ولست أحب أن أصف الناخب المصري بصفة واحدة مطلقة تنطبق عليه في جميع الأوقات وجميع المناسبات، ولكني أذكر المواقف التي نعلم علم اليقين أنه بلغ فيها الغاية من الأمانة الانتخابية، ونبدأ من المجلس النيابي الأول قبل ثمانين سنة، وننتهي إلى تجاربنا الأولى في الجمعية التشريعية، ثم في البرلمان بعد إعلان الدستور.
قبل ثمانين سنة
رجعت إلى أسماء النواب المنتخبين لمجلسنا النيابي الأول على عهد إسماعيل ثم على عهد توفيق، وكانت شروط الانتخاب يومئذ ضيقة بالغة في الضيق، ولكنها على كل حال كانت عامة مطلوبة من جميع المرشحين بغير استثناء، ولم يكن في وسعي أن أتثبت من أحوال الانتخاب في كل إقليم، فاكتفيت بالأقاليم التي أعرفها وأعرف الأسر والمرشحين من أبنائها، وسألت من يعرف الأقاليم الأخرى هذه المعرفة، ويستطيع من شاء أن يتقصى الأمر في بلده على هذا النحو، فإن النتيجة التي تنتهي إليها بعد مراجعة أحوال الانتخاب جميعا هي صحة التمثيل النيابي في القطر كله، بحيث يصدق القول على كل نائب وصل إلى المجلس أنه أحق أبناء إقليمه بالنيابة عنه في تلك الأحوال.
وفي الجمعية التشريعية
وننتقل إلى انتخابات الجمعية التشريعية منذ أربعين سنة، فإن وقائعها مذكورة بتفصيلاتها وعواملها الخفية والظاهرة، ولا سيما دوائر القاهرة والإسكندرية.
إن الناخب المصري قد قاوم من الضغط عليه في هذه الانتخابات ما يندر أن يقاومه ناخب في قطر من أقطار الحياة النيابية العريقة.
كان الخديو عباس ورئيس الوزراء محمد سعيد باشا والمندوب البريطاني لورد كتشنر؛ يحاربون سعد زغلول ويعملون جهدهم أن يحولوا بينه وبين الوصول إلى الجمعية التشريعية.
ووقف هؤلاء جميعا في جانب، ووقف الناخب المصري في الجانب الآخر، فانهزموا جملة ونجح سعد زغلول في دائرتين هما دائرة الإمام ودائرة السيدة زينب.
وكانت هناك قوة أخرى إلى جانب القوى التي تضافرت على مقاومة سعد في كل من الدائرتين.
كان المرشح أمامه رجلا له صفة دينية في دائرته وهي مشيخة الإمامين، وكان الناس يذكرون حملات «ظلموك يا سعد»، التي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يكتبها في اللواء - لسان الحزب الوطني يومذاك - فاستطاع الناخب المصري أن يحكم حكمه بين هذه العوامل المتألبة عليه، وكان آية في صدق البداهة الاجتماعية وأمانة الضمير الوطني، قبل أن يكون للجمعية التشريعية شأن في ميدان الوطنية.
Página desconocida