السراب
السراب
السراب
السراب
تأليف
نجيب محفوظ
السراب
1
إني أعجب لما يدعوني للقلم؛ فالكتابة فن لم أعرفه لا بالهواية ولا بالمهنة، ويمكن القول بأنه فيما عدا الواجبات المدرسية على عهد صباي، والأعمال المكتبية المتعلقة بوظيفتي، فإنني لم أكتب شيئا على الإطلاق. والأعجب من هذا أني لا أذكر أني سودت خطابا أو رسالة طوال الدهر الذي عشته في الدنيا؛ وهو ما ينيف على ربع قرن من الزمان. والحق أن الرسالة - كالكلام - رمز للحياة الاجتماعية، وعنوان للوشائج التي تصل ما بين الناس في هذه الحياة، ولست من ذلك كله في شيء. ألسنا نشذب الأشجار فنبتر ما اعوج من أغصانها وفروعها؟! فلماذا نبقي على من لا يصلحون للحياة من أفراد الناس؟! لماذا نتسامح، بل نهمل، فنفرضهم على الحياة فرضا، أو نفرض الحياة عليهم كرها؟ لهذا يسعون في الأرض غرباء مذعورين، وقد بلغ الذعر منهم أحيانا أن يخبطوا على وجوههم كالمحمومين، فيدوسوا بأقدامهم المتعثرة ضحايا أبرياء.
أقول مرة أخرى إنني لا أذكر أنني كتبت كتابة تستحق هذا الوصف. كذلك طالما أعياني الحديث وأعجزني، فكنت إذا اضطررت إلى كلام تلعثمت وأدركني العي والحصر، ولم يكن الإعياء في قوة النطق أو الكتابة، إنه أجل من ذلك وأخطر، وإن العي والحصر والعجز لأتفه عواقبه على وجه اليقين. ولذلك حق لي أن أتساءل عما يدفعني الآن إلى الكتابة. وليس الأمر قاصرا على رسالة تدون، إنه شوط طويل تنقطع دونه الأنفاس، وإني لأعجب لما يستفزني من نشاط لم أعهده، وحماس لم آلفه، حتى ليخيل إلي أني سأواصل الكتابة دون تردد أو تعب، في الليل والنهار، وبعزيمة لا تعرف الخور، فلماذا يا ترى هذا العناء كله؟ ألم آو عمري إلى الصمت والكتمان؟ ألم تظفر الأسرار من صدري بقبر مغلق تستكن فيه وتموت؟ فما سر هذا الإلحاح العنيف؟ وكيف سللت القلم لأنبش قبرا تراكم عليه ثرى الإخفاء؟! لقد ضاعت الحياة، والقلم ملاذ الضائع، هذه هي الحقيقة. إن الذين يكتبون هم في العادة من لا يحيون، ولا يعني هذا أني كنت أحيا من قبل، ولكنني لم أكن آلو أن أرنو لأمل بسام أستضيء بنوره، وقد خمد هذا النور. ولست أكتب لإنسان، فليس من شأن المرضى بالخجل أن يطلعوا إنسانا على ذوات نفوسهم، ولكني أكتب لنفسي، ونفسي فحسب، فطالما داريت همساتها حتى ضللت حقيقتها، وبت في أشد الحاجة إلى جلاء وجهها المطموس في صدق وصراحة وقسوة، عسى أن يعقب ذلك شفاء غير مقدور. أما محاولة النسيان فلا شفاء يرجى منها. والحق أن النسيان خرافة بارعة، وحسبي ما كابدت من خرافات. ولعل في شروعي في الكتابة آية على أنني قد عدلت عن فكرة الانتحار نهائيا، وما كان الانتحار بالجزاء الذي لا يستحقه إنسان قضى على نفسين، بل هو دون ما يستحق بكثير، ولكن ما حيلتي والحياة لا تتورع عن وسيلة في سبيل الدفاع عن نفسها؟ ولو كان الماضي قطعة من المكان المحسوس لوليت عنه فرارا، ولكنه يتبعني كظلي، ويكون حيثما أكون، فلا مناص من أن ألقاه وجها لوجه بعين غير مختلجة، وقلب ثابت. ومهما يكن من أمر فالموت أهون من الخوف من الموت. وإنه لعمل فيه سحر، تستحيل به هذه الصحائف نفسا خالصة بغير حجاب. ولست أدعي العلم؛ فما ناصبت شيئا العداء كالعلم، وإني لغبي كسول، ولكني عانيت تجارب مرة زلزلتني زلزالا، وليس كالتجارب كاشف عن مطاوي النفوس. إني لأتلهف على رفع النقاب، وهتك الأسرار، لأضع أصبعي على موطن الداء ومكمن الذكريات ومبعث الآلام، ولعلي بذلك أتفادى نهاية محزنة، وأنجو من آلام لا قبل لي بها، وأتلمس في الظلماء سبيلا. لست في الواقع إلا ضحية، ولا أقول ذلك تخفيفا من ذنبي، ولا تهربا من تبعتي، ولكنه حق وصدق، فالحق أني ضحية، إلا أنني ضحية ذات ضحيتين. وأشد ما يحز في نفسي أن إحدى الضحيتين هي أمي! أفظع بها من حقيقة لا تصدق! كيف أنسيت أنها سر حياتي وسعادتي، وأنني لا أحتمل الحياة بدونها! ولكني كنت أحيا على حافة عالم الجنون، وهكذا فقدت كل شيء، ووجدت نفسي في خلاء مظلم مخيف ... إني رجل مؤمن عميق الإيمان، وأعلم علم اليقين أني سأبعث حيا في اليوم الموعود، ولست أخشى آلام ذلك اليوم وأهواله - إذا تجردت أمام الله بما في يميني وبما في شمالي - قدر ما أخشى أن أبعث على الحال التي عانيتها في دنياي. أروم بعثا جديدا حقا، ويومذاك تصبح آلامي لا شيء، يطويها الفناء إلى الأبد، فيمكنني لقاء أحبائي بقلب صاف ونفس نقية طاهرة.
Página desconocida
كانت أمي وحياتي شيئا واحدا، وقد ختمت حياة أمي في هذه الدنيا، ولكنها لا تزال كامنة في أعماق حياتي، مستمرة باستمرارها. لا أكاد أذكر وجها من وجوه حياتي حتى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون، فهي دائما أبدا وراء آمالي وآلامي، وراء حبي وكراهيتي، أسعدتني فوق ما أطمع، وأشقتني فوق ما أتصور، وكأني لم أحب أكثر منها، وكأني لم أكره أكثر منها، فهي حياتي جميعا، وهل وراء الحب والكراهية من شيء في حياة الإنسان؟! فلأعترف بأني أكتب لأذكرها هي، ولأستعيد حياتها هي، بذلك تعود الحياة كلها، وبذلك أصل ما انقطع من حبل حياتي، لعل الأمل أن يتجدد في النجاة. يبدو لي كل شيء الساعة غامضا متواريا، كأن الشيطان يذر في عيني رمادا. ولكن مهلا، إني أتلمس سبيلي في صبر وأناة، ورائدي أمل الغريق في النجاة، ومن ورائي نية صادقة في تجديد حياتي وبعثها خلقا جديدا، ولئن شق علي الطريق أو تولاني القنوط، أو خذلني حيائي، فلن يبقى أمامي إلا الموت.
2
ما جزاء الميت - عندنا معشر الأحياء - إذا واراه التراب؟ أن نفر من ذكراه كما نفر من الموت نفسه! ولعل في هذا حكمة غالية، ولكن أنانيتنا تأبى إلا أن تضفي على هذه الحكمة أسفا حانقا مضحكا. ولقد فررت من بيتنا موليا كل شيء ظهري كالخائف المذعور، ثم مضيت أثوب إلى رشدي في هدوء نسبي، وأدرك هول الخطب الذي نزل بي، ففاض بي حنين موجع، وفزعت يداي إلى خزانة الذكريات فاستخرجت كل ما بقي منها؛ ألا وهي صورة!
هي صورة كبيرة يظهر فيها جدي جالسا على مقعد كبير، بجسمه الضخم وكرشه الكبير، وشاربه الأبيض كأنه هلال فوق فيه، في بذلته العسكرية المحلاة بالنياشين، وأقف أنا عند ركبتيه لا أكاد أجاوزهما إلا قليلا، أتطلع إلى عدسة المصور بعينين باسمتين، وقد التصقت شفتاي في توتر من يغالب ضحكة تغالبه. ووقفت أمي إلى يمين جدي، معتمدة بساعدها الأيسر مسند الكرسي الكبير، في فستان طويل يشتمل عليها من العنق إلى القدمين، ولا ينحسر من ساعديها إلا عن اليدين، بقامة طويلة، وجسم نحيل، ووجه مستطيل، وعينين واسعتين خضراوين، وأنف دقيق مستقيم، ونظرة حالمة تقطر حنانا ولا تخلو من بريق ينم عن الحيوية وحدة المزاج. يا له من وجه شاء الرحمن أن يكرره في وجهي؛ حتى لقد قيل إنه لا يفرق بيننا إلا الثياب! هذه صورة تطل علي من عالم الذكريات. ولقد ثبت عيني الملتهبتين على الوجه المحبوب طويلا؛ حتى لم أعد أرى شيئا سواه. كبرت قسماته في عيني حتى خلتني روحا صغيرا يعيش في أحضانها، واشتد ما يحيط بي من صمت فتهيأ لي أن هذا الفم المطبق سيفتر باسما ويسمعني من عذب الحديث ما العهد به غير بعيد. إن الصورة شيء عجيب، فكيف غابت عني هذه الحقيقة؟ هذه أمي بجسمها وروحها، هذه أمي بعينيها وأنفها وفمها، وهذا الصدر الحنون الذي التصقت به عمري. رباه .. كيف أقتنع بأنها رحلت عن الدنيا حقا؟! أجل إن الصورة شيء عجيب، ويبدو لي الآن أن كل شيء عجيب في هذه الدنيا، وقاتل الله العادة فهي التي تقتل روح العجب والإعجاب فينا. كانت هذه الصورة معلقة بحيث تراها العين في كل حين؛ بيد أني أراها الآن شيئا جديدا، أطالع في صفحتها حياة عميقة كأن نفحة من الروح الطليق قد استكنت بها، وأرى في هاتين العينين نظرة شاردة تبعث الألم. إن هذه الصورة حية بلا ريب، ولن أسترد بصري منها ولو جننت. عكفت عليها طويلا، ثم تملكتني رغبة قوية في تخيل حياة صاحبتها في جميع أطوارها من المهد إلى اللحد. تخيلتها طفلة تحبو، وصبية تلهو بعرائسها. ألا ليتها خلفت لي صورا أستعيد بها أحلام طفولتها السعيدة! ثم تخيلت عهد الشباب الرطيب، وهي غادة حسناء ترنو بطرفها الساجي إلى الأمل والسرور، وتلهو بلذة الفتوة المشبوبة. لقد عاصرت عهده الحلو، وكنت ثمرة لخصبه ونضارته، ومع ذلك فقد ضاعت معالمه وولت آثاره؛ غشيه الظلام كأنني لم أرتع حضنه وأرضع ثديه. وكنت إذا تخيلته فيما مضى من أيامي تخيلته في حيرة وقلق، وساءلت نفسي في خجل واستياء: ألم تنبض بدمه الحار تلك الرغبات الجامحة التي تستأثر الشباب؟! ولعل عاطفتي الغامضة تلك هي التي دفعتني في صباي إلى تمزيق الأثر الباقي لهذا الشباب الأول. فقد دخلت حجرة نومنا ذات يوم فجأة فوجدت أمي منكبة على درج مفتوح في صوان الملابس تنظر في شيء بين يديها، فاقتربت منها في خفة تحدوني شطارة الغلمان المدللين، وأدخلت رأسي تحت ذراعها المبسوطة، فرأيتها ممسكة بصورة عرسها! وبادرت تحاول إرجاعها إلى مخبئها؛ ولكني أمسكت بها في عناد، وحملقت فيها بدهشة، فرأيت شابا جالسا وأمي واقفة مستندة إلى كرسيه كالوردة الناضرة. وتعلقت عيناي بصورة الرجل، فأدركت أنه أبي، وإن كنت أراه أول مرة، بل أراه بعد أن امتلأ الفؤاد له خوفا وكراهية؛ وارتعشت يداي، واتسعت عيناي انزعاجا، ثم لم أدر إلا ويداي تمزقانها إربا، ومدت لي يدا تحاول استنقاذها، ولكني تغلبت عليها في حنق وهياج، فلبثت صامتة وقد لاح في عينيها الصافيتين الحزن والأسف. وكأنني لم أقنع بما فعلت فتصديت لها غاضبا وسألتها بلهجة تنم عن الاحتجاج: علام تأسفين؟!
فبسطت أسارير وجهها بشيء من الجهد وقالت: يا لك من طفل مشاكس! .. ألا ترى أني آسف على صورة شبابي؟ .. لقد مزقت صورة أمك وأنت لا تدري.
وكانت ذكرى تلك الحادثة تعاودني في فترات متباعدة فتحز في نفسي، وتملؤني حيرة وقلقا، فأمضي متسائلا عما دعاها حقا إلى الاحتفاظ بتلك الصورة؟! ولماذا أحزنها تمزيقها؟! ثم أحاول أن أنفذ بخيالي إلى ما فاتني من حياتها، فأنقلب متفكرا مغتما.
هكذا فقدت صورة الشباب الأول، وإنني لآسف على فقدانها - الآن - أسفا خالصا، ولكن أليس ذلك أسفا مضحكا بعد أن امتدت يدي إلى صاحبة الصورة نفسها فقضت عليها؟!
3
ولم أكن الحظ العاثر الوحيد الذي ابتليت به حياتها. روت لي يوما قصة زواجها في حذر وحرص شديدين، خاصة وهي تسرد الذكريات الباسمة على ندرتها، فكانت تذكرها في عجلة واقتضاب وتحرج، وكأنها في أعماقها تخشاني، أو كأنها أشفقت مني أن تخفف لطافة الذكرى من حدة كراهيتي لأبي.
