية ببغداد، أخذ العلم عن عبد السلام أفندي، والسيد نعمان الآلوسي، وعلام رسول الهندي، وكان عالما فاضلا زاهدا ورعا ذكيا، سلفي العقيدة، غير مقلد لمجتهد، وكان يدعي الاجتهاد، ومن تلاميذه السيدان: حميدي أفندي الأعظمي، ونعمان أفندي الأعظمي، وكان له نفوذ ديني على النجديين، وله أسفار عديدة في نجد والحجاز.

وتوفي إلى رحمة الله سنة 1328ه وعمره 47 سنة.

أعلام الحجاز وحضرموت

رقم مسلسل

أسماء الأعلام

التاريخ

1

محمد شهاب الدين المصري

1210-1274ه

2

علوي بن أحمد السقاف

1255-1335ه

3

عثمان الراضي

1260-1331ه

4

محمد بن عقيل العلوي

1279-1349ه

5

علي حيدر

محمد شهاب الدين المصري

1210-1274ه

هو الشيخ شهاب الدين الحجازي محمد بن إسماعيل بن عمر المصري محتدا الشافعي مذهبا، وهو شريف النسب، ولد بمكة المكرمة سنة 1210ه، وحضر إلى القاهرة صغيرا ونشأ بها، واشتغل أولا بالقبانة، ثم دخل المحكمة الشرعية تلميذا للتعلم، ومال للأدب حتى نبغ في نظم الشعر واشتهر به شهرة تامة، واشتهر أيضا بمعرفة الفنون الرياضية كالحساب والهندسة والموسيقى، أخذ عن العلامة الشيخ حسن العطار شيخ الإسلام الأسبق، وانفرد بالرياسة في تحرير الوقائع، ثم أحيلت إليه رياسة تصحيح الكتب بمطبعة بولاق، ومن ثم داخل الأعيان حتى اتصل بالوالي السابق عباس الأول وتقرب إليه ومدحه بالقصائد، فأحبه وقربه حتى صار كبير جلسائه وندمائه، وجعل له في كل قصر من قصوره حجرة يبيت فيها الليلتين والثلاث إذا طلبه للمجالسة والمنادمة، وأفاض عليه من نعمه، وقبل شفاعته حتى صار له بذلك جاه عريض.

وله معه نوادر غريبة؛ فمنها أن المترجم كان جالسا في حجرته مرة في أحد القصور، ومعه بعض جلساء الوالي ينتظرون الإذن بالدخول إليه، فقال في عرض كلامه: يقولون إن البغلة لا تحمل، أفلا يكون ذلك بسبب رطوبات أو ما أشبهها تعوق حملها؟ وعند الوالي أطباء كثيرون، فلو أنه أمر بعضهم بالبحث في سبب هذه العلة وإزالتها فلست أشك في أنها تحمل بعد ذلك، وأسرع بعض العيون فبلغ الوالي كلامه، فجاءه بعد هنيهة أحد رجال القصر يقولون له: إن الوالي سيأمر الأطباء بما أشار به، ولكنه يسأل: ماذا يكون إذا لم تحمل البغلة؟

فبهت القوم لنقل المجلس بهذه السرعة، إلا المترجم، فإنه قال لرجل القصر: بلغ مولاك أن لي كذبتين كل سنة أيام الباذنجان هذه إحداهما.

وكان رحمه الله رقيق المزاج، أنيس المحضر، عظيم الرأس، وسطا بين الطول والقصر، لا يمل جليسه من نوادره المستظرفة الطريفة الرائعة، وتعلق بعلم الموسيقى فبرع فيه، وأخذ عنه كثيرون، وجمع فيه كتابا سماه «سفينة الملك ونفيسة الفلك»، وهو كتاب جليل في فن الموسيقى والأغاني العربية حوى نخبة من مختار الشقيق الرقيق وضروبه، طبع حجر سنة 1281ه.

ومن مؤلفاته الكثيرة: ديوان شهاب الدين المصري، وفيه: القصائد في كل فنون العروض ومعاني الشعر، رتبه على ثمانية أقسام.

ومن شعره في الهزج:

لئن تهزج بعشاق

فهم في عشقهم تاهوا

مفاعيلن مفاعيلن

وقالوا حسبنا الله

وأرخ تمام كتابه سفينة الملك سنة 1259ه،

هذي سفينة فن بالمنى سنحت

والفضل في بحره العجاج أجراها

وإذ جرت بالأماني فيه أرخها

سفينة البحر بسم الله مجراها

وأنشد ما كتب على ستر السيدة آمنة أم المصطفى عليه الصلاة والسلام:

إن هذا الحمى حمى بنت وهب

وهي «فيه» أم الشفيع الضمين

قل ولا فخر هذه أرخوها

أم طه الكريم خير أمين

وأنشد في تقريظ كتاب ملتقى الأبحر سنة 1263ه:

أنفح روض الآس والعبهر

أهدي أريج المسك والعنبر

أم عطر الآفاق طيب الثنا

عن جهبذ الشهبا الهمام السري

من ملتقى أبحر عرفانه

أبدي صحاح الدر والجوهر

وأبرز الإبريز من كنزه

حتى بدا يحكي سنا المشتري

وإذ زها بالطبع أرخته

أبهى كتاب ملتقى الأبحر

ومن قصيدة امتدح بها المرحوم الشيخ محمد أمين المهدي:

إن قلت في الفتوى سواك أمين

فأنا الذي فيما أقول أمين

1

يا كوكبا فوق السماك مكانه

وضياؤه في الخافقين مكين

الجوهر الشفاف فطنتك التي

كالماء سال وما سواه الطين

وكانت وفاته بالقاهرة سنة 1274ه، ودفن خارج باب النصر بحفل حافل من العلماء والأدباء الذين يقدرون علمه وفضله، رحمه الله.

