الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Página desconocida
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Página desconocida
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Página desconocida
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
Página desconocida
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
طائر في العنق
طائر في العنق
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
هذه هي المرة الأولى التي أمسك فيها بالقلم وأنا لا أدري إلى أين سأرمي به ولا إلى أين سيرمي هو بي، أهي رواية طويلة؟ أهي قصة قصيرة؟ أهي شيء بين هذه وتلك أم هي شيء جديد بالنسبة لي أنا؟ ولك أن تسألني - وما لك لا تفعل - ولماذا لا تصبر على قلمك وتنتظر حتى تعرف إلى أي الوديان أنت متخذ سمتك، ومستقبل وجهتك؟ ولي على سؤالك إجابة.
لقد خرجنا من فترة سياسية قلبت الموازين الاجتماعية كلها، وانقلب معها ما استقر عليه مألوف الناس، وما تعارفوا عليه في مضطرب حياتهم.
وقد وقف بنا هذا الاضطراب على أبواب حياة جديدة أصبحنا نرى فيها ما تعتبره بعض الأجيال عجبا وما تعتبره أجيال آخرون أمرا طبيعيا لا يدعو إلى دهشة أو تعجب.
Página desconocida
وقد شاء لي تزاحم الحياة حولي أن أرى الكثير. وشاء لي قدري أن أكون من أهل الرواية والقصة. فليس عجيبا إذن أمري إذا أنا أمسكت بالقلم ورحت أفكر به فيما رأيته حولي من زحمة الحياة، وليس عجيبا من أمري ولا من أمرك أن أقدم إليك ما انتهى إليه حديثي إلى قلمي أو حديث قلمي إلي. قد يكون بعض الناس قد شاهد ما شاهدت، وسيجد هؤلاء أن ما خبره من الحياة لم ينفرد وحده بخبره، وقد يكون بعض آخرون قد سمع ولم يختبر، ونقل إليه الأمر ولم يره، أو قد يكون بعض ثالث بمعزل عن مضطرب الحياة وزحمتها، فلا هو رأى ما رأيت، ولا هو حتى سمع عنه.
وأيا ما يكون الأمر، فقراءة الشيء غير مشاهدته وغير الاستماع إليه؛ لأن القارئ حين يقرؤه يجده نابضا بنبض الكاتب ورؤيته. فلست حكاء أروي لك الخبر دون أن أنفذ إلى العميق العميق من أغواره، ثم أنا ألف حوله وأدور فأرى ما يحيط به من كل جانب، فأنت لن تقرأ حديثا هامدا لا حياة فيه ولا حركة؛ فليست القصة أو الرواية مجرد مجموعة من الأحداث أو من ملامح الشخصيات أو تطور التآلف بين الحدث والشخص، وإنما القصة أو الرواية هي رؤية فنان، وهي حياة كاملة ولعلها الحياة الوحيدة في الحياة التي نعرف سرها؛ فسر الحياة لا يعلمه إلا الله.
وما أنا بسبيلي إلى تقديمه إليك الآن لا أدري - كما قلت لك - كيف أنا سائر به أو كيف سيسير هو بي؛ فهذا الذي أكتبه لم أضع خطوطه العريضة، وإنما أنا مسلم أمري إلى ذكرياتي وتفكيري وقلمي، وهذه الذكريات فيها كثير تهادى إلي من أفواه ناس عن ناس، وأنا أعرف الحاكي والمحكي عنه. وهذه الذكريات فيها ما عرفته عن مشاهدة أو ما عرفته من مشاركة، ويتمازج هذا جميعه في نفسي وعلى سن قلمي، فإذا أنا لا أدري كيف يمكن أن تؤدي البداية فيه إلى النهاية.
الفصل الثاني
عدلي صديقي الذي أعرفه متمسك بالأخلاق الرفيعة تمسكا لا يقبل معه التنازل عن شيء من صغائر الأمور، ولكنه أمام مشكلة عمه واقف كالحجر لا يستطيع أن يحقق ما تقاضيه به المثل ولا يستطيع أن يسكت، أو أن نفسه تأبى عليه الهدوء أو قبول السكوت منه، وأقصى ما استطاع أن يبلغه ومن جهده أن يدعي الجهل بكل ما يقال حول عمه.
وهو يدرك أنه بذلك الذي صنعه إنما يخادع نفسه في حين تأبى نفسه أن تنخدع، فهو وإياها في صراع أي صراع، ولكن ما لنا نبدأ بالحديث عنه ولا نبدأ بالحديث عن عمه هذا؟
هو من مواليد السنوات الأولى من هذا القرن، وهو الأخ الأصغر لوالد صديقي الحائر. وأخوه يكبره بسنوات ليست قليلة، وقد مات عنهما أبوهما فواز الوسيمي، والأخ الأكبر حلمي في مدرسة الحقوق، فلم تكن في ذلك الحين تحمل اسم الكلية، فما كانت الجامعة قد نشأت بعد.
وكان الأخ الأصغر حفني متجمدا في الابتدائية لا يريد عنها حولا ولا منصرفا.
وكان التعليم في ذلك الحين قد بدأ يأخذ مكانه الرفيع من الحياة المصرية، وكان حرص حفني على البقاء في الشهادة الابتدائية ينغص على أخيه حياته، فهو ينظر في هلع كلما استشرف المستقبل له ورآه فيه ضائعا كهباءة لا معنى لها ولا وجود ولا ثقل.
وكان الأخ الأكبر شأن جيله جميعا من المشتغلين بالقضية الوطنية إلا أنه أبى أن يقف موقف المعلق أو السائر حيث تسير الجموع؛ فقد كان صاحب قلم وصاحب مواهب خطابية فأمره بين جيله منفرد تفرد صاحب الموهبة بين عامة الناس.
Página desconocida
وقد كانت القضية المصرية تمثل عند حلمي الحياة جميعا، فهو ملهوب العاطفة كاره للإنجليز ولكل شيء ينتمي إليهم، وقد كانت المدارس الثانوية في ذلك الحين، والتي كانت تسمى التجهيزية، فيها قسم يدرس علومه جميعا باللغة الإنجليزية، وآخر يدرس علومه باللغة الفرنسية، فاختار هو الدراسة باللغة الفرنسية إمعانا منه في كره الإنجليز على الرغم من إلحاح إخوانه الذين كانوا يريدونه أن يدرس الإنجليزية ليعرف لغة أعدائه، فقد يحتاج إلى مجادلتهم، وكان جواب حلمي القاطع: عليهم هم أن يكلموني بلغتي فإن لم، فليتكلموا بالفرنسية، أما أنا فلن أجعلهم يرغمونني على تعلم لغتهم. وحين نال حلمي شهادة التجهيزية كان يتقن اللسان الفرنسي إتقانا نادرا؛ فقد كان ذا موهبة في اللغة وأحب الفرنسية، فكان إلى جانب العلوم التي يتعلمها بالفرنسية كالجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء والحساب، يقرأ في الأدب الفرنسي بنهم شديد.
وهكذا كان الأمر ميسورا بالنسبة إليه في الرجوع إلى المراجع الفرنسية، كما كان ميسورا له تلقي المحاضرات عن الأساتذة الفرنسيين، ولم يكن عددهم قليلا في هذه الأيام. وعلى أية حال فقد أحس حلمي نفسه سعيدا كل سعادة أنه استطاع في تعليمه أن يقاطع الإنجليز والإنجليزية مقاطعة تامة، وحين تخرج حلمي لم يصبح له عمل إلا حرب الإنجليز حيثما هيأت له الفرصة حربا، وإن لم تهيئها اصطنعها هو اصطناعا.
كان حلمي مشغولا في الحياة العامة بحرب الإنجليز ومشغولا في حياته الخاصة بحرب الجهل الفاضح الذي يرزح فيه أخوه الذي يرفض كل الرفض أن يمسك كتابا أو يفكر في امتحان أو مستقبل يعتمد على علم.
بدأ حلمي عمله في وزارة الداخلية، وأصر حفني أن يتمسك بوظيفته التي يحبها ولا يفكر في تركها؛ طالب بالشهادة الابتدائية. وبلغ حفني مشارف الشباب وأصبح في البواكير الأولى من الحياة. وكان طويل القامة جميل القسمات بصورة لا يستطيع الإنسان أن يتجاهلها. وهب الله له حب الناس ويسر الصداقات، فكل الذين زاملوه وكل أصدقائهم الذين عرفوهم به أحبوه حبا شديدا، وقد كان يستطيع أن يجعل كل شخص منهم يعتقد أنه صديقه الأوحد أو الأول على الأقل. وكان كل أصدقائه يثقون بهذه الفكرة ثقة لا تقبل المناقشة أو التفكير، وهكذا أصبح لحفني أصدقاء في المدارس التجهيزية طبعا، ومع السنين أصبح أغلب أصدقائه في المدارس العليا، ومن باب أولى كان له أصدقاء كثيرون في المدرسة الحربية ومدرسة البوليس. ولعل هؤلاء كانوا أشد أصدقائه قربا إليه، فما كان يذهب إلى هاتين المدرستين إلا الذين يريدون أن يتعجلوا الخروج إلى الحياة، فهم في هذا مع حفني على وفاق أي وفاق.
فما كانت هاتان المدرستان تحتمان أن يكون الملتحق بهما من حملة البكالوريا.
ويا طالما ألح حلمي على حفني أن ينال الابتدائية لعله يستطيع أن يلتحق بواحدة من هاتين المدرستين، ولكن من أين؟ إنه يستطيع أن يصادق أي إنسان أو أي شيء إلا أن يصادق الكتاب حتى وإن كانت صداقة مغرضة منافقة تتقطع أواصرها إذا نال منها بغيته، عداوة موهوبة ومكتسبة، وهكذا أصبح من الطبيعي أن يكون له أصدقاء في المدرسة الحربية أو في مدرسة البوليس، ولكنه لم يستطع قط أن يخطو إلى داخل واحدة منها تلميذا منتظما.
لم يستطع عمل حلمي في وزارة الداخلية أن يجعله معقولا بعض الشيء في كرهه للإنجليز، فكان يكتب مقالات بتوقيع مستعار «مصري صميم» في الصحف اليومية، وكانت السلطات البريطانية تحاول التعرف على صاحب هذا التوقيع فتصاب بالفشل الشديد، فقد كان رؤساء التحرير يدعون دائما أن المقالات تأتي إليهم في البريد، وأنهم ينشرونها دون أن يعرفوا اسم صاحبها، وكانوا يعلمون طبعا أن العقاب نازل بهم لنشرهم هذه المقالات، ولكنهم كانوا يشعرون بالسعادة وهم يستقبلون هذا العقاب.
