فتساءلت في امتعاض: إذا لم تكتمل رجولتي في السادسة والعشرين، فمتى تكتمل إذن؟! ووددت لو أصرح بأفكاري؛ ولكن شجاعتي لم تسعفني فواصلت الصمت. وتفرست في وجهي مليا ثم استطردت قائلة بجزع: إني أريد لك عروسا جديرة بك حقا .. يبهر حسنها الأعين، وتطري أخلاقها الألسن، من أسرة كريمة ذات محتد، فتهيئ لك قصرا شامخا!
فسألتها وأنا أداري غيظي: وأين توجد مثل هذه العروس؟!
فقالت وهي تعض شفتيها: ستوجد حين يأذن الله.
وقلت لنفسي: هذا تعجيز بلا ريب. واحتدم الغيظ بصدري وتراءى لي وجهها في حالة الغضب والثورة، فقلت لنفسي ساخطا: إن أمي إذا احتدت توارى جمالها ونضبت سماحة وجهها.
21
الزواج! الزواج! لم يعد لي فكرة سواه، ولم أجد لحياتي معنى إلا أن تتم به. إذا لم نتزوج فلماذا إذن نحيا؟ بل لماذا وجدنا في الحياة؟ إني أحن إليه حنينا موجعا تندى له الضلوع فتسح أشواقا؛ إنه جنة المبتلى بنار الجحيم. ولست أكف لحظة عن تخيله في أحلام اليقظة الشاردة التي تغيب بي عن الوجود. إني أراني لصق حبيبتي وعلى وجهها الأنيق نقاب الحرير المطرز بالفل، بالشمع يزهر من حولنا، وأراني أمضي بها إلى مسكن في آخر القاهرة، ولا أدري لماذا أحب أن يكون في آخر القاهرة؟! ثم أراها تنتظرني بالشرفة فأهرع نحوها وقد انطلقت من قفص إدارة المخازن فتجود لي سعادة هفهافة يعجزني تصورها حتى في الأحلام. بيد أني لم أتمل الأحلام صافية فطالما أعقبت نشوة الفرح الوهمي كآبة غامضة لا أدريها، ولم يخل خاطري قط من وجه أمي المحبوب، فكان ينتابني حياء شديد يتصبب له جبيني عرقا، ويخامرني شعور بالذنب تعافه النفس، فيتلوى بوزي اشمئزازا !
وفضلا عن هذا كله فإنني لم أتخلص من بعض هوى للعزوبة نفسها! إن حب الوحدة داء، إنه أشبه بالمخدر تود منه فرارا ولا تستطيع عنه فكاكا، وتبغضه لنفسك وأنت تعاني الحنين إليه. أتؤاتيني الجرأة حقا على نبذ ماضي الطويل؟ .. إن نفسي تهفو إلى البيت الزوجي السعيد حينا، ثم يتملكها الإشفاق على الوحدة الهادئة والطمأنينة المعفاة من المسئوليات حينا آخر. وإن الهرب من المسئوليات داء قديم حتى لأضيق بحلاقة الذقن أو عقد رباط الرقبة، فكيف أنبري لحمل تبعات البيت والزوجة والذرية، وما يجر ذلك من حياة اجتماعية متعبة بما تفرضه من واجبات وتقاليد؟! إني أتخيل تلك الواجبات فتبرد أطرافي، ولكني في الوقت نفسه لا أكف دقيقة عن الحنين إلى الحياة الزوجية.
بت أشعر بأني فريسة همين قاتلين؛ ترددي وأمي. ومن يدري فلعل أمي هي الهم كله. وتجمعت نفسي الحيرى تروم سلاما تلوذ به، فأجمعت على أن أقابل الخطر وجها لوجه وليكن ما يكون!
وإني لجالس إلى أمي ليلة إذ قلت لها بلا سابق إنذار: ألاحظ يا أماه أنك لا ترغبين في زواجي.
فاتسعت عيناها الخضراوان الجميلتان دهشة، وقلقت فيهما نظرة حائرة، ثم قالت بصوت متغير: إني أرغب في سعادتك دائما، وهذا شغلي الشاغل، وإذا كنت لم أوافق على ما عرض لي من هذا الأمر في الماضي، فلأني وجدته دون ما أرجوه لك، ولا شك أنك تدرك هذا تمام الإدراك؛ ولكن ...
Página desconocida