على جسر إسماعيل رآها أبي أول مرة! وكان «الحنطور» ينطلق بأمي وجدي في بعض الأصائل للتنزه والفرجة، ففي مرة مر بهما «حنطور» يتربع بصدره شاب مزهو بشبابه وثرائه، أو على الأصح بما ينتظره من ثراء، فوقع بصره على وجهها، وسرعان ما وجه عربته في أعقابها حتى بيتنا في المنيل. وكانا كلما غادرا البيت صادفاه في الطريق وكأنه ينتظر. ولم أدع هذا الفصل من القصة يمر بي دون ملاحظة، فسألتها عن الغزل في تلك الأيام وكيف كان، وتلقت سؤالي بريبة وحذر، ولكني ما زلت بها حتى استنامت إلي، فاستسلمت لرقة الذكريات وقالت إنه كان يبعث إليها بنظرات تومض بالابتسام، أو يلتفت نحوها باهتمام وهو يفتل شاربه الغزير الأسود، بيد أنه لم يعد حدود الأدب قط. وتفكرت مليا، وتهت في بيداء الخيال الحالم، فعانيت أحاسيس الدهشة والحيرة والضيق، ثم رفعت إليها عيني - ولم يكن لنا من سلوى في تلك الأيام إلا مواصلة الحديث - وسألتها مبتسما عن كيف كانت تلقى تلك المقدمات الغزلية؟ ولم يخف عنها ما في سؤالي من خبث فتضاحكت، وكانت إذا ضحكت اهتز جسمها من الرأس إلى القدم. وقالت إنها كانت تتجاهله بطبيعة الحال، وتنظر فيما أمامها دون أن تلوي على شيء، وتظل على حالها كأنها تمثال ذو برقع أبيض! وداخلني شك، وقلت إني أسألها عن الباطن لا الظاهر، عن القلب لا الوجه! ونازعتني النفس إلى مصارحتها بما يدور في خلدي، ولكن خانتني الشجاعة، وعقلني الحياء، ولو رجعت إلى قلبي لعرفت الجواب، فهذا القلب من ذاك، يجري بهما دم واحد، ويسجعان عن خفقان واحد، فهل أنسى أني وقفت كثيرا كمثل التمثال والقلب شعلة نار؟!
Página desconocida
وتقدم الشاب يطلب يدها، لم يكن ذا عمل ولا علم، بل ولا مال حتى ذلك الوقت، ولكنه كان أحد ابنين لرجل من كبار الموسرين. ولما علم جدي بموافقة الأب واستعداده لتكفل ابنه وأسرته، سر بالخطبة سرورا لا مزيد عليه، وفرح بجاه الأسرة العريق. وقيل له: إنه جاهل جهل العوام. فقال: وما حاجته إلى العلم؟! وقيل له: إنه بلا عمل. فقال: وما حاجته إلى العمل؟! بل قيل له صراحة: إنه شاب ذو أهواء جامحة، وإنه سكير عربيد! فقال إنه يعلم أنه شاب وليس براهب. ولم يكن جدي طماعا جشعا، ولكنه كان يروم السعادة لابنته، ويحسب أن المال كفيل بتحقيق تلك السعادة، هذا إلى تأثر باسم الأسرة التي تود مصاهرته، واطمئنان إلى سمعتها الكريمة، وفضلا عن ذلك كله فهو نفسه لم يكن حصل على الابتدائية، ولم يكن يخلو من ميل للشراب والمقامرة. وبذلك صارت كريمته حرما ل «رؤبة لاظ» أو «رؤبة بك لاظ» كما كان يدعى. وظن جدي أنه فرغ من الواجبات الملقاة على عاتقه بتزويجه أصغر كريمتيه. ولكن ما كاد ينقضي أسبوعان على ليلة الزفاف حتى عادت أمي إلى بيت جدي دامعة العينين كسيرة الفؤاد! وانزعج جدي انزعاجا شديدا، ولم يكد يصدق عينيه، ثم علم أن الشاب قد عاود سيرته الماضية في الحانات ولما يمض الأسبوع الأول من زواجه، وأنه كان يرجع إلى بيته عند مشرق الشمس، وأنه أوسعها ضربا في ذلك اليوم الذي غادرت فيه قصره! واستفظع جدي الأمر، وكان على تربيته العسكرية الصارمة رقيق القلب، ويحدب على ابنتيه حدبا عظيما؛ فغضب غضبا شديدا، ومضى لتوه إلى قصر لاظ، وصب جام غضبه على الشاب وأبيه معا، ولبثت أمي في بيت جدي حتى وضعت أختي الكبرى، وسعى نفر من أصدقاء الطرفين إلى إصلاح ذات البين، ووصل ما انقطع من حياة الزوجية، وكلل مسعاهم بالنجاح، فرجعت أمي وطفلتها إلى قصر لاظ مرة أخرى. وامتد مكثها به شهرين، ثم نفد صبرها فهجرته إلى بيت جدي مهيضة الجناح. والحق أنها لم تذق الراحة إلا أياما معدودات، ولكنها تصبرت وتجلدت عسى أن تصلح الأيام ما فسد من حاله، فلم يكن يزداد إلا فسادا، ولم تعد ترى فيه إلا سكيرا عربيدا لا يرعى لشيء حرمة، فأيست منه، ولاذت ببيت أبيها، وسعى الرجل إلى استردادها، مقرا بإدمانه الشراب، محاولا إقناع جدي بأنه من الممكن أن تستقيم الحياة الزوجية مع إدمان الشرب؛ ولكن جدي وقف منه موقفا صلبا فطلقها، ومرت أشهر فوضعت أمي أخي الأوسط، وعاشت في كنف أبيها متمتعة بعطفه وحنانه. ثم ترامت إليهم أنباء غريبة عن رؤبة لاظ تقول إن الفتى الطائش قد حاول في ساعة نزق وجزع أن يدس السم لأبيه متعجلا حظه من الميراث، ولكن الأب اكتشف الجريمة بوساطة الطباخ؛ فطرد ابنه من قصره، ووقف نصف ثروته لجهة خير، ووقف النصف الآخر على الابن الأكبر، ولعله لم يشأ أن يوقفها كلها للأخ الأكبر حتى لا يوغر صدر ابنه الشرير عليه فيعرضه بذلك لأذاه ... واستيقظ رؤبة لاظ بعد حلم طويل بالثروة الواسعة على فقر نسبي، فلم يعد يملك من حطام الدنيا إلا ربع وقف ورثه في ذلك الوقت عن أمه - وهي غير أم أخيه - يقارب الأربعين جنيها شهريا، وبيتا ذا طابقين في الحلمية انتقل إليه بعد طرده من قصر لاظ. وأثارت تلك الأنباء شجنا في بيت جدي صفقت له ضلوع الذين يشفقون على مستقبل الوليدين الصغيرين، فقد تضاءلت نفقتهما، وتجهم مستقبلهما. وتشاور جدي وجدتي وأمي في الأمر، وانتهى بهم تبادل الرأي إلى أن يقابل جدي «لاظ الكبير»، وأن يستعطف قلبه للوليدين البريئين حتى يغير وصيته لصالحهما. ومضى جدي إلى قصر لاظ، وحادث الرجل فيما جاء من أجله، ولكنه وجد منه قلبا قاسيا وأذنا صماء، ولعن بمحضره الابن وذريته، فعاد جدي محزونا ثائرا.
وكان من سخرية الأقدار أن مات لاظ بك في نفس العام الذي سعى ابنه فيه إلى القضاء عليه. وانقضى من الدهر سبعة أعوام، فبلغت أختي «راضية» الثامنة، وبلغ أخي مدحت السابعة أو نحو ذلك. وفي ذلك التاريخ حدث ما غير مجرى حياة أسرتنا الهادئ. وشاءت الأقدار أن يتم ذاك التغير بحادثة تافهة مما يعرض في الطريق؛ إذ كان جدي يغادر ناديا للقمار بشارع عماد الدين قبيل الفجر بقليل، فرأى نفرا من السوقة يلتفون بأفندي ويوسعونه ضربا وهو يتخبط بينهم هائجا مترنحا، فبادرهم هاتفا أن يكفوا عنه، ومضى صوبهم غاضبا، ثم لحق به شرطي على الأثر! وما كاد النفر يتفرقون حتى رأى جدي رؤبة لاظ في حالة سكر بين، وقد سال الدم من أنفه. ودهش جدي وتولاه الارتباك من وقع الدهشة، ولكنه تقدم من الرجل دون تردد وسنده بذراعه وهو يوشك أن يقع. كان ما مضى قد سحب النسيان عليه ذيوله أو كاد، وكان الرجل من الناحية الأخرى يوالي إرسال النفقة لوليديه على استهتاره وعربدته، فلم يكن بين الرجلين عداء. ودعاه جدي إلى «حنطوره» فأطاع، وأمر جدي السائق بالذهاب إلى الحلمية، وخيم عليهما في الطريق صمت عجيب، فلم ينبس أحدهما بكلمة، ولما بلغت العربة البيت أوسع له جدي لينزل، ولكنه أمسك بذراع الرجل ودعاه إلى بيته، واعتذر جدي بتأخر الوقت؛ ولكن الآخر لم يقبل اعتذاره وأبى إلا أن ينزل معه، وكان ما يزال ثملا مخمورا، فأذعن جدي على رغمه، فمضيا معا إلى حجرة الاستقبال، وخيوط الفجر الزرقاء تنشب في الظلماء. وارتمى رؤبة لاظ على مقعد، وجذب جدي فأجلسه على مقعد قريب، وسرعان ما ولى عنه سكوته فغلبه الانفعال والتأثر وراح يقول بلسان ثقيل حلت الخمر والانفعال عقدته: أرأيت الأوباش كيف انهالوا علي لكما وصفعا؟! .. أرأيت إلى الإهانة البالغة تنزل بكرامتي، وأنا رؤبة بن لاظ، ربيب القصر العتيق؟! هذه هي الدنيا يا عماه .. وما بالي أدعوك بعمي؟ لقد جاوزت الأربعين ولم تعد أنت الخمسين إلا بقليل، فما أحراني أن أدعوك بأخي، ولكني أدعوك عمي احتراما وإجلالا، فإنك بمنزلة أبي .. أستغفر الله، أنت أعظم من ذلك وأجل، لا تؤاخذني بما أنطق من لفظ، واللفظ شيء تافه، أما ركلي بأقدام الأوباش فشيء خطير، أليس كذلك؟! لقد مات أبي غاضبا علي، ويقولون إنه لا يظفر بالسعادة من حرم رضاء الوالدين، أحقا هذا يا عماه ؟! حتى ولو كان أحد الوالدين أبي؟! رباه، لقد سئمت هذه الحياة، إنها حمى وهذيان وجنون متواصل، لشد ما تتوق نفسي إلى الهدوء والطمأنينة، أليس هذا هو الندم؟! امدد إلي يدك يا عماه، ولنقسمن معا بهذا الفجر الطالع أن نبدأ حياة جديدة لا إثم فيها ولا فجور، رد إلي زوجي وطفلي وأسكني أسرتي .. هلم! واشتد احمرار عينيه حتى ظنه جدي باكيا، ولم يجد بدا من أن يطيب خاطره. وعندما انطلق به الحنطور صوب المنيل وقد تحرك سطح الأرض رويدا بالأفواج الأولى من الساعين إلى الرزق، أغمض عينيه في ارتياح، وتفكر في الأمر مليا، وكان يود أن يرى ابنته سيدة لبيت يخصها. وفي نفس الشهر ردت أمي إلى زوجها السابق واجتمع شمل الأسرة. ولكن لم تدم هذه الحياة الجديدة إلا أسبوعين! بل لعلها لم تدم إلا يوما واحدا، وتحملت أمي بقيتها صابرة متصبرة حتى أقضها الإشفاق على طفليها من شر السكير العربيد، فحملتهما وفرت إلى جدي المسكين. وثار الرجل ثورة عنيفة، ومضى لتوه إلى التائب الزائف وانهال عليه تعنيفا وتقريعا وازدراء، واستمع الآخر إليه صامتا، ثم قال له إن زوجه هي الملومة؛ لأنها لا تود العيش معه، وإنه لا ذنب له إلا أنه يسكر! وغادره جدي يائسا وبيده شهادة الطلاق. انقطعت حياة الزوجية إلى الأبد، وكنت أنا ثمرة تلك التوبة الكاذبة!
وقد سمعت جدي يمازحني يوما فيقول لي: «لقد جئت إلى هذه الدنيا نتيجة لحماقتي أنا دون سواي.» ولكن ما أكثر الذين جاءوا هذه الدنيا في أعقاب الحماقات! ونشأت في بيت جدي، فلم أعرف بيتا سواه، بل لم أعرف من الأهل غير جدي وأمي؛ لأني حين أخذت أعي ما حولي كان أبي قد استرد أخي وأختي، وكانت جدتي قد ماتت. ولم أعرف أن لي أبا إلا بلسان أمي، وحديثها المفعم مرارة وحزنا؛ فنمت كراهيتي له على الأيام. وقد أتم الرجل قسوته عليها فلم يكتف باسترداد ابنه وابنته، ولكنه حال بينهما وبين رؤية أمهما، فمرت الأعوام تلو الأعوام وهي لا ترى لهما أثرا . وترامت الأخبار إلينا تقول: إن الرجل يكاد يحبس نفسه دون العالم كله، فارا من الدنيا وما فيها بسكر متواصل، لا يفيق منه نهارا ولا ليلا.