واستطاع حلمي عن طريق وظيفته ومقالاته أن يتعرف على رؤساء تحرير هذه الصحف. وكان حفني قد كف عن محاولته في الحصول على الابتدائية فلم يجد حلمي بدا آخر الأمر من أن يرجو صديقه فايز وهبي رئيس تحرير مجلة الفن أن يعين حفني عنده ناقدا فنيا، فالنقد لا يحتاج إلى مؤهل، وحفني يستطيع أن يتعرف على العاملين في المسرح وغير المسرح من ملاهي الليل.
ولم يكن حلمي يعلم أن حفني وطيد الصلة فعلا بالممثلين والمخرجين، فقد كانت الحياة التي تجمع حلمي وحفني في بيت واحد تباعد بينهما بعد ذلك في كل شيء؛ فحلمي لا يعرف عن حفني إلا أنه موظف بوزارة الداخلية، وحفني لا يعرف عن حلمي إلا أنه خائب.
وحين تجمع بينهما المائدة فحديث مقتضب، فكل منهما يحيا حياة غير التي يحياها الآخر، فإن لم يكن هناك خبر ذو شأن في السياسة أو جديد يقال عن الأرض التي يملكانها والتي يشرف عليها حلمي لا يكون بينهما حديث على مائدة الغداء، وهي المائدة الوحيدة التي يمكن أن تجمع بينهما في وجبات اليوم.
Página desconocida
على أن مائدة الغداء هذه نفسها قليلا ما كانت تجمع بينهما، فكثيرا ما كان يتغذى كلاهما خارج البيت أو يتغذى أحدهما على الأقل في الخارج مع صديق له.
وعلى مائدة الغداء قال حلمي: حفني تستطيع أن تذهب غدا إلى الأستاذ فايز وهبي. - صاحب مجلة الفن؟ - أتعرفه. - أعرف المجلة. - من أين تعرفها؟! - أكان لا بد أن أحصل على الابتدائية حتى أعرف مجلة الفن. - كنت أحسب أن ليس لك صلة بأي قراءة. - ولا حتى مجلة الفن! - حسنا، هل تستطيع أن تكتب شيئا عن المسارح والغناء والتمثيل وما إلى ذلك؟ - طبعا، أنا لي أصدقاء كثيرون بينهم. - كيف؟ - طول المعاشرة للمدرسة جعل لي أصدقاء في كل مكان. - حتى بين أهل الفن؟ - خصوصا بين أهل الفن. - لك حق فكلهم ... - لا تكمل، أعرف ما ستقول. - أنت تعرف أني أقدر الفنون. - ولكن هذا لن يمنعك أن تقول إن كلهم خائب مثلي. - أنا لم أقل. - قلت ولكنك لم تنطق. - يا خسارة يا حفني! - نعم لك حق. - وفهمت هذه أيضا. - إن لم أفهم أخي الذي في مكان أبي فمن أفهم؟ - لو كنت أكملت تعليمك لاخترقت كل الصفوف لتصبح النابغة الأول في أي ميدان تختاره. - وهل يدري أحد يا سي حلمي أين يكمن نجاحه؟ - لك حق، فعلا لك حق، إن شاء الله توفق في عملك الجديد. - بفضلك، إن شاء الله.
ولعلك قرأت كلمة يا سي حلمي وأنت بين مصدق ومكذب، فما هكذا ينادي الأخ أخاه الأكبر، فإن حرفي سي اللذين يمثلان اختصارا لكلمة سيدي لم يعودا يتخذان نفس القيمة في زماني وزمانك إلا في بعض البلاد العربية غير مصر، ولكن هذين الحرفين في ذلك الزمان كانا عنوان احترام شديد وتوقير، وكان الأخ الأصغر ينادي بهما الأخ الأكبر إذا كان فارق السن بعيدا كما كان أي شاب في أسرة ينادي من هم أكبر منه بأسمائهم مسبوقة بهذين الحرفين. وما دمت قد أخذت نفسي أن أقص عليك ما كان من شأن هذين الأخوين، فحتم علي أن أقص أيضا ما يعرض له الحديث من عادات العصر الذي نشأ فيه، فإن لم أفعل وجدت نفسك متعجبا حينا ورافضا أيضا، وأنا حريص أن أمنع عنك التعجب وأشد حرصا ألا ترفض. •••
وبدأ حفني مستقبلا جديدا كأنما الوسط الفني لم يخلق إلا ليعيش فيه حفني، أو كأن حفني لم يخلق إلا ليعيش في هذا الوسط.
انداح فيه كأنه مولود على خشبة مسرح. وحاول بعض المخرجين أن يستغل جمال وجهه، ولكن انعدام الموهبة تماما عنده، وربما أيضا خشيته من أخيه، كانت حائلا بينه وبين أن يكون ممثلا؛ فقد يقبل حلمي أن ينقد أخوه الفن، ولكنه لا يسمح أبدا أن يصبح أخوه فنانا.
لم يكن المسرح في ذلك الحين هو ذلك الفن الرفيع الذي نعرفه اليوم، ولم يكن مستقلا كل الاستقلال عن مواخير الليل وكباريهات الرقص وبائعات الجنس.
وهكذا راح حفني يتنقل بين أولئك النسوة في زهو الشباب، وعلى موائد المواخير عرف حفني مصر كلها، كبراءها وشبابها، عظماءها والمتسلقين حول عظمائها، وعرف الناس من كل النحل والمهن. عرف الأطباء والمحامين والكتاب والمهندسين وكبار الموظفين وصغارهم وضباط البوليس وضباط الجيش، وما أكثر ضباط الجيش الذين عرفهم هناك!
وعرف أيضا ... عرف القمار.
وعلى هذه المائدة يجتمع عالم آخر غير عالم الناس، وتعيش بجانب الحياة حياة أخرى.
وعرف الزجاجة ولم يحبها، ولكنه كان يشرب ليجاري الجلسة.
Página desconocida
وفي جلسة من هذه الجلسات سأله صديق جديد لم يكن رآه قبل ذلك اليوم: اسمك حفني الوسيمي؟ - نعم. - ترى هل لك صلة بالأستاذ حلمي الوسيمي. - أخي. - غير معقول. - لماذا؟ - لا، لا شيء. - إلا أنه جاد. - ماذا تقصد بجاد؟ - يعني ... ليس مثلي. - على كل حال ليست دهشتي لهذا. - فلماذا؟ - لأنه صديق قريب لي جدا، وكثيرا ما نذهب إلى المسارح، وكثيرا ما نجلس معا في بار اللواء وفي صولت. - فلماذا لم تأت به إلى هنا؟ - إلى هنا مستحيل، الظاهر أنك لا تعرف أخاك. - هو في مكان أبي، ولكن المؤكد أن الذي أعرفه عنه أكثر مما يعرفه الآخرون حتى ولو كانوا أصدقاءه. - الحقيقة أنني لم أعرف أن له أخا إلا الآن، هل أنت متأكد أنك أخوه؟ - أنا متأكد أن والدتي مثل أعلى في الشرف.
وضحك الجميع وخجل محاوره بعض الشيء وغمغم. - أنا آسف ... العفو ... طبعا أنا لا ... المهم ... المهم أن هناك حقيقة عن أخيك المؤكد أنك لا تعرفها. - الحقيقة أن سعادتك أكثرت من الشرب وجعلتنا نشغل الإخوان بما لا يعنيهم. - الحقيقة أنني أريد أن أعلن عن بطولة أخيك التي لا تعرفها. - هل أنت مصمم؟ - هل تقرأ وهل تقرءون المقالات الموقعة باسم مصري صميم؟
واختلطت أصوات التأييد وأصوات الإعجاب. - أتعرفون من يكتبها؟ - وتضافرت «لا» على الشفاه، ونظر الصديق السكران إلى حفني. - أتعرف أنت؟ - ومن أين أعرف؟ - ألم أقل لك أنك لا تعرف شيئا عن أخيك؟ حلمي الوسيمي هو مصري صميم. •••
قبض على حلمي وألقي به في السجن وفتش بيته في القاهرة وفي قريته الرمايحة.
ولكن الغريب أن الاحتلال لم يكن يلقي الناس في السجون دون أن يوجه لهم تهمة معينة أو يعنى على الأقل بتلفيق تهمة بذاتها يستر بها وجهه أمام العالم.
وهكذا لم يكن غريبا ألا يطول المقام بحلمي في السجن، ولكنه حين خرج وجد نفسه مترددا في مواصلة العمل بوزارة الداخلية، ولكن السلطات المحتلة كانت على قدر من الذكاء فلم تشأ أن تفصله ليصبح بطلا قوميا، ولم تشأ أيضا أن تنقله من الداخلية حتى يظل تحت عينها. وكان يعلم أن بقاءه تحت عيونهم سيقف حائلا بينه وبين نشاطه الآخر الذي كان أكثر خطورة من المقالات.
ولم يشأ حلمي أن يستقيل ليظل قريبا من الإدارة المصرية. ترك بضعة أيام ثم ذهب إلى مقهى الكلوب المصري حيث تصعب المراقبة، وتحرى ألا يجلس مع شخص واحد بمفرده، بل عمد إلى جماعة كان بينهم صفوت الأشموني الذي يريد أن يكلمه. ولم يطلب إلى صفوت أن ينتحي به جانبا، وإنما جلس إلى جواره بين الجالسين وراح ينظر إلى النرد الذي يتحلق حوله الآخرون. وقال صفوت: أرسلنا إليك لتبتعد عنا فترة. - لم يأت لي أحد. - يحسن أن تبتعد. - سأسافر إلى الرمايحة فترة. - خيرا تفعل. - سأحضر أول اجتماع. - موعدنا كما هو لم يتغير. - وهو كذلك. •••
لم تمنع عنه الإجازة حين طلبها. وذهب إلى الرمايحة وراح يكتب المنشورات من هناك. ولم يكن غريبا أن يرى المرشدون والمخبرون فلاحا يرتدي طاقية معممة يذهب إلى الكلوب المصري. ولم يكن غريبا أيضا أن يجلس بجانب الأفندية وتنتقل المناشير في ذكاء شديد من عيسى أحد خفراء بلدة الرمايحة إلى وحيد زنكي الذي أخذ مكان صفوت في الكلوب.
وما هي إلا ليلة حتى تكون هذه المنشورات قد طبعت ووزعت في القطر المصري كله من أقصاه إلى أقصاه موقعا عليها بتوقيع مصر. وهل كان يكتبها إلا مصر؟!
ولكن حفني كان لا شأن له مطلقا بهذا الذي يصنعه أخوه، وإنما هو يغمر حياته في متع كثيرة، فلا يترك لحظة من حياته لا يملؤها المرح والبهجة. •••
Página desconocida
انتهت إجازة حلمي وعاد إلى القاهرة يشم في أرجائها عبير ثورة يكاد يراها ويوشك يهتف بها ولا يطول به الانتظار.