علوي بن أحمد السقاف

1255-1335ه

هو السيد علوي بن أحمد بن عبد الرحمن السقاف، نقيب السادة العلويين بمكة المكرمة، وأحد فقهائها الفضلاء والأعيان، ولد بها سنة 1255ه، وولي النقابة سنة 1298ه، ثم هاجر بأسرته إلى بلدة الحج سنة 1311ه، ملبيا دعوة أميرها الفضل بن علي، فأقام بها إلى سنة 1327ه، وعاد إلى مكة المكرمة فتوفي بها في المحرم سنة 1335ه، من كتبه: حاشية في فقه الشافعية سماها «ترشيح المستفيدين»، ومجموعة فيها سبع رسائل، ورسائل في النحو والفلك والميقات، وله مجموع منظوم فيه ثلاثون علما سماه: «مصطفى العلوم»، وكتاب في «أنساب أهل البيت».

وله بديعية نبوية رأيت أبياتا منها، قال فيها:

الاستدراك: قالوا نرى لك صبرا بعد فرقتهم

فقلت مستدركا لكنه بفمي

التوشيع: زادوا هيامي بتوشيع الملام لهم

من صولة الجائرين: البين والعدم

المغالطة: غالطتهم حين قالوا: أين منزلهم

ومن هم؟ قلت: أهل البان والعلم

الغيرة: إني أغار عليهم أن أسميهم

وهم بقلبي وأشكو حر بينهم

المناقضة: لهم لدي عهود لست أنقضها

إلا إذا شئت أو شاء الهوى عدمي

القسم: لا بلغتني المعالي من تناولها

إن لم أكن في ولائي صادق القسم

رحمه الله رحمة واسعة.

عثمان الراضي

1260-1331ه

هو الشيخ عثمان بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الراضي المكي، شاعر بني عون، وأديب الحجاز في عصره، رحل إلى قسطنطينية، وزار سورية، وله قصيدة في مدح بيروت، وأطلعني ابنه الشيخ أحمد راضي على بضعة آثار له، منها: (1)

كتاب «الأنوار الحميدية» شرح فيه بديعية للأديب عبد الله فريج في مدح السلطان عبد الحميد، مطلعها:

براعتي في الهوى دلت على هممي

لما استهلت دموع العين كالعتم

ومن هذا المطلع يلوح ضعف القصيدة، أما الشرح فمن أكمل شروح البديعيات، وهو مجلد ضخم في 572 صفحة جميل الخط، على هامشه تعليقات يسيرة بخط المؤلف. (2)

قطعة من كتاب له وضعه تعليقا على «الرحلة الحجازية» للسيد محمد البتانوني، وقد مات رحمه الله قبل إتمامه، وفي هذه القطعة فوائد بعضها جدير بالنظر. (3)

نبذ من ديوانه، وأخبرني ابنه الشيخ أحمد أنه يقع في مجلدين، ومن شعره:

لله معهد أنسنا

ما بين قرج والغدير

مغنى تخال قبابه

في البهو هالات البدور

يسمو برونقه على

حسن الخورنق والسدير

كم فيه من بدر تكح

ل بالدلال على الفتور

غوث الطريد المستغي

ث وملجأ العاني الأسير

روح تكون رحمة

لكنه في جسم نور

سمح إذا ضن الغما

م سقى بنائله الغزير

وكان مولده نحو سنة 1260ه، وتوفي بمكة المكرمة في 19 من المحرم سنة 1331ه.

كما أخبرني ابنه أيضا أن كتاب «تاريخ الدول الإسلامية بالجداول المرضية» المطبوع على الحجر منسوبا للسيد أحمد بن زيني دحلان هو لأبيه صاحب الترجمة، وأن منه نسخة بخط المؤلف الشيخ عثمان ما زالت عنده.

محمد بن عقيل العلوي

1279-1349ه

وقفت له على ترجمة بخطه، قال رحمه الله:

هذا تعريف بالفقير إلى الله محمد بن عقيل بن عبد الله يحيى، طلبه بعض الإخوان منه:

هو محمد بن عقيل بن عبد الله صاحب البقرة، ابن عمر بن أبي بكر بن طه بن محمد بن شيخ بن أحمد بن يحيى بن حسن الأحمر بن علي العناز بن علوي بن محمد مولى الدويلة، ابن علي بن علوي بن محمد الفقيه المقدم، ابن علي بن محمد صاحب مرباط، ابن علي خالع قسم، ابن علوي بن محمد بن علوي بن عبد الله بن المهاجر أحمد بن عيسى بن محمد بن علي العريضي، ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

وأحمد بن عيسى هو أول من سكن حضرموت من العلويين، هاجر إليها من البصرة سنة 317ه، وترجمته وترجمة المذكورين من آباء المعرف به مشهورة، وكثير من أمهاتهم وأمهاتهن معروفة أنسابهن ، واللاتي تعرف سلسلة اتصالهن بالزهراء منهن نحو سبعمائة، رحمهم الله تعالى.

ولد محمد بن عقيل بحضرموت بقرية مسيلة آل شيخ ونشأ بها، وكانت ولادته ضحى يوم الأربعاء ليومين بقيا من شهر شعبان سنة 1279ه الموافق 18 فيبرواري (فبراير) سنة 1863ه، وكان والده السيد عقيل من أشهر أعيان حضرموت نفوذا وعلما، وأكثرهم سعيا في إصلاحها، وبنفوذه ونقوده وجده تم ما ابتدأ فيه والده السيد عبد الله من طرد يافع من قلب حضرموت وتأمير آل كثير عليها، وكسر الجيوش التي جلبها يافع من الهند واليمن لأخذ الثأر، وقد بدأ إقامة سد مهم لري قسم كبير من حضرموت فمات قبل إتمامه، وأجرى عيونا بجوار قرية ساة، واقتنى كتبا جمة جلها مخطوطة وبعضها من أقدم ما طبع، ولم تزل محفوظة في مكتبته الحافلة بشتى العلوم والفنون والآداب.

ووالد السيد عقيل هذا هو السيد عبد الله المشهور في الحجاز واليمن والهند وجاوة بصاحب البقرة، وقد ترجم له أكثر من واحد، وهو أحد الأعلام الجامعين بين العلم والعمل الساعين في إصلاح البلاد، وله عدة رسائل وفتاوى معتمدة نافعة، وجمع مكتبة مخطوطة لم تزل بقيتها أكبر مكتبة معروفة بحضرموت.