4
كان بيت جدي بالمنيل مولدي وملعبي ودنياي. وكان يتكون من دورين كبيرين، نقيم في الأعلى منهما، وله فناء صغير. لست أريد التحدث عن البيت، ولكني أتلهف على استعادة الماضي، وما من ماض إلا وله بيت تحوم حوله ذكرياته. إن حياتي لا تنفصل عن ذاك البيت أبدا، ولن تنفصل عنه ما حييت، وما البيت ببناء وعمارة وهندسة، ولكنه برج ثابت في الزمان يأوي إليه حمام الذكريات الساجع بالحنين إلى ما انقضى من أعمارنا، فلأنقب في غيابات الماضي عن أقصى ما يستطيع أن يستقبله رأسي من موجات الذكريات، إني أغمض عيني متواريا عن عالم المحسوس؛ كي أهيئ لروحي سكينة تنطلق فيها إلى الماضي الخالد. ولأعترف أني شديد الحنين إلى الماضي، وقد بت في هذه الفترة الأخيرة أشد ما أكون حنانا إليه، ولعل ذلك مني ليس إلا توقا صريحا إلى الطفولة، وإني لأدرك ما في هذا الحنين والتوق من خطورة هي سر دائي الأسيف في الحياة، ومع أنني عشت حياتي متطلعا إلى ذلك الماضي - راضيا أو ساخطا - شديد الشعور بما يشدني إليه من رباط وثيق، إلا أنني أقف عاجزا حيال سجفه الكثيفة، ترتد ذاكرتي حسيرة عن أرق عهوده وأخطرها. ها أنا أغمض عيني في تشوف وتساؤل، فيعشو بصري إلى نور خافت، أرى يدي الصغيرة وهي تمتد إلى القمر من على كتف أمي. يا لها من ذكرى! ولكم تمتد أيدينا إلى أقمار ليست دون ذلك القمر منالا! وتعاودني ذكرى جهد مضن بذلته كي أزدرد حلمة الثدي فيصدني شيء مر مذاقه. وشارب جدي الهلالي وأناملي تشده في سرور لا مزيد عليه، وتحطيم أصص الزهور، وكيف هوت إحداها مرة من حافة الشرفة على ذراع البواب النوبي فكادت تكسرها. وكان من عادتي ألا أستلسم للنوم حتى أمتطي منكب أمي فتذهب بي وتجيء بطول البيت وعرضه، وكلما توانت حثثتها بقدمي. وكنت أرفل دائما في فساتين البنات، وشعري مسدل حتى المنكبين. وقد بدا لأمي يوما أن تهيئ لي بذلة عسكرية محلاة بالنجوم والنياشين، فارتديتها مسرورا، وقطعت البيت في عجب وخيلاء؛ ضابطا عظيما ذا ضفيرة تتهادى على ظهره! ولم يكن جدي يرتاح إلى ذلك التدليل المفرط، ولكنه لم يجد من وقته متسعا للإشراف على تربيتي؛ إذ كان يغادر الفراش عادة عند الظهر ولا يرجع إلى البيت من نادي القمار إلا قبيل الفجر. وكان من ناحية أخرى يشفق من تكدير أمي لسوء طالعها، ولأنه لم يبق له في شيخوخته سواها. عشنا ثلاثتنا وليس للأب إلا ابنته، وليس للأم إلا ابنها، وكانت أمي تهفو لذكريات أختي وأخي بعين دامعة وفؤاد كسير، وتتلهف على رؤيتهما ولو ساعة واحدة، ولم تجد في حزنها من عزاء سواي، فأودعتني حضنها، لا تحب أن أبرحه، وتود لو أجعل منه مرتعي ومراحي ودنياي جميعا. وهفت نسائم الحياة رخاء، فلم أدرك إلا بعد فوات الوقت أنه كان حنانا شاذا قد جاوز حده، ومن الحنان ما يهلك. كانت مصابة في صميم أمومتها فوجدت في أنا السلوى والعزاء والشفاء. كرست حياتها جميعا لي؛ أنام في حضنها، وأقضي نهاري على كتفها أو بين يديها، وحتى في الأويقات التي كانت تتعهد فيها شئون البيت لم أكن أفارقها، أو لم تكن تدعني أفارقها، وحتى في المطبخ كنت أمتطي منكبها مفترشا رأسها بخدي، متسليا بمشاهدة الطاهي وهو يشعل النار ويقطع اللحم ويخرط البصل، بل كنا نستحم معا فتحطني في طست عاريا، وتجلس أمامي متجردة، فأرشها بالماء وأقبض على رغوة الصابون النافشة على جسدها فأدلك به جسدي، ولم نكن نغادر البيت إلا قليلا؛ فصلتنا بآل أبي مقطوعة، وخالتي كانت تقيم في ذلك الوقت بالمنصورة مع زوجها، فإذا خرجت في النادر لزيارة إحدى الجارات اصطحبتني معها. على أننا كنا نواظب على زيارة السيدة زينب، ولعلها الزيارة الوحيدة التي كنا ننتظرها بفارغ صبر. ولم يكن يسيئها شيء مثل أن تثني علي امرأة من معارفها بما يثنى به على الأطفال عادة، فكانت تتطير من الثناء وترقيني من العين في إشفاق عميق. ومن عجب أني لا أذكر التعاويذ والرقى باستهانة أو ازدراء، وإني لمؤمن بها، بل إني لأومن بكل ما كانت تؤمن به أمي. وقد نلت من الثقافة حظا، وحصلت على البكالوريا، ولكن بقي لي إيماني القديم سالما غير منقوص، وهيهات أن يتزعزع إيماني بالله ورسله وأوليائه والدعوات والتعاويذ والأضرحة.
بيد أني لا أستطيع أن أقول إنني استكنت إلى تلك الحياة بلا تململ. ولعلي ضقت بها في أحايين كثيرة، وتطلعت إلى الحرية والانطلاق. ولعل ضيقي ذاك مضى يزداد بتدرجي في مدارج النمو؛ وآي ذلك أنها أقبلت تخوفني أشياء لا حصر لها لتردني عما أتطلع إليه من حرية وانطلاق، ولتحتفظ بي في حضنها على الدوام. ملأت أذني بقصص العفاريت والأشباح والأرواح والجان والقتلة واللصوص، حتى خلتني أسكن عالما حافلا بالشياطين والإرهاب، كل ما به من كائنات خليق بالحذر والخوف. ذاك عهد بعيد، ولكنه لا يزال حيا في صدري ودمي، وهو الذي جعل من الخوف جوهرا أصيلا في نفسي تدور حوله حياتي جميعا؛ فنغص علي صفوي، ورماني بتعاسة لا تريم، وما أنا إلا مخلوق خائف لولا قيد الجسد لفرت روحه ذعرا، وأخاف الناس، وأخاف الحيوان والحشرات، وأفرق من الظلام وما يرصدني من أوهامه، وأتحامى جهدي أن أنفرد بقط، وهيهات أن أنام في حجرة بمفردي. على أن الخوف كان أعمق في حياتي من هذه الأشياء التي يتمثل لي فيها، لقد استطال ظله الكثيف حتى أظل الماضي والحاضر والمستقبل، واليقظة والنوم، وأسلوب الحياة وفلسفتها، والصحة والمرض، والحب والكراهية، فلم يترك شيئا خالصا. وقد عشت جل حياتي الماضية غرا جاهلا لا أدري لتعاستي سببا، ثم جلت لي المحن جوانب من حياتي، هاتكة بقسوتها ما استتر من الخفايا الأسيفة، بيد أن شعوري بالعجز لا يفارقني، وهو يستند في الحق إلى قصور ثقافتي وضعف ثقتي في قواي العقلية. كانت أمي مبعث هذه الآلام؛ ولكنها كانت الملاذ الوحيد منها، فأويت إليها في غير حيطة ...
ومن ذكريات ذلك العهد التي لا تنسى، موقفنا - أنا وأمي - على قبر جدتي في المواسم نكلله بالرياحين ونقرأ الفاتحة مترحمين. وكنا نتحدث كثيرا عن القبور وأهل القبور، وكيف يرقدون، وكيف يستقبلون، وماذا يلقون من شدة وحساب، وكيف تنزل عليهم الآيات نورا يذهب وحشتهم ويلطف جفوتهم. ولما كان القبر قبر أم أمي فقد أحببته حبا جما. وكنت إذا وجدت منها غرة هرعت إلى جانب منه، أنشب في ثراه أظافري، وأحفر في عجلة لعلي أطلع على ذاك المجهول المنطوي تحت الأرض. ولشد ما كان يحز في نفسي أن أسمعها تردد: «إنا لله وإنا إليه راجعون» أو «آخرتنا التراب» أو «الموت نهاية كل حي»، فسألتها مرة في دهشة: سنموت جميعا؟!
فساءها السؤال، وحاولت أن تلهيني عنه، ولكني وقفت عنده لا أتزحزح فقالت: بعد عمر طويل إن شاء الله.
فرمقتها بإشفاق وسألتها مرة أخرى: وأنت يا أماه؟
فقالت لي وهي تداري ابتسامة: طبعا، سأموت يوما ما.
Página desconocida
فوقع قولها في نفسي موقعا أليما وهتفت بها: كلا .. كلا .. لن تموتي أبدا!
وربتت على رأسي بحنان وقالت برقة: ادع لي بطول العمر كما أدعو لك، يستجيب لك الرحمن الرحيم.
وبسطت كفي الصغيرتين ودعوت الله من أعماق قلبي، وعيناي مغرورقتان بالدموع.
5
أأظل الدهر في حجرها كأنني عضو من أعضاء جسدها؟! جاوزت الرابعة من عمري، وجاء سن الرفاق واللعب. ولم يكن لي من مهرب في البيت إلا الشرفة، وهي تطل على فناء البيت، وتشرف على الطريق. وكان أطفال الأسرة التي تسكن الدور الأول يلعبون في الفناء، فجعلت أنظر إليهم بعينين مشوقتين، فيتطلعون أحيانا بأعين قرأت فيها دعوة صامتة اهتزت لها جوانحي، واستأذنت أمي يوما في الانضمام إليهم، فقالت لي بارتياع: ماذا حدث لعقلك؟ .. ألا ترى أنهم لا يكفون عن العراك؟! .. ما عسى أن أفعل لو ضربوك أو جرحوك؟ .. أو خرجوا بك إلى الطريق لا تنقطع به العربات؟ بل ماذا تفيد منهم إلا الشقاوة وسوء الأدب؟ أما أنا فأقص عليك القصص، وإذا شئت خرجنا معا لزيارة السيدة .. إذا كنت تحبني حقا فلا تفارقني.
ولاح في وجهي التذمر والامتعاض، فاستطردت تقول: لقد حرمت رؤية أختك وأخيك، ولم يبق لي في الدنيا سواك، وها أنت تود فراقي، سامحك الله!
فتوددت إليها قائلا: إني أحبك أكثر من أي شيء في الدنيا؛ ولكني أريد أن ألعب!
ولكنها لم تكن لتذعن لرغبتي تلك، وكنت إذا ضقت بإصرارها بكيت أو ثار بي الغضب ثورة لا أعف فيها عن شد شعوري وتمزيق ثيابي، ولكن شيئا لم يكن ليجعلها تذعن لرغبتي في الابتعاد عنها. وفيما عدا ذلك لم تدخر وسعا لمرضاتي. كانت تبتاع لي اللعب أشكالا وألوانا، وإذا لمست ضيقي ومللي دعت بطفل من أطفال الجيران ليشاركني لهوي تحت سمعها وبصرها. بيد أن ذلك كله لم يرو غلتي، فتحينت منها غفلة يوما وانسللت هاربا من الشقة أكاد أخرج من جلدي فرحا، واستقبلني الأطفال في الفناء بدهشة وترحاب معا. ومع أنه كان بيننا شبه تعارف إلا أنه لم يسعني الاقتراب منهم، فوقفت مكاني في ارتباك وحياء، وسرعان ما أطلت أمي من الشرفة ونادتني في حدة الغضب، ولكن أكبر الأطفال تقدم مني، ودعاني إلى اللعب، وهو يقول لي: لا تبالها! ولأول مرة لم أبال صوتها. فاندفعت إلى حلقة اللعب، وأخذت مكاني في سرور لا يوصف، ولم تكد تمر دقائق حتى شجر خلاف بيني وبين أحدهم فلطمني على وجهي، وذهلت ذهولا شديدا، فلعلها كانت أول لطمة تلقيتها في حياتي، وارتميت على ساعده وغرست فيه أسناني، ولم يتردد رفاقه فانهالوا علي ضربا وركلا، وتوعدتهم أمي في غضب شديد، ولكنهم لم يقلعوا عني حتى هددتهم بقذفهم بالقلة، فغادروني في حالة يرثى لها. ودعتني للصعود إليها، وكنت ألهث والدموع ملء عيني، فقهرني الحياء وتسمرت قدماي فلم ألب نداءها، ولم أرفع بصري عن الأرض، ولم أفارق موقفي حتى جاء البواب فحملني إليها، وغسلت لي وجهي وساقي وهي تقول في انفعال شديد: تستاهل .. تستاهل .. هذا جزاء من يخالف رأي أمه، إن الله يغفر كل شيء إلا من يعاند أمه فلن يغفر له, هذا هو اللعب مع الأطفال، فكيف وجدته؟!
آلمتني هزيمتي أمامها أضعاف ما آلمني الضرب، ورحت أؤكد لها كذبا أن الحق كان علي، وأني كنت المعتدي. ومن عجب أن أمي نفسها لم تكن تكثر من الاختلاط بالناس، فلم يألف بيتنا الضيوف إلا فيما ندر. وكان جدي يضيق بعزلتها، ويحثها دائما على المعاشرة لتسري عن نفسها. ثم شاء الله أن يؤنس وحشتنا، فحلت خالتي ضيفة ببيتنا هي وأسرتها! كانت خالتي تقيم مع زوجها - مدرس لغة عربية - بالمنصورة، فانتقلوا إلى القاهرة ليقضوا بيننا شهرا من العطلة الصيفية. وجدت نفسي بين ستة من الأولاد وبنت، فأفلت الزمام من يد أمي على رغمها. وكان أكبر الأولاد في العاشرة، وأصغرهم يحبو؛ فانقلب البيت الهادئ سركا تقفز به القرود والنسانيس، فلعبت ولهوت حتى كدت أجن من الفرح والسرور .. لعبنا الجديد والحجلة، والوابور، والاستغماية.
ولما ضقنا بالبيت انطلقنا إلى الطريق وأنا لا أكاد أصدق. وأرادت أمي أن تحول بيني وبين الانطلاق معهم، ولكن خالتي تصدت لها قائلة: دعيه يلعب مع الأولاد يا أختي .. لو كان بنتا ما جاز لك أن تحجبيه قبل الأوان!
