فأما كانت فقد كان عذره أن كلامه غامض لا يفهمه أحد من عامة القراء، فلا خوف منه عليهم، ولم يكذب كانت في هذا الاعتذار، بل لعله بالغ في الاعتدال حين قال إن عامة القراء وحدهم هم الذين لا يفهمونه، وإنه ليعلم أن صديقه «هرتز» من طبقة المفكرين قد أعاد إليه كتابه قبل أن يتمه، وقال إنه يعيده إليه قبل أن يذهب به إلى المارستان !
أما اعتذار فرنسيس باكون فقد كان تحفة أخرى من تحف الاعتذار الغريبة؛ لأن هذا الفيلسوف - إمام الفلسفة التجريبية - كان كبيرا للقضاة فاتهم بالرشوة فلم ينكرها، ولكنه قال إنه كان يتقبل الهدايا من الخصمين ليقاوم الزيغ والانحراف، ويضطر إلى الحكم بينهما بالإنصاف!
ولم تكن توبة نصوحا من جانب رسول السلام والمسالمة؛ فقد عاد إلى الكتابة عن الثورات والأخلاق، فلم يقلع عنها إلا وقد علت به السن، وأطبق الخوف على ذلك الدماغ الضخم، وودع الحياة وهو لا يعلم أنه يودعها ويستقبل ما وراءها، ومن سخرية المقادير أن ذلك الرأس القوي، الذي حاول أن يحيط بما بعد الحياة والموت، قد مات وهو لا يعلم أنه يموت!
الناخب المصري وفلسفة أرسطو1
قرأت في هذا الأسبوع الكتاب الأول من «تطور الفكر السياسي»، الذي ألفه الدكتور جورج هولاند ساباين، وترجمه الأستاذ حسن جلال العروسي، ولخصه العلامة السنهوري في مقدمته البليغة بكلمتين؛ إذ قال:
إن الحكم الصالح لا تتلمسه فلسفة الإغريق في الحكم المطلق للفيلسوف، ولكن تنشده في مبدأ سيادة القانون.
من كان في شك من الحكمة السائرة التي تقول: «إن الإنسان إنسان حيث كان»، أو كان في شك من قول القائلين: «إنه لا جديد تحت الشمس»؛ فليقرأ هذا الكتاب فإنه سيعرف بين ما يعرفه من دروسه الكثيرة أن مسائل الحكم والسياسة قديمة في أصولها، وأن أنواع الحكومات وعيوبها جميعا معهودة منذ العصور التاريخية الأولى، وأن أفلاطون وأرسطو ومن عاصرهما من فلاسفة اليونان لا يستغربون شيئا لو انبعثوا من الأجداث ونظروا إلى العصر الحاضر كما نراه بمشكلاته ومعضلاته وحلوله وأحكامه، وتقلبوا في أرجاء العالم من مشرقه إلى مغربه ومن أرفع الأمم إلى أقل الشعوب والقبائل نصيبا من الحضارة وشئون السياسة والحكومة.
مشكلة الحكم المطلق، ومشكلة الحكم الشعبي، ومشكلة التفاوت في الثروة، ومشكلة الطبقات الحاكمة، ومشكلة الانتخاب وأصحاب الحق فيه، ومشكلة الفارق بين حقوق الرجال وحقوق النساء، ومشكلة الملكية والشيوعية، وغير ذلك من المشكلات التي تقرأ أخبارها في صحافة اليوم؛ هي هي هذه المشكلات التي يعرضها الكتاب؛ إذ يعرض لنا آراء أفلاطون وأرسطو، ويلم بما سبقها من آراء الإغريق والفرس التي لم يتغير منها إلا اتساع النطاق، وظهور الجسد القديم في ثوب جديد.
ومن المفيد للعقل الإنساني دائما أن يعرف أصالة المسائل التي يعالجها أو يفكر فيها، فإنه يفهمها خطأ ولا ريب إن فهم أنها بنت اليوم وأنها شيء لم يسبق له مثيل في الجملة والتفصيل.
أرسطو والناخب المصري
Página desconocida