ووالدة محمد المذكور هي الزهراء بنت العلامة السيد عبد الله بن الحسين بن طاهر، وإليه وإلى أخيه أمير المؤمنين بحضرموت (ولم يدع بهذا اللقب بحضرموت غيره) وإلى ابن شقيقتهما السيد عبد الله صاحب البقرة ينتهي إسناد الحضارمة في العلوم الشرعية.

وبعد بلوغ محمد هذا ست سنين جلب له والده من يعلمه القراءة والكتابة في بيته حفظا له من الاختلاط بالناس، وفي بضعة أشهر ختم قراءة القرآن الكريم في المصحف، ثم حفظ عددا من مختصرات المتون في العربية وغيرها، مع أكثر من ربع كتاب الإرشاد في الفقه، والملحة، ونظم القواعد الفقهية، وبعض دواوين الشعر ، وأكثر مقامات الحريري وغير ذلك، وقد لازم والده إلى وفاته وقرأ عليه وانتفع به، وحضر دروس عمه السيد محمد بن عبد الله نحو سنة، وانتفع كثيرا من العلامة الأوحد الجليل السيد أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين في أوقات متفرقة قضاها في رعايته بحضرموت وجاوة والهند.

وقد احتاج للرحلة عن وطنه صغيرا لوفاة والده السيد عقيل سحر ليلة الأربعاء لثلاث بقين من صفر سنة 1294ه عن أقل من 45 عاما، فسافر في صفر سنة 1296ه من وطنه بعد أن تزوج فيه بنت السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل بن يحيى العلوي أكبر علماء جاوة ومفتيها الأكبر، فوصل سنغافورة منتصف ربيع الأول سنة 1296ه، ودخل جزيرة جاوة، واشتغل في بعض نواحيها وفيما جاورها بالتجارة وبالزراعة وبالتصدير، فكانت له صلات تجارية واسعة الأطراف بجهات متعددة في الصين واليابان وجزائر الفلبين وسومطرة وغينيا الجديدة والهند والسند وبرما وسيلان واليمن والحجاز ومصر والشام والعراق والآستانة والأناضول وبعض أوروبا، وله معارف ببعض تلك النواحي وأصحاب، ورحل وساح في الكثير من هذه الأصقاع، وكرر زيارة بعضها، وأقام مددا في بعضها كالصين واليابان والحجاز والهند وسومطرة وبعض عواصم أوروبا، وحضر معرض باريس سنة 1900م ثم عاد إليها بعد ذلك، ولم تكن له معرفة بغير اللغة العربية ولغة ملايو، ويفهم قليلا من لغة أردو الهندية وما لا يذكر من لغات أخرى، وقيد فوائد متعلقة بتلك السياحات في مدة أكثر من أربعين سنة في مسودات لم تبيض ضاع بعضها.

ثم طاف في حضرموت وغيرها منقبا عن آثار الأقدمين، وعرف كثيرا من أمراء جزيرة العرب وكبرائها وعلمائها، ومن جهات أخرى، وانتفع بكثير من العلماء والصالحين، وحضر دروس معظمهم، وقرأ على بعضهم رسائل ومختصرات وأوائل كتب كالأمهات، وأجازه كثير منهم بمروياتهم، كما أجازه بعض من لم يتيسر له ملاقاته، كالشيخ البركة محمد العرب نزيل المدينة، وأرسل له لباسا مع الإجازة، ومنهم الحافظ الجليل محدث اليمن الشيخ حسين بن محمد السبعي اليمني نزيل يهويال بالهند، وقد ذكر طرقه وأسانيده في إجازاته.

وممن أجازه مشافهة العلامة الصوفي السيد المحسن بن علوي بن سقاف السقاف، وبقية السلف السيد محمد بن إبراهيم بلفقيه، والمعمر الصالح العابد السيد شيخ بن عمر السقاف، والجهبذ العلامة السيد أحمد بن محمد المحضار، والبارع المحقق المتفنن علامة العصر السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين، والحافظ الجليل الإمام السيد أحمد بن حسن العطاس الضرير، والعلامة البركة السيد علي بن محمد الحبشي، وأنموذج الأسلاف شريف الأوصاف الورع الزاهد العلامة السيد عيدروس بن عمر الحبشي، والصالح البركة السيد أحمد بن عمر العيدروس نزيل سورات بالهند، والعابد الناسك السيد المحسن بن عمر العطاس نزيل باروده بالهند، وقد ألبسه كل هؤلاء خرقة الصوفية.

وممن أجازه وألبسه خرقة التصوف علامة المدينة الشيخ حبيب الرحمن الدكني الهندي، وممن أجازه العلامة المحدث السيد محمد مظهر المدني.

وحصلت بينه وبين كثير من الفضلاء محبة ومكاتبة، ومباحثة ومراجعة، وحبب إليه ربه المطالعة في الكتب النافعة فكانت هي السمير والرفيق، والتقط من بحرها فرائد فوائد أورد كثيرا منها فيما جمعه من الرسائل والكتب التي يشتغل بكتابتها في ساعات الراحة.

وكان جل إقامته وتجارته في جزيرة سنغافورة، وفي سنة 1338ه أرسل بعض أفراد أسرته إلى مكة المكرمة، ثم في سنة 1339ه أرسل من بقي منهم مع حاشيته، ثم لحق بهم فيها، وأقام بها ستة أشهر، ثم رحل بجميع أهله ومن معه من الحجاز في صفر سنة 1340ه إلى المكلا أسكلة حضرموت، وهو الآن

1

بها، وفقه الله لما به يرضى عنه بمنه وكرمه، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.