Página desconocida
كانت الشقيقتان مختلفتين في المزاج على تقاربهما في الشبه. كانت خالتي مفرطة في السمنة، ميالة للمرح والمزاح، لا تكرب نفسها بالقلق على أبنائها بغير داع. وكانت إذا غادر جدي البيت غنت بصوت لطيف محاكية «منيرة المهدية». أما أمي فتبدو على العكس من هذا كله؛ فهي نحيفة، منزوية، كثيرة المخاوف والقلق، مفرطة في الحنان لحد الشذوذ. وقد أرهقت ظروف حياتها أعصابها، فكانت لا تكاد تخلو إلى نفسها حتى تلفها كآبة شاملة. ولعلها لم ترتح كل الارتياح لإقامة شقيقتها بيننا ذلك الشهر؛ لا لفتور في عواطفها نحوها، ولكن لأن أبناءها استأثروا بي من دونها، وأفسدوني عليها. وشكت مرة إلى خالتي ما تخافه علي من حوادث الطريق؛ فضحكت المرأة باستهانة وقالت لها بلهجة لم تخل من لوم: هل ابنك من لحم ودم وأبنائي من حديد؟! .. قوي قلبك وتوكلي على الله! أما أنا فقد نسيت في سعادتي الشاملة تعاليم أمي جميعا، واستسلمت للسرور شهرا صادف حياتي الرتيبة كالحلم البهيج، وألقيت بنفسي في أحضان اللعب بشراهة ونهم، لا أستشعر تعبا ولا مللا. وفي الليل إذا أوينا إلى البيت كنت أضع عمامة زوج خالتي على رأسي وأحكي لهجته في الحديث، وأتجشأ كما يتجشأ، وأتمتم عقب ذلك قائلا: «أستغفر الله العظيم»، والكل من حولي يضحكون!
كان شهرا كالحلم، ولكن الأحلام لا تدوم، وقد انقضى. ورأيت بعين الحسرة الحقائب وهي تعد وتكوم استعدادا للرحيل. وحم الفراق، فكان عناق وسلام، وحملتهم العربة جميعا ومضت، وأنا أودعهم من الشرفة بطرف دامع كسير.
وقالت لي أمي: كفاك لعبا وجريا في الشارع، ثب إلى رشدك، وعد إلي كما كنت لا تفارقني ولا أفارقك.
وأصغيت إليها في صمت. كنت أحبها ملء فؤادي؛ ولكني كنت أهفو كذلك للعب والمرح. وبدا لأمي أن تحضر لنا خادمة صغيرة، وسمحت لها بأن تلاعبني تحت سمعها وبصرها. فكانت رفيقا خيرا من عدمه على أي حال. كانت صبية دميمة، ولكنها كانت أفضل لي من الطاهي الهرم وأم زينب العجوز. وكانت أمي محافظة على صلاتها، فجعلت أقلدها إذا صلت، ولعلها وجدت الفرصة مناسبة فمضت تلقنني مبادئ الدين كما تعرفه. عرفت الدين مبتدئا بالجنة والنار، فانضافت إلى معجم مخاوفي كلمات جديدة، بيد أنها كانت مصاحبة هذه المرة لعاطفة صدق وحب وإيمان.
6
وأدت حال أمي تلك معي إلى تأجيل تاريخ التحاقي بالمدرسة، فقاربت السابعة دون أن أتعلم حرفا. وتدخل جدي في الأمر، فدعاني يوما إليه وهو جالس بالشرفة على مقعده الطويل الهزاز، وعرك أذني مداعبا وقال لي: طالما رغبت في الانضمام إلى أترابك من الغلمان، فالآن قد فك الله أسرك، وسنأذن لك بالاشتراك معهم في حياتهم عمرا طويلا؛ ستدخل المدرسة!
أنصت إليه في دهشة بادئ الأمر؛ إذ لم أكن أدري شيئا عن المدرسة، ثم بدا لي أنه سيطلق سراحي فنظرت إلى أمي بين مصدق ومكذب، ولشد ما دهشت حين رأيتها تبسم إلي في تشجيع واستسلام؛ فانبعث الحبور في صدري فياضا، وهتفت بجدي متسائلا: هل ألعب في المدرسة كالأطفال؟
فهز الشيخ رأسه الأبيض وقال: طبعا .. طبعا .. ستلعب كثيرا وتتعلم كثيرا، ثم تصير فيما بعد ضابطا مثلي.
فسألته في لهفة: متى أذهب؟
فابتسم الرجل قائلا: قريبا جدا سأقيد اسمك غدا.
Página desconocida
وفي صباح الغد - وكنا في مطلع الخريف - ألبسوني بدلة وطربوشا وحذاء جديدا، فعاودتني ذكريات العيد السعيد، ومضى بي جدي إلى عطفة قاسم غير بعيد من بيتنا، ودخلنا ثاني بناء صادفنا إلى اليسار؛ مدرسة الروضة الأولية الأهلية، وقد وقع عليها الاختيار لقربها من البيت. كانت تتكون من فناء متوسط ودور واحد من ثلاث حجرات؛ فصلين وحجرة الناظر. وقد استقبل الناظر - وهو صاحب المدرسة أيضا - جدي بالاحترام والإجلال، ولاطفني في محضره برقة، وأطرى نظافتي وجدة ثيابي، فآنست إليه واستبشرت به خيرا. وتم إثباتي بين تلاميذ المدرسة في دقائق، ودفع جدي المصروفات، وعدنا وهو يقول لي: أنت الآن تلميذ عظيم، وستفتح المدرسة يوم السبت القادم ...
وأعلنت أمي عن ارتياحها، ولكنها لم تستطع مداراة ما اعتراها من كآبة، حتى برم بها جدي، وقال لها بشيء من الحدة: ماذا تفعلين غدا إذا بلغ السابعة وأخذه أبوه؟!
فرمقت جدي بنظرة فزع وألم وهتفت قائلة: لن يكون هذا وأنا على قيد الحياة.
وفي يوم السبت المنتظر أوصلني جدي إلى المدرسة وعاد من حيث أتى. وقد تعلقت بيده وهو يغادرني، واستشعرت خوفا مباغتا أنساني طول اشتياقي إلى تلك الساعة، واقترحت عليه أن يعود بي! ولكنه ضحك ضحكته الرنانة وقال وهو يومئ بأصبعه إلى التلاميذ: إليك أهلك الجدد!
وقفت على كثب من الباب في ارتباك لم أعان مثله من قبل، وتولاني الندم، ونظرت إلى التلاميذ المتفرقين في الفناء بخوف وحياء، وتمنيت ألا تقع عين علي. ولكن أناقتي وجدة ثيابي لفتتا إلي الأنظار فغضضت بصري في خجل شديد، وتساءلت: حتام يطول ذاك العذاب؟ بيد أن غلاما اقترب مني وحياني، ووقف معي كأننا أصدقاء، ثم سألني بغير مناسبة: هل أبوك الذي جاء بك؟
وكنت أعد جدي جدا وأبا، فحنيت رأسي دلالة الإيجاب، فعاد يسألني: ما مهنته؟ .. وما اسمه؟
ولئن كان الحديث ضايقني، إلا أني رحبت بذاك السؤال خاصة، فقلت بفخار: الأميرالاي عبد الله بك حسن.
وقال لي الغلام إن أباه فلان بك كذلك، وقد نسيته. ولعله ضاق بصمتي وجمودي فغادرني وانضم إلى غيري من الرفاق. اشتدت بي الوحشة وتساءلت: ترى أأستطيع أن أندمج في أولئك الغلمان؟ هل يمكنني حقا أن ألاعبهم أم تتكرر المأساة التي وقعت لي في فناء بيتنا؟ وتقبض قلبي خوفا، ولو واتتني الشجاعة على الانسحاب من موقفي والعودة إلى البيت لفعلت. ثم دق الجرس فأنقذني من أفكاري، وأوقفونا صفا، وأدخلونا الفصل. لم أكن أتصور حتى ذلك الوقت إلا أنني التحقت بملعب كبير، فلما أن جلست إلى قمطر، وراح المدرس الشيخ يفتتح العام الدراسي بالإرشادات التقليدية الخاصة بالنظام وعدم الحركة والكلام، أيقنت أني دخلت سجنا .. وتولتني الدهشة والانزعاج، ترى أأخطأ جدي أم خدعوه؟ وطار خيالي إلى البيت فتمثلت لي أمي في جلستها وحيدة، وتساءلت: ترى هل نسيتني؟ إنها الآن تراقب أم زينب وهي تكنس الحجرات وتنفض الأثاث، ألم تفكر في؟ .. هل تطيق فراقي طول اليوم كله؟! وانتهت الحصة الأولى دون أن ألتفت لحظة واحدة إلى كلام الشيخ، ولا عجب، فقد قررت أن يكون ذلك اليوم الأول والأخير. وفي دقائق الاستراحة رأيت الناظر يمر بباب الفصل، فتنفست الصعداء، ومضيت نحوه بلا تردد؛ إذ لم أكن نسيت لطفه ورقته، واقتربت منه في حياء، فالتفت نحوي في دهشة، ورمقني بعينين جامدتين متسائلتين، فظننته قد نسيني، وقلت بصوت لا يكاد يسمع: أنا ابن الأميرالاي عبد الله بك حسن.
فسألني بدهشة: وماذا تريد؟
فلممت أطراف شجاعتي وقلت: أريد أن أعود إلى البيت.
Página desconocida
فصرخ في وجهي بصوت غليظ كالرعد: عد إلى قمطرك .. عمى في عينك!
وأذهلني صراخه، فعدت إلى مكاني يكاد يغمى علي من الرعب والألم. ولبثت في مكاني مروعا محزونا. وفي أثناء النهار شعرت بحاجة إلى التبول؛ ولكني كتمتها في خوف شديد، ولم أفكر مطلقا في استئذان المدرس في الخروج. وغلبني الحياء في الفسحة فلم أستطع أن أسترشد بأحد عن موقع المرحاض. وجعلت أتململ تململ الملدوغ، وأشد على ركبتي في ألم وجزع. ومر الوقت في ثقل وعذاب حتى دق جرس الخروج، فأطلقت ساقي للريح، فبلغت البيت في ثوان، وارتقيت السلم وثبا، وفي الشقة وجدت أمي في انتظاري، فهتفت بي لما رأتني: أهلا بنور العين ...
ووقع بصرها مصادفة على البنطلون، فبدا في وجهها الانزعاج، وتمتمت بصوت منخفض: رباه .. بلت على نفسك!
وانفجرت باكيا، وقلت لها منتحبا: لن أعود إلى المدرسة، إن جدي لا يدري عنها شيئا، وإني أكره الناظر والمدرسين والتلاميذ، أنقذيني منها ولن أبتعد عنك ما حييت!
فجففت دموعي، ونزعت ملابسي، وهي تقول برقة: لا تقل مثل هذا الكلام، ستألفها وتحبها، كيف تبقى في البيت والغلمان جميعا في المدرسة؟! وهل يمكن أن تصير ضابطا مثل جدك إذا تركت المدرسة؟!
وواصلت البكاء، وألححت في الشكوى، ولكنها جعلت تلطف من حزني وتحذرني من البوح لجدي بشكواي أن يغضب ويحتقرني. ولأول مرة أعارت دموعي أذنا صماء. •••
وبدا لها - كي تشجعني على مواصلة الحياة الجديدة - أن توصلني كل صباح إلى المدرسة؛ فكنا نذهب معا، وأدخل أنا المدرسة، بينما تقف هي على الطوار المقابل لها، وأظل ملازما للسور أبادلها النظرات والابتسام من خلال قضبانه، والكآبة ترين على صدري والضيق يمسك بخناقي. كرهت المدرسة وحياتها جميعا، ولكني أجبرت على الذهاب إليها، ولم ينفعني عصياني ولا بكائي ولم يغنيا عني شيئا، فأيقنت أنه قضي علي بسجن طويل الأمد. ولأول مرة وجدتني أحسد الكبار على حريتهم، وأغبط النساء على قبوعهن في البيوت. وإلى ذلك العهد يرجع سروري بيوم الخميس، فكان اليوم المفضل عندي من الأيام؛ أما بقية أيام الأسبوع فقد جفوتها واستثقلتها، وكنت أستشعر الكآبة ابتداء من أصيل يوم الجمعة، ويمر السبت والأحد والإثنين والثلاثاء في ضيق وتبرم، حتى يأتي صباح الأربعاء فأتنفس الارتياح، ثم أستيقظ عند الفجر الخميس وأتقلب تحت الغطاء في سرور وحبور، والدنيا لا تسعني من الفرح. ولذلك تفوقت في دروس الخميس، ولم تعد المحفوظات والديانة ... على أن ذلك العهد لم يخل من ذكريات تثير الابتسام، وإن بدت لي وقتذاك في إطار من الجد والصرامة؛ من ذلك أننا كنا نبتاع السميد في الفسحة، وإذا أعوزنا الملح استعضنا عنه بالجير الطافح من جدران الفناء. وكان مدرسنا الشيخ يروق له أن يشرب كوبا من العرقسوس في أثناء الحصة الأولى، فكان إذا تناول الكوب يأمرنا بالوقوف وبإدارة ظهورنا له حتى لا يصيبه مكروه من أعيننا النهمة. وجاءنا يوما متجهما وقال إنه شعر ليلة أمس بمغص، وإنه لا يشك في أن أحدنا استرق إليه النظر وهو يشرب العرقسوس، وأنذرنا إذا لم نرشد عن الجاني بالضرب على أيدينا جميعا، ولما كنا نجهل الجاني فقد ضربنا جميعا. وكان زميله الآخر شيخا هرما رقيق النفس، فلم يكن يضرب أحدا إلا إذا أعيته الوسائل، وكانت طريقته المفضلة في إسكات التلاميذ وضبط النظام أن يخوفنا بالعفريت الذي يسكن أرض الحجرة من قديم الزمان، قائلا إنه لا يحب الضوضاء، وكان إذا أفلت الزمام من يده يجلس القرفصاء وينقر على أرض الغرفة، ثم يقول بخشوع ورهبة: «عفوك يا سيدنا .. إنهم لا يدركون شيئا .. لا تركبهم وسامحهم هذه المرة.»
أما الدراسة فإني لم أتعلم شيئا على الإطلاق. ولعل الفن الوحيد الذي أتقنته في مدرسة الروضة الأولية هو قياس الزمن بمراقبة تحول ضوء الشمس عن جدران الفصل، وأنا أعد الثواني في انتظار جرس الخروج. وكان المعنى الوحيد الذي يتضمنه توجيه سؤال من المدرس أنني سأضرب كذا مسطرة على ظاهر كفي. ولم أحفظ في بحر عام دراسي إلا بعض السور القرآنية الصغيرة التي كنت أسمع أمي ترددها في صلاتها. وجاء الامتحان في نهاية العام فظفرت بجملة أصفار تكفي لجعلي مليونيرا لو ظفرت بها في غير الشهادة الفاضحة. ولما اطلع جدي على الشهادة غضب وقال لأمي بحدة: هذا نتيجة تدليلك .. لقد .. أفسدته يا ستي.
