تمهيد
الصحافة قبل الدستور في العهد العثماني
الصحافة بعد الدستور
الصحافة في خلال الحرب العالمية الأولى
صحافة الثورة العراقية سنة 1920
الصحافة بعد تأسيس الحكومة العراقية
صحافة الأحزاب في العراق
صحافة الهزل والنقد
حرية الصحافة في العراق
ملاحق
Página desconocida
تمهيد
الصحافة قبل الدستور في العهد العثماني
الصحافة بعد الدستور
الصحافة في خلال الحرب العالمية الأولى
صحافة الثورة العراقية سنة 1920
الصحافة بعد تأسيس الحكومة العراقية
صحافة الأحزاب في العراق
صحافة الهزل والنقد
حرية الصحافة في العراق
ملاحق
Página desconocida
الصحافة في العراق
الصحافة في العراق
تأليف
رفائيل بطي
تمهيد
سأحاول في هذه المحاضرات أن ألم إلماما وافيا بنشأة الصحافة في العراق وتطورها، وما كان لها من الآثار في صفحات الحياة في العراق من سياسة واجتماع وأدب. وبديهي أن نتناول الموضوع من ناحية الاستعراض وسرد الوقائع بما يقتضيه البحث العلمي الصرف من حياد ودقة.
وتاريخ الصحافة لكل شعب يمثل جانبا من حياة ذلك الشعب في الحقبة التي وجدت فيه صحافته، وتتجلى أهمية هذا التاريخ في واقع الحركة التعليمية في العالم الذي سبقنا في هذا المضمار، حيث وجدت له صحافة؛ ففي أمريكا مثلا، وضعت مادة تاريخ الصحافة في منهج المدارس المعنية بهذه الشئون منذ سنة 1869، بينما أخذوا في تدريس الفن الصحفي في عهد متأخر ليس أبعد من سنة 1908 عندما أسست أول مدرسة للصحافة في كولومبيا.
وقد تكونت عندي فكرة منذ زمن بعيد، أن تاريخ الصحافة العربية يصور بعض مظاهر اليقظة ودرجات النهوض للعالم العربي.
هذه الحقيقة تنطبق على كل قطر عربي.
ينحصر نطاق بحثنا في محاضرات الفصل الدراسي الحالي في: نشوء الصحافة في العراق بظهور أول جريدة بمعناها الصحفي سنة 1869، وننظر بعدها في صحافة العهد العثماني؛ أي قبل أن ينفصل العراق عن تركية، ونحيط بطور الصحافة التي خلقها الجيش البريطاني المحتل، والصحف التي صدرت في ظل حكومة الاحتلال البريطانية.
Página desconocida
ونجلو صحافة الثورة العراقية سنة 1920.
ثم نأخذ في استعراض حال الصحافة منذ تأسيس مملكة العراق الحديثة سنة 1921، ولا سيما صحف الأحزاب السياسية.
ونلتفت إلى تنوع الصحف الأدبية والعلمية وغيرها من المجلات المختصة بالعلوم والفنون وأساليب الكتابة الصحفية ومشاركة المرأة؛ إلى غير ذلك مما يتصل بموضوعنا. ولا بد من أن نصف العمل الصحفي وحالة الصحافة من وجوهها المهنية والمادية وصفا يوصلنا إلى إدراك المرحلة التي قطعها العراق في هذا الميدان.
كما أننا سنخص حرية الصحافة في وادي الرافدين ببحث واف. أما الفترة التي نتحدث عنها فتبتدئ بميلاد الصحافة في العراق وتنتهي بنشوب الحرب العالمية الثانية سنة 1939.
