ومرة رأيت الأخت الصغيرة في النافذة وأنا مقبل نحو المحطة عصرا، ولما لمحتني التفتت إلى الوراء كأنها تخاطب شخصا لا أراه، ثم بدت الأم وراء زجاج النافذة وألقت علي نظرة متفحصة. رباه! لقد داخلني شعور الجاني إذا ضبط متلبسا بجريمته. ولم يبق ثمة شك في أن البيت يعرفني، وازددت يقينا فيما تلا ذلك من أيام! فما كان يقع علي بصر أحدهم حتى يتفحصني باهتمام إلا مولاتي طبعا! وازددت اضطرابا.
ورحت أسائل نفسي الحيرى عما يقولون، وعما يظنون، لي منظر حسن خداع، ولعلهم يظنونني موظفا مغبوطا ذا مستقبل باهر! أواه، ما كنت موظفا كبيرا إلا في تقدير أمي، ولعلي ندمت عند ذاك على قطع حياتي الجامعية، وعزيت نفسي المحزونة بأني سأرث يوما ثروة لا بأس بها! مهما يكن من أمر فلا داعي للخوف من البيت؛ بل إني لأشعر بأنه سعادتي المرموقة. وإني لأحبه من مجامع قلبي؛ أناسه وأثاثه وحجراته وحتى خادمته. إني أعيش فيه بروحي، وأجاذب أهله - في الخيال - أشهى الأحاديث، أما حبيبتي فهي ملء القلب والعقل والخيال. وكنت إذا رأيت الغسيل منشورا على الشرفة تهفو به نسائم الأصائل أرنو إليه بعين محب حنون، وبصري يتنقل بين ألوانه وأشكاله مشغوفا بأهداب رقاق يطرب لها قلبي طربا قدسيا كأنما يشنف آذاني سجع ألحان إلهية! ولكم خاطبت حجرة حبيبتي موصيا إياها بها في اليقظة والمنام، وعندما تحلق بها الأحلام، أو حين تتحدث بنبراتها التي لم أسعد بسماعها.
ويوما دفعني الهوى إلى البقاء في الترام حتى أوصل حبيبتي إلى مدرستها، واضطربت خوفا وقلقا من جراء المخاطرة التي نشبت فيها، وبلغ الترام العتبة الخضراء وعيناي لا تفارقان مقصورة السيدات لأرى أين تنزل حبيبتي. ودار الترام بنا مخترقا شوارع كنت أراها لأول مرة حتى عبر جسر أبي العلاء. وفي المحطة التالية له غادرت الفتاة الترام، وهبطت إلى الطوار وأنا أتبعها عيني، فرأيتها تتجه إلى الطوار الأيمن بطولها الفارع وقدها الرشيق، ثم انعطفت إلى طريق جانبي يمتد بحذاء القصور المقامة على النيل، وسنحت منها التفاتة وهي تنعطف إلى الوراء، فوقع بصرها علي وأنا واقف أنظر صوبها. ارتجفت أوصالي كأنما مسني تيار كهربائي، وتصاعد دم الخجل إلى وجهي. وسرعان ما غابت عن ناظري فتقدمت خطوات حتى أمكنني رؤية الطريق فرأيتها تبتعد بخطواتها الرشيقة، ثم مرقت من باب جانبي غير بعيد، ولبثت مترددا، وفكرت في العودة إلى الوزارة التي تأخرت عن ميعادها بغير اعتذار، ولكن أبت نفسي أن تنتهي المخاطرة بلا نتيجة. وتقدمت نحو المدرسة بقلب هياب، ثم مررت بها متعجلا، ولكني قرأت اللافتة «معهد التربية العالي للبنات»، ورجعت إلى المحطة وركبت الترام العائد وأنا أتساءل عن معنى ما قرأت. وعلمت ما فاتني علمه في إدارة المخازن، فأخبرني موظف أنه معهد لتخريج المعلمات لمدارس البنات الابتدائية، وأنهن يدخلنه بعد البكالوريا. وداخلني زهو لأن حبيبتي ستصير أستاذة، ولكن لم يغب عني الفارق الكبير بيننا في الثقافة، فلعنت نفسي الخائرة التي حملتني على الفرار من الجامعة! وساروني خوف وكآبة. ثم لجأت إلى المجلة مشيري القديم فأرسلت إليها هذا السؤال: هل يمكن أن تحب فتاة مثقفة ثقافة عالية شابا من حملة البكالوريا؟ فذكرت المجلة في جوابها الأميرة التي أحبت الراعي!
وحلمت تلك الليلة بحبيبتي، فكانت أول زورة في المنام ...