علي حيدر

كان الشريف علي حيدر من الأسرة التي تولت إمارة الحرمين الشريفين فينتمي سمو الأمير علي حيدر إلى أسرة آل زيد الذين حكموا الحجاز إلى سنة 1250ه، وانتهى هذا الحكم بإلقاء القبض على الأمير الشريف غالب الذي نفي هو وأولاده السبعة وحاشيته وعددها أربعة وثلاثون شخصا إلى سلانيك فتوفوا جميعا في يوم واحد، فعينت الدولة العثمانية بعده بمدة وجيزة الأمير الشريف محمد عبد المعين بن عون جد الملك الحسين والأشراف المقيمين في جهات القبة .

ويجتمع نسب آل زيد وآل عون بعد اثني عشر جدا، فلم يكن لأسرة آل عون حكم في الحجاز إلا بعد تلك الحادثة التاريخية؛ فلذلك وقعت منازعة بين الفريقين بسبب الحكم، فكانت الدولة العثمانية تعين أمراء مكة من هذه العائلة أي من أسرة آل عون حتى الحرب العظمى.

وعلى أثر ثورة الملك حسين بنهضته المعروفة وإعلان استقلاله عن الخلافة عينت الحكومة في سنة 1915م سمو الأمير الشريف علي حيدر أميرا بدلا من الحسين، تلقى علومه في السراي السلطانية مع أمراء آل عثمان، فهو يحسن اللغات العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية، ومشغوف بالرسم والموسيقى أيضا، وكان عضوا بمجلس الشيوخ العثماني ووزيرا للأوقاف، وأميرا على مكة، هو ذو شخصية قوية ولا يضارعها أحد من أبناء عشيرته.

وقد كان تعيينه شريفا للحجاز مما صدر به الأمر ولم ينفذ لانكسار الدولة في الحرب العظمى واستقلال الشريف حسين بالحجاز.

كما أنه قد أشيع العزم على انتخابه ملكا على سورية سنة 1348ه، وهو ابن الشريف عبد المطلب.

وقد كان محبا للعلم والعلماء، ولوعا بكل ما يكسب المرء إجلالا واحتراما، لاتصافه بالأخلاق الطيبة والمزايا الحميدة، وفي عطفه على الضعفاء والبائسين، والاجتهاد في الدأب وراء ما يفيد الناس في دنياهم وأخراهم بما يبذله من بر وإحسان، منفقا في سبيل الله ما وسعه الجهد وما وجد إلى ذلك سبيلا.

كما كان يميل إلى جمع نفائس المؤلفات من مخطوطات نادرة ومطبوعات قيمة، حتى إنه ترك مكتبة زاخرة بشتى المؤلفات الفريدة في نوعها، وكانت مضرب الأمثال بما احتوته من المصنفات التي يندر وجودها في كبرى المكتبات الأخرى.

أعلام الأفارقة

تونس، والجزائر، والمغرب.

رقم مسلسل

أسماء الأعلام

التاريخ

1

عبد القادر الجزائري

1222-1300ه

2

محمد محمود التركزي الشنقيطي

1245-1322ه

3

أحمد بن الخوجة التونسي

1246-1310ه

4

محمد الخضر حسين

1293-1378ه

عبد القادر الجزائري

1222-1300ه

وقفت له على ترجمة كتبها حفيده الأمير طاهر الجزائري، قال: هو سمو الأمير عبد القادر الجزائري الحسيني الكبير فرع الشجرة الزكية، وبدر العصابة الحسنية، إنسان عين السادة الأخيار، وعقد جيد القادة الأبرار، صدر الشريعة بل تاجها، بدر الحقيقة بل معراجها، نخبة آل بيت اشتهرت بالشرف أوائلهم وأواخرهم، وأشرقت في أفق سماء السعادة فضائلهم ومفاخرهم، من عجزت عن حصر أوصافه الأقلام، وتباهت بوجوده الليالي والأيام، وتزينت الطروس بغرر مزاياه ومدائحه، وتلت النفوس آيات الحمد والإخلاص في صحائفه، واسطة عقد الشرف المقتنى، وغصن شجرة المجد المجتنى، كعبة القاصدين، حرم الخائفين، ناصر الدين، الأمير عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القادر بن أحمد المختار بن عبد القادر بن خدة بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن علي بن أحمد بن عبد القوي بن خالد بن يوسف بن أحمد بن بشار بن أحمد بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن فاطمة الزهراء، بضعة خير الأنام، عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام.

ولد قدس الله سره في رجب سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين ببلدة القيطنة التي اختطها جده بإيالة وهران من أعمال الجزائر، ثاني أنجال والده ووالدته السيدة الشريفة الزهراء بنت السيد عبد القادر بن دوخة الحسيني، تربى في حجر والده، وفي مدرسته حفظ القرآن الكريم، وأخذ العلم عن أهل العرفان.

وفي سنة 1236ه سافر إلى وهران وحصل بها، وبرع في مختلف الفنون.

وفي سنة 1241ه سافر منها برا صحبة والده ذي الكمالات والعلوم الباهرة، قاصدين مكة المكرمة عن طريق القاهرة، وبعد الحج رجعا إلى دمشق الشام، لزيارة الصلحاء والعلماء الأعلام، وأخذ بها عن الولي الصالح الإمام حضرة مولانا الشيخ خالد المجدوي الطريقة النقشبندية، ثم غادرها إلى بغداد حيث أخذ الطريقة العلية القادرية على السيد محمود الكيلاني، ثم رجع برا إلى الشام، ومنها قصد بيت الله الحرام مرة أخرى، وبعد أداء المناسك رجع من طريق البر إلى بلدته في السنة الثالثة والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة.

وفي سنة 1246ه قام والده بأمر الجهاد فحارب معه سنتين، وفي رجب سنة 1248ه بايعه أهل الجزائر أميرا عليهم لاشتهاره بالشجاعة والعلم والصلاح والبراعة، فباشر الأعمال، وركب الأخطار والأهوال، وأقام الإمارة على قدمي الفضل والعدل، وزانها بما يؤيده العقل والنقل، وضرب السكة من فضة ونحاس، وأنشأ المعامل للأسلحة واللباس، وقام بأمر الجهاد ستة عشر عاما، يحارب جيوش فرنسا ويحمي دينه ووطنه، وأظهر من الشجاعة والبسالة في كل مجال ما اشتهر في الآفاق، وقد بسطت ترجمته في كتابي المسمى ب «تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر».