كنت أود، عملا بطريقة التعليم الجامعي، أن أفتتح محاضراتي باستعراض المراجع التي تستقون من ينابيعها متابعتكم هذه الأبحاث. ولكن المؤسف أن الموضوع بكر فيما يختص بصحافة العراق؛ فلم يتقدم أحد إلى معالجة هذه الناحية من نهضتنا الفكرية معاجلة علمية، والتوفر لدراستها بما تستحقه خطورتها. وغاية ما نجد بين أيدينا بضع مقالات ضئيلة المادة أذيعت في صحف ومجلات في العراق أو الخارج، اكتفى معظمها بسرد أسماء الصحف لبعض الفترات من الزمن، وأسماء أصحابها وهم في الغالب محرروها. وقد جمعت رسالة طبعت في بغداد سنة 1935 فهارس الصحافة التي ظهرت إلى ذلك اليوم. وكل ما نشر في هذا الباب لم يزد كثيرا على ما ورد عن العراق في الفهرس العام الذي جعله الفيكونت فيليب دي طرازي المجلد الرابع من كتابه «تاريخ الصحافة العربية» المطبوع سنة 1933.
أوائل الصحافة
اعتاد الذين يؤرخون للصحافة عند كل أمة أن يرجعوا تاريخ الصحافة إلى عهد سحيق جدا من العصور القديمة. وإني لأقتصر على الإلمام إلى ما يخص العراق منها.
سجل الباحث الفرنسي ده شامبور
A. De Chambure
في كتابه عن الصحافة، أثر العراق في هذا المجال، ذاكرا عن يوسيفوس المؤرخ يؤكد أنه قد كان للبابليين صحف تسجل فيها الحوادث يوما فيوما.
Página desconocida
1
ولا بدع في هذا الرأي؛ فقد حدثنا التاريخ بأن الملك حموربي - العربي النجار في مذهب بعض المحققين - كان يذيع أوامر عماله وموظفي مملكته في الأقاليم بأن يحضروا إلى بابل احتفاء بموسم جز الغنم، وهو من أعيادهم، وصدف في إحدى السنوات أن الشهر القمري لم يوافق الموعد الشمسي المعين لجز الغنم، فأذاع الملك في ممثليه كلهم موعزا إليهم بأن يسموا الشهر المذكور أيلول الثاني، وهذا نوع من المراسيم الملكية قد نشرت عندئذ في لون من «الوقائع العراقية».
وإذا كان عماد العمل الصحفي في هذا العصر الدعاية للسياسات والأفكار والمبادئ، فقد وجدت في ودائع خزانة الإمبراطور آشور بانيبال في نينوى سجلات مفصلة ومنسقة بحسب تواريخها وحوادثها، ولا سيما ما اتصل بحروب الملوك وفتوحهم وما شيدوه وعمروه. ويرى المؤرخ بريستد أن معظم تلك الأخبار - كأكثر الأخبار الرسمية - كان يقصد بها إلى نشر دعوة أو ترويج لمبدأ، بحيث يفهم معاصروهم أن ليس هناك قوة تستطيع أن تقارعهم.
وهذا يقر في أذهاننا أن سكان العراق القدماء كانت لهم صحافتهم على تلك الطريقة. ونجد صحيفة من هذه الصحف الخالدة تحوي جانبا من «قصة الطوفان» مكتوبة على رقم الطين المشوي في المتحف البريطاني بلندن. وقد أخذت من المكتبة الإمبراطورية المشيدة قبل ما يزيد على الألفين والخمسمائة سنة.
ومن أحدث ما كشفت عنه مديرية الآثار في بغداد في أيامنا، وهي تنقب في أطلال عقر قوف، رقم من الطين المشوي مقسم إلى اثني عشر جدولا يبين أسماء الأشهر البابلية الاثني عشر مبتدئا بنيسان (أبريل) معرفا كل يوم من حيث السعد والنحس وما يجب على الشعب عمله، وهذا أشبه ما يكون بما تذيعه الصحف في هذه الأعوام من بلاغات وزراء الداخلية في تطبيق القوانين والمراسيم المختصة بالأمن وسلامة الدولة، أو بيانات وزراء الاقتصاد والتموين حول المواد المعاشية وبيعها وشرائها.
وللآشوريين في هذه