ثم توعد الناظر شرا، ومضى لمقابلته في المدرسة، ورجع إلينا بعد ساعة وهو يقول بارتياح: نجحت يا سيدي بالقوة، وإياك أن تسقط في السنة التالية!
وكان يداعبني أمل بأن سقوطي ربما عدل بهم عن إرسالي إلى المدرسة، فلما بشرني بذاك النجاح المغتصب خاب أملي. وجاءت السنة الثانية فلم تكن بخير من الأولى ، وزاد من شقائي هفوة لسانية عثرت بها فضاعفت من تنغيص حياتي بقية المدة التي قضيتها في الروضة الأولية، رفعت أصبعي مرة لأستأذن المدرس في الخروج، ولكن بدلا من أن أدعوه: «يا أفندي» أخطأت وأنا لا أدري فقلت له: «يا نينة»!
Página desconocida
وضج الغلمان بالضحك، وضحك المدرس نفسه وقال لي بسخرية: إيه يا سيد أمك؟
وقهقه الفصل بالضحك، وتولاني الذهول، ولبثت ذاهلا حتى اغرورقت عيناي، لم يكن لي فيهم رفيق أو صديق، فقد بدا عجزي عن اتخاذ الأصدقاء منذ ذاك العهد البعيد، فلم يرحمني أحد منهم، ودعوني منذ تلك الهفوة: ب «نينة»، حتى غلبت على اسمي الحقيقي، وكنت أتحاماهم مقهورا مغلوبا على أمري، ونار الغضب ترعى صدري.
وفي نهاية العام جاءتني شهادة الأصفار فاتهمت أمي المدرسة، وقرر جدي أن يلحقني بالمدرسة الابتدائية، ولما كنت متخرجا من مدرسة أهلية اشترط الناظر أن أؤدي امتحانا، ومضى جدي بي إلى المدرسة قبيل افتتاح العام الدراسي، وانتظر نتيجة الامتحان. ولم تكن بحاجة إلى الانتظار، ورجا الناظر أن يقبلني بصرف النظر عن نتيجة الامتحان، وأراد الرجل أن يجامل جدي لكبر سنه ومقامه، فطلب إلي أن أكتب اسمي «كامل رؤبة» ولكني أخطأت في كتابة رؤبة، فاعتذر الناظر من عدم إمكان قبولي. وعاد بي جدي وهو يسخر مني طوال الطريق، وقال لأمي وهو ينفخ: لا فائدة ترجى من إعادته إلى المدرسة الأولية، فسأحضر له مدرسا خصوصيا هذا العام.
وأنصت إليه وأنا لا أصدق أذني، سألته وأنا أداري فرحي: هل أبقى هذا العام في البيت؟
فحدجني بنظرة غاضبة من عينيه الخضراوين وقال بغيظ: يا فرحة أمك بك!
7
واستقبلت عاما مثمرا لأول مرة في حياتي، وجلست آمنا مطمئنا بين يدي مدرسي الشيخ، أتلقن مبادئ العربي والحساب. بدأت أخطو الخطوات الأولى في طريق التعليم، وإن مضت ساعات الدراسة في ثقل وضيق كالعادة، ولكي أضمن معاملة حسنة من المدرس أجلست أمي غير بعيد من باب حجرة المدرس للاستنجاد بها عند الحاجة. ولا عجب فإن ذكرى العامين اللذين قضيتهما في مدرسة الروضة - ما بين ضرب المدرسين واعتداء التلاميذ - لم تمح من نفسي قط. ولم أكن أتصور حتى ذلك الوقت أن التعليم واجب ضروري سأؤديه شطرا طويلا من العمر، ولكني عددته عقابا فرض علي لسبب لا أدريه، ولم أيئس من أن يلين قلب جدي يوما فيعفيني منه.
على أن أمي لم تكن أسعد حالا مني؛ كانت تعاني عذابا من نوع أشد، وقد ازدادت كآبة في تلك الأيام، فلم تكن تخلو إلى نفسها حتى تبكي مر البكاء، ولم تكن تجلس إلى جدي حتى تفاتحه بالأمر الذي يقض مضجعها! أجل لم يعد يفصل بيني وبين التاسعة إلا أشهر قلائل، فإذا بلغتها حق لأبي أن يضمني إليه، وهو لا بد فاعل كما فعل بأختي وأخي من قبل. وقد تهددنا ذاك الخطر حين بلغت السابعة، ولكن جدي كتب إلى عمي - وهو من كبار المزارعين في الفيوم - راجيا أن يستشفع لي عند أبي ليتركني في كفالة جدي حتى أبلغ التاسعة، وقبلت الشفاعة بمعجزة من السماء. وها قد اقتربت التاسعة، ولسوف أنتزع من أحضان أمي ما لم يتنازل أبي عن حقه في استردادي. وبكت أمي يوما في محضر جدي وقالت له: لقد فقدت راضية ومدحت فلم تقع عليهما عيناي منذ تسع سنوات، ولم يبق لي إلا كامل، فهو عزائي الوحيد في هذه الحياة، ولا أدري ماذا أفعل إذا سلبني الرجل إياه؟!
وهز جدي رأسه الأشيب متبرما، وكان ذاك الحديث يكربه، وقال لها: وماذا بيدي أن أفعل؟! هذا حكم الشرع، وما لنا من حيلة فيه، والرجل الذي تعنينه هو أبوه على أي حال، وليس برجل غريب!
فهتفت أمي في تألم واحتجاج: أبوه! .. أتدعو هذا الوحش أبا؟! يا أسفي على راضية ومدحت في البيت الذي جعل السكير منه حانة. إن الأبوة لم تختلج بصدره قط، وكامل قد ترعرع في رعايتي ونهل من حناني، ولم يدر شيئا عن شواذ المخلوقات، فإذا أخذه الرجل هلك بين يديه، وهلكت هنا وحدي!
Página desconocida
وخنقها البكاء فأمسكت عن الكلام مرغمة، ولما استردت أنفاسها استطردت تقول: هل تتصور يا أبي أن كامل يستطيع أن يعيش بعيدا عن أمه؟! إن يدي هاتين تطعمانه وتلبسانه وتنيمانه، إنه يخاف خياله، وإنه لتفزعه زفرات الصراصير، فكيف يأذن الشرع بأن ينتزع مثل هذا الطفل من أحضان أمه؟!
وقطب جدي متبرما، وبدا وكأنه ضاق بشكواها، بيد أن وجهه لم يكن مرآة صادقة لقلبه، وكثيرا ما كان يبدو ساخطا والقلب منه ندي بالرحمة، ولم يزد وقتذاك على أن قال: كفاك شكوى وبكاء، إن قسم له أن يمكث بيننا مكث، وإن أراد الله أن يذهب إلى أبيه فلا راد لقضائه!
ذاك كان قوله، أما صنيعه فكان شيئا آخر؛ فقد حزم أمره يوما ومضى إلى أبي ليفاوضه في شأن استبقائي في كفالته، والحق أن جدي كان يحبني حبا بالغا .. أحبني لأني كنت أنيس شيخوخته، والطفولة تحرك في الشيخوخة أعماق الصدور، وأحبني لحبه أمي التي لبثت إلى جانبه بعد وفاة جدتي ترعاه بحنانها وعطفها وحبها. ذهب الشيخ إلى أبي وانتظرنا وأيدينا على قلوبنا. ومر وقت الانتظار على أمي في عذاب لا يمكن أن أنساه مهما امتد بي العمر. لم يكن ليقر لها قرار أو يسكن لها جانب، وجعلت تخاطبني حينا وتخاطب نفسها أحيانا، ودعتني مرات إلى مشاركتها في الابتهال إلى الله أن يكلل مسعى جدي بالنجاح. ومضيت أرقبها بعينين محزونتين حتى انتقلت عدوى قلقها إلى صدري، فاستعبرت باكيا. انتظرنا طويلا - أو هكذا خيل إلينا - يشملنا حزن وقلق، تسبح أعيننا دمعا، وتلهج ألسنتنا بالدعاء، حتى سمعنا جرس حنطور فهرعنا إلى الشرفة، فرأينا جدي وهو يقطع فناء البيت بخطاه الثقال .. وعدنا إلى الباب ففتحناه، ودخل جدي صامتا وهو يحدجنا بنظرة لم ندرك لها معنى.
ومضى إلى حجرته فتبعناه وقد خانت أمي الشجاعة أن تسأله عما وراءه، وراحت تهمس بصوت متهدج: يا ربي .. يا ربي! وخلع طربوشه بأناة وهو يتحامى عيني أمي، ثم جلس على مقعد كبير قريب من فراشه، ثم ألقى علينا نظرة طويلة وقال بصوته الأجش وكأنما يخاطب نفسه: رجل مجرم! .. ماذا كنت تنتظرين من رجل مجرم؟!
وابيض وجه أمي وارتعشت شفتاها، ولاح في عينيها القنوط، وجعلت أردد بصري بين جدي وأمي في قلق وخوف. وتركنا جدي لشقائنا هنيهة، ثم رثى لنا فرفع عن وجهه نقاب التجهم، وقهقه ضاحكا، وقال بصوت ينم عن الظفر: لا تقتلي نفسك كمدا يا أم راضية؛ فقد أذعن الشيطان بغير تعب طويل.
بهتنا بادئ الأمر، ثم تهللت وجوهنا بشرا، وتلألأ نور الفرح في عيني أمي، ثم جثت على ركبتيها أمام جدي وأشبعت يده تقبيلا وهي تقول بلهفة: حقا؟ .. حقا؟ .. هل رحم الله قلبي الكسير؟
وأخذ جدي يفتل شاربه في ارتياح، بينما عادت أمي تسأله بنفس اللهفة: أرأيت راضية ومدحت؟
فهز رأسه آسفا وقال: كانا في المدرسة!
فدعت لهما دعاء حارا وعيناها تغرورقان. ولم يكن جدي يزورهما لكراهيته لأبي، ولأنه لم يكن ينتظر استقبالا كريما في بيته. ثم قص جدي كيف قابل أبي في الفراندا وبين يديه زجاجة خمر وكأس مترعة، وكيف تلقاه بدهشة واستغراب، وكيف أنه لم يعد له من عمل في الحياة إلا الشراب، ولعل اضمحلاله ذاك الذي جعله ينقاد لاقتراحه متنازلا عن عناده القديم.
وقد بدا أول الأمر وكأنه يرتاب فيما يلقى على سمعه، فلما أن تبينه ضحك في سخرية وازدراء من غير ما معاندة أو غضب، وقال ببساطة: لا دماغ لي للتربية، ولأكون مرضعة من جديد. خله عندك إذا شئت، ولكن لا تطالبني بمليم واحد، هذا شرط صريح، وإذا طولبت بمليم واحد فيما يستقبل من الأيام انتزعته منكم، فلا تقع عليه أعينكم ما حييت.
Página desconocida
وقبل جدي الشرط، وكان يحدسه مقدما من قبل أن يذهب إليه، ولكنه عجب كيف أن الرجل لم يبد عن أية رغبة في رؤية ابنه، ولا سأل عنه على الإطلاق. ثم قال جدي: لم يعد رؤبة لاظ إنسانا، لقد انتهى الرجل.
فغمغمت أمي في حزن وكآبة: واحزناه على راضية ومدحت!
فقال جدي يطمئنها: إن راضية في السابعة عشرة ومدحت في السادسة عشرة، ولم يعودا طفلين. •••
وثبنا إلى طمأنينتنا المعهودة، فنجونا من ذاك الخوف الذي اعترض سبيلنا مهددا، وواصلت الدراسة في البيت أعالجها بصعوبة وضيق. واستدار العام، وحل الخريف وكثر الحديث عن الدراسة والمدرسة، وأيقنت أني معاد قريبا إلى السجن، وقلت يوما لأمي: إذا كنت تحبينني ولا توافقين على أن يأخذني أبي، فلماذا ترضين بأن تفرق المدرسة بيننا؟
فضحكت ضحكتها الرقيقة وقالت: يا للعار! كيف تقول هذا وأنت الرجل الكامل؟! ألا ترغب أن تكون يوما ضابطا كبيرا مثل جدك؟ وماذا يبقى إذا هجرت المدرسة إلا أن تشتغل بائع فول أو كمساري ترام!
ومضى بي جدي إلى مدرسة العقادين بمصر القديمة، ونجحت في الامتحان هذه المرة. وهل العام الدراسي، وانتظمت في المدرسة كارها مرغما. وكان الحنطور يوصلني صباحا إلى المدرسة، ويعود بي مساء إلى البيت، وفي نظير ذلك منع جدي أمي من توصيلي بنفسها كما كانت تفعل على عهد المدرسة الأولية. عدت مرة أخرى إلى المدرسة، وعانيت من جديد الدروس والنظام وقسوة المدرسين وسخرية التلاميذ. كانت حياتي المدرسية شقاء كلها. وأكد ذلك الشقاء أنني كنت ملكا مستبدا في بيتي وعبدا ذليلا في مدرستي. وطالما تحيرت بين الحب الذي يغمرني في البيت وبين عصا المعلم وسخرية التلاميذ.
وقد اكتسبت عداوة المدرسين ببلادتي وخمود ذهني، حتى أطلق علي بعضهم: «الغبي الممتاز». وكان مدرس الرياضة إذا انتهى من شرح درس سألني عنه، وما يزال بي حتى أجيب إجابة ترضيه فيتنفس الصعداء ويلتفت نحو التلاميذ قائلا: لا بد أنكم فهمتهم ما دام سي كامل قد فهم. ويضج الفصل بالضحك!
