أما الكينعي إبراهيم فقد شرب في(1) عين الحياة شرب الهيم، وشد الرحل بالأنساع، وحاسب نفسه في الأوقات والساع، وراض نفسه حتى كأنها حبة مقلاة، أو ريشة في فلاة، فشرب بالكأس الروية، وعكف على خدمة مولاه بالجارحة والروية، فما فكرته إلا في باهر ملكه وملكوته، ولا تعرض له خاطر إلا في قاهر جبروته، إن قام فلله، وإن قعد فلله، وإن تكلم فلله، وإن صمت فلله. سمعته يوما يقول: أنا وقلبي في علاج أريده لا يدخل إليه شيء إلا لله، ولا يخرج منه شيء إلا لله أدع الله لي يا أخي، تقريبا منه لإخوانه، وإلا فالدعاء منه يستمد: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف:196] نعم. فلما عرف، ومن ثمار علمه اقتطف، جاد بالعطية، وأيقن بالخلف، جمع أموال التجارة من الورق والعين، وقال: تبا لمن يفتح بك العين، وأسلمها إلى أخيه الفاضل -في الله- راشد بن محمد الكينعي، وقال: دونك هذا المال اصرفه في نفسك، وفي أولادك، إخواني وإخوانك(2)، وأرحامي وأرحامك، وخرج من كل ما يملك، حتى نعله وثياب أبدانه، وطلق نساءه، ولبس من أخشن الصوف، وانتعل المخصوف. قال لي رحمه الله تعالى(3): دخلت يوما إلى البيت، وقد كان لي ابنة تقم البيت وتفتح الباب فانزعجت، وقالت: يا أبه، من أخذ ثيابك البيض؟ وودعها وخرج فارا إلى الله لا يلوي على أحد سواه، واتخذ ركوة وعصا وحبلا وقدح، وهام على وجهه يريد مكة، والعراق، وبيت المقدس، فخرج من صنعاء، وشعر به أخوه هذا راشد، وكافة إخوانه، فلحقوا بالأثر حتى أدركوه قريبا من ظفار، فتعلقوا [به](4) تعلق المرضع بأمه، وكثر منهم البكاء والضجيج، والتحرج والضيق، وأقسموا بالإيمان المغلظة لئن لم يرجع [معهم](5) ليسيروا معه، محبة فيه، وشفقة عليه، وفقدا لما بينهم من الصحبة والمودة والقربى، ولما انطوى عليه من المواساة في البأساء والضراء والشدة والرخاء، ولفضل علمه وعميم فضله، فأدركته الشفقة بإخوانه البشريه، وعرف أن في هذا رضى(1) لبارئ البرية، فرجع إلى مدينة صنعاء، واعتكف في مسجد الرصاص، وحوليه الحدائق المورقة، والعيون المغدقة، أحمد بن حميد، وحاتم بن منصور، ومحمد(2) بن حسين، ومحمد بن عبد الله الرقيمي، وأعانوه على مقصده، ودافعوا عنه من يريد شغل قلبه من الجنة والناس، ووقف على حالته الحسنة في مسجده المبارك زهاء سنة، واختار الله لابنته دار كرامته، فحمد الله على الخلاص من ربق التكليف، وقال لسان حاله: حسنة تقبلها الله، وعورة سترها، ومؤنة كفاها الله، واتخذ أخاله صديقا يقال له: يحيى بن محمد الحشحاشي، رجلا فاضلا، زاهدا، عابدا، مقري للقرآن، فسارا نحو اليمن رفيقين(3)، نقل عليه الكتاب العزيز غيبا وقراءة [قراءة](4) القراء رضي الله عنهم، وكان في سفره هذا يقطع الليل [طوله](5) بركعة أو ركعتين، كما حكى لي أخوه هذا يحيى، وزار أخته مريم رحمهما الله تعالى(6) بمعبر، ووقف معها أياما، واشتد فرحها بتركه الدنيا وزهده فيها؛ لأنه لم يعجبها دخوله (فيما) لا بأس به، وإن لم تكن ضاقت؛ لأنها من الفضل والزهد كما حكيت فيما مر، وكانت قد زمنت ، وأخوه الكبير محمد المؤنس لها، والقائم بحالها، ولم يضع(7) الله له وليا، قال تعالى في قصة إبراهيم الخليل:{ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}[إبراهيم:37] كنت معه بمكة المشرفة فسرنا إلى موضع التجارة ليلا، يقال له: (السويقه) فقال: هاهنا كنت أجمع الدنيا، فيمد نطعه فيه يصلي(1) ما كتب له، ويستغفر ويبكي، ويقول: كانت حاله التلصص وصانه الله عن ذلك، لكن من نظرها بعين الورع اتخذها كالكنيف، وعند الضرورة يؤتى الكنيف، وقال: هاهنا في هذا المكان دفنت مدرجة فيها ذهب وفضة حتى نرجع من الجبل، فيا ليتني لم أرجع أو ما معناه هذا من شدة الأسف، وتضييع أيامه في التجارة، وكانت يسيرة، مع أن العلماء الراسخين في العلم لا يستقيمون على ما استقام عليه أيام تجارته، وقال لي: يا فلان، كانت لي وظائف أيام تجارتي حسية، وردا في التلاوة، ووردا في الصلاة، ووردا في الدرس، فقال رحمه الله تعالى(2) يوما: لا بارك الله في قرين السوء يقرب إلى الدنيا، ويقوي العزم عليها أو ما معناه، وحكى لي الثقة: أنه لبس ثوبا سوسيا حسنا، فقال له: ما رأيت أحسن في هذا الثوب عليك(3)!! فقال له إبراهيم: من رق ثوبه رق دينه، هذا كلامه في حال التجارة.
Página 85