يخترق يوم 13 نوفمبر حجب الغيب، وأستار التوقع، وسدل الحدس والتخمين، ويتم ذلك اللقاء الذي بدأت به مصر حياتها السياسية في العصر الحديث.
ومثل ريح عاصفة، طيبة، عاتية ولكن حنون، مزمجرة ولكنها موسيقى التاريخ ... يصبح سعد وفهمي وشعراوي أنشودة أمل وبداية حياة لمصر وللعالم العربي، ثم لكل الدول التي لا تغيب عنها شمس الإمبراطورية الكريهة.
وتتواكب الأحداث ويقبض على عمالقة الثورة فيسيرون إلى المنفى وكأنهم إلى الاحتفال باستقلال مصر يسيرون. وتصبح مصر نارا مثل نار الحقيقة التي ألقي إليها إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. ولكن النار الحديثة كانت تقتل المحتل مع ذلك حين هي على الوطنيين برد وسلام، كما أمرها الله أن تكون على أبي الأنبياء، ثم هي تنقلهم من فانية إلى باقية، ومن أسماء لا قيمة لها على صفحات الحياة إلى خلود يظل أبد الدهر وإلى ما بعد الأبد مضيئا على جباه الحرية.
وفي مدرسة الحقوق يضرب الطلبة عن تلقي العلوم، ويخرج إليهم عميد الكلية الإنجليزي. - عليكم أن تنتظموا في دراستكم وتتركوا السياسة، فإن آباءكم قد أرسلوكم إلى هنا لتتعلموا.
ومن بين الصفوف يخرج طالب شامخ الطول مثل مصر، في صوته ثورة الأحرار، وحكمة الفلاح. - إن آباءنا هم هؤلاء الذين قبضتم عليهم، ونحن نؤمن بالقضية التي يبذلون حريتهم في سبيلها وحياتهم إذا احتاجت القضية إلى حياتهم. وهيهات لنا أن ندرس هنا الحقوق، وحقوق آبائنا ووطننا مضاعة . تحيا الثورة.
وتندلع إلى بروج السماء هذه الأيام المجيدة المطهرة بدماء الشهداء والنابضة بروح جديدة وهبها الله للشعب ...
وكان اسم هذه الروح الجديدة المنورة بضياء السماء هو مصر. وتنعقد الاجتماعات السرية وتتخذ القرارات. ويقسم الشباب نفسه بين خطباء ظاهرين وبين جنود في الخفاء يقتلون، فيصبح الاحتلال في مصر على فراش من رصاص ومتفجرات.
وفي بعض الأحيان كان المجتمعون يقرون قتل من يرون أن في وجوده خطرا على القضية المصرية حتى وإن كان مصريا؛ فليست المصرية مولدا وإنما هي عقيدة تنبت مع الولادة وتسمق شجرتها في النفس حتى تصبح هي النفس كلها. فإذا كانت البذرة خبيثة وماتت في ركام المنفعة واختنقت في حمأة الخيانة، فصاحبها إذن ليس مصريا.
كان هؤلاء قلة نادرة بل كانوا أقل من القلة النادرة، وكان الحكم عليهم في جمعيات الثورة السرية لا بد أن يكون اجتماعيا، لذلك فلم تقتل هذه الجمعيات من المصريين إلا فردا أو اثنين.
Página desconocida
حاول الإنجليز أن يصوبوا سهامهم إلى العقائد الدينية، وصاحوا بالعالم أنهم يريدون أن يحافظوا على الأقليات باحتلالهم لمصر.
وأدرك أقباط مصر الدور المهين الذي يريد الإنجليز أن يستعملوهم فيه، فإذا هم ينتفضون مصريين. وحين تنهار حجة القوي يصبح السلاح هو حجته، فإذا الدماء المراقة تلقح الثورة بالعنفوان فتزداد على الأيام روعة وشموخا.
وبعد فما أظنك تنتظر مني أن أروي لك أحداث الثورة الكبرى في مصر؛ فأنت لا شك تعرفها وتعرف كيف أصبح الشعب فيها كلا واحدا. واختلط المثقف بالجاهل والقادر بالمعسر والفلاح بصاحب الأرض والعامل بصاحب المصنع، وسقطت كل الفوارق فتعانق الصليب والهلال وأصبح كل فرد في الشعب المصري لا يعرف أن له مصلحة خاصة، وإنما مصلحة الوطن العامة هي هي ذاتها المصلحة الخاصة عند الجميع.
حلمي في ثبج الأحداث وفي بؤرة العاصفة؛ فهو في الجمعيات السرية، وهو يقوم بدوره الذي يختارونه له، فيوما تراه خطيبا في صحن الأزهر الخالد الشامخ، ويوما لا تراه لأنه يلبس الخفاء ويتعقب جماعة من الإنجليز يقضي عليهم بالسلاح الذي تتفق الجمعية على استعماله؛ فالرأي جميع والجميع رأي وعمل.
قلة قليلة وقفت من الأحداث على حوافيها تعلق ولا تشترك؛ فالثورة عندها موضوع حديث لا حياة أمة، والأمة عندها شخص غريب يوحي بالحواديت والأخبار المسلية، فيستوي الأمر عندها أن يكون هذا الشخص مصر ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، أو أي دولة أخرى لا صلة لهم بها ولا سبب كان.
كان حفني من هؤلاء؛ فقد كانت أهمية الثورة عنده أن الأحاديث حول مائدة القمار أصبحت أكثر جمالا ورونقا وانفعالا أصبح فيه سحر الحدث لا موات التعليق. الخبر يلقى ليشمل أمة بأسرها، وكانت الأخبار قبل ذلك تلقى فلا تكاد تجد سامعا، ومن أي سلة كانت تخرج الأخبار قبل الثورة غير سلة التفاهة! فهذا زوجته تزور أمها، وهذا يريد لابنته عريسا فيومئ ولا يصرح ويشير ولا يبوح، وذلك يريد لابنه عروسا فيقول ويرفع صوته، أليس غضنفرا رئبالا أنجب ولدا بحاله ويريد له عروسا. كانت أخبارا تولد موءودة تموت قبل أن تتم خبرا أو تجد تعليقا.
أما اليوم فالخبر أسطورة، والكلمة تاريخ، واللحظة خلود، وهم يلعبون القمار ويلتذون في نفس الوقت بجسامة الأحداث، وبهذه الخلجات العالية الضجيج التي يصنعها الخبر العظيم حتى في نفس هؤلاء الذين يعيشون من الحياة على هامش الحياة.
وتمضي الأيام ويعود سعد ورفاقه من المنفى، وتبدأ المفاوضات وحلمي ورفاقه سائرون الطريق بقوة الثائر وذكاء السياسي، وقد استقر الرأي عندهم أن يكون عملهم هو تأييد المفاوضين بالطريقة التي يراها المفاوضون، وكان عبد الرحمن فهمي في مصر ذلك الزعيم العملاق الذي رفض أن يتقاضى ثمن الزعامة هتافا وإعجابا، وإنما تقاضاه راحة ضمير وعملا خطيرا خفيا وراء الأستار في سبيل مصر، كان ذلك السياسي الزاهد في المجد الشخصي والمتعبد في محراب مجد الوطن هو الصلة بين المفاوضات وبين الجماعة التي يعمل فيها حلمي.
فالعمل إذن كان متئدا متزنا لا نزق ولا رعونة. وكان أعضاء الجمعية يتزاورون، فلم يكن معقولا أن يصطنعوا لأنفسهم مكانا ثابتا يلتقون فيه.
وقد يزور الصديق منهم صديقه على غير موعد، وقد يزور الغني فقيرا، فلم يكن المال بذي شأن في علائقهم؛ فمنهم من كان قادرا على أن يستأجر أكثر من خادم، ومنهم من لا يستطيع أن يستأجر إلا خادما واحدا أو خادمة، فقد كان وجود الخادم في المنزل ضرورة لا غنى عنها، وإلا فمن يشتري من الأسواق.
Página desconocida
وقد تطهو سيدة المنزل أو ابنتها، ولكن لا بد أن يصل إليها الطعام الفج ليكون على يديها مطهوا.
وحين زار حلمي بيت صديقه وزميله في الدراسة أحمد عبد المتعال لم يكن بالبيت فرج الخادم، وكانت الأم مشغولة في شئون المنزل فلم تجد وصفية بدا من أن تجيب الطارق، فلم تكن الأجراس معروفة في ذلك الحين. ولم تقل من؟ وإنما ظنت أن فرج عاد من السوق ففتحت بسرعة، وما إن رأت غريبا حتى توارت في لمحة وراء ضلفة الباب. - أفندم؟ - أحمد بك هنا؟ - لا يا أفندم. - شكرا. - نقول له من؟ - حلمي. - حاضر. - شكرا.
كانت اللمحة كافية لأن يرى حلمي وصفية.
الفصل الثالث
ولم لا؟ وتزوج حلمي من وصفية وانتقل إلى بيت جديد وترك أخاه حفني في البيت، وبدأ صديقي عدلي يتشكل في عالم الغيب.
وكانت السيدات في ذلك الحين يسيرات المأخذ قريبات الرضى، فبحسب الزوجة أن تجد رجلا يحميها من ضراوة الحياة ويمد قلبها وروحها بدفء الطمأنينة حتى تسلم إليه حياتها كلها، وقد كانت حياة السيدات كلها موهوبة لبيوتهن؛ فالنجيبات منهن النجيبات من أصابت بعض تعليم في المنزل الأول، سواء كان هذا المنزل بيت أبيها أو بيت أخيها كشأن وصفية التي مات عنها أبوها وهي في باكر الصبا تولى أخوها أحمد أمرها. ولما كان واسع الأفق واسع الآمال حين يفكر في بلاده فقد كان مؤمنا بتعليم المرأة، وهكذا ذهبت وصفية إلى مدرسة السنية وبقيت بها حتى أتقنت القراءة والكتابة واللغات أيضا، ثم أصرت أمها منيرة هانم أن تكتفي من التعليم بما أصابت خشية أن ينصرف عنها الرجال، أو ذلك ما صرحت به لابنها على الأقل فقبله في غير اقتناع، ولو كانت قد ساقت له السبب الحقيقي لرفضه بغير جدال، ولو أن الرجال في هذه الأيام لم يكونوا ليجرءوا أن يرفضوا لأمهاتهم مطلبا مهما يكن حظ الأبناء من التعليم والمكانة ومهما يكن حظ الأمهات من الجهل، فقد استطاعت الحياة أن تعلم نفسها لأولئك الجاهلات، فهن في شئون حياتهن وخاصة أمورهن أعلم من العلماء إن فات الرأي السديد هؤلاء العلماء في هذه الشئون.