أما التلاميذ فكان دأبهم السخرية مني ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وكان عجزي عن إنشاء علاقة صداقة حقيقة مرة لا شك فيها، فلم أظفر في حياتي بصديق. والحق أني لست أسوأ من كثيرين ممن يتمتعون بصداقات سعيدة، ولكني شديد النفور بطبعي، شديد الخجل، محب للوحدة والعزلة، عديم الثقة في الغرباء، وزاد طبعي تعاسة ما جبلت عليه من صمت وعي وحصر، فلم أحسن الكلام قط، فضلا عن الدعابة والمزاح، لذلك جميعهم رموني بثقل الدم، وقد آلمتني هذه الصفة، حتى سألت أمي يوما: هل أنا ثقيل الدم يا أماه ؟
فرمقتني بنظرة ارتياع وقالت بحدة: من قال عنك ذلك؟
فقلت في حياء: التلاميذ كلهم؟
Página desconocida
فصاحت بغضب: قطعا لألسنتهم، إنهم ينفسون عليك أدبك الكامل، والحنطور الذي يحملك؛ بينما يتسكعون على أقدامهم، إياك وأن تتخذ منهم صديقا!
ومتى كنت في حاجة إلى مثل تلك النصيحة؟! وهكذا كابدت الحياة في المدرسة في وحدة، يطالعني روح عداوة وبغضاء من الجو المحيط بي. ولعلها كانت لا تخلو من غبطة لو أنني أسهمت في مسراتها، ولكن خجلي الشديد أجبرني على مقاطعة الألعاب بأنواعها كالكشافة والكرة والقسم المخصوص، حتى الرحلات المدرسية لم توافق أمي على الاشتراك فيها؛ أن يصيبني مكروه، وكان التلاميذ يتحدثون عن الأهرام وأبي الهول ودار العاديات والفسطاط، فأسترق السمع في حيرة وحزن وكأني أستمع إلى سائحين يقصون عن بلاد نائية! ولشد ما ينتابني من خجل إذ أقرر أن عيني لم تقعا من القاهرة - المدينة الوحيدة التي عشت بين أسوارها - إلا على شوارع معدودات هي كل حظي من مشاهدات في هذه الدنيا الواسعة. ولم يكن لي من عزاء في تلك الأيام إلا أن أنفرد بأمي في الشرفة أو في حجرتها، ثم نأخذ بأطراف الحديث، كأن ليس لحديثنا من نهاية. وكانت عصا المدرس تذكرني بأن علي واجبا ينبغي أن أؤديه قبل النوم، فأقبل على الكتاب مستكرها، وأذاكر بلا روح ولا حماس، وسرعان ما يترنح رأسي ويرنق النوم بجفني. •••
ويوما قرئت علينا - في حصة الديانة - هذه الآية الكريمة:
فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه ...
فلا أذكر أني انزعجت لشيء انزعاجي لها، لم أطق أن أتصور أن أفر من أمي في يوم مهما كانت فظاعته، وأن أغادرها في أهواله بقامتها النحيلة الرقيقة وعينيها الخضراوين الحنونين، فقاطعت الشيخ على غير وعي مني هاتفا: كلا .. كلا!
وأحدثت مقاطعتي دهشة في الفصل؛ لأني لم أكن أنبس بكلمة، ولم يدرك أحد ماذا أردت، ولم يلبثوا أن ضجوا ضاحكين، وغضب الشيخ، وحملني مسئولية الإخلال بالنظام، فأقبل نحوي متغيظا ولطمني على وجهي بعنف وحنق. ورحبت باللطمة كعذر ظاهر للبكاء؛ إذ كنت أقاوم دموعي جاهدا ودون جدوى.
لقد زلزلتني هذه الآية الكريمة، وكانت أول نذير لي عن مأساة الحياة!
8
حياة رتيبة كابدتها على استكراه؛ بيد أنها لم تخل من هزات عنيفة. فذات مساء عاد جدي مبكرا على غير عادته، وقلقت أمي لأنه لم يكن يرجع إلى البيت قبل الفجر. واقتحم علينا الحجرة متجهما، فنهضت أمي مستطلعة، ورفعت رأسي عن الكتاب، وقبل أن تسأله عما به قال بحدة وهو يضرب طرف حذائه بعصاه: زينب، كارثة نزلت بالأسرة .. فضيحة ستجعلنا مضغة الأفواه!
فنطقت عينا أمي بالفزع، وهتفت بصوت متهدج: رحماك يا ربي! .. ماذا حدث يا أبي؟
Página desconocida
فقست نظرة عينيه الخضراوين، وقال بصوت أجش غليظ: ابنتك .. راضية .. هربت!
وشحب وجه أمي، وخجلت عيناها، وجعلت ترنو إلى جدي بنظرة مستنكرة لا تجد سبيلا إلى تصديق ما صك أذنيها، ثم غمغمت بصوت كالأنين: هربت! .. راضية! .. هذا محال!
فضرب جدي الأرض بقدمه حتى ارتجت أركان الحجرة وصاح بغضب: محال؟! بل هي الحقيقة الواقعة، هي الفضيحة العارية، هي الضربة القاصمة لكرامتنا!
ولم تحر أمي جوابا كأنما فقدت النطق، وتنفس جدي بشيء من الجهد، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: أي جنون سلبها الرشاد؟! .. ليس هذا الدم الفاسد بدمنا! هذا دم شيطاني يفضح سوء فعله الأصل القذر الذي استمد منه. لقد مات جدها وهو يصب لعناته على رأس أبيها فحلت اللعنة بذريته.
وازدردت أمي ريقها وتمتمت في ارتياع: أفظع بها من كارثة! كيف ضلت الفتاة؟! لقد أفسد السكير العربيد عليها حياتها، ما أتعسها!
فقال جدي باستياء وحنق: لا تنتحلي لها الأعذار .. لا شيء في الوجود يسوغ هذا الفعل الشائن!
فغمغمت أمي بصوت باك: لست أنتحل لها الأعذار؛ ولكنها تعيسة، ما في ذلك من شك!
وساد صمت محزن، ولبثا يتبادلان نظرات الغم والكدر والقنوط، وقد أصغيت إلى ما دار بينهما بانتباه شديد، فأدركت أهونه، وغابت عني خطورته الحقة، كان الأمر يتعلق بأخت لم تقع عليها عيناي. لماذا هربت؟ وأين اختفت؟ وتساءلت: لماذا لم تحضر إلينا؟
فصاح بي جدي حانقا: اخرس!
وارتمى على مقعد، واستطرد يقول: جاء عمها في النادي وأبلغني الخبر؛ قال إنه لا يعلم شيئا عن حقيقة الحال. وقد أبرق له مدحت للحضور فورا، فجاء بلا إبطاء، ثم أخبره الشاب باختفاء شقيقته. أما المجرم السكير فلم يزد على أن قال: «في داهية!» ثم ذهبنا معا إلى بعض أصدقاء العم من رجال المحافظة وأفضينا إليهم بالخبر الشائن سائلين معونتهم.
Página desconocida
وتريث جدي دقيقة ثم استطرد: ويل للسكير المجرم! .. إنه المسئول عن هذه المأساة، لأذهبن إليه وأحطمن رأسه!
ولاح الانزعاج في عيني أمي فقالت بجزع: كلا .. كلا .. هذا يزيد من حالنا سوءا!
فقال جدي بإصرار: ينبغي أن يجزى عن شره شرا.
فقالت أمي بتوسل: لا شأن لنا به .. فلنركز اهتمامنا في العثور على الفتاة، علنا نقوم ما اعوج من أمرها.
فحدجها بارتياب وتساءل: لماذا تلحفين في الحيلولة بيني وبين الذهاب إليه؟
فلاح في وجهها الارتباك وتمتمت: أخاف أن يزداد الأمر سوءا.
فقال جدي بحنق: بل تخافين أن يؤدي الشجار إلى أن يسترد كامل .. إنك لا تقيمين وزنا لشيء، ولا تكترثين لغير نفسك، ألا لعنة الله عليكم أجمعين!
ولبس البيت رداء الحزن فكأنه في حداد، واهتصرتنا أيام سود؛ فنكد العيش، وكدت أختنق في ذلك الجو القاتم. وقد غير جدي نظام حياته، وتخلف عن سهراته المعتادة في النادي، وكان يغيب خارج البيت طوال النهار دون أن ندري عن مكانه شيئا. على حين تقضي أمي النهار ساهمة أو باكية. وجاءنا جدي ذات مساء، فلما أن وقع بصره على أمي بادرها قائلا: عثرنا على ضالتنا أخيرا!
فجرت أمي نحوه وهي تصيح: حقا! .. اللهم ارحمنا!
فقال جدي بصوت تنم نبراته عن الارتياح والسرور: أرسلت الفتاة المجنونة إلى مدحت كتابا تنبئه بأنها تعيش في بيت زوجها ببنها، وتسأله المغفرة عن سلوكها الذي اضطرت إليه اضطرارا.
Página desconocida
وتنهدت أمي من الأعماق وقالت وعيناها تدمعان: ألم أقل لك؟! .. إن راضية فتاة طاهرة ولكنها تعيسة الحظ، رباه .. أين هي الآن؟ خبرني بكل ما تعلم.
فقال جدي بهدوء: سافرنا إلى بنها، أنا وعمها ومدحت ، فوجدناها في أسرة طيبة محترمة، وتعرفنا إلى زوجها، وهو شاب موظف بالحقانية يدعى صابر أمين، فأخبرنا أنه استأجر شقة بشارع هدايت بشبرا وأنه سينقل إليها هذا الأسبوع. وقالت راضية: إن زوجها تقدم لخطبتها ولكن أباها رفضه بغلظة، وأنه رفض قبله شابا آخر تقدم لخطبتها كذلك .. ولعلها الخمر التي لم تبق على ذرة من إنسانيته فأنسي واجباته وبدد مرتباته، واستبد بها اليأس فهربت مع الشاب، وسافرا إلى أسرته حيث كان المأذون في انتظارهما.
وأصغت أمي إليه وهي تبكي بكاء حارا، بعثه الحزن والارتياح معا، ثم قالت: سأسافر إليها غدا!
فقال جدي بتأكيد: ستجدينها في بيتها غدا أو بعد غد.
وعادت تتساءل: لماذا لم تأت إلي أنا؟
فقال جدي كمن يعتذر عن الفتاة: لعلها خجلت أن تأتي بخطيبها إلينا وهي هاربة من وجه أبيها، وعلى أية حال لنحمد الله على هذه النهاية التي لم نكن نحلم بها.
9
ركبنا الحنطور جميعا لأول مرة، فجلس جدي وأمي في الصدارة، وجلست على المقعد الخلفي. كانت أمي من الفرح في نهاية، وقد بدت بعد ما عانت في الأيام الأخيرة من هم وحزن وكأنها استردت شبابها الأول .. كانت عيناها تتألقان بنور السرور البهيج، وكان لسانها يسبح بالحمد والشكر. وانتقل سرورها إلى صدري ففرحت برحلتنا السعيدة. وجعلت أفكر في شقيقتي التي سأراها لأول مرة بعد دقائق بدهشة وسرور وقلق لم أدر له سببا، ترى ما شكلها؟ وكيف تلقانا؟ وهل تحبنا؟ وقطعت أمي علي حبل أفكاري فسألت جدي بلهفة: هل أجد مدحت هناك؟
فقال جدي وقد اعتمد مقبض عصاه بيديه: الراجح أن يكون هناك .. لقد تواعدنا على ذلك. ولاحت في عينيها نظرة حنان ورجاء. وسارت العربة ميممة شبرا. ورحت أتسلى بمشاهدة المارة والعربات والترام، حتى بلغ الحنطور مقصده، وانعطف إلى شارع هدايت، ثم وقف أمام بيت متوسط الحجم، مكون من ثلاثة أدوار. وغادرنا العربة وصعدنا إلى الدور الثاني وأمي تقول بصوت كالهمس: ما أشد خفقان قلبي! ودق جدي الجرس، وفتح الباب ودخلنا .. رأيت فتاة وشابين، وقبل أن أعاينهما هرع اثنان منهما إلى أمي، فلم أر إلا عناقا حارا، ولم أسمع إلا تنهدات الدموع. رمقت الثلاثة بحيرة وخجل وصمت. وطال العناق، وطال البكاء، حتى تدخل جدي بينهم ضاحكا وهو يقول: إليك زوج ابنتك صابر أفندي أمين.
وتقدم الشاب من أمي فقبل يدها، وقبلت جبينه، ولم ألبث أن رأيت نفسي محط أنظار الجميع. وقالت أمي وهي تبتسم خلال دموعها: أخوكما كامل.
Página desconocida
وهرعت نحوي شقيقتي، وضمتني إلى صدرها، وقبلتني بحرارة، وأنا مستسلم بين يديها لا آتي حراكا، ولا أنطق بكلمة، وصاحت بفرح: رباه، إنه شاب يافع! .. إنه نسخة منك يا أماه!
ثم ضمني شقيقي إلى صدره وقبلني وهو يقول بسرور: يا له من شاب خجول!
ولم أكن حتى تلك اللحظة قد أنعمت النظر إلى وجه من وجوههم، وظللت غاضا بصري، والخجل يحرق جبيني وخدي. ثم مضوا بنا إلى حجرة الجلوس، فجلست أمي بين راضية ومدحت، وجلس جدي لصق زوج أختي، وأقعدتني شقيقتي إلى جانبها، وقالت أمي وهي تجفف دمعها: يا رحمتاه! وجدتكما شابين بعد أن انتزعتما مني طفلين، الحمد لله والشكر لله!
فقال زوج أختي بتأثر: يا لها من حياة هي بالمأساة أشبه! وإني لأشكر الله على أن جعلني الفرصة التي هيأت لكم هذا اللقاء!