20
تركزت أحلامي في أمرين، أن أتمتع بدخل حسن - وهو آت يوما ما - وأن أظفر بعروسي. لم أكن ممن يشقيهم الطموح، وإذا كان لي منه شيء فيما مضى من أيام الأحلام، فقد قبر في إدارة المخازن بوزارة الحربية حيث تعد علاوة نصف جنيه من الآمال البعيدة. أجل لم تثب بي الهمة في الطموح، ولكن هفت نفسي إلى السعادة والطمأنينة، إلى المعيشة الطيبة والزوجة المحبة الصالحة. ولم يجد جديد في حياتي إلا مواظبتي على الصلاة بعد أن كنت أنقطع عنها في فترات متباعدة. ولعل هيمان صدري بالحب هو الذي هيأ لي ذلك الاتصال الطاهر بالله خمس مرات في اليوم، على أن نفسي لم تتخفف من ألمها القديم، وزادتها الصلاة ألما، لما يفرط مني في ساعات اللذة الجنونية التي اختلسها بليل، فلم يعد يسعني الكف عنها، بل زدت استسلاما لها، دون أن يرحمني الندم يوما واحدا، وليس أشقى من أن يقرعك الندم وأنت ذو إيمان. وما من شك في أن ذلك الصراع المتواصل هو الذي جذبني إلى إنعام النظر في نفسي وحياتي، فهالني أول الأمر ما تسير عليه حياتي من منوال رتيب، فاليوم فيها بعام والعام بيوم، ألم ينقض علي عام منذ توظفي بالحربية دون أن يجد جديد؟! عمر يمضي في ضيق بالعمل المقضي به علي، وفي وحشة لا تتبدد إلا ساعتين؛ ساعة المحطة، وساعة الأنس بأمي في بيتنا. وحتى تلك الأويقات السعيدة لم تخل من تنغيص وألم، فعند حبيبتي كان يطاردني طيف أمي، وعند أمي كان يخيفني طيف حبيبتي. وتولد من ذلك قلق محير امتزج في نفسي بما يئن بها من ندم، فشملني بكآبة لا تريم. وإني إذا رجعت بالذاكرة إلى تلك الأيام أنحيت باللائمة على نفسي، لا لأني لم أجد سببا وجيها لتعاستي، ولكن لسوء صنيعي المعتاد في تضخيم الأحزان والآلام، ولأني لم أواجه أمرا في حياتي بما يستوجبه من حزم وشجاعة. ولذلك لم تدر أمي علة لسهومي الذي كان يقلقها، ولطالما قالت لي بحزن وأسف: لماذا تبدو أحيانا كالحزين؟ لعمري ماذا ينقصك؟ أردت أن تكون موظفا فكنت، ومتعك الله بعطف جدك الذي يهيئ لنا عيشا رغيدا، وفي خدمتك أم لو استوهبتها حياتها لوهبتك إياها عن طيب خاطر، وبين يديك الشباب والصحة ، أدامهما الله لك، فماذا ينقصك؟
وعجبت كيف تتساءل عما ينقصني! .. أجل إنها عدت لي نعما سابغة، بيد أنني أجهل فضل تلك النعم، وكانت لي بمثابة الهواء الذي ننعم به في كل لحظة من لحظات حياتنا دون أن يخطر لنا أن نشكر عليه. ولكني لا أنفك عن التفكير فيما ينقصني فيعميني ما أتطلع إليه عما أنعم به. إني شخص لم يقدر له أن يعرف شيئا عن حكمة الحياة، فلم يخرج قط عن دائرة نفسه الضيقة، وفي ذلك سر دائي، هو الذي حال بيني وبين مسرات الحياة، وما فيها من فضائل ومعان وصداقات، وطوي صدري على النفور من الناس والخوف منهم، بل جعلني أعد الدنيا عدوا يتربص بي. ولعله لم يكن يرضيني إلا أن تخلي الدنيا نفسها من همومها لتكرس حياتها لسعادتي، ولما لم يسعها ذلك قاطعتها في عجز وخوف وناصبتها العداء، وانكمشت في أعماق ذاتي جاهلا ما يمتلئ صدرها من أناس وآمال وفضائل، وحتى الحب وهو أول إحساس سام ألهمه وقفت حياله جامدا خائفا، أنتظر في يأس أن يبادر هو إلي!
ثم جاء دور أمي ولو متأخرا، فأخذت أتمرد عليها، وإن لبث تمردي نارا مكنونة لا يتطاير لها شرر. ونشأ ذلك من موقفها الغريب حيال ما يذكرها بزواجي عاجلا أو آجلا. وقد لمست ذلك بنفسي حين حدثتها خالتي - في إحدى زياراتها الرسمية - عن رغبتها في زواجي من ابنتها التي صارت شابة ناضجة، فرأيت كيف تلقت الاقتراح بنرفزة ظاهرة لم تستطع معها أن تحافظ على ما ينبغي المحافظة عليه فيما بين شقيقتين من مودة أو مجاملة؛ فغادرتنا خالتي مغضبة.
ولمسته مرة أخرى حين اقترحت عليها امرأة دلالة - كانت تزورنا في مواسم الكساء - أن تخطب لي عروسا لائقة، فرأيت كيف انفجرت فيها غاضبة ساخطة حتى انعقد لسان المرأة دهشة وارتباكا.
لاحظت ذلك بوجوم وغيظ، واستنكرته استنكارا شديدا، ولم أجد له تفسيرا أرتاح إليه. ولم تكن بي رغبة إلى ابنة خالتي، ولا إلى عروس من عرائس الدلالة؛ ولكني آنست منها كرها لزواجي، فأشفقت على آمالي، وثارت ثائرتي، وبدا لي أن قلبها توجس خيفة فقالت لي يوما: إنهن لا يرمن سعادتك؛ ولكنهن يردنك مطية لسعادة بناتهن! لم أفهم لقولها معنى، وقرأت في عينيها أنها ترجو أن أفصح عن عدم اكتراثي للأمر، ولكنني تشجعت ولازمت الصمت، فقالت بلهجة تشي بالقلق: الزواج سنة، ولا يجوز أن يتزوج الشخص قبل أن تكتمل رجولته.
Página desconocida