وأمي على تأدبها لم تكن لتفلح أبدا في مدارة عواطفها، فإن لم يخنها لسانها خانتها عيناها، وإن لم تخنها عيناها نمت عليها ما التزمت من حال غريبة سلبية. انطوت على نفسها، وجعلت من حجرتها سجنا لا تكاد تغادره، وكأنما فرغت للعبادة والصلاة، ولم تخف على رباب هذه الجفوة الطويلة، وكانت على دماثتها ورقتها تنقلب حيال أمي كأية امرأة من النساء انفعالا وغضبا، فكانت لا تفتأ تقول لي: «لشد ما تكرهني أمك!» ولم تقبل أمي أن تغير من سلوكها، معتلة بأنها لم تعد صالحة للمجاملة والاختلاط. وكنت إذا ذهبت للجلوس معها تلقتني برقة وابتسام، وحدثتني بخضوع واستسلام، فسرعان ما أشعر بغرابة الجو، وبأن حجابا ثقيلا يقوم بين نفسينا، وبأني حيال شخص آخر غير الأم التي عرفتها طوال تلك الأعوام. وما أكاد أفاتحها بأن زوجي تضيق بتحفظها حتى تقول لي بحدة: «إن زوجك تكرهني، هذا كل ما هنالك.» كنت أتجلد وأتصبر والألم يمض نفسي والكآبة تغشى روحي.
وذهبت مرة إلى أختي راضية لقضاء يومين، وكأن المكان أعجبها فمكثت اليوم الثالث، وأوشكت أن يلحق بها اليوم الرابع. كانت أول أيام نفترقها في حياتنا المشتركة؛ فثقل على قلبي فراقها، ووجدت وحشة لا تطاق في خلو البيت منها، وذهبت إلى شقيقتي لأعود بها، فلم تخيب رجائي وعدنا معا.
وقلت لها في الطريق متوددا: لم أحتمل البيت بغير وجودك!
فافتر ثغرها عن ابتسامة صافية، وكانت تتأثر بالكلمة الطيبة تأثر الأطفال، ولكنها قالت لي: يخيل إلي أن وجودي في بيتك لا معنى له، وأنه يضايقكم.
فأحنقني قولها، وقلت باستياء: سامحك الله على ما ترميننا من تهمة باطلة، لقد تغيرت يا نينة بلا موجب فتغيرت الحقائق في نظرك، ولا يسعني إلا أن أقول مرة أخرى سامحك الله.
فنظرت نحوي بغرابة وقالت بهدوء ويقين: إن زوجك تكرهني، وبالتالي فهي لا تود بقائي في البيت، وقد ظننت أنا ما توده زوجك ينبغي أن توده أنت.
وشعرت بأنها لا تترفق بي متعمدة، فكاد ينفجر غضبي لولا رغبتي الصادقة في المسالمة والمصالحة، فكظمت نفسي وقلت واجما: إن زوجي لا تكرهك، وهي على العكس من هذا، تظن أنها موضع كرهك لما تبدين نحوها من تحفظ وجفاء ومقاطعة. حرام عليك أن تقولي قولا ينغص علي حياتي!
فبدا على وجهها الارتباك ولم تنبس بكلمة. رباه! لشد ما تغيرت! ألا يمكن أن تمنحني ابتسامتها المشرقة بدلا من هذه الابتسامة الباهتة؟ .. ألا تعود إلى فتح صدرها لي في ثقة وطمأنينة؟ ترى هل ينبغي أن أكاشفها بآلامي لتعلم بأنني لم أتزوج في الواقع، وأنني أشقى إنسان في الوجود فتصفح عني وتعود إلى سابق عهدها؟
ورجعت من الوزارة يوما فوجدت زوجي باكية، فهالني الأمر، وأقبلت نحوها في جزع وألم وانزعاج. وكانت صباح حاضرة فأخبرتني بأنها - صباح - كانت تباشر عملها في المطبخ حين دخلت عليها أمي وجرحتها بانتقاد مر، فتدخلت زوجي لتصلح الأمر، فما كان من أمي إلا أن رمتها بكلام قارص غادرت المكان على إثره باكية!
وذهبت من فوري إلى حجرة أمي ثائر الأعصاب، فما روعني إلا أن أجدها محمرة العينين من البكاء، ولمحت عبوس وجهي فهتفت في توجع: هل أرسلتك لتؤدبني؟!
Página desconocida