كانت منيرة هانم ترى وصفية متفوقة في الدراسة وقد خشيت إن أمعنت في هذا التفوق أن تنصرف عن الزواج إلى الدراسة، فرأت أن تحسم الأمر في مهده وتقضي عليه قبل أن يستفحل، واصطنعت هذا السبب الذي اصطنعته لتبقى ابنتها في البيت، ولم يستطع أحمد أن يجادل مكتفيا بأن وصفية أصبحت تستطيع أن تثقف نفسها إذا شاءت ما دامت أصبحت تعرف الكتابة واللغات قراءة وكتابة. •••
مر على الزواج شهور والزوج سعيد بزوجته سعادة يتوقعها؛ فقد كانت أغلب الزيجات تتم دون أن يرى العريس عروسه، أما هو فقد رآها، وهو يعرف البيت الذي نشأت فيه، فأبوها رجل من علماء الأزهر الأجلاء وإن يكن قد رحل وهي طفلة إلا أنه ترك نور إيمانه في البيت وفي زوجه وفي ابنه أحمد صديق حلمي وزميل دراسته منذ هما في الخديوية الثانوية حتى نالا شهادة الحقوق وعمل حلمي بالداخلية وأحمد بالنيابة العامة. وحين تم هذا الزواج كان أحمد قاضيا.
ولم يكتمل العام على الزواج، فقد سرعان ما قبضت عليه السلطات المحتلة وألقت به إلى السجن، وذهب أحمد إلى أخته. - تعودين معي إلى البيت. - أترضى لي هذا؟ - ولا أرضى لك أن تعيشي وحيدة. - كنت تعرف حين زوجتني أن زوجي قد يقبض عليه في أي لحظة. - وكنت تعرفين. - وقبلت أنا الزواج وقبلته أنت، أفأترك البيت حين يحدث ما توقعه كل منا؟ - لو كان مسافرا لجئت معك، أما وهو في السجن السياسي فلا. أأجعل سجانه يحس ولو للحظة أنه هدم بيته، وأن زوجته تخلت عنه؟ - إن واجبي قبلك وقبل حلمي يحتم علي ألا أتركك وحدك. - هذا حق. - إذن؟ - تأتي أنت وتقيم معي. - وأمي؟ - سلها. ••• - وأقيم أنا أيضا معكما عند حلمي.
والناس اليوم لا تدري أية تضحية كبرى قدمتها الأم العظيمة منيرة هانم وهي تترك بيتها، فترك البيت في ذلك الحين كان أمرا تقف دونه أهوال جسام، ولكن الأم أدركت أن هذا وقت التضحية التي تملكها في سبيل مصر أولا ثم من بعد، من أجل ابنتها وزوجها البطل.
Página desconocida
الفصل الرابع
خلا حفني بالأرض فأصبح يشرف على أرضه وأرض حلمي جميعا، وكان القمار قد تغلغل في دمه فراح ينفق الريع كله في شهر أو شهرين، ثم يقف عاجزا لا يدري ماذا يصنع. أما أموال أخيه فقد كان يخشى عليها من نفسه، وكذلك أعطى أمره للناظر ألا يعطيه مليما من أموال حلمي وإنما عليه أن يذهب بها جميعا إلى أحمد بك صهر أخيه لينفق منها على البيت ويبقي بقية المال لأخيه.
وهكذا تعرف الناظر الحاج علي سعدون على أحمد، وفي أول لقاء لهما. - هذا هو الريع. - هل معك إيصال أوقع عليه؟ - والله أعددت الإيصال نعم. ولو كان مالي ما أعددت. - وأنا لا أقبل مليما لا أعطي عليه إيصالا، فأنا أمين على هذا المبلغ، ولا بد أن أؤدي الأمانة إلى أهلها ومعها الشواهد. - إن صهرك يعرف طهارة يدك. - وأنا أيضا أعرفها، ولكن ماذا أقول إذا نسيت أنت أو نسيت أنا قيد مبلغ؟ - الإيصال أضمن. - وهذا هو التوقيع. - ولكن هذا أمر لا خطر له. - هناك أمر له خطر؟ - كل الخطر. - خيرا. - لا خير مطلقا. - ماذا؟ - حفني بك. - ما له؟ - طلب إلي أن أبحث عن مشتر لعزبة الزمايلة. - أكلها من نصيبه؟ - له النصف وهو ما يريد بيعه. - وأرض حلمي؟ - ملاصقة طبعا لنصيبه. - كم فدانا هي؟ - مائتا فدان. - وبكم الفدان؟ - لن يزيد عن مائة جنيه، سينفقها على القمار في شهرين أو ثلاثة، وإذا استمر الحال على هذا المنوال فالله أعلم إلى أي مصير سينتهي إليه، والله أيضا يعلم إلى متى سيظل البك محبوسا عند أولاد الكلب هؤلاء. - اسمع، كم عندك لحلمي بك؟ - هذه عشرة آلاف، وعندي محاصيل بحوالي خمسة آلاف. - ألا تستطيع تدبير الخمسة الباقية؟ - لا يهم أن أدبرها. - كيف؟ - لاعب القمار يرضى بأي مبلغ. - ماذا تعني؟ - أخسف الثمن وأشتري على آجال، وحين يخرج حلمي بك من السجن نكون قد اشترينا الأرض كلها بربع ثمنها. - افعل ذلك. - وحلمي بك؟ - لو استطعت أن ألقاه - وهذا مستحيل - لن يقبل، ونحن نحافظ على أرض أبيه في غيابه، ولا حيلة لنا إلا هذه؛ لأن الأرض إذا انتقلت إلى يد غريبة فلن تعود. - نعم الرأي. ولكن مصاريف البيت؟ - أمرها سهل، لا شأن لك. - وهو كذلك.
الفصل الخامس
القمار مضمار عجيب من ميادين الحياة، الداخل فيه يدخل إلى حياة أخرى بعيدة كل البعد عن حياته وعن مألوف أمر الناس. وما ظنك بقوم يجتمعون حول مائدة واحدة وكل شخص منهم يحرص أن يخرب بيت الآخر في صراحة ووضوح! فعلى هذه المائدة لا وجود لأي آصرة من قربى وإن كانت قرابى ابن من أبيه، ولا وجود لأي معنى من معاني الصداقة أو المودة، سعار خالص بريء من أي شائبة إنسانية، ولا يبقى إلا المال صاحب الصرخة الوحيدة والسيطرة المطلقة. وإن كان المال قوي البراثن صلب المخالب في الحياة إلا أنه فيها يتخفى وراء كلمة طيبة أو يستخذي أمام صلة رحم أو سبب من أسباب المودة أو عشرة قديمة، إلا أنه في مائدة القمار يخلع كل الأقنعة ويعلن نفسه حاكما فردا باطشا آخذا لا شريك له، ولا هو يقبل أية مراجعة.
وعلى هذه المائدة تلتقي أصناف من الناس شتى لكل منهم عالمه الخاص البعيد كل البعد عن عالم الآخرين الجالسين على نفس المائدة العاكفين على المعبود الواحد؛ القمار. تجد السياسي رجل الدولة الذي يوشك أن يكون عالما، وتجد الطبيب العالمي فعلا، وتجد المهندس الذي يهز اسمه أوساط الفن الهندسي في كل أنحاء المعمورة، وتجد الضابط. وكثيرا ما تجد الضباط، وتجد القواد، وتجد المقامر المحترف النصاب. وتجد الجميع يعرف عن الجميع كل شيء، ولكن لا شأن لأي منهم بالآخر، متفقون على أن الصلة بينهم هي هذه المائدة. وإن كان لأحدهم عند آخر منهم مسألة أو موضوع فلا بأس أن يقضيه له كما يقضي خدمة لشخص يعرفه، ولكن العلاقة تظل واضحة؛ علاقة قمار. وأغلب الأمر أن من يقضي هذه المسألة إنما يقضيها لأنه يعلم أنه ملاق الشفيع فيها كل يوم، ولن يفلت من الحاجة، على أن هذه الخدمات لا تتجاوز فعل الخير إلى المنفعة الخاصة، فالمصارحة بينهم تتم حين يوزع بينهم ورق الدور الأول في اجتماعهم، فلا يستطيع رفيق المنضدة أن يستغل نفوذ السياسي لأن السياسي سيواجهه في الحال بما لم يتعود أن يواجه به الآخرين، وسيقول إن هذا الموضوع ستكسب منه كذا، ولست مستعدا أن أخون الأمانة من أجلك أو من أجل أي أحد.
فلاعب القمار ليس من الحتم أن يكون لصا، وإنما قد يكون شريفا غاية الشرف. صحيح أن القمار قد يجرف الشريف إلى مهاوي الدنية، ولكن هذا المنحرف ضعيف كان مستعدا أن يكون لصا تحت أي ضغط أو أمام أي إغراء. وها أنت ذا رأيت حفني يأبى أن يمس مال أخيه.
فالقمار هو هذه المائدة العجيبة التي تجمع الأصدقاء الألداء والأحباب الذين لا يمانع أحد فيهم أن يقتل حبيبه فقرا طبعا، بل هو يسعى إلى ذلك جاهدا ما وسعه الذكاء والمران والمناورة والمداورة.
كانت مائدة حفني للقمار تعمر بكل هؤلاء الذين ضربت بهم المثل، فكان فيها حامد باشا محمد السياسي الداهية الذي تولى مناصب الوزارة، بل إنه تولى عددا وفيرا من الوزارات، وهو رجل شريف السمعة لم يقل عنه أحد ما يشين، وهو ذو عقلية سياسية نادرة وكان يلعب القمار بشيء من التعبد وبكثير من الإخلاص في اللعب، فقد كانت المائدة المكان الوحيد الذي ينسى عليه خصوماته السياسية والمؤامرات التي تدبر عليه والتي يدبرها هو، وقد كانت أغلب الخصومات حتى ذلك الحين مع الإنجليز، وكان معه دائما سياسي آخر يعمل بالمضاربة في البورصة، فهو حينا منتعش النفس أو هو حينا آخر منتكس الخاطر والقلب، ترى في وجهه تقلبات البورصة شأن المبتدئ الذي لا يستطيع أن يخفي مشاعره، ولهذا لم يكن عجيبا أن يخسر عبد الفتاح صدقي بك دائما على المائدة، فقد كان وجهه صفحة مفتوحة لأعين الخبراء، وكان معهم أيضا وجدي المسيري الملازم بالجيش، فمائدة القمار لا تعترف بالفوارق، فأنت تجد السياسي العجوز يجلس إلى الضابط الصغير دون أي شعور بفارق المرتبة، وكان وجدي في اللعب مغامرا يبحث عن البطولة في ورق اللعب بعد أن تعب في البحث عنها في أرجاء الحياة ودروب الوظيفة. وكان هناك أيضا يسري الجندي اللاعب المحترف، وكان هناك أيضا رشدي المهدي اللاعب المحترف والقواد المحترف أيضا، وهو الذي يعد المائدة ويدعو إليها ويدبر اللقاءات بين اللاعبين. وكان هناك طبعا حفني.
