كنت غريبة في المدرسة السنية كما قدمت، ولم أمكث فيها أكثر من ثلاثة أيام حتى زارنا الشيخ حمزة فتح الله، ومع أني كنت قد دخلت في السنة الرابعة عشرة من عمري، فإني لم أكن أكبر سنا عن تلميذات السنة الثالثة إذ ذاك، بل كنت مثل كثير منهن وأصغر من بعضهن، ولما كنت قصيرة القامة فقد جلست في الصف الأول من الفصل، ودخل الشيخ حمزة فتح الله، وكان لسوء الحظ أن كانت وقفته إلى جانبي، فطلب مني أن أقرأ فقرأت، وسر الأستاذ سرورا عظيما؛ لأني كما قدمت كنت أقرأ قراءة صحيحة مع أنني كنت أكتب خطا رديئا لا كرداءة الخطوط العادية، بل خط فتاة لم تعتد الكتابة؛ أي خط طفلة لا تعرف كيف تكتب.
سر الأستاذ من قراءتي، وأعجب بها أيما إعجاب، ثم طلب من غيري أن تقرأ، وهاله ما بيني وبينها من الفرق العظيم فغضب، وأمرها بالجلوس، وقال إنها متأخرة جدا بالنسبة للتلميذة الأولى، ثم سأل غيرها فكان غضبه أشد، وهكذا ثار الأستاذ، وسأل المعلم عن سبب ضعف التلميذات إلى هذا الحد، وهنا مال عليه المعلم، وقال همسا: هؤلاء هن طالبات السنة الثالثة، وهن لا يستطعن أن يقرأن أحسن من هذا، أما تلك التلميذة التي قرأت في الأول، فهي جديدة لم تدخل المدرسة إلا هذا العام، وهي على ما يظهر أقوى منهن بكثير، وهنا نظر الشيخ حمزة فتح الله، وقال: أرجو يا ابنتي أن تساعدي زميلاتك على حسن القراءة والصرف، وكل البنات يرغين ويزبدن لهذا الحادث العظيم في نظرهن؛ إذ كيف يطلب المفتش من تلميذة مثلهن أن تعلمهن، وهي فضلا عن هذا غريبة عن المدرسة، وليست من تلميذاتها، وهذا ما اعتبرته التلميذات عارا لا يمحى.
وما كادت الحصة تنتهي حتى خرجن إلى الفناء، وشكون أمرهن إلى باقي تلميذات المدرسة، وكان في المدرسة طالبة عرفت بالصراحة كما عرفت بالشجاعة والإقدام؛ فكانت بطلة المدرسة أو بلطجيتها، وكانت إذا مرت بتلميذتين تتشاجران قضت بينهما بالعدل، وضربت الظالمة، أو أنبتها مع أنها كانت لا تزال في السنة الثانية، فذهبت التلميذات إليها، وشكون لها ما فعله المفتش، فجاءت ووقفت أمامي، وكنت جالسة فارتعدت فرائصي خوفا، وأيقنت أني مضروبة لا محالة، وقالت لي بلهجة الغضب والتأنيب: كيف تسمحين لنفسك أن تعلمي زميلاتك وهن أقدم منك في المدرسة؟ فنظرت إليها في هدوء، وقلت لها: وهل قمت بتعليمهن، أو طلبت إليهن ذلك؟ وما ذنبي أنا إذا سمح الشيخ حمزة فتح الله لنفسه أن يقول ذلك السخف الذي لا يعنيني أمره؟ فنظرت إلي في شيء من التردد، ثم قالت: صدقت! ليس هذا بخطئك. وانصرفت من عندي، ويظهر أنها وبخت تلميذات السنة الثالثة على ثورتهن ضدي فهدأن، ولكنهن أطلقن علي لقب زوجة الشيخ حمزة فتح الله.
وكنت لا أعرف كلمة في اللغة الإنجليزية، وكنت أجلس في الفصل هادئة لا أكاد أتحرك، وكانت بعض المعلمات الإنجليزيات يعتقدن أن التلميذة الهادئة جدا خاملة العقل لا تفهم شيئا، ولو أن معلمتنا في ذلك الوقت اعتقدت هذا لقضي علي بعدم النجاح، ولكن هذه المعلمة كانت على عكس زميلاتها في هذا التفكير، فتخيلت أني أذكى فتاة في المدرسة، وأخذت تساعدني بكل ما تستطيع، فكانت تأمر التلميذات أن يترجمن لي كل ما تقوله رغما عنهن، ورأيت أنهن يقمن بمناورات ضدي في حصة اللغة الإنجليزية، فأردت أن أردهن إلى الصواب فأخذت أضايقهن في حصة اللغة العربية، فكنت أهزأ بمن تخطئ، وأصحح لها خطأها، فتتألم وتغضب، فيغضب عليها المعلم ويعاقبها، وهكذا ضايقتهن مضايقة عظيمة، فجئن إلي وطلبن أن تضع الحرب بيننا أوزارها، قلت حسنا إذا كنتن على استعداد لمساعدتي في حصص اللغة الإنجليزية، فقبلن مني ذلك الشرط، واتفقنا من ذلك اليوم على أن أساعدهن في اللغة العربية ولو بسكوتي، ويساعدنني هن في اللغة الإنجليزية بترجمة ما لا أفهم، وهكذا انتظمت حالي بذلك الصلح قليلا، ولكنه كلفني كثيرا إذ كان أغلبهن يطلبن مني أن أملي عليهن موضوع الإنشاء الذي يكلفهن المعلم كتابته، وعلى هذا كنت أكتب موضوع الإنشاء أربع أو خمس مرات حسب الطلب، فكنت أملي على كل من طلبت مني ذلك موضوعا يغاير في ألفاظه وأفكاره موضوع الأخرى حتى لا يظن المعلم أن إحداهن نقلت من الأخرى.
وفي نظير ذلك كن يترجمن لي كل ما تقوله المعلمة الإنجليزية، وكنا لسوء الحظ نتلقى علوم الجغرافية والتدبير المنزلي والأحياء باللغة الإنجليزية التي لم أكن أعرف منها شيئا؛ فكنت أجد صعوبة عظيمة في فهم تلك العلوم، ولكن المعلمة كانت تشجعني كل التشجيع؛ ولهذا استطعت أن أتغلب على تلك الصعوبات.
وحدث في يوم أن كانت تشرح لنا المدرسة جغرافية مصر الطبيعية على الخريطة، وكانت الأطالس أمامنا، والظاهر أن الخريطة كانت ضيقة لا تمثل مكان واحة سيوة، وقالت المعلمة للتلميذات أن ينظرن جيدا إلى الأطلس، وكانت الواحة موجودة عليه، وأن يشرن إلى مكانها على الخريطة، وقامت التلميذات الواحدة بعد الأخرى تشير إلى الموضع الذي كانت تظنه موضع واحة سيوة، ولما كانت التلميذات متجهات إلى وضع واحة سيوة على الخريطة مع أن محلها نفسه لم يكن موجودا على تلك الخريطة، فقد أخطأن جميعهن، وطلبت المعلمة منهن ترجمة السؤال لي، فذهبت لأشير إلى مكان الواحة، فوضعت الإشارة على الحائط لا على الخريطة، وظنت التلميذات ذلك غباء مني، فضحكن ضحكات عالية ملؤها الشماتة، ونظرت إليهن المعلمة في دهشة حتى إذا انتهين من الضحك أخبرتهن ببرود الإنجليز المعروف أنهن قد أخطأن، ولم يعرف مكان واحة سيوة بالضبط إلا تلك التلميذة التي سخرن منها، وكانت دهشتهن عظيمة لذلك، وابتدأن من ذلك اليوم يملن لي ويحترمنني.
كنت غريبة عن المدرسة السنية، بعيدة عن كل نظمها، وكنت أنتقد ما يلقى علينا وأحتقره إذا كان لا فائدة منه؛ لهذا لم تعجبني قواعد الصرف؛ فكنت أسخر منها، ولا أرى أية فائدة في أن أعرف أن سار أصلها «سير»، وأن كان أصلها «كون»، وغير ذلك من العلل الصرفية؛ لأني كنت أرى أني أعرف أن أفهم وأقرأ، وأن أكتب ما يفهم قبل أن أتعلم تلك القواعد التي لا معنى لها، وأعطانا المعلم يوما امتحانا في الصرف، وبدلا من أن أجيب عليه كتبت له في الكراسة الأبيات التالية:
دهتني صروف الصرف لا در دره
ولا خير في فعل إذا رمت صرفه
كما أنه يخشى الزمان وصرفه
Página desconocida