وكان يباشر القتال بنفسه، ويتقدم أصحابه في المواقف، فيرجع وألبسته محرقة من الرمي بالرصاص، ولم يصبه سوى جرح بكتفه وآخر بأذنه، وماتت تحته عدة خيول.

ثم هاجمته جيوش مراكش من جهة أخرى، وبعد محاربات عديدة علم أن التسليم أولى، فسلم لفرنسا على شروط مقررة وعهود، وذلك في المحرم 1264ه، وبقي محجورا عليه عندها.

وفي سنة 1266ه زاره في محل إقامته بمدينة «أمبواز» نابليون الثالث إمبراطور فرنسا وبشره بإطلاق سبيله، وأهدى إليه سيفا مرصعا، ورتب له في كل سنة خمسة آلاف ليرة فرنسية.

ثم سافر إلى باريس ومنها إلى الآستانة حيث قابل السلطان عبد المجيد خان فأكرم وفادته، ومنحه دارا عظيمة بمدينة «بورصة»، ثم رجع سنة 1270ه إلى الآستانة وتوجه منها إلى باريس، ثم رجع إلى بورصة وبقي بها حتى سنة 1271ه، فغادرها إلى دمشق للإقامة بها.

وفي سنة 1273ه توجه إلى زيارة بيت المقدس، وقرأ خلال شهر رمضان في دار الحديث هناك البخاري، كما قرأ الإتقان والإبريز في مدينة الجقمقية.

وفي شهر رمضان سنة 1275ه اعتكف بالجامع الأموي، وقرأ الشفاء والصحيحين في مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه، وفي سنة 1277ه زار حمص وحماة، ومنح من الدولة العلية النيشان المجيدي من الرتبة الأولى، ونياشين كثيرة من دول مختلفة، تقديرا لما أبداه من المساعدة للمسيحيين في الفتنة التي حدثت في تلك السنة.

وفي سنة 1280ه توجه إلى مكة المكرمة وأقام بها وبالطائف وبالمدينة المنورة سنة وستة أشهر، وأخذ بمكة الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد الفاسي.

وفي سنة 1282ه قصد الآستانة وقابل السلطان عبد العزيز فأكرم نزله ومنحه النيشان العثماني من الرتبة الأولى، ثم توجه منها إلى باريس فزاد له الإمبراطور نابليون الثالث 2500 ليرة فرنسية على مرتبه السنوي السابق.

وفي سنة 1286ه دعي إلى مصر لحضور احتفال خليج السويس ، وقرأ «الفتوحات المكية» مرتين سنة 1289ه بعد أن أرسل عالمين لتصحيحها على النسخة الموجودة بخط مؤلفها الشيخ الأكبر في «قونية»، وأخذ الطريقة العلية المولوية على الدرويش صبري شيخ طريقة المولوية بالديار الدمشقية.

وكان مالكي المذهب، محافظا على السنن، عاكفا على شهود الجماعة، كثير الصدقات، وجعل مرتبا في كل شهر للعلماء الصلحاء والفقراء، عاملا بتقوى الله في السر والجهر.

وتغلغل في آخر عمره في علوم القوم، وأظهر من دقائق الحقائق وعوارف المعارف ما يؤذن بسمو مقامه وعلو قدره، وكان يصوم شهر رمضان على الكعك والزبيب، معتزلا عن القريب والغريب، وله خلوة يتحنث بها في قصره بقرية أشرفية صحنايا، وكان خلال مرض وفاته مشتغلا بالمراقبة والمشاهدة، حتى إنه ما أن ولا تأوه برغم اشتداد آلام الكلى والمثانة طيلة 25 يوما، إلى أن انتقل إلى رحمة ربه الكريم في منتصف ليلة السبت 19 من رجب سنة 1300ه في قصره بقرية دمر بدمشق.

وصلى عليه بالجامع الأموي خلق كثير، واجتمع في جنازته أمم من جميع الملل، ودفن ظهر يوم السبت إلى جوار الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين ابن العربي الحاتمي في حجرته.

وقد توفي عن زوجته ابنة عمه وعشرة أولاد ذكور وست بنات، وثلاث جوار جركسيات وجارية حبشية، وكان رضي الله عنه معتدل القامة، عظيم الهامة، ممتلئ الجسم، وجهه أبيض مشرب بحمرة، وشعر رأسه أسود إذ كان يخضب بالسواد، أقنى الأنف، أشهل العينين.

وله من المؤلفات تعليقات على حاشية جده السيد عبد القادر بن خدة في علم الكلام، وتنبيه الغافل وذكرى العاقل، والمقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد، والمواقف في علم التصوف، وله من الشعر الرائق والنثر الفائق ما يطرب الأسماع، ويستهوي الألباب والطباع، كما كان يجيد اللعب بالشطرنج، ويحسن الخياطة ولا سيما خياطة الشبكة، وبالجملة كان إماما جليلا، عالما عاملا، نبيها نبيلا، زاهدا ورعا، مهيبا شجاعا، كريما حليما أوابا، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مثواه، آمين.

وله ديوان شعر فائق العبارات، رائق الإشارات ، سماه: «نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر».