إذا اتفقت المشارب بين اثنين من اللاعبين فلا بأس عليهما أن تقوم بينهما صداقة. وقد كان حفني بموهبته الخارقة في صنع الصداقات على صلة وطيدة بالجميع حتى ليحسب كل لاعب على المنضدة أنه الصديق الأول عند حفني.
Página desconocida
ولكن القمار لا صديق له، فحفني يخسر عشر ليال ويكسب ليلة، وإذا كان جميع اللاعبين الذين ذكرتهم والذين لم أذكر يتبادلون أمكنتهم على المائدة فهناك دائما اثنان لا يكاد يغيب أحد منهما عن اللعب، رشدي المهدي وحفني الوسيمي؛ أما رشدي المهدي فتلك هي وظيفته في الحياة ولا وظيفة له غيرها، وأما حفني فلأنه لم يكن يجد شيئا يعمله إلا اللعب، وربما لو وجد متعة أخرى لترك المائدة سعيدا، فهو لا يعرف التحمس لشيء حتى ولا للقمار الذي أجمع التاريخ على أن من يصاب به فلا فكاك له منه. ولكن حفني شيء آخر غير الناس، لا يخلص لشيء ولا يتشبث بأي عادة مما يتعود الناس عليه. دخن بعض الوقت ثم ترك التدخين، وشرب الخمر ويشربها ولكنه لا يشربها إلا ليشارك الشاربين، فهو لا يذكر أنه جلس منفردا وطلب كأس خمر، وإذا مر به الشهر أو الشهران لم يجلس إلى شاربين لم يشرب هو قطرة واحدة. وهكذا شأنه مع القمار يذهب كل ليلة ليلعب فإذا وجد متعة أخرى انقطع تماما عن اللعب. هو لا يتمسك بشيء أبدا ولا يسمح لشيء أن يتمسك به. ماذا تراه يفعل إذا تزوج؟ تلك تجربة ستكون فريدة وعجيبة أيضا، أيمكن أن يفكر مثله في الزواج؟ من يدري؟
وهكذا باع حفني أرضه كلها، وكان مثال المقامر في بيعه، فكل ما كان يفعله أن يوقع حيث يطلب منه الحاج علي أن يوقع، لا يرى إلى اسم البائع ولا يعنيه أن يرى إليه، بحسبه أن يرى المبلغ معدا في يد الحاج علي حتى يوقع عجلا متسرعا، ويطوي الحاج علي العقد في تؤدة وذكاء وخبرة نادرة ويضعه في جيبه ويقول: عد معي يا سعادة البيك. - يا حاج علي ألم تعد أنت؟ - نعم، وإنما لا بد أن تعد أنت أيضا. - يا حاج علي أنت تعلم كم أثق فيك. - ولكن أنا يا سعادة البيك لا أثق في نفسي، عد مائة مائتين ...
ويتكرر هذا المشهد في كل مرة لا ينقص كلمة ولا يزيد، ولا يختلف في مرة عن الأخرى إلا في رقم المبالغ الذي راح يتضاءل يوما بعد يوم، شهرا بعد شهر. •••
دعا رشدي المهدي إلى عشاء بمنزله، وكان حفني بين المدعوين، وهناك وجد حفني دنيا جديدة تطالعه من الحياة لأول مرة وهو الذي خبر من هذه الحياة ما لم يخبره إلا القلة النادرون.
الباشاوات هناك وقد خلعوا رتبة الباشوية، بل خلعوا رتبة الإنسانية وارتدوا حيوانات حمر الوجوه من الرغبة والإثارة. والعظماء بلا عظمة، والنساء بلا ملابس، والمقامرة بالعرض لا بالمال، وبالشرف لا بالنفوذ. ورشدي منتعش النفس يضحك دائما ويعقد الصفقات بين المرأة والرجل وهو سعيد غاية السعادة هنئ في قمة الهناءة.
ويعجب حفني أن رشدي لم يفقد شيئا من احترام المجتمع، بل إن كل هؤلاء يقدم له الاحترام والتبجيل والإعزاز، ولا يعنى حفني بما في داخل النفوس، وإنما بحسبه ما يراه في ظاهر الوجوه وفي الأيدي الممتدة بالمال من ناحية وبالإجلال والتعظيم من ناحية أخرى للشخص نفسه الذي يتاجر في الشرف، ولم يعرف حفني أن هذا الذي يتاجر بالشرف لا بد أن يتاجر معه بشيء آخر هو الذي يهيئ له كل هذا الإجلال. إنه كما يتاجر في شرفه وشرف النساء، يتاجر في سمعة الرجال والعظماء من الرجال. وكلما ازداد الرجل عظمة ازداد حرصا على سمعته، ولكن أي حرص لا يستطيع أن يقف أمام رشدي. يا لها من تجارة! يا لها من تجارة!
ما هذا الحب الذي يحظى رشدي به من أصدقاء له! بل ما هذا الاحترام وما هذا الإجلال؟! إنها مهنة تصور حفني أن يكون رصيدها أي شيء إلا الاحترام. قد يجني العامل فيها مالا أو صداقات أو قدرة على الشفاعة، أما أن ينال الاحترام أيضا فهذا ما لم يتصور حفني أن المهنة ترتد على صاحبها به. لقد كان لفظها يختلط في نفسه بالمهانة والاحتقار وكل ما هو ذليل في الحياة؛ فقد عرف محترفيها من أسفل الطبقات، ولم يعرف من محترفيها في الطبقات العليا إلا رشدي. القواعد في هذه الطبقات مختلفة، والوسائل ليست هي الوسائل، والصفقات تعقد دون تصريح، والأجور يتم تسلمها دون إبانة، ولكن الهدف واحد، والغاية لم تتغير، وهنا في هذه الطبقة الأسماء تطلق على مسميات أخرى؛ فالفتاة أو المرأة موضوع الصفقة صديقة لا عاهرة، والأجر هدية وليس أجرا. ولكن الفتاة أو المرأة تذهب إلى المخدع على أية حال، والهدية تصل واسطة التعارف، ولا يسمى قوادا ولا تسمى الهدية أجرا، فكل شيء هنا محصن بسياج الشرف، وأي عيب أن يحيي صديق صديقا؟ وأي بأس في هذا المجتمع الساقط أن تحب المرأة رجلا فتقضي ليلة في مخدعه؟ وأي لوم في أن يقبل شخص في مثل مكانة رشدي ابن الأكرمين هدية من شخص آخر هو أيضا ابن أكرمين؟ منذ هذه السهرة أصبح عبد الفتاح صدقي أكثر الناس تقربا إلى حفني، ولم يكن هذا غريبا، فقد كانت سنه ومكانته تمنعانه أن يصل إلى المرأة عن طريق آخر غير طريق حفني. وقد رأى عبد الفتاح إقبال النساء على حفني وحبهن له، وخير له أن يتعرف بالمرأة عن طريق حفني أخي حلمي وغير القواد من أن يتعرف بها عن طريق رشدي فيصبح الأمر رسميا، وإن كانت الرسمية متسترة بأسماء بريئة. والظاهر عند عبد الفتاح وأمثاله أهم من الواقع. وحفني يمثل له الشخص الأمثل ليقدمه إلى من يحب، فجمال حفني يقتنص من النساء أشدهن مراسا وأعظمهن فتكا. ومكانة حفني الاجتماعية وما هو معروف عن غناه وما ليس معروفا عن فقره، كل هذا يجعل صداقة العظماء به أمرا طبيعيا لا غرابة فيه، ولو لم يكن لأسرته من المكانة إلا اسم أخيه بطل ثورة 19 وسجين الإنجليز لكان حسبه وحسب أسرته مكانة ورفعة.
وهكذا توطدت العلائق بين عبد الفتاح رجل البورصة الذي يحيط دائما بكل ظروف الصفقة قبل أن يقدم عليها، وبين حفني الذي وجد فيه شخصا غاية في الذكاء وسرعة الخاطر مع مقدرة فائقة على التمتع بالحياة، جدها وهزلها. وأصبح بيت عبد الفتاح مثابة لحفني، ولم يجد عبد الفتاح في ذلك بأسا؛ فحفني يصغره بسنوات عديدة ولا خوف على زوجته منه، وزوجته سيدة فاضلة شريفة أنجبت بنتيها وانتهى ما بينها وبين الأنوثة منذ مجيء آمال البنت الصغرى منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما. وكانت البنت الكبرى سناء في السابعة عشرة حين تعرف على الأسرة حفني، ولم يكن حفني يتعامل مع هذه الأعمار في مألوف حياته. فلا حرج على عبد الفتاح إذن أن يستقبل بيته حفني في أي وقت، وقد استطاع حفني بالموهبة التي منحتها له السماء أن يكون محبوبا من السيدة كريمة المدبولي ومن ابنتيها جميعا سناء وآمال. وقد سعد حفني بهذه الأسرة، فقد كان عمله في الصباح قليلا، فما عليه إلا أن يكتب كلمتين ويلقي بهما إلى المجلة، ثم يصبح فارغا لا هم له إلا أن ينام في القيلولة بضع ساعات يقوم بعدها ليجد الفراغ ينتظره حتى يبدأ السهر المتكاسل، الذي يأبى أن يبدأ قبل العاشرة، إن يكن قمارا فقمار، أو يكن حفلة فحفلة.
فماذا هو صانع في الصباح؟
وماذا هو صانع بعد نومة القيلولة إلى مشارف العاشرة؟
Página desconocida
أما بيت أخيه فلم يكن يرحب به كل الترحيب وإن كان لا يصد عنه، فهو يذهب ليقضي واجب الأخوة ثم سريعا ما ينصرف إلى هواء آخر يحب أن يستنشقه، وهو بالتأكيد ليس الهواء الذي في بيت حلمي.
ولم يكن هواء البيت عند عبد الفتاح مشوبا بما يحب أن يستنشق حفني في مألوف حياته، ولكنه أيضا كان خاليا من التزمت الذي كان يواجهه في بيت حلمي وزوجه وأخيها وأمها التي لا تترك سجادة الصلاة إذا تصادف ووجدهما عند زيارته.
وحفني لم يحصل على الأسرة منذ وعى الحياة، والأسرة جزء من دمائنا نحن الشرقيين. وقد كان حلمي هو أسرة حفني جميعا. أما أقاربه الكثيرون فكانوا أصدقاء ولم يعاشرهم وما عاشروه، فهو إذن واجد في بيت عبد الفتاح كل ما تتوق له نفسه من شعور الأسرة، ومن ترحيب في اللقاء، ومن سماحة في المعاملة من بين ضحكات منطلقة لا يحبسها شيء في رنينها، فهي صفاء القلب الخالي والاطمئنان والإقبال على الحياة.
