وأذكر على سبيل المثال مسألة كنت أعتمد فيها على أرسطو، وأرى الأدلة الوافرة على صوابها من تجاربنا العصرية؛ وهي مسألة الناخبين واختلاف حقوق الانتخاب بين المتعلمين والجهلاء.
إن التجارب العصرية جميعا تثبت رجاحة رأي الفيلسوف الكبير في حقيقة الملكة الانتخابية، فهي مسألة بداهة وعادة وليست مسألة علم وفلسفة، أو هي مسألة تجاوب وامتزاج بين المعلومات، وليست مسألة آراء متفرقة ينفرد بها أصحابها هنا وهناك، دون أن تصهرها البوتقة العامة في بيئة تتخلق من بينها ويتخلقون منها.
وحدث كثيرا أن بعض إخواننا في المجالس النيابية كانوا يقترحون تمييز المتعلمين بزيادة الأصوات، أو يقترحون حرمان الأميين من الانتخاب، فلم أكن أناقشهم برأي أرسطو؛ لأن الرد عليه سهل جدا على لسان العارف وغير العارف؛ وهو الابتسام مع القول بأن الفلسفة شيء والواقع شيء آخر، أو مع القول بأنها نظريات وأحلام «طوبية» لا تقبل التطبيق في العصر الحديث.
ولكنني كنت أناقشهم بالواقع المتكرر من تجارب الانتخابات بين المتعلمين وغير المتعلمين، وكنت أضرب المثل لهم بانتخابات المحامين والمهندسين والمعلمين والأطباء في نقاباتهم، وأسألهم: أتعتقدون حقا أنها خير من انتخابات المجالس النيابية، وبخاصة ما تقدم منها في تجاربها الأولى؟ فكان الواقع يضطرهم إلى الاعتراف بالحقيقة، ويقنعهم بأن العادة هنا أفعل من العلم الغزير والثقافة العالية، إلا أن تكون من قبيل الثقافة التي تسري بالقدوة والعدوى وعلى غير قصد في كثير من الأحيان.
الديمقراطية الصحيحة
وليس هذا كل ما يقال عن خطأ القائلين بحرمان الأميين حق الانتخاب؛ فإن الأميين إذا كانوا في الأمة قلة لا تزيد على خمسة أو عشرة في المائة، فمن الجائز حرمانهم مع المحافظة على قواعد الديمقراطية؛ لأن رأي تسعين في المائة مقدم على رأي العشرة الباقية، ولا يخل بالحرية الديمقراطية أن يتغلب حكم الأكثرين على حكم الأقلين.
لكن الأمية في الشرق هي الكثرة الغالبة، وليس من الحرية الديمقراطية في شيء أن تجرد أربعة أخماس الأمة من الحقوق وأنت تفرض عليهم الواجبات، وأن تحملهم مهمة الدفاع عن الوطن وأداء الضريبة وتعاملهم معاملة الأجانب الغرباء أيام الانتخاب.
هذا إلى ملاحظة لا بد من الالتفات إليها في هذا الصدد، وهي سبب حرمان الأميين حق الانتخاب في بعض الأمم، ولا سيما الأمريكية، فإنه هنالك حيلة يقصد بها حرمان الهنود الحمر والزنوج حقوق المساواة دون التعرض لتهمة التمييز بين الأجناس، وليست هذه الحيلة مما يجوز بين أبناء الوطن الواحد والجنس الواحد والصفة القومية الواحدة، بل هي مما لا يجوز مع اختلاف الأجناس كما لا يجوز كل احتيال في هذا المقام.
الواقع قبل الفلسفة
على أن الواقع من تجارب الانتخاب في مصر يثبت لنا أن «الناخب المصري»، سواء كان من الأميين أو المتعلمين، قد أدى الأمانة في مواقف كثيرة على أحسن وجه يراد من الناخبين في أرقى الأمم.
Página desconocida