ومنه قوله مفاخرا بانتمائه إلى آل البيت:

أبونا رسول الله خير الورى طرا

فمن في الورى يبغي يطاولنا قدرا

ولانا غدا دينا وفرضا محتما

على كل ذي لب به يأمن الكفرا

وحسبي بهذا الفخر من كل منصب

وعن رتبة تسمو وبيضاء أو صفرا

وقال قدس الله سره لما شاهد تشييد حصن «طازه» في أسرع وقت، وأمر بكتابته على باب الحصن:

الله أعلم أن هذا لم يكن

مني على الأمد الطويل دليلا

كلا وإن منيتي لقريبة

مني وأصبح في التراب جديلا

ورضا الإله هو المنى، ويكون من

بعدي انتفاع الخلق ثم طويلا

وقال لما تركه إخوته وتوجهوا إلى مراكش في أيام الجهاد:

يا سواد العين يا روح الجسد

يا ربيع القلب يا نعم السند

كنت لي قرة عين، وبها

راح قلبي لا بمال وولد

فرمى الدهر بعيني أسهما

مذ نأيتم لا أرى فيها أحد

وقال مستغيثا ومتوسلا بالنبي

صلى الله عليه وسلم :

يا سيدي يا رسول الله يا سندي

ويا رجائي ويا حصني ويا مددي

لا علم عندي أرجيه ولا عمل

أمام نجواي من هدى ومن رشد

أبغي رضاك ولا شيء أقدمه

سوى افتقاري وذلي واصفرار يدي

وقال مرحبا بالعالم المتفنن السيد محمد الشاذلي القسطنطيني حين زاره في منفاه بفرنسا:

أهلا وسهلا بالحبيب القادم

هذا النهار لدي خير مواسم

جاء السرور مصاحبا لقدومه

وانزاح ما قد كان قبل ملازمي

أفديك بالنفس النفيسة زائرا

من غير ما من ولست بنادم

طالت مساءلتي الركاب تشوقا

لجمال رؤية وجهك المتعاظم

لا غرو إن أحببتكم من قبل ما

شاهدتكم أنتم جمال العالم

لا زلت ميمون النقيبة طالعا

بالسعد ذا فضل وخدن مكارم

وقال متحدثا بنعمة الله:

الحمد لله الذي قد خصني

بصفات كل الناس لا النسناس

الجود والعلم النفيس وإنني

لأنا الصبور لدى اشتداد الباس

وتحدثي شكرا لنعمة خالقي

إذ كان في ضمني جميع الناس

محمد محمود التركزي الشنقيطي1

1245-1322ه

هو الأستاذ العلامة الحجة الثقة إمام اللغويين في عصره شيخنا محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي، اشتهر والده بالتلاميد - بالدال المهملة - وسبب ذلك على ما أخبرني به أنه كان يقرئ تلاميذه في خيمة انفرد بها، فكان كل من يسأل عنه يقول: أين خيمة التلاميد؟ ثم أطلق هذا اللقب عليه كما يقال: السادات للواحد من السادات الوفائية بمصر، وتركز، بضم فسكون: اسم قبيلته، وهو في الأصل أموي النسب؛ ولهذا كان يكتب في توقيعه: «العبشمي» نسبة إلى عبد شمس، ثم ترك كتابته لما أقام بمصر.

قرأ على أبيه وبعض أقاربه، كما أشار إلى ذلك في ميميته التي نظمها لمؤتمر العلوم الشرقية باستكهلم، فقال:

غذاني بدر العلم أرأف والد

وأرحم أم لم تبتني على غم

ولم يفطماني عنه حتى رويته

عن الأب ثم الأخ والخال والأم

وعن غيرهم من كل حبر سميدع

تقي نقي لا عيي ولا فدم

ولازم أيضا الشيخ عبد الوهاب الملقب بأجدود وعليه تخرج، ثم تلقى الحديث عن ابن بلعمش الجلني، واستظهر من المتون وأشعار العرب شيئا كثيرا لم يذهب من حفظه حتى مات، واشتهر باللغة والأنساب وانفرد بهما.

ثم رحل إلى المشرق وحج واجتمع بأمير مكة الشريف عبد الله بن محمد بن عون فأكرمه وطلب منه البقاء عنده فأجاب، وكانت تقع بينه وبين علماء مكة والواردين عليها مناظرات ومحاورات علمية في مجلس الأمير، وصار يتردد في الإقامة بين مكة والمدينة إلى أن قصد القسطنطينية فأكرمه السلطان عبد الحميد وعرف قدره، وأوفده سنة 1304ه إلى باريس ولندن والأندلس للاطلاع على ما في خزائنها من الكتب العربية النادرة وتقييد أسماء ما يوجد منها بخزائن القسطنطينية لتستنسخ، فسافر على باخرة خاصة، وكان ينزل حيثما حل بدور السفارات العثمانية، ولكن المشروع أهمل بعد عودته، ثم لما شرع الملك أسكار الثاني ملك السويد والنرويج في عقد المؤتمر الثامن من العلوم الشرقية استكهلم سنة 1306ه طلب من السلطان عبد الحميد أن ينتدب الشيخ إليه، فانتدبه مع مدحت أفندي الكاتب التركي الشهير، ونظم الشيخ قصيدته الميمية ليقدمها للمؤتمر، وأولها:

ألا طرقت مي فتى مطلع النجم

غريبا عن الأوطان في أمم العجم

ذكر بها سبب هذه الرحلة وابتداء تحصيله للعلم بالمغرب ورحلته إلى المشرق، وضمنها مسائل علمية، ورثى نفسه فيها، وختمها بذكر القبائل العربية المشهورة، ولكنه لم يسافر لاشتراطه شروطا أغضبت السلطان، فأمر بسفره إلى المدينة، ومنها قدم إلى القاهرة وألقى بها عصا التسيار، واستحضر أهله وكتبه من المدينة، وأقبل على المطالعة والإفادة إلى أن توفي بدار سكنه القريبة من الأزهر قبيل الغروب من يوم الجمعة 23 شوال سنة 1322ه عن سن عالية، ولم يمرض إلا أياما قليلة.