الفصل السادس
صدر تصريح 28 فبراير وأصبحت البلاد تتهيأ لدستور جديد وانتخابات برلمانية، وأصبح من المضحك أن يبقي الإنجليز على معتقلين من المصريين وهم يعترفون لهم في نفس الوقت بحقهم في الحياة البرلمانية الديمقراطية.
وخرج حلمي دون أن تتم محاكمته، فالقضية سقطت بصدور التصريح. - ماذا فعلت بأرضك يا حفني؟
ويجيبه صمت وإطراق. - أجب. - لقد عرفت. - ولكن أحب أن أسمع الإجابة، فلست وحدي الذي سيسألك هذا السؤال، وسنسمعه من أقاربنا جميعا، وسنسمعه من أصدقائك الذين يحترمونك اليوم ظانين أنك صاحب الضياع والأرض والمال ... سنسمعه دائما. فماذا أنت قائل: أجب. ماذا أنت قائل؟ - أنا لم أمس من مالك مليما. - ومتى كان لي مال ولك مال؟ - احتجت للنقود. - فالبيع أقرب شيء إليك؟ - لم تكن بجانبي ماذا كنت أفعل؟ - بسيطة تبيع الأرض. أقدرت أنني سأموت في السجن؟ ألم تنتظر أن تقف مني هذا الموقف؟ - كنت في حالة يائسة. - توقف عن القمار. - كنت خسرت كثيرا وأريد أن أعوض. - وتدور العجلة فتخسر كل شيء. - لم أقدر هذا. - لأنك لا تقدر شيئا على الإطلاق. أنت ابن لحظتك، وليكن بعد ذلك ما يكون. - أرجوك يا سي حلمي كفى. - ألم تقل لنفسك كفى وأنت تبيع كل هذه الأرض؟ أظننتها أرضك؟ - أليست أرضي؟ - إنها أمانة في أعناقنا ولها أصحاب. - أمانة! أصحاب! من أصحابها؟ - أصحابها أولادنا. - قد يبيعونها هم من يدري. - نؤدي نحن أمانتنا والباقي نتركه على الله، فالأرض كلها ملكه، وما نحن إلا خلائف له عليها. - ماذا؟ - أنا آسف. كان يجب أن أقدر أن هذا الحديث لا يلقى إليك. - أكافر أنا؟ - لا. مقامر فقط. - سأتوقف. - أرجو ... كم بقي معك من ثمن الأرض؟ - ماذا؟ - لا شك أنك سمعتني. - وماذا تريد من الباقي؟ - أريده. - أنت؟ - نعم أنا. - أنا لا أعصي لك أمرا. - أعرف ذلك. - خمسة آلاف جنيه. - هاتها. - أمرك.
وخرج حفني ذاهلا، وابتسم السياسي المحترف حلمي وهو يرى الدهشة على كل نأمة جسمه حتى على قفاه الذي كان آخر ما اختفى من الباب.
بقي حلمي لحظات وحده، لم يفقد كل الخير الذي فيه، قلت هات قال حاضر، وهو حتى لا يعلم لماذا إلا أنني أريد فقط.
ويدخل أحمد الحجرة ويصيح به حلمي: أهلا أحمد باشا. - باشا مرة واحدة. - الباشوية مضمونة لك يا سعادة القاضي، كل القضاة يصبحون مستشارين فباشاوات ... - وأين أنا من مستشار هذه؟ - أنت عينت في النيابة منذ تخرجك ورقيت إلى القضاء وأنت صغير، فإن لم تصبح أنت مستشارا فمن يكون؟ المهم أنا لا أعرف كيف أشكرك على ما صنعت مع وصفية ومع حفني، أما فضل السيدة العظيمة والدتك فهو أكبر من أن يذكر. - أما عجيبة يا أخي! أولا من وصفية هذه، أليست أختي؟! وهل أشكر لأني أؤدي واجبي نحو أختي؟! وثانيا حفني أنا صنعت ما صنعته معه لأنني تصورت أنك لو كنت خارج السجن لما فكر هو فيما أقدم عليه، وأن لك علينا واجبا أكبر من واجب الصهر على أصهاره. - أي واجب يا سعادة الباشا؟ - واجب الوطني على مواطنيه. أتسجن من أجل مصر ولا نقدم كل ما نملك لك؟! ألسنا بشرا مصريين؟! - خطبة وطنية رائعة. - تنفعك في الانتخابات. - لا يا عم، لا شأن لك أنت بالانتخابات، فأنت رجل قضاء. - من سيرشح أمامك؟ - اثنان حتى الآن، أعتقد أن أحدهما سيتنازل. - والآخر؟ - مرشح الوفد. - ولماذا لا تنضم إلى الوفد، أنت من مؤسسي لجان الشباب فيه، وكنت من أعظم أبطال منظماته السرية؟ - العمل في السياسة عندي ليس تجارة أدفع مقدما لأربح مؤخرا. أنا عملت مع الوفد لأنه كان مصر كلها، وكنت واحدا من الذين يستطيعون أن يقدموا شيئا لوطنهم. - وقد قدمت بقلمك ولسانك ومالك وحريتك. - ولكني لم أعد معجبا بسياسة الوفد التي ينتهجها، فقد أصبحت سياسة شخصية بعد أن كانت قومية. - ولكنه قوة خطيرة في الانتخابات. - هذا صحيح، ولكني حتى إذا لم أنجح فإن هذا لن يجعلني أغير رأيي في سياسة الوفد الآن. المهم هناك موضوع أحب أن أكلمك فيه. - انتظر حتى أفتح باب المرافعة. - وهل حجزت القضية للحكم. - وماذا أعمل لك وأنت تستأذنني في الكلام! نحن إخوة يا حلمي. - وأكثر والحمد لله. حين راجعت الحسابات وجدت أنك أعطيت كل الريع لحفني ثمنا لأرضه، ومعنى هذا أن مصاريف البيت كنت تقوم بها أنت! - وما له! بيتي. - وبيتي أيضا. - كنت في السجن. - ولكن أرضي لم تكن في السجن معي. - أرضك ريعها ذهب لحاجة أهم. - ليس أهم من المعيشة. - قمت أنا بها، ماذا في هذا! - لا شيء، ولكن قدر ظروفي. - حين تقدر أنت ظروفي. - ظروفك؟ - أيرضيك أن أحس أنا وأمي أننا انتقلنا إلى بيتك لنعيش على حسابك؟ - وأنت هل يرضيك أن أتزوج أختك ونعيش على حسابكم؟ - كان ظرفا استثنائيا. - لو لم يصنع حفني ما صنع ماذا كنت ستفعل؟ - كنت سأعطي أختي ما تحتاجه يدها من مالك، وأنفق أنا على البيت الذي أصبحت رجله حتى يخرج رجله من السجن الشريف. - هذا ظلم. - هذه كلمة يقولها الناس في مألوف حياتهم ولا تعني شيئا، ولكنها إذا قيلت لقاض فهي كبيرة. - والقاضي يكون في بعض الأحيان ظالما لنفسه، ولا بد أن يجد من يواجهه بهذا ما دام بعيدا عن منصة القضاء. أنت في هذا ظالم. - ظلما أحبه. - وهذا أظلم. - لمن؟ - لي أنا. - وما شأنك أنت؟ - لا يقع الظلم إلا على مظلوم. وأنت لا يرضيك أن تظلمني. - لقد طال الحوار في أمر لا يحتاجه. - وهذا ظلم آخر، فإن المظلوم وحده هو الذي يعرف أين ينتهي الدفاع. - اسمع، أنت خريج حقوق معي فقل ما تراه. - أدفع ما كنت أدفعه في البيت وأنا فيه. - اسمع، لقد فوضت المحكمة الأمر إليك فكن عادلا، واخصم ثلثه مقابل غيبتك، فقد كنت تعيش على حساب الحكومة في السجن. - موافق. - وأنا موافق وأمري إلى الله، ولو أن الأمر لا يستاهل كل هذا. - إن راحة النفس لا يماثلها شيء في العالم. - أعرف ذلك. - وأعرف أنك تعرفه.
Página desconocida
الفصل السابع
حين خرج حفني من حجرة أخيه أحس دوارا لا قبل له به، كأنما كان يواجه تنينا وأنقذ منه، أي شيء فيه أخافه؟ هو أنيس لا ينطق كلمة جارحة ولا يأتي بعمل عنيف، ولكنه مع ذلك قوي صلب، أي شيء فيه أخافه؟ ربما لأنه دائما على حق وأنني دائما أفعل ما يحلو لي بغير اهتمام بالحق أو بالباطل، وهو يضحي بعمره من أجل وطنه وأنا أتمتع بحياتي أقصى ما تكون المتعة، أنهل رحيق كل ساعة فيها وتسري لحظاتها في دمائي نشوة وسرورا وجدلا وفرحا، أيحس هو في جهاده بما أحس أنا به في متعتي؟ الحياة عندي ضحكة والحياة عنده جهاد. أينا عرف سرها وبلغ مكامن الحقيقة فيها؟ هو يعطي دماءه لبلده جميعا، وأنا أعطي دمائي لنفسي. ربما شعر هو بمتعة العطاء قدر ما أشعر أنا بمتعة الأخذ.
هو يعتصر الحياة ليقدم للبشرية مثلا رفيعا مختلطا بتضحيته بكل ما يمتعه، وأنا أعتصر الحياة لتعطيني أكثر مما تطيق أن تعطيه فأنهله أنا ... أنا ... أنهله متعة وحبا للنساء كل النساء، ولرشفة خمر أشربها في غير رضاء عنها، وإنما لأنها تمثل رحيق عدم المبالاة بالحياة متجسما في شراب ولعب القمار؛ لأن الحياة قمار، وأنا أريد أن أمارسها وأعيشها وأذلها بألا أعنى بكل ما تخبئه لي، فإن يكن خيرا فأهلا، وإن يكن شرا فأنا عنه لاه، وعن نتائجه مشيح غير آبه ولا مهتم، ومنه أنا غير خائف ولا متوجس ولا متحسب لخفايا الغد فيها. هو يفكر في الغد وما بعد الغد، وأنا ابن لحظتي وأبوها وربها وقاتلها قبل أن تقتلني. فأينا عرف حقيقة الحياة؟ وأينا بها أكثر خبرا ولخبثها أكثر درءا ومنعا؟ وأينا أذل الحياة واغتصب منها ما يريد أن يغتصب؟
حين سألني كم بقي قلت خمسة آلاف فصدقني. هل صدقني أم أراد أن يصدقني، إنه ذكي يقبل الكذب الذي يلقى إليه ما دام يعرف أنه لن يستطيع أن يصل إلى الحقيقة. فيم يريد هذا المبلغ؟ لعل الانتخابات ونفقاتها جعلته يحتاج إلى هذا المال. إن كان الأمر كذا فيسعدني أن أقدم له العون، فرغم أن كلا منا يقف على طرفين متناقضين من الحياة إلا أنني أقدره كل التقدير. أتراني أقدره أم أقدر فيه الرجل الذي تمنيت أن أكونه ولم أستطع؟ ترى هل مرت به لحظة ولو لحظة عابرة تمنى أن يكونني ولم يستطع؟ من يدري؟ ربما!
