وقد شاء لي تزاحم الحياة حولي أن أرى الكثير. وشاء لي قدري أن أكون من أهل الرواية والقصة. فليس عجيبا إذن أمري إذا أنا أمسكت بالقلم ورحت أفكر به فيما رأيته حولي من زحمة الحياة، وليس عجيبا من أمري ولا من أمرك أن أقدم إليك ما انتهى إليه حديثي إلى قلمي أو حديث قلمي إلي. قد يكون بعض الناس قد شاهد ما شاهدت، وسيجد هؤلاء أن ما خبره من الحياة لم ينفرد وحده بخبره، وقد يكون بعض آخرون قد سمع ولم يختبر، ونقل إليه الأمر ولم يره، أو قد يكون بعض ثالث بمعزل عن مضطرب الحياة وزحمتها، فلا هو رأى ما رأيت، ولا هو حتى سمع عنه.
وأيا ما يكون الأمر، فقراءة الشيء غير مشاهدته وغير الاستماع إليه؛ لأن القارئ حين يقرؤه يجده نابضا بنبض الكاتب ورؤيته. فلست حكاء أروي لك الخبر دون أن أنفذ إلى العميق العميق من أغواره، ثم أنا ألف حوله وأدور فأرى ما يحيط به من كل جانب، فأنت لن تقرأ حديثا هامدا لا حياة فيه ولا حركة؛ فليست القصة أو الرواية مجرد مجموعة من الأحداث أو من ملامح الشخصيات أو تطور التآلف بين الحدث والشخص، وإنما القصة أو الرواية هي رؤية فنان، وهي حياة كاملة ولعلها الحياة الوحيدة في الحياة التي نعرف سرها؛ فسر الحياة لا يعلمه إلا الله.
وما أنا بسبيلي إلى تقديمه إليك الآن لا أدري - كما قلت لك - كيف أنا سائر به أو كيف سيسير هو بي؛ فهذا الذي أكتبه لم أضع خطوطه العريضة، وإنما أنا مسلم أمري إلى ذكرياتي وتفكيري وقلمي، وهذه الذكريات فيها كثير تهادى إلي من أفواه ناس عن ناس، وأنا أعرف الحاكي والمحكي عنه. وهذه الذكريات فيها ما عرفته عن مشاهدة أو ما عرفته من مشاركة، ويتمازج هذا جميعه في نفسي وعلى سن قلمي، فإذا أنا لا أدري كيف يمكن أن تؤدي البداية فيه إلى النهاية.
الفصل الثاني
عدلي صديقي الذي أعرفه متمسك بالأخلاق الرفيعة تمسكا لا يقبل معه التنازل عن شيء من صغائر الأمور، ولكنه أمام مشكلة عمه واقف كالحجر لا يستطيع أن يحقق ما تقاضيه به المثل ولا يستطيع أن يسكت، أو أن نفسه تأبى عليه الهدوء أو قبول السكوت منه، وأقصى ما استطاع أن يبلغه ومن جهده أن يدعي الجهل بكل ما يقال حول عمه.
وهو يدرك أنه بذلك الذي صنعه إنما يخادع نفسه في حين تأبى نفسه أن تنخدع، فهو وإياها في صراع أي صراع، ولكن ما لنا نبدأ بالحديث عنه ولا نبدأ بالحديث عن عمه هذا؟
هو من مواليد السنوات الأولى من هذا القرن، وهو الأخ الأصغر لوالد صديقي الحائر. وأخوه يكبره بسنوات ليست قليلة، وقد مات عنهما أبوهما فواز الوسيمي، والأخ الأكبر حلمي في مدرسة الحقوق، فلم تكن في ذلك الحين تحمل اسم الكلية، فما كانت الجامعة قد نشأت بعد.
وكان الأخ الأصغر حفني متجمدا في الابتدائية لا يريد عنها حولا ولا منصرفا.
وكان التعليم في ذلك الحين قد بدأ يأخذ مكانه الرفيع من الحياة المصرية، وكان حرص حفني على البقاء في الشهادة الابتدائية ينغص على أخيه حياته، فهو ينظر في هلع كلما استشرف المستقبل له ورآه فيه ضائعا كهباءة لا معنى لها ولا وجود ولا ثقل.
وكان الأخ الأكبر شأن جيله جميعا من المشتغلين بالقضية الوطنية إلا أنه أبى أن يقف موقف المعلق أو السائر حيث تسير الجموع؛ فقد كان صاحب قلم وصاحب مواهب خطابية فأمره بين جيله منفرد تفرد صاحب الموهبة بين عامة الناس.
Página desconocida