وكان رحمه الله نحيفا أسمر اللون، شديد التمسك بالسنة قوالا للحق ولو على نفسه، مع حدة طبع زائدة؛ ولهذا لم ينتفع به إلا القليلون، وكان لا يمل المطالعة ليلا ونهارا حتى أضنته كثرة الجلوس وسببت له أمراضا وآلاما، ولا سيما لما اشتغل بتصحيح المخصص وأنه كان يقابله مع شخص آخر بمكان رطب في الطبقة السفلى من داره، فاشتد به مرض الصدر وألم الرثية في أطرافه، وكثيرا ما كان يقول: «أنا قتيل المخصص، أنا قتيل الكتب»، ولم يترك من الآثار إلا «الحماسة السنية الكاملة المزية في الرحلة العلمية الشنقيطية التركزية»، ضمنها شيئا من أخباره وقصائده وردوده على من خالفه في بعض المسائل العلمية، وطبعت بالقاهرة في مطبعة الموسوعات سنة 1319، وله أرجوزة سماها: «عذب المنهل والمعل المسمى صرف ثعل» لم تطبع، و«إحقاق الحق وتبريء العرب مما أحدث عاكش اليمني في لغتهم ولامية العرب»، وهي حاشية على شرح لامية العرب لعاكش اليمني، وكان قد وفد على الشريف عبد الله بن محمد بن عون بمكة وقدم له هذا الشرح، فطلب الشريف من الشيخ أن يكتب عليه فكتب هذه الحاشية وبين فيها أغلاطه، وهي مخطوطة لم تطبع، وكان شرع في تأليف كتاب سماه: «بنيان العلم المرصص في أوهام المخصص» لم يكتب منه إلا ما طبع على حواشي المخصص، وكان صحح بعض الأوهام الواقعة في الطبعة البولاقية من الأغاني، ولم يستوعب كل ما فيه، فجردها من حواشي نسخته الشيخ الفاضل محمد عبد الجواد الأصمعي وطبعها بالمطبعة الجمالية بالقاهرة سنة 1334 بعنوان: تصحيح الأغاني.

أحمد بن الخوجة التونسي

1246-1310ه

هو أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن حمودة بن محمد بن علي خوجة،

1

ولد سنة 1246، ونشأ في حجر علم وفضل، فقرأ على والده شيخ الإسلام النحو والفقه والأصول وعلم الكلام، وروى عنه صحيح البخاري، وجود عليه القرآن العظيم، وأجازه إجازة عامة هذا نصها:

الحمد لله الذي وصل من انقطع إلى جنابه، ووقف ضارعا خاضعا ببابه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل وأصحابه، صلاة وسلاما نرجو بهما النجاة يوم العرض على الله من مناقشة حسابه وأليم عذابه.

وبعد، فإن ولدي الفاضل النجيب، الزكي الذكي الأريب، الحائز من العلوم أوفر نصيب، الرامي في ميدانها بسهم مصيب، الأمجد الأنجد، أبا العباس أحمد، زاده الله توفيقا، وحشرني وإياه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، قد التمس مني أن أجيز له فيما تضمنه هذا الثبت وغيره مما أمليت أو كتبت وفي سائر ما هو لدي وصحت نسبته إلي، فها أنا قد أجزت له إجازة تامة في ذلك كله، علما مني بأنها من وضع الشيء في محله، وأجزت له أيضا أن يجيز من أراد الكرع من حياضه، والاقتطاف من أزهار رياضه، وأوصي ولدي بتقوى الله في سره وعلانيته، فإنه سبحانه وتعالى مطلع على فعله وعلى نيته، وألا ينساني بصالح دعواته، في خلواته وجلواته، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

كتبه بيده الفانية الفقير إلى ربه

محمد بن الخوجة

في يوم الإثنين 19 صفر عام 1271ه

وقد بلغ من عناية والده به أنه كان إذا خطرت في باله مسألة من مسائل العلم وهو في سريره ينبه ابنه من النوم ويلقيها إليه لئلا يفوت صاحب الترجمة أخذها عنه.

وأخذ عن عمه حسين بن الخوجة، والشيخ حسين البارودي، والشيخ محمد الستاري، والشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ ابن ملوكة، والشيخ محمد بن عاشور، والشيخ ابن سلامة، والشيخ محمد النيفر، والشيخ معاوية ، والشيخ الخضار ، والشيخ الشاهد، والشيخ محمد الشنقيطي.

وأجاز له شيخ الإسلام الشيخ بيرم الرابع إجازة منظومة، قال فيها:

وبعد فإن نيل العلم فخر

لصاحبه يورثه جلالا

ولا سيما الحديث وأي شخص

يزاوله ولم يحمد مآلا

وممن قاده التوفيق حتى

تردى من مطارفه وجالا

وأسهر جفنه فيه اكتسابا

وبالغ في تطلبه فنالا

أبو العباس أحمد وهو من قد

عجزت إذا طلبت له مثالا

ويابن الخوجة الأسمى أبيه

محمد الهمام حوى احتفالا

ومن أضحى لذاك الليث شبلا

فقد سبق الجهابذة الرجالا

وقد طمحت إلى الإسناد نفس

زكت منه وأحسنت الفعالا

فيمم ذا الفقير يروم منه

إجازته وقد ظن الكمالا

وأفنى في تردده زمانا

وكرر في عنايته السؤالا

فأحجم عن إجابته حياء

وأوسعه لذا المعنى المطالا

ولما لم يجد من ذاك بدا

ولا أعفى الملح ولا أقالا

تجشمها وليس لها بأهل

مساعفة لراغبه وقالا

أجزت له رواية ما روى لي

أساتذة وقد كانوا جبالا

تولى صاحب الترجمة خطة التدريس بجامع الزيتونة، فبهر العقول بتحقيقه وبراعة أسلوبه، وتولى الإمامة بجامع محمد باي، ومشيخة المدرسة الشماعية، وخطب من إنشائه الخطب البليغة، وتولى خطة القضاء في ربيع الأول سنة 1277 فقام بأعبائها أحسن قيام، وتولى الإفتاء في المحرم سنة 1279، ورجع إلى التدريس يجمع بين التدريس والفتوى، ولا يصح الجمع بين القضاء والتدريس.

ولما توفي الشيخ معاوية ولاه المشير محمد الصادق باي منصب شيخ الإسلام في صفر سنة 1294، وانتصب لدرس تفسير البيضاوي عام ولايته مشيخة الإسلام فأبدع في التقرير، وكان درسه موردا لأذكياء العلماء، وشرع في الكتابة على حواشي عبد الحكيم على هذا التفسير، ولكن عاقه عن الاستمرار على ذلك الدرس ما طرأ على سمعه من صمم.