مشى به الطريق والضجيج في داخله، وليس يشعر من خارج نفسه ضجيجا ولا حسا، وإذا هو يجد نفسه فجأة بين رأسي حصانين ويعلو الضجيج في هذه المرة من خارجه لا من داخله. - يا أفندي اصح، مسطول في عز الظهر. - احفظ أدبك. - أدق لك الجرس من الصبح وأنت ولا أنت هنا. - قلت لك احفظ أدبك يا قليل الأدب.
وحينئذ يقفز من داخل العربة ضابط ملازم ثان ويثور به: أما إنك بارد حقا وقح. تسير في منتصف الشارع ولا يهمك من العربات الرائحة والجائية، وإذا أنقذ الأسطى حياتك تطول لسانك عليه! - أتظن أنك تخيفني ببذلتك العيرة هذه؟ - عيرة يا قليل الأدب. - بذلة المحمل. - محمل! قدامي على القسم. - أخفتني. قدامك على القسم.
وكان أسرع منه في ركوب العربة، فقد تنبه أنه يبغي أن يحسم الموقف قبل أن تتشابك الأيدي ويتجمع الناس، وصادف هذا التفكير مثيله عند الملازم شوقي سالم. وحاول السائق أن ينهي الموضوع. - يا أفندية لا لزوم لهذا، حضراتكم ناس محترمون والقسم ليس لأمثالكم.
وصاح الملازم في كبر وغيظ: امش أنت إلى القسم ولا شأن لك . لا بد أن يدفع ثمن طول لسانه. - إياك أن تزيد كلمة واحدة. في القسيم قدم شكواك، ولكن حتى نصل إلى القسم تسكت تماما. - وهو كذلك. أما نشوف.
ولم يجد السائق بدا من الصمت، فقد أدرك بذكائه الفطري أن أي حديث قد يشعل حريقا لا داعي له.
وقفت العربة عند القسم ونزل الخصمان، وطبعا قصد الملازم إلى حجرة المأمور مباشرة ودخل حفني وراءه، وإذا الجالس في مكان المأمور ملازم ثان من الشرطة لم يعرف ضابط الجيش ولكنه ما إن رأى حفني حتى هب من كرسيه: من! حفني الوسيمي!
Página desconocida
وصاح حفني: أهلا. كيف أنت يا زين.
وصاح شوقي: أتعرفه.
والتفت زين أخيرا إلى شوقي: أهلا حضرة الضابط، تفضل. كيف أنت يا حفني؟
وحين هدأت التحايا قال شوقي في غيظ موجها كلامه لحفني: ولأنك تعرف ضباط البوليس تريد أن تأخذ الدنيا في وشك؟
وقال حفني في ثقة وعدم مبالاة: أنت الآن في القسم، اكتب شكواك واترك الأمر للبوليس يأخذ إجراءاته. - وهل بقي فيها إجراءات! طلعت صاحب البوليس.
وقال زين وهو يكتم غيظه: يا حضرة الضابط لا لزوم لهذا، ومعرفتي بحفني بك لن تمنعني من إعطائك حقك إن كنت صاحب حق. - وهل عاد فيها حق؟ - سترى. - وهو كذلك.
وروى القصة وما إن انتهى منها حتى ضحك زين: ألا تعرف حفني بك؟ - عرفته بين رأسي الفرسين. - حفني بك الوسيمي.
ونظر شوقي إلى حفني نظرة متفرسة: أأنت الذي تكتب في مجلة الفن؟
وقهقه زين أخيرا وقد أحس أن الحرج الذي وقع فيه قد انجاب عنه إلى غير رجعة. - هو الذي يكتب في مجلة الفن، وأخوه حلمي الوسيمي الوطني المشهور. - ولماذا لم تقل هذا من الصبح يا أخي؟ - وهل تركت لي فرصة لأقول. - أوجعتني بذلة المحمل. - حقك علي. - ولا حق ولا يحزنون، إلى أين أنت ذاهب؟ - كنت في طريقي لاستئجار عربة. - لمجرد استئجار عربة أم لتذهب بها إلى مكان معين؟ - والله كنت سأفكر أين أذهب بعد أن أركب. - ولا تفكر ولا حاجة، تعال نشرب حاجة أولا ثم فكر على كيف. - تعال معنا يا زين. - والمحضر؟ - اكتبه حين ترجع. - وضحك ثلاثتهم. - على رأيك. - ونادى زين البلوكامين: أنا خارج في مهمة، ولن أغيب. - أمرك يا أفندم.
وفوجئ سائق العربة بالخصمين يخرجان وقد لف كل منهما ذراعه في ذراع خصمه ومعهما أيضا ضابط البوليس، وركب الثلاثة عربته. وصدر إليه الأمر أن يذهب إلى قهوة ريش. وزيد عدد الأصدقاء عند حفني صديقا جديدا سرعان ما تبين له أن صداقته ستكون وطيدة بذلك الإحساس الخفي الذي لا يعرف مأتاه إلا خالق النفوس وباريها.
Página desconocida
الفصل الثامن
توقع حفني كل شيء إلا هذا الذي فاجأه به أخوه حين ذهب إليه بعد الظهر يحمل مبلغ الخمسة آلاف جنيه التي ادعى أنها كل ما بقي له. - أتعرف من اشترى الأرض؟ - لا والله. - ألم تقرأ عقدا واحدا من عقود البيع؟ - وفيما أقرأ؟ الحاج علي هو الذي يقوم بالبيع، وكلانا يعرف أمانته كل المعرفة. - هيه، النهاية، أنا الذي اشتريت الأرض.
ووجم حفني في ذهول. - تقول من؟! - ألم تسمع؟ - ولكنك ... ولكنك ... - نعم، وأنا في السجن اشتريتها. - كيف؟ - لا يهم، المهم. - أرجوك ... انتظر، أرجوك يا سي حلمي انتظر لم يعد في رأسي عقل ليسمع. - ضياع عقلك أمر يحدث كثيرا. - في عرضك انتظر قليلا.
وصفق وجاء بخيت أمين المنزل وطلب منه كوب ماء وانتظر الصمت كوب الماء حتى حضر. وخرج بخيت بالكوب الفارغ. - أهذا ذهول الفرح أم العجب أم السخط؟ - كل هذا معا. - والسخط أيضا؟ - على نفسي. - أهذا فقط ما يسخطك على نفسك؟ - لماذا لم تقل لي هذا من قبل؟ - وماذا كنت تفعل إذا قلت لك؟ - أهدأ وأستريح. - وهل كنت مضطربا حتى تهدأ؟ - ومن أدراك أنني لم أكن مضطربا؟ - لأن الله وهب لك أعصابا من حديد. - كيف تعرف؟ - بعت أرضك كلها ومع ذلك لم يهمك شيء. - وماذا يمكن أن يهمني؟ - ألا تخاف المستقبل؟ - وأنت موجود ... لا، لا أخاف شيئا. - نعم تعودت أن تجدني دائما. - وسأجدك دائما. - فهل يا ترى سأجدك أنا؟ - أنت لا تحتاج إلي ولن تحتاج إلي. - من يدري؟ - أنا أدري. - تستطيع أن تكون قمة في الذكاء، ولكنك أبدا لن تستطيع أن تعرف الغيب. - أرجو ألا تحتاج إلي أبدا، ولكن على كل حال أنت أبي وأخي وأستاذي ومثلي الأعلى، فإن خنت واحدا من هؤلاء فلن أخون الآخر.
وعاد الصمت مرة أخرى وبدأ حلمي الحديث: على كل حال، الأرض ستظل ملكا لك وسأسدد لنفسي ما دفعته لك ثمنا لها من الريع حتى إذا استوفيته عادت إلى إدارتك مرة أخرى، وفي هذه المرة لن تستطيع أن تبيعها ثانية. - أطال الله عمرك وأبقاك. - وفي فترة السداد سأعطيك خمسين جنيها شهريا لتظل محافظا على مظهر البذخ الذي عرفك الناس به. - هذا كثير، كثير جدا. - الجنيه في يدك مليم، أرجو أن تقدر أن المبلغ كثير حقيقة ولا تبالغ في الإنفاق. - مرة أخرى وثالثة وعاشرة وألفا أطال الله عمرك، أريد أن أقبلك ولكن لن أقبل وجهك كما يفعل الأخ مع أخيه وإنما ...
واختطف يده وقبلها وأكمل الحديث: كما يفعل الابن مع أبيه.
واضطرب حلمي هنيهة، ولكنه تمكن بقوة السياسي أن يكبت عواطفه ويغير مجرى الحديث: أنا مسافر غدا لأبدأ الحملة الانتخابية.
ولكن حفني عاجله: لا تغير الموضوع، هناك أمر لم يتم. - ما الذي لم يتم فيه؟ - هذا المبلغ. - ما هذا؟ - ألفا جنيه. - إذن فقد كانت سبعة! - لم أكن أعرف فيم تريد المبلغ، قلت إن كان يريد أن يعاقبني فالخمسة كافية، أما إذا كان يريد المبلغ للانتخابات فالسبعة كلها له. - مهما تكن أعمالك سيئة في حق نفسك إلا أنك كأخ تعتبر من أبر الأخوة. - الآن غير الموضوع إذا شئت. - أنا مسافر غدا للانتخابات. - أسافر معك. - لماذا؟ - لأكون معك. - كما تشاء، ولو أنني أفضل أن تبقى. - أبقى لماذا؟ - أخشى أن تحتاج وصفية إليك. - هل اقترب موعد الوضع؟ - أظن ذلك. - البلد ليست بعيدة، وأنا قادر إن شاء الله على أن أكون على علم بأخبارها دائما. - كما تريد، وعلى كل أخوها أحمد ووالدتها سيقيمان معها هنا. - إذن فأنا معك. - على بركة الله. •••
في مولد فجر من عام 1924م ولد صديقي عدلي حلمي الوسيمي الذي بدأت به ومعه هذه الرواية التي أرويها لك، وأصبح والده الأستاذ حلمي الوسيمي عضوا بمجلس النواب، وبدأت بالأب وابنه حياة جديدة، وربما أيضا بدأت مصر نفسها حياة جديدة.
الفصل التاسع
Página desconocida
أما أخي فقد أصبح عضوا بالبرلمان منذ سنوات وسنوات، وأصبح له ابنه عدلي، فماذا أنا في هذه الحياة؟ مقامر صاحب نساء ثم ماذا؟ وماذا تريد بعد ثم؟ هو يجاهد في سبيل الوطن ويشق الحياة بمخالبه ليحقق الاستقلال لبلاده لأن استقلاله هو ممثل في استقلال مصر، أما أنا فمتمتع باستقلالي دون البحث عن استقلال مصر، هو سينال مكافأته وسعادته إذا جلا الاحتلال وأنا أنال مكافأتي من كل لحظة حياة والدفع فوري، المتعة مع اللحظة بلا أجل ولا تسويف ولا تعطيل ولا تأخير. أنا واثق أنني تقاضيت ثمن جهدي، أسهر على المائدة وأتمتع وأنال متعتي مع سهرتي. أو أسهر مع صاحبتي وأنال متعتي في الصحبة نفسها، أما هو فمن يعلم أينال ما يرجوه أم هو جهاد بلا نتيجة، وشقاء بلا ثمن، وتعب بلا فائدة.
أهو هكذا حقا أم تراه يجد لذته في أنه يؤدي واجبه الذي اقتنعت به نفسه واطمأن إليه ضميره؟ أشهد أنه لا يهتم بالشهرة ولا يسعى إليها ولا يفكر فيها، وإنما هي تسعى إليه كنتيجة طبيعية لجهاده، ولكنها أبعد ما يكون عن آماله.
أينا خير من صاحبه؟ وفيم التفكير؟ وهبني أردت أن أكون مثله، أبيدي هذا؟ إنما أحسن ما لا يحسن، ويحسن هو ما لا أحسن. هل أستطيع أن أتكلم بالبرلمان وأحارب الإنجليز وأؤيد الحكم أو أعارضه؟ وهل يستطيع هو أن يلعب البوكر أو الكونكان كما ألعب؟ هل يستطيع أن يجعل أجمل سيدات مصر يتقن إلى ابتسامة منه أو موعد؟ هيهات له هيهات!
بالمناسبة ما قصة هذه الأميرة المقبلة علي، وماذا تريد مني، وماذا أستطيع أن أقدم لها؟ جمالي وشبابي! ألم تجد شابا جميلا غيري؟ أعجبتها؟ وأي عجيبة في ذلك! ومهما تكن أميرة فإنها ما زالت امرأة. ولكن الملك معجب بها. وماذا في ذلك؟ هل جننت ؟ إنه الملك. وأنا ما شأني به؟ لتكن أنت لا شأن لك به، أليس أخوك مرشحا أن يكون وزيرا؟ وما شأن الوزارة وأميرة أرادها الملك وأرادت هي غيره؟ أنسيت كيف تحكم مصر؟ لا، ولكن أستطيع أن أتناسى أنها أميرة، وأنها امرأة. كيف ستبدو؟ كما تبدو النساء. أكل النساء متساويات هيهات! لو كان الأمر كذلك ما بحثت عن بديلات دائما. كل امرأة لها مذاقها الخاص وطعمتها الخاصة ولونها المتميز. صوت كل امرأة له تهدج مختلف، ولكل صوت وقعه في الأذن نغمات تتقاصر بجانبها موسيقى عبد الوهاب وأم كلثوم. والله ولا مائة ملك سيمنعني عن الأميرة فضيلة، فضيلة، مصيبة لو كان لها من اسمها نصيب! •••
كان الحفل في قصر الأميرة فضيلة غاية في البهاء والروعة، ولكن حفني أصبح متمرسا على هذه الحفلات، إلا أنه فوجئ بشوقي سلام ضابط الجيش بين المدعوين. - أهلا شوقي. - أهلا حفني. - ماذا أتى بك؟ - مأمورية. - ماذا؟ - ألم تسمع أم أنت مندهش؟ - كنت أظن هذا من عمل البوليس. - أصبحت وجوههم معروفة، وأصبحنا نحن نكلف من حين لآخر بهذه المهمات. - في أي سلاح أنت؟ - ألم تدرك؟ - أريد أن أتأكد. - في الحرس الملكي. - أهلا، تشرفنا. - حفظت؟ - وأنت ماذا أتى بك؟ - مأمورية. - أنت الآخر؟ - هذا عملي الرسمي. - حسبتك صحفيا. - هذا عملي غير الرسمي. - وقعتك هباب، مأموريتك ألعن من مأموريتي. - ربنا يستر. - أنا علي أن أراقب أما أنت ... - ما دمت أنت الرقيب فمهمتي سهلة بإذن الله. - ولم لا؟ لولاك ما جئت أنا هنا الليلة. - كيف؟ - وصلت إخبارية أن هناك حبيبا جديدا، ومهمتي أن أعرفه. - لا تتعب نفسك. - وفيم التعب؟ المأمورية تمت والحمد لله. - إياك أن تؤدي المأمورية بأمانة. - المسألة كلها لا أمانة فيها، وما دمت أنت المقصود فأنت أولى بالمحاباة. - والله صاحب. - هل رأيت شيئا بعد؟ - الناس لبعضها البعض. - هيص أنت وانس أمري تماما. - تعيش. •••
الأميرة فضيلة ذات نوع من الجمال المبهر الذي لا يستطيع إنسان مهما يكن زاهدا أن يعبره دون أن يقف أمامه حائرا ذاهلا، وفي أحيان كثيرة يتولى الذي يراها للمرة الأولى نوع من الخشوع والرهبة. قوام فارع مياد، إذا مشت خيل إليك أن العالم كله يعزف موسيقى إلهية من نوع خاص لا تعرفها الأرض ولم تسمع بها. شعرها ثورة كل شعرة منه تقوم بوظيفة لا يستطيع أن يؤديها غيرها، عيناها الخضراوان الضاربان إلى الزرقة بحر وشلال ونمير وجدول ومطر وبرق ورعد وناي وعود وكمان وقانون تعزف جميعها ألحان باخ وبتهوفن وشوبان وليست. أنفها أمر، وفمها إشراقة ابتسامة وكبرياء سيد. جيدها قصيدة تشابكت البحور فيها فإذا هي بحر جديد يجمع فن الغرب والشرق جميعا، وجهها أنواع شتى من وجوه الجمال في أنحاء العالم كله، إذا طالعه إنسان لم يستطع أن يطيل إليه النظر خاشيا أن تصيبه منه صاعقة ترديه، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يصرف عنه عينيه، فهو عائد إليه، فالصاعقة أهون بكثير من أن يحرم النظر إلى هذا العالم المتفرد من الفن والجمال والطيبة والقسوة والإسماح والجبروت والقبول والرفض.
كل ما كان يحسه حفني أنها ذات جمال رائع، ولكن هيهات له أن يصل من جمالها إلى أعماقه، ومن أين له؟! وكل ما يعنيه منها ما يفكر فيه رجل من محترفي النساء عند امرأة تحب دائما أن ترى أثر جمالها الفادح على المحترفين قبل الهواة.
في لحظة أو هنيهة من لحظة استطاعت أن تهمس في أذنه آمرة في دلال وحزم حاسم: تأتي غدا الساعة الواحدة ظهرا. - أمر سموك.
الفصل العاشر
مجلة الفن التي يعمل بها حفني تجمع فيها كل أصناف الناس، وكذلك شأن الصحافة منذ ولدت الصحافة في العالم؛ فهي تجتذب بسحر لها عجيب ألوانا من الناس شتى تضاربت مشاربهم واختلفت أهواؤهم وتعددت ثقافاتهم وجهالاتهم، وكثيرا ما يكون الجهل في الصحافة رأس مال. ولا تحسب أني أغالي أو أحاول إثارة التعجب في نفسك، وإنما أقصد تماما ما أقول، فإذا كان محرر الشئون الفنية للممثلين في ذلك الزمان عالما - لا قدر الله - يسقط بابه سقوطا فاحشا، فالمفروض في محرر هذا الباب أن يكون قمة في السطحية؛ لأنه ينبغي عليه أن ينقل إلى القراء أين تصنع الممثلة ملابسها وأين تسهر ومع من، كما يتحتم عليه أن يذكر أحداثها الغرامية ومغامراتها، فإذا لم يكن لها أحداث فعليه أن يختلقها اختلاقا. والخبطة الصحفية تتحقق عنده إذا ذكر أن ممثلا وقع في حب ممثلة. وليس يعنيه أن يكون الممثل متزوجا ولا يعنيه أن تكون الممثلة كذلك، إنما المهم أن يمتع القراء. ولو كان - لا قدر الله مرة أخرى - على شيء من الثقافة لأصابه بعض الحياء، فإن أصابه هذا الداء الوبيل المسمى بالحياء لما استطاع أن يقدم الباب الناجح الذي يريده صاحب المجلة أن يقدمه.
Página desconocida
وهكذا تجدني لم أبتعد عن الحق، بل التزمته حين قلت لك إن الجهل يكون في كثير من الأحيان رأس مال خطيرا في عالم الصحافة.
وكما تجتذب الصحافة هؤلاء تجتذب أيضا من يريد أن يظهر اسمه منقوشا بحروف المطبعة ولا يهم على أي مادة يظهر هذا الاسم، إنما المهم أن يظهر حتى ليضطر بعض الذين على شيء من العلم أن يخفوا علمهم هذا وكأنه سبة حتى يقبل صاحب الأمر في الصحافة أن ينشر له.
ومن الصحفيين من يريد أن يتصل بصاحب سلطة أو صاحب جاه أو صاحب شهرة.
ومنهم من يريد أن يكون كاتبا فيبدأ حياته ناقل خبر حتى يصل الزمن به يوما أن يكون صاحب قلم.
ومنهم غير ذلك. في بعضهم الإخلاص لمهنته، وفي بعضهم الرغبة أن يركب مهنته وسيلة إلى غاية أخرى.
ومنهم من يتخذ مهنته - كما ينبغي لها أن تكون - مهنة الأمانة والشرف والصدق والنقد الراغب في الإصلاح والتأييد المنبعث في الحق.
ومنهم من يتخذ مهنته - كما ينبغي لها أن تكون - سلاحا لقطع الطريق وفرض إتاواته على كل من لا يطيع رغباته الشخصية، فإذا هاجم هاجم لينال، وإن مدح مدح لينافس ... و...
وإذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
في كل مهنة في الحياة أخبارها وأشرارها، وهل المهن جميعا إلا بنات الحياة، صناعها هم أبناء الدنيا، والدنيا خير وشر، وشرفاء ولصوص، وأتقياء وفجرة ، وأنقياء وقذرة. •••
Página desconocida