وسالت الأشواق القديمة حديثا فياضا لا ينضب معينه، وانثالت عليهم الذكريات والخواطر، وشكا كل بثه وهمه، وامتزجت الدموع بالبسمات. وكانت تلوح في عيني أمي بين الحين والحين نظرة دهشة كأنها لا تصدق أن الله قد جمع شمل الأسرة بعد تفرق ونوى. ولما شغلوا بأنفسهم عني أخذت أفيق من الخجل، وأسترد أنفاسي، وشعرت بأني - لدرجة كبيرة - وحدي، فداخلني ارتياح، ولكن سرعان ما انتابني قلق وضيق، وجعلت أسترق النظر إلى راضية ومدحت. بهرني جمال أختي، رأيتها أقصر من أمي قليلا ولكنها ممتلئة بضة، ميالة للبياض، أما وجهها فصورة من وجه أمي، وصورة من وجهي أيضا، بعينيه الخضراوين الصافيتين وأنفه الدقيق المستقيم. أما مدحت فأنموذج من نوع آخر، بدين في غير إفراط، مستدير الوجه والرأس، أبيض الوجه مشرب بحمرة، أسود العينين، ينم مظهره عن الفحولة والقوة وإن لم يجاوز الثامنة عشرة. وكان يقهقه ضاحكا لأتفه الأسباب، ويبدو فرحا صحيحا معافى. استرقت إليهما النظر باستطلاع واهتمام، وسرعان ما جذبني إليهما شعور بالحب والعطف، واستنمت إلى روحهما المرحة الباسمة. بيد أنني لم أنعم بشعور الوحدة طويلا، فربما اتجهت صوبي الأنظار وبذلت المحاولات لحملي على الكلام، واستدراجي لمشاركتهم سرورهم، ولكنني لم أنبس بكلمة قانعا برد الابتسام بالابتسام. ولئن كان كل شيء مما يكتنفني يدعو للغبطة؛ إلا أنني لم أخل من مشاعر قلق غامض رغبني أكثر من مرة في الرحيل، وقالت لي راضية باسمة: كان مولدك عسيرا، والله يعلم كم تألمت أمنا! ولبثنا أنا ومدحت في الحجرة المجاورة نبكي، ثم أدخلنا في النهاية ورأيناك في اللفة شيئا كقبضة اليد، فانهلنا عليك بالقبل.
وقهقه مدحت وقال: وأردت أن أطعمك قطعة من الشيكولاتة فحملوني إلى الخارج.
وقالت راضية برقة: وكنا نتخيلك في وحدتنا ببيت أبينا فنقول: لعله يحبو الآن، أو إنه يمشي ويلعب، أو هذا أوان المدرسة. وعلى فكرة أي سنة بلغت من دراستك؟
وشعرت بحرارة احمرار خدي، وانعقد لساني، فأجاب عني جدي قائلا بلهجة لا تخلو من تهكم: إنه يعيد السنة الأولى الابتدائية وهو في العاشرة من عمره.
فقال مدحت ضاحكا: الحال من بعضه، فقد التحقت بالزراعة المتوسطة بعد سقوط عامين بالثانوي!
وقالت أمي: إن جدك يريد أن يجعل منه ضابطا.
Página desconocida
فهز مدحت رأسه وقال: عليه إذن أن يحصل على البكالوريا.
وكان جدي من الذين ألحقوا بالمدرسة الحربية بالابتدائية، فقال بازدراء: إن بكالوريا اليوم لا تعدل ابتدائية الأمس!
ثم دار الحديث عن الحياة في بيت أبي، حتى قالت راضية: كنا في الحقيقة نعيش بمفردنا، ولم نكن نرى أبانا إلا مرة في الصباح الباكر، ثم نمضي وقتنا معا، نذاكر أو نلعب أو نتحدث، وقد حمدنا الله على تلك الوحدة.
وتنبهت أمي إلى الشطر الأخير من الكلام وتنهدت في إشفاق، فقال جدي: إن كان أبوكما أعفاكما من عشرته ومخالطته حقا، فقد فعل خيرا يستحق عليه الشكر والدعاء !
وتقضى النهار كله في جو عابق بالحب والأشواق، وعدنا إلى المنيل مجبوري الخاطر. واتصلت الأسباب بعد ذلك بيننا وبين شقيقتي، وكان مدحت يزورنا كلما سنحت له فرصة.
واستقبلت عاما مثيرا توزعتني فيه الحيرة وحب الاستطلاع والتجربة القاسية .. صدمني في مطلعه هروب أختي وما علمت بعد ذلك من زواجها، فحبلها، ثم إنجابها طفلة. وتساءلت نفسي كما ساءلت أمي عن معنى هذا كله: لماذا هربت من أبي إلى رجل غريب؟ لماذا لم تأت إلينا؟ ولماذا تزوجته؟ وكيف حبلت؟ وكيف خرجت زينب الصغيرة إلى نور الدنيا؟ .. وارتبكت أمي حيال إلحاحي وتطفلي، وجعلت تصطنع لي الأجوبة الكاذبة حينا وتتأناني حتى أكبر حينا آخر، فإذا لججت تكلفت لي حزما غير معهود ولا مألوف. فلم أظفر منها بشيء ينقع الغلة، وفي الوقت نفسه شعرت بأن ثمة سرا يراد إخفاؤه عني. ثم جاءني العون من حيث لا أدري، فتطوعت الخادمة لإماطة اللثام عما حير خيالي وألهبه. كانت تكبرني بأعوام، وكانت دميمة قبيحة، ولكنها كانت تكرس فراغها لخدمتي، وكانت تخلو بي في أويقات نادرة إذا شغلت أمي بعمل أو حاجة. وبدا أنها استرقت السمع يوما إلى ما يدور بيني وبين أمي عن الألغاز التي استثارتني من سباتي، فصارحتني مرة بأنها تعلم أمورا خليقة بأن تعرف، وانجذبت إليها على قبحها في اهتمام وسرور، وواجهت التجربة بلذة وسذاجة. على أن العهد بها لم يطل، فما أسرع أن ضبطتنا أمي ملتبسين، ورأيت في عيني أمي نظرة باردة قاسية، فأدركت أني أخطأت خطأ فاحشا، وقبضت على شعر الفتاة ومضت بها فلم تقع عليها عيناي بعد ذلك. وانتظرت على خوف وخجل .. ثم عادت متجهمة قاسية، ورمت صنيعي بالمذمة والعار، وحدثتني عما يستوجبه من عقاب في الدنيا وعذاب في الآخرة. ووقع كلامها مني موقع السياط حتى أجهشت باكيا، ولبثت أياما أتحامى أن تلتقي عينانا؛ خزيا وخجلا.
10
حدثت معجزة - على حد تعبير جدي - فنجحت في الامتحان، ونقلت إلى السنة الثانية، وإن كنت قضيت عامين في السنة الأولى. ولما اطلع جدي على الشهادة قال لي مداعبا : لو كنت ما أزال في خدمة الجيش لجئتك بفرقة الطوبجية، وأمرتهم بإطلاق أربعة وعشرين مدفعا احتفالا بنجاحك.
على أن جدي إذا كان لم يمكنه أن يطلق لنجاحي أربعة وعشرين مدفعا، فقد قذف حياتي بقنبلة - عن قصد حسن - كادت تودي بي. حدث أن زاره يوما ضابط متقاعد في الخمسين من عمره ممن عملوا تحت قيادته في السودان. وعقب انصرافه مباشرة جاءنا جدي في الشرفة وراح يتفرس في وجهينا في صمت، وإن نم وجهه عن ارتياح وسرور. ثم قال مخاطبا أمي بلهجة مليئة بالمرح: اتبعيني بمفردك يا زوزو هانم!
وانفجرت ضاحكا لذاك التدليل اللطيف. على حين تبعته إلى حجرة نومه، ومنيت نفسي ببشرى جميلة .. وغابت أمي مقدار ساعة، ثم عادت إلي، وما إن وقعت عليها عيناي حتى بادرتها قائلا: أهلا وسهلا يا زوزو هانم!
Página desconocida
وقهقهت ضاحكا، ولكنها ابتسمت ابتسامة باهتة على غير ما انتظرت، وجلست على كرسيها يلوح في عينيها السهوم والتفكير، وساورني القلق، فملت نحوها وسألتها عما ألم بها؟ فقالت لي باقتضاب: أمور تافهة لا تهمك.
ولكن تهربها ضاعف من رغبتي في معرفة ما وراءها، فألححت عليها أن تفضي إلي بمكنون صدرها، فنفخت في تبرم، ورجتني أن أمسك. وجلسنا صامتين طويلا، ثم تجاذبنا أحاديثنا المعتادة في فتور. ودعينا إلى العشاء فأكلت لقمات معدودات، ولما تهيأنا للنوم وقفت أمام المرآة طويلا، ثم استلقت إلى جانبي، ووضعت راحتها على رأسي وقرأت سورا قصارا من القرآن كالعادة، حتى رنق النوم بجفني. واسيتقظت في الهزيع الأخير من الليل، فخيل إلي أني أسمع حسا كالهمس، فأرهفت أذني فأيقنت أنها تغمغم، وظننتها تحلم، فناديتها حتى استيقظت، ولبثنا مستيقظين حتى أسفر الصبح.
وفي اليوم التالي زار جدي ذلك الضابط المتقاعد، وحدث ما حدث بالأمس، فدعا جدي أمي إلى حجرته، ولبثا منفردين زهاء الساعة، ثم جاءا معا إلى الشرفة وهي تتعلق بذراعه وتهتف بانفعال وتأثر شديدين: كلا .. كلا .. هذا محال، ولا أحب أن يعلم شيئا!
ولكنه لم يأبه، فيما بدا، وقال لي بحزم: إني منتظرك في حجرتي!
وجعلت أمي تتوسل إليه وتضرع، ولكنه رجع إلى حجرته وأنا في أعقابه، على حين مضت أمي إلى حجرة نومنا في حالة غضب واستياء. وجلس جدي على مقعده الكبير، وأمرني أن أقترب منه، فاقتربت في رهبة وخوف حتى وضع يده النحيلة على منكبي، ورمقني بنظرة دقيقة ثم قال: أريد يا كامل أن أحدثك بأمر هام. لا زلت صغيرا بغير شك، ولكن يوجد في مثل سنك من ينهض بأعمال الرجال، وأحب أن تفهمني جيدا، فهل تعدني بذلك؟
وأجبت بطريقة آلية: أعدك يا جدي.
فابتسم إلي متلطفا ثم قال: الأمر هو أن رجلا فاضلا غنيا من أصدقائي يرغب أن يتزوج من أمك، وإني أوافق على ذلك رغبة مني في سعادة أمك؛ فلا بد للمرأة من رجل يرعاها، وأنا قد جاوزت الستين، وأخاف أن أموت قبل أن تضطلع أنت بواجبك كرجل؛ فلا تجد من تعتمد عليه في الحياة.
وواصل كلامه باستفاضة، ولكن عقلي كل فلم يتابعه، ولم أعد أفقه معنى لما يقول.
شلت عبارة «يتزوج من أمك» مسامعي، وانفجرت في دماغي، واتسعت عيناي دهشة ورعبا وتقززا، وتساءلت: هل يعني جدي ما يقول حقا؟ أجل لقد روت أمي لي قصة زواجها، ولكن كان ذاك قصة وتاريخا بعيدا، ولم أتصوره حقيقة واقعة أبدا. وذكرت لتوي الخادمة المطرودة فغاض قلبي في صدري، وقلت لجدي وأنا ألهث: أمي لا تتزوج، ألا تفهم ما هو الزواج؟!
ولم يتمالك الشيخ نفسه من الضحك، ثم قال مبتسما: الزواج سنة من سنن الله، والله يفضل المتزوجين على غير المتزوجين، ولقد تزوجت أنا جدتك، كما تزوجت أمك فيما مضى، وكما ستتزوج حضرتك يوما ما .. أصغ إلي يا كامل، أريدك على أن تذهب إلى أمك وتقول لها إنك ترغب في تزويجها مثلي، وإن سعادتك تضاعف بسعادتها .. ينبغي أن توافق على ما يسعدها، وحسبها ما قاست من أجلكم جميعا.
Página desconocida
وجعلت أطرافي تنتفض انفعالا وتأثرا، ونظرت إلى جدي كما تنظر الفريسة إلى معذبها، ثم سألته بصوت متهدج: أيريد أن يأخذها ذلك الرجل؟
فابتسم وقال لي: نعم، ولكن ليرعاها ويسعدها.
فسألته بحدة وأنا لا أدري: وأنا؟
فقال برقة بالغة: إن شئت ذهبت معها، أو بقيت عندي على الرحب والسعة.
فعضضت على شفتي بقسوة لأحبس دمعي، وتراجعت فجأة فأفلت من يده، وركضت خارجا متجاهلا نداءه، وعدوت إلى حجرة نومنا، فوجدت أمي جالسة محمرة العينين من البكاء، وفتحت لي ذراعيها فارتميت بينهما منتفض الأطراف من التأثر، وبادرتني قائلة: لا تصدقه؛ أعني لا تصدق أن شيئا مما قال لك سيقع، لا تبك ولا تحزن .. واعذاباه!
وحدجتها بنظرة استغراب واستنكار، وصحت بها: ألم تقولي إن هذا عار وحرام؟!
فشدت علي بحنان وهي تقاوم ابتسامة، ثم قالت: لعل جدك قال لك إنه يريد أن يزوجني، ولكنه لم يقل بلا ريب إنني وافقت على هذا الزواج، والحق أني رفضته لأول وهلة، وبلا أدنى تردد، ووددت لو لم تعلم عن الأمر شيئا على الإطلاق، ولما أعطاني مهلة للتفكير قلت ...
وقاطعتها بحدة قائلا: ولكن يريد لك أمرا معيبا محرما؟!
فصمتت قليلا وهي ترنو إلي بطرف حائر، ثم استطردت متجاهلة اعتراضي: قلت إن المهلة مضيعة للوقت، وأبيت أن أجعل هذا الأمر موضوعا للتفكير، وذلك من أجلك أنت، من أجلك وحدك، فلا تحزن ولا تغضب، ولا تظن بأمك الظنون.
ولئن أخرجني كلامها من ظلمات القنوط؛ إلا أنني أصررت على ترديد اعتراضي حتى قالت لي بعد تردد: لم أقل أبدا إن الزواج من العيوب أو المحرمات، بل هو علاقة شريفة يباركها الله، إني ذممت عيوبا أخرى.
Página desconocida
وانعقد لساني حياء وخجلا، وربتت هي على خدي لتسري عني، وقالت بصوت ينم عن العتاب: يا لك من طفل جحود! ألا تستأهل تضحيتي في نظرك كلمة شكر؟ .. أتراك تذكرها فيما يقبل من العمر أبدا؟! .. لتتزوجن يوما ولتغادرني وحيدة بلا رفيق ولا أنيس!
وقطبت ساخطا، وقلت بحماس: لن أفارقك ما حييت.
عبثت بشعري مبتسمة، ولاحت في عينيها الجميلتين نظرة ساهمة.
11
سارت حياتي المدرسية في بطء وتثاقل يدعوان لليأس، فبلغت الرابعة عشرة وما جاوزت السنة الثالثة الابتدائية، وكان جدي يقول متأففا: متى تقبل على الدراسة بهمة ونشاط؟ متى تعرف واجبك؟ ألا ترى إذا اطردت دراستك على هذا المنوال فستنتهي منها وقد استوفيت سن المعاش؟!
ولشد ما كانت تأسى أمي لذاك التهكم المر، وكانت تسأله دائما ألا يلقيه في وجهي؛ أن تنكسر نفسي فأزداد بلادة، أو تقول له: الذكاء من عند الله، وحسبه ما جمله به من كريم الخلق، لأنه كالعذراء حياء وأدبا!
وكان أن كابدت حياتي تطورا خطيرا لا أذكر متى بدأ ولا كيف بدأ، وأخشى أن يكون الخيال قد زور منه أمورا على الذاكرة. دبت في النفس والجسم يقظة غريبة، سرت في أطرافي قلقا واضطرابا. طافت بي في وحدتي أحلام جديدة، وغيبني في المدرسة شرود ركز شعوري كله في نفسي. وكنت إذا انطلقت بي العربة من المدرسة إلى البيت سرحت طرفي في آفاق السماء، وبنفسي لو أحلق إلى ذراها المتلفعة بتلك الزرقة الغامضة. ولشد ما انتابتني الكآبة وغشيني الكدر، فروحت عن قلبي بالدمع الغزير. ولا أنسى الأشواق الغامضة، والمخاوف المجهولة، والأنات المهموسة، والشعيرات النابتة. رباه إني كائن يتمخض عن حياة مخوفة مجهولة، تعبث بي شياطينها في النهار والليل، في اليقظة والأحلام.
واكتشفت بنفسي - تحت ضغط تلك الحياة - هواية الصبا الشيطانية، لم يغرني بها أحد؛ إذ كنت معدوم الرفاق، فاكتشفتها أول مرة في حياة البشر، واستقبلتها بالدهشة واللذة، ورضيت بها عن كل شيء في الوجود، ووجدت فيها أنسا لوحدتي الغريبة، وعكفت عليها في إدمان، وراح خيالي يقطف لي من صور المخلوقات ما أزين به مائدة العشق الوهمية.
ومن عجيب أن خيالي في عشقه لم يعد دائرة الخوادم بالمنيل اللاتي يسعين حاملات الخضر والفول. ولم تكن تلك ظاهرة عارضة ثم ولت، إنها سر دفين، أو هي داء دفين. كأني موكل بعشق الدمامة والقذارة! إذا طالعت وجها ناضرا مشرقا يقطر نورا وبهاء ملكني الإعجاب، وبردت حيوانيتي، وإذا صادفني وجه دميم ذو صحة وعافية أثارني وتملكني، واتخذته زادا لأحلام الوحدة وعبثها. وأفرطت إفراط جاهل بالعواقب. وخيل إلي جهلي المفرط أن أحدا سواي لا يدري بها، حتى سمعت يوما - في فناء المدرسة - بعض التلاميذ يتقاذفون بها في غير حياء؛ فانزعجت انزعاجا فظيعا وتولاني خجل أليم. ومنذ تلك الساعة أمضني الألم، وكدر صفوي تأنيب الضمير والشعور بالذنب .. ولم يكن ذاك ليصدني عن ممارستها، فقضيت وحدتي في لذة جنونية سريعة يعقبها نكد طويل.
وكانت تسطع في أيامنا الرتيبة ساعات باسمات فتزورنا أسر من الجيران والأقارب؛ سيدات وبنات في سن الصبا، وربما قدمت سيدة بنتها على سبيل المداعبة: هذه عروس كامل.
Página desconocida
فكانت أمي تلقى هذه المداعبة وأمثالها بفتور ملحوظ لا يخفى على مخاطبتها، ولا علي؛ فازددت شعورا بالحياء وبالنفور، وبالخوف خاصة حيال المرأة. ثم لا تفتأ - عقب انصراف الزائرات - تنتقد مداعباتهن الفاضحة المفسدة للأخلاق! .. ومضيت في حياتي الوحيدة الموحشة أتململ تحت ضغطها المتواصل دون أن أبدي حراكا، أنتهب لذاتها الخفية في جزع ويأس، وأجني مر الشعور بالذنب وقد شق علي الخلاص، في عزلة غابت بي عن خضم الحياة. على أنني كنت أدرك إدراكا غامضا أنه توجد حياة واسعة فيما وراء أفقي الضيق. كنت أسترق السمع إلى ما يتناثر من أحاديث التلاميذ عن السياسة والسينما والألعاب الرياضية والبنات، وكأنني أصغي إلى سكان كوكب آخر. وددت لو كان لي بعض فصاحتهم ومرحهم وحبورهم، وددت لو يرفع ذاك الحاجز الأصم الذي يحبسني دونهم. ولكم رمقتهم بعينين محزونتين كأني سجين ينظر من خلال القضبان إلى الطلقاء. بيد أني لم أحاول قط أن أنطلق من سجني، لم يكن ليغيب عني ما ينتظرني في دنيا الحرية من قسوة ومهانة، بل إني لم أسلم في سجني من أذى وسخرية وتهجم، ذاك سجني فلأقنع به، فيه لذاتي وألمي، وفيه أمان من الخوف. إنه سجن مفتوح الباب، ولكن لا سبيل إلى تجاوز عتبته، ولم أجد من متنفس غير الأحلام. كنت أمكث في الفصل غائبا عما حولي وخيالي يصنع المعجزات؛ يحارب ويقتل ويقهر، يمتطي متون الجياد ويعتلي الطائرات ويقتحم الحصون ويستأثر بالحسان، وينكل بالتلاميذ تنكيلا مروعا، حتى لابست أحيانا حركات رأسي وتقلصات وجهي انعكاسات من تلك الأخيلة، يرتفع لها الرأس كبرياء، ويقطب الوجه قسوة، وتشير اليد بالنذير والوعيد!
ولم تقف أحلامي عند حد الخلق فطارت إلى ملكوت الخالق .. وكان إيماني قديما راسخا يعمر قلبي وروحي بحب الله وخوفه معا. وقد أديت الفرائض في سن مبكرة أخذا عن أمي ومحاكاة لها. ولما أجدت لي لذاتي الخفيفة شعورا بالذنب لم يكن لي به عهد؛ قوي شعوري الديني، ولفحت إيماني لهفة حارة إلى الله ورحمته، فما ختمت صلاتي مرة حتى بسطت يدي مستغفرا. بيد أن أشواقي لم تقف عند حد، وانقلبت طلعة لمعرفة الله، وتمنيت من صميم فؤادي لو كان أتاح لعبيده رؤيته وشهود جلاله الذي يحيط بكل شيء ويوجد في كل مكان.
وسألت أمي يوما: أين يوجد الله؟
فأجابتني بدهشة: إنه تعالى في كل مكان!
فرنوت إليها بطرف حائر وتساءلت في خوف: وفي هذه الحجرة؟
فقالت بلهجة تنم عن الاستنكار: طبعا .. استغفره على سؤالك هذا!
واستغفرته من أعماق قلبي، ونظرت فيما حولي بحيرة وخوف، وذكرت بقلب موجع كيف أني ألم بالإثم تحت بصره القريب، لشد ما حزني الألم، وغصني الندم! ولكني ما فتئت أغلب على أمري. •••
وشق علي النزاع المتواصل فانتهى بي إلى التفكير الجدي في الانتحار. بلغت وقتذاك السابعة عشرة، وكنت أستعد لامتحان الابتدائية للمرة الثالثة بعد أن أخفقت مرتين في عامين متتاليين. تملكني الفزع والقنوط وازددت فزعا وقنوطا للامتحان الشفوي، فما كانت لي قدرة على الكلام، ولا قلب أواجه به الممتحن. وقد سألني الممتحن الإنجليزي في العام السابق عن معالم القاهرة التي زرتها؟ وكان كلما سألني عن أثر من آثارها أو موقع من مواقعها أجبت بأنني لا أعرفه، فظنني أتهرب من أسئلته وأسقطني. تملكني الخوف وأوردني مهالك القنوط، ووجدتني لأول مرة ألقي على الحياة نظرة عامة شاملة متأثرا خط الحياة من البداية إلى النهاية، حتى لم أعد أرى منها إلا البداية والنهاية، متعاميا عما بين هذا وذاك .. ميلاد وموت، هذه هي الحياة! وقد فات الميلاد فلم يبق إلا الموت .. سأموت وينتهي كل شيء كأن لم يكن، ففيم تحمل هذا العناء؟! فيم أكابد الخوف والضيق والوحشة والجهد والامتحان؟! وازدحمت برأسي ذكرياتي المحزنة عن الحياة التي أحياها .. امتحان لا حيلة لي فيه ثم سقوط فسخرية مريرة، حرمان من أفراح الحياة التي يحظى بها التلاميذ. دعاؤهم لي بالأبكم، رميهم إياي بثقل الدم، حتى رآني تلميذ مرة قادما، وكان قريبا من باب مسجد المدرسة فكور كفه على أذنه كأنه يدعو للصلاة وصاح في وجهي منشدا «يا ثقيل الدم!» وقهقه الآخرون ضاحكين. وأذكر أن مدرسا أراد يوما أن يختبر معلوماتنا العامة، فلما جاء دوري ووقفت مبهوتا لا أجيب عن شيء، سألني عن اسم رئيس الوزراء؟ ولازمت الصمت، فصاح بي: «هل أنت من بلاد الواق؟!». كانت مناسبات الإضراب كثيرة، ولكني لم أشترك في مظاهرة على الإطلاق، وقد أضربت المدرسة يوما وخرجت في مظاهرة عن بكرة أبيها، إلاي، فقد تخلفت في الفناء مرتبكا خائفا على كوني من أكبر التلاميذ سنا، ورآني على تلك الحال مدرس عرف وقتذاك بوطنيته فقال لي معنفا: «لماذا خرجت عن الإجماع؟ أليس هذا الوطن وطنك أيضا؟!»، ووجدتني في حيرة شديدة بين تعنيف المدرس وبين وصايا أمي التي تحلفني كل صباح على اتباعها. يا لها من ذكريات خليقة بأن تفقد الحياة كل قيمة! أليس في الموت غناء عن هذا كله؟ بلى، وإني لأتمنى الموت. وملأت تلك الأفكار علي شعاب قلبي، فأجمعت على أن أرمي بنفسي إلى النيل .. وعندما أتى المساء صليت طويلا، ثم نمت ويدي قابضة على يد أمي، وأنا أظنني في عداد الأموات. وجعلت في الصباح أسترق النظر إلى وجه أمي في خوف وحزن، وأثر في نفسي هدوءها وجمالها، فغالبني شعور بالبكاء، وأكربني ألا أستطيع توديعها، وساءلت نفسي في إشفاق: كيف تتلقى الصدمة؟ وهل تطيق الصبر عليها؟ سأكون المسئول عن تكدير هاتين العينين الصافيتين، وتجعيد صفحة هذا الوجه المنبسط، وزوال هذه الطمأنينة إلى الأبد، ثم خفت الخور فجأة فأمدني اليأس بقوة جديدة، وحفزني إلى الهرب. وأتيت على قدح الشاي وعيناي لا تفارقان وجهها، ثم حييتها وغادرت الحجرة منقبض الصدر مرير النفس، وركبت الحنطور، وألقيت على البيت نظرة وأنا أغمغم: «الوداع يا أماه، الوداع يا بيتنا العزيز!» وانطلقت العربة حتى طالعني جسر الملك الصالح فدق قلبي بعنف حتى شق علي التنفس. ينبغي أن ينتهي الآن كل شيء .. دقائق معدودات ثم الراحة الأبدية. ولم يكن لدي علم عن عذاب المنتحر في الآخرة، فلم أشك في أني أستهل حياة مطمئنة. واقترب الجسر رويدا، وراح توقيع سنابك الخيل يصك قلبي، ولاحت مني التفاتة إلى النيل، فرأيت لآلئ تنتشر على صفحته الدكناء، وخلتني أتخبط على أديمه، والأمواج الهادئة الصامتة تتقاذفني بغير مبالاة، مطمئنة إلى نتيجة الصراع. وتوثبت لما عقدت العزم عليه بجنون، فغاب عن خاطري كل شيء في الحياة، فهتفت بالحوذي العجوز وهو ينعطف إلى الجسر: قف!
فشد الرجل على الزمام وتوقفت العربة، فغادرتها متعجلا وأنا أقول له: اسبق إلى نهاية الجسر وسألحق بك مشيا على الأقدام.
وانتظرت ريثما ابتعد عني عدة أذرع، ثم ملت إلى سور الجسر، وأشرفت على النهر بقامتي الطويلة، وحادثت نفسي قائلا: يقولون إنني لا أحس شيئا في الحياة .. ولكنني سأفعل الآن ما لا يسع أحدا الإقدام عليه! وألقيت على الماء نظرة متحجرة، وتمثل لي ما سأفعله بسرعة البرق .. ينبغي أن يتم كل شيء في ثوان وإلا أفسد علي تدخل المارة غرضي، أتسور السور ثم ألقي بنفسي، ولن يستدعي ذلك مع حزم الأمر إلا لحظات. وانقبض قلبي وأنا أنظر إلى الماء الجاري، وقد بدا تحت النظرة العمودية سريعا صاخبا فدار رأسي. واحد .. اثنان .. وسرت في بدني قشعريرة، ترى ما إحساس الإنسان إذا هوى من شاهق؟ .. وكيف يكون اصطدامه بالماء؟ وكيف إذا غاص تحت لجته؟ ومتى يخلص الإنسان من عذاب الغرق؟! وشدت قبضتي على حافة السور، وتقلصت ساقي، وقلت بلساني أن سينتهي كل شيء حالا، ولكني كنت في الواقع أتراجع وأتقهقر وتخور قواي؛ هزمتني الخواطر والتصورات التي اعترضت عزمي. لا ينبغي للمنتحر أن يفكر أو يتخيل؛ لقد تفكرت وتخيلت فانهزمت. واشتد خفقان قلبي، وتراخت قبضتاي عن السور، ثم تحولت عنه متنهدا كالذاهل. وحملتني ساقاي المخلخلتان إلى نهاية الجسر حيث تنتظر العربة، فركبت، واستلقيت على المقعد في إعياء حتى غالبتني رغبة في النوم.
Página desconocida