وكان رحمه الله لطيف المحاضرة، حسن النظر في مذاهب السياسة الشرعية، عالي الهمة، حسن اللقاء. «مؤلفاته» منها: المرشد، ورسالة في حكم الانتفاع بشواطئ البحار ومعظم الأنهار، والصبح المبين، ونفثة المصدور. وتصدى لتكميل حاشية والده على الدرر من أولها لأن والده شيخ الإسلام ابتدأ تلك الحاشية على كتاب النكاح.

وحرر من الفتاوى ما لا يسع القلم استيعابه، وكان يصوغها على طريقة النظر المستقل، فيطبق الأصول والقواعد على الوقائع مع رعاية المصالح ومقتضيات الأحوال، ويجمع في أكثرها بين المذهبين الحنفي والمالكي.

وما برحت مجالسه بأهل العلم والأدب حافلة، وبراعته على تحرير الفتاوى عاملة، إلى أن توفي سنة 1310ه، تغمده الله برحمته ورضوانه.

محمد الخضر حسين

1293-1378ه

ولد الشيخ محمد الخضر حسين،

1

بمدينة نقطة بالقطر التونسي في 26 رجب سنة 1293ه، واشتغل بالعلم بعد أن حفظ القرآن، فقرأ بعض الكتب الابتدائية ببلده، وفي آخر سنة 1306ه رحل مع أبيه وأسرته إلى القاعدة التونسية، فدخل الكلية الزيتونية سنة 1307ه وقرأ على أشهر أساتذتها، وتخرج عليهم في العلوم الدينية واللغوية، ونبغ فيها وفي غيرها، فطلب لتولي بعض الخطط العلمية قبل إتمام دراسته، لكنه أبى وواظب على حضور دروس العلماء والأكابر، مثل: عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، وكانا يدرسان التفسير، والشيخ سالم بوحاجب، وكان يدرس صحيح البخاري.

ثم رحل إلى الشرق سنة 1317ه، ولكنه لم يبلغ طرابلس حتى اضطر إلى الرجوع بعد أن أقام بها أياما، فلازم جامع الزيتونة يفيد ويستفيد إلى سنة 1321ه، فأنشأ فيها مجلة السعادة العظمى، ولقي في سبيل بث رأيه الإصلاحي ما يلقاه كل من سلك هذا السبيل.

وفي سنة 1323ه ولي القضاء بمدينة بنزرت، والتدريس والخطابة بجامعها الكبير، ثم استقال ورجع إلى القاعدة التونسية، وتطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أحيل إليه تنظيم خزائن الكتب بالجامع المذكور، وفي سنة 1325ه اشترك في تأسيس جمعية زيتونية، وفي هذه المدة جعل من المدرسين المعينين بالجامع.

وفي سنة 1326ه جعل مدرسا بالصادقية، وكلف بالخطابة بالخلدونية.

ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الطليان والعثمانيين كان من أعظم الدعاة لإعانة الدولة، ونشر بجريدة الزاهرة قصيدته التي مطلعها:

ردوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا

يكفي مضاجعنا نوم دهى حقبا

ثم رحل إلى الجزائر فزار أمهات مدنها، وألقى بها الدروس المفيدة، ثم عاد إلى تونس، وعاود دروسه في جامع الزيتونة، ونشر المقالات العلمية والأدبية في الصحف.

وفي سنة 1330ه سافر إلى دمشق مارا بمصر، ثم سافر إلى القسطنطينية فدخلها يوم إعلان حرب البلقان فاختلط بأهلها وزار مكاتبها، ثم لما عاد إلى تونس في ذي الحجة من هذه السنة نشر رحلته المفيدة عنها وعن الحالة الاجتماعية بها ببعض الصحف.

ثم جعل عضوا في اللجنة التي ألفتها حكومة تونس للبحث عن حقائق في تاريخ تونس، ثم ترك ذلك لما عزم على المهاجرة إلى الشرق، فرحل إليه ونزل مصر وعرف بعض فضلائها، ثم سافر إلى الشام ثم للمدينة ثم للقسطنطينية، ثم عاد إلى دمشق معينا مدرسا للغة العربية والفلسفة بالمدرسة السلطانية بها، وبقي كذلك إلى أن اتهمه مدة الحرب العظمى جمال باشا حاكم سورية بكتم حال المتآمرين على الدولة، واعتقله ستة أشهر وأربعة عشر يوما، ثم حوكم فبرئ من التهمة فأطلق سبيله في شهر ربيع الثاني سنة 1335ه.

ومن شعره في حبسه، وكانوا حالوا بينه وبين أدوات الكتابة:

غلل الحبس يدي عن قلم

كان لا يصحو عن الطرس فناما

هل يذود الغمض عن مقلته

أو يلاقي بعده الموت الزؤاما

أنا لولا همة تحدو إلى

خدمة الإسلام آثرت الحماما

ليست الدنيا وما يقسم من

زهرها إلا سرابا أو جهاما

ثم استمر في التدريس بالمدرسة بدمشق، إلى أن دعي إلى القسطنطينية سنة 1336ه فجعل منشئا عربيا بوزارة الحرب، وواعظا بجامع الفاتح، فبقي كذلك إلى سنة 1337ه، ففارق الآستانة وعاد إلى دمشق، وقال في ذلك:

أنا كأس الكريم والأرض ناد

والمطايا تطوف بي كالسقاة

رب كأس هوت إلى الأرض صدعا

بين كف تديرها واللهاة

فاسمحي يا حباة بي لبخيل

جفن ساقيه طافح بالسبات

وعين عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق ومدرسا ببعض المدارس، فلم يباشر شيئا من ذلك، بل سافر قاصدا مصر، ونزل بها، فولي التصحيح، وعمل الفهارس بدار الكتب المصرية.

ومن مؤلفاته: نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، وحياة ابن خلدون، والخيال في الشعر العربي، وحياة اللغة العربية، وغيرها.

2

صفحه نامشخص