وقد أراد بعض أرباب الصحف القليلة في ذلك العهد تقليد صحافة إستانبول في هذا فأخفقوا؛ لأن فن الكاريكاتور كان قد تقدم في تركية تقدما لا بأس به بعد أن طعم بثقافة أدبية وفنية أوروبية، وليست الحال على هذا المنوال في العراق، فالأكثرية ممن عالج الصحافة قبل الحرب العالمية الأولى ثقافته عربية بحتة، وندر فيهم من يجيد لغة أوروبية، وكان أغلب أصحاب الصحف عندنا إذا ما أرادوا إيراد فكاهات أو نحوها اقتبسوها من الصحف العربية للبلاد الأخرى، أو ترجموها عن التركية.
كناس الشوارع
وأول كاتب هزلي لفت نظر القراء بعد الحرب العالمية الأولى عرف باسم «كناس الشوارع»، وهو شاب تخرج من مدرسة الآباء الكرمليين ببغداد، وفيه نزعة مرح وخفة روح مع ثقل جسم، وهما صفتان متلازمتان غالبا.
سألته يوما لماذا اخترت «كناس الشوارع» اسما قلميا لك؟ فأجابني: أردت أن أختار شخصية آدمية كثيرة التجوال في شرايين المدينة وقلبها دوارة تقترب من الأبواب، وتدخل البيوت، بيوت الفقراء وقصور الأغنياء، فلم أجد خيرا من «كناس الشوارع»، ثم وددت وإني أعتزم الانتقاد والحملة على العادات والنواقص في الناس والمجتمع أن أختار اسما يوافقه حمل سلاح للتهويش والضرب، ولسميي مكنسة مشهرة دائما، يحملها على كتفه ويكنس بها وينظف. وقد يستخدمها للضرب والدفاع عن النفس عند الحاجة.
هكذا طلع على الناس «ميخائيل تيسي» في جريدة «الرافدان» أولا وفي «دجلة» بعدها، يتستر وراء توقيع «كناس الشوارع» في مقالات قصيرة يتحدث فيها في الشئون اليومية بلهجة بسيطة يتخللها الكثير من الألفاظ والتعابير العامية، ينقد بعض العادات والأخلاق والأوضاع الاجتماعية غير السياسية، فصادفت هوى من نفوس القراء أكثر مما كان ينتظره الكاتب نفسه.
ويبدو أن الطبقة المستنيرة قد استحسنت هي الأخرى «نقدات كناس الشوارع » حتى استحقت أن يسجل محرر جريدة «العاصمة» في مقال افتتاحي له قوله:
1
والحق يقال: إن «كناس الشوارع» أجاد في بعض نقداته؛ لأنه قد انتقد بعض الشئون التي أوجبت تأخرنا الاجتماعي، بتصوير حسن وأسلوب جيد، فاستحسن الجمهور تلك الملاحظات وأعجب بها.
وتدور أكثر ملاحظاته حول النظافة ووجوبها، والتشنيع بحركات الآخرين وأصواتهم المزعجة، وفضح حيل الباعة والدوارين، ثم تنبيه بعض الدوائر الحكومة، ولا سيما البلديات إلى ما هو من واجباتها من تنظيف وإنارة الطرق وتجفيف البرك في الشوارع.
ويعمد «كناس الشوارع» أحيانا إلى النقد الأخلاقي أو الاجتماعي فيعرض بالعادات السيئة والطبع اللئيم، ويصف أمراض الحياة والبيئة ومساخرها وحيل النسوان وبلادة الرجال - وبتعبير محكم - الأزواج.
Página desconocida