وقد كانت القضية المصرية تمثل عند حلمي الحياة جميعا، فهو ملهوب العاطفة كاره للإنجليز ولكل شيء ينتمي إليهم، وقد كانت المدارس الثانوية في ذلك الحين، والتي كانت تسمى التجهيزية، فيها قسم يدرس علومه جميعا باللغة الإنجليزية، وآخر يدرس علومه باللغة الفرنسية، فاختار هو الدراسة باللغة الفرنسية إمعانا منه في كره الإنجليز على الرغم من إلحاح إخوانه الذين كانوا يريدونه أن يدرس الإنجليزية ليعرف لغة أعدائه، فقد يحتاج إلى مجادلتهم، وكان جواب حلمي القاطع: عليهم هم أن يكلموني بلغتي فإن لم، فليتكلموا بالفرنسية، أما أنا فلن أجعلهم يرغمونني على تعلم لغتهم. وحين نال حلمي شهادة التجهيزية كان يتقن اللسان الفرنسي إتقانا نادرا؛ فقد كان ذا موهبة في اللغة وأحب الفرنسية، فكان إلى جانب العلوم التي يتعلمها بالفرنسية كالجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء والحساب، يقرأ في الأدب الفرنسي بنهم شديد.
وهكذا كان الأمر ميسورا بالنسبة إليه في الرجوع إلى المراجع الفرنسية، كما كان ميسورا له تلقي المحاضرات عن الأساتذة الفرنسيين، ولم يكن عددهم قليلا في هذه الأيام. وعلى أية حال فقد أحس حلمي نفسه سعيدا كل سعادة أنه استطاع في تعليمه أن يقاطع الإنجليز والإنجليزية مقاطعة تامة، وحين تخرج حلمي لم يصبح له عمل إلا حرب الإنجليز حيثما هيأت له الفرصة حربا، وإن لم تهيئها اصطنعها هو اصطناعا.
كان حلمي مشغولا في الحياة العامة بحرب الإنجليز ومشغولا في حياته الخاصة بحرب الجهل الفاضح الذي يرزح فيه أخوه الذي يرفض كل الرفض أن يمسك كتابا أو يفكر في امتحان أو مستقبل يعتمد على علم.
بدأ حلمي عمله في وزارة الداخلية، وأصر حفني أن يتمسك بوظيفته التي يحبها ولا يفكر في تركها؛ طالب بالشهادة الابتدائية. وبلغ حفني مشارف الشباب وأصبح في البواكير الأولى من الحياة. وكان طويل القامة جميل القسمات بصورة لا يستطيع الإنسان أن يتجاهلها. وهب الله له حب الناس ويسر الصداقات، فكل الذين زاملوه وكل أصدقائهم الذين عرفوهم به أحبوه حبا شديدا، وقد كان يستطيع أن يجعل كل شخص منهم يعتقد أنه صديقه الأوحد أو الأول على الأقل. وكان كل أصدقائه يثقون بهذه الفكرة ثقة لا تقبل المناقشة أو التفكير، وهكذا أصبح لحفني أصدقاء في المدارس التجهيزية طبعا، ومع السنين أصبح أغلب أصدقائه في المدارس العليا، ومن باب أولى كان له أصدقاء كثيرون في المدرسة الحربية ومدرسة البوليس. ولعل هؤلاء كانوا أشد أصدقائه قربا إليه، فما كان يذهب إلى هاتين المدرستين إلا الذين يريدون أن يتعجلوا الخروج إلى الحياة، فهم في هذا مع حفني على وفاق أي وفاق.
فما كانت هاتان المدرستان تحتمان أن يكون الملتحق بهما من حملة البكالوريا.
ويا طالما ألح حلمي على حفني أن ينال الابتدائية لعله يستطيع أن يلتحق بواحدة من هاتين المدرستين، ولكن من أين؟ إنه يستطيع أن يصادق أي إنسان أو أي شيء إلا أن يصادق الكتاب حتى وإن كانت صداقة مغرضة منافقة تتقطع أواصرها إذا نال منها بغيته، عداوة موهوبة ومكتسبة، وهكذا أصبح من الطبيعي أن يكون له أصدقاء في المدرسة الحربية أو في مدرسة البوليس، ولكنه لم يستطع قط أن يخطو إلى داخل واحدة منها تلميذا منتظما.
لم يستطع عمل حلمي في وزارة الداخلية أن يجعله معقولا بعض الشيء في كرهه للإنجليز، فكان يكتب مقالات بتوقيع مستعار «مصري صميم» في الصحف اليومية، وكانت السلطات البريطانية تحاول التعرف على صاحب هذا التوقيع فتصاب بالفشل الشديد، فقد كان رؤساء التحرير يدعون دائما أن المقالات تأتي إليهم في البريد، وأنهم ينشرونها دون أن يعرفوا اسم صاحبها، وكانوا يعلمون طبعا أن العقاب نازل بهم لنشرهم هذه المقالات، ولكنهم كانوا يشعرون بالسعادة وهم يستقبلون هذا العقاب.
واستطاع حلمي عن طريق وظيفته ومقالاته أن يتعرف على رؤساء تحرير هذه الصحف. وكان حفني قد كف عن محاولته في الحصول على الابتدائية فلم يجد حلمي بدا آخر الأمر من أن يرجو صديقه فايز وهبي رئيس تحرير مجلة الفن أن يعين حفني عنده ناقدا فنيا، فالنقد لا يحتاج إلى مؤهل، وحفني يستطيع أن يتعرف على العاملين في المسرح وغير المسرح من ملاهي الليل.
ولم يكن حلمي يعلم أن حفني وطيد الصلة فعلا بالممثلين والمخرجين، فقد كانت الحياة التي تجمع حلمي وحفني في بيت واحد تباعد بينهما بعد ذلك في كل شيء؛ فحلمي لا يعرف عن حفني إلا أنه موظف بوزارة الداخلية، وحفني لا يعرف عن حلمي إلا أنه خائب.
وحين تجمع بينهما المائدة فحديث مقتضب، فكل منهما يحيا حياة غير التي يحياها الآخر، فإن لم يكن هناك خبر ذو شأن في السياسة أو جديد يقال عن الأرض التي يملكانها والتي يشرف عليها حلمي لا يكون بينهما حديث على مائدة الغداء، وهي المائدة الوحيدة التي يمكن أن تجمع بينهما في وجبات اليوم.
Página desconocida