كم مرة يقولون لها أعيدي أعيدي، لا تكف عن الإعادة، لا تكف عن العزف والغناء والرقص، وهم لا يكفون عن التصفيق والتهليل، وهي واقفة على خشبة المسرح، تستريح بضع لحظات. عيناها شاخصتان نحو الوجوه في القاعة، رجال بالبدلات الأنيقة والنياشين فوق الصدور، نساء بالمساحيق والألوان والجواهر، المقلتان في عينيها كبيرتان سوداوان بلون الليل، حول كل مقلة دائرة زرقاء، خضراء بلون الزرع، متوجة بضوء الشمس، مقلتان قادرتان على النظر والرؤية، تنزعان الأقنعة عن الوجوه، تخلعان الأوسمة والنياشين عن الصدور، لا تتركان نقابا فوق أي شيء حتى تخلعاه، عينان قادرتان على تعرية كل الأشياء، لا تسهابان، ربما لهذا السبب كانت العيون تنجذب إليهما، يشيع حضورها كهربة في الجو، صوتها المرح الشجي، أغانيها المليئة بالفرح والحزن، يجذبهم حديثها حين تجلس معهم وتتحدث، تبدد مللهم وحزنهم الدفين، يضحكون معها حين تسخر من كل شيء، لسانها مع الموسيقى والإيقاع لاذع يكشف الزيف، يفضح التناقض، يهتك الأسرار والستائر، لا أحد يتنبأ بما يمكن أن تقول، وبما يمكن أن تفعل، لكنهم ينشدون حضورها؛ لأن الكون في غيابها يسقط في الصمت والظلمة، رغم كثرة الأضواء والأصوات.
رآها جالسة مع بعض النساء والرجال بعد انتهاء الحفل. تقدم أحمد الدامهيري نحوهم بخطوة حذرة مترددة، جلس بينهم يستمع إليها، يركز بصره فيها، يثبت عينيه في عينيها دون جدوى، لم تكن زينة بنت زينات تراه، كان وجهه يذوب في الوجوه الأخرى دون ملامح مميزة، دون شيء يجذب العين إليه، تدور مقلتاها على الوجوه دون أن تتوقف عنده، أبدا لم تتوقف عيناها عنده أبدا، تمران بوجهه مرورا سريعا عابرا كأنما غير موجود، أراد أن يلفت انتباهها، تذكر عبارة قرأها في كتاب تقول: تكلم حتى أراك، بدأ كلامه كعادته باسم الله: بسم الله ... - إن تكلم أحد باسم الله أشعر أنه يقصد شيئا آخر.
كان هذا هو صوتها، انطلق منها طبيعيا بسيطا حين سمعته يقول باسم الله.
دب الصمت في المكان، أطبق أحمد الدامهيري شفتيه، بدا عليه الحرج، وشيء من الغضب، ثم ألهمه الله أن يواصل الكلام: لك حق يا سيدتي، هناك بعض الناس يستخدمون اسم الله لمقاصد لا علاقة لها بالله، لكني لست واحدا من هؤلاء.
كان سائقه الحارس الخاص واقفا غير بعيد عنه، أراد أن يعرف سيده للحاضرين. - هو سعادة الباشا الأمير أحمد الدامهيري. - نعم نعم نعرفه، إنه نار على علم، صورته منشورة في كل مكان.
كانت هذه بعض أصوات الحاضرين، انطلقت ضحكة مكتومة من أحد الشباب، تمتمت إحدى النساء بكلمات غير مفهومة، وابتسامة ساخرة. كانت زينة بنت زينات تعرفه، التقته مرة أو أكثر في بيت صديقتها مجيدة الخرتيتي، كان يهز رأسه بالتحية حين يلقاها، ترد له التحية بهزة من رأسها، تلقائية بسيطة، كما تفعل مع أي أحد يلقي عليها التحية، يرمقها وهي تمشي بقامتها الطويلة وخطوتها الرشيقة، يحدق فيها ويحدق، لا يحول بصره بعيدا عنها، هذا الجسم المصنوع من شيء غير اللحم والعظم، هذا الضوء الكاسح لكل ما عداه، يغمره الضوء وهو واقف، يحملق في ظهرها، حتى تختفي فإذا كل شيء ينطفئ.
تعود صورتها إليه في الليل، تقتحم نومه، توقظه دون هوادة بشيء من الوقاحة، المقلتان الكبيرتان المتوهجتان بالحياة فيهما وقاحة الجمال الساحر، السحر المكتفي بذاته ولذاته لا يتوقف عند أحد، يمضي في طريقه اللانهائي حتى الأفق، يقول لنفسه: طبيعة الجمال الساحر مثل طبيعة الله الخالق، لا تقبل التبادل، أو المساواة بالآخرين من البشر، إنه العدل الإلهي القائم على الظلم واللا مساواة يا أحمد يا دامهيري.
قبل أن يغلبه النوم يسمع صوتها ينشد فوق خشبة المسرح:
لأني أحب الرقص والغناء.
لأني أمتلك الموسيقى والشعر.
Página desconocida