فاستلان ما استحسنه المترفون، واستأنس بما استوحش منه الجاهلون، صحب الدنيا أيام حياته نظيفا، عفيفا خفيفا، قد أيقن بالخلف فجاد بالعطية، بذل نفسه، وجاهد عدوه، دله الله فاستدل، ولطف به فالتطف، وخاطبه ففهم، وعلمه فعلم، استهان بالعاجلة فآثر(1) العاقبة، ومهد لطول المنقلب، إلى عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية -إن شاء الله تعالى- ترك فضول النظر فوفق للخشوع، وترك فضول الكلام فوفق للحكمة، ترك فضول الطعام فوفق لحلاوة الفكر والذكر والعبادة، ترك تخيلات الظنون فوفق للبهاء(2) والهيبة، ترك عيوب الناس فوفق لإصلاح عيوبه، لزم الخلوة والفكرة فوفق للعلم بالله النافع، لزم القناعة فأعطي مفاتيح كنوز المنافع، أهمل الاشتغال بما تمسك به أكبر الرجال فنال الفضل والتفضل والإفضال، فبلغ -إن شاء الله- غايات الأماني، وقصارى الآمال، كما قال تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار}[النور:36، 37] بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدرا، وأقل شيء كبرا، وأذل شيء نفسا، طويل الهم، كثير البكاء والغم، كثير الصمت إلا عن ذكر الله، ذو سكينة ووقار، وأذكار وأفكار، مسرور بفقره، محسن الظن بربه، لين العريكة، ضحكه تبسم، واستفهامه تعلم، ومراجعته تفهم، وقاف عند الشبهات، محتار عند الخطرات، مراقب في اللمحات، مؤثر على نفسه بما يأتيه من الشهوات، كثير علمه، عظيم حلمه، وثيق عزمه، إذا صمم على أمر فيه لله رضا لم يلوه عنه، من الدنيا إن سئل ووجد أعطى وإلا توجع وشفع ودعا، يحب في الله بفقه وعلم، ويقطع في الله بحزم وعزم، مذكر للغافل، مقرب للجاهل، بلطف العبارة، ناصر للدين، محام عن المسلمين، باذل نفسه في جهاد الملحدين مع أئمة الحق المبين، معترف بحق أهل البيت عليهم السلام الصغير منهم والكبير، مقدم لهم في الصلوات وغيرها من القربات، معتقد أنما نال الخير إلا ببركتهم(1) وبفضل علمهم، أب لليتامى والمساكين، كافل لإخوانه[وأبنائه](2) المودين، بنفسي من ساهم الملائكة والانبياء في أفعالهم إن شاء الله تعالى.
وقال لسان حاله في محراب ابتهاله: إلهي، قد أعطيت من العبادة أقربها، ومن الطاعة أحبها، ومن المعرفة لك أدومها، وسقيتني بكأس المحبة عندما سمعتك تقول: {يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}[المائدة: 54]وكشفت عن قلبي أغطية جهل معرفتك، فلك الحمد، والحمد من نعمك، فلك الحمد، فها أنا ذا بين يديك أناجيك في أركان الحق بين رياض العرفان، أسألك الأمن والإيمان، وتمام الود والإحسان، يا رحمن، يا رحمن، [يا رحمن](3).
ولله القائل:
فلي قلب أراك به
فإني فيك ذو أمل
ولي شوق إليك غدا
تحمل في الهوى شجنا
ولوصبت مدامعه
لقد شغف الفؤاد بمن
كسيحون محبته
ومالي (عنه)(4) من بدل ... إذا ما العين لم تركا
(يرقى) (5) قلبي الفلكا
عليه القلب مشتبكا
متى سكن الهوى احتركا
غدت من مائها بركا
أراه (بمهجتي) (6) ملكا
غدا قلبي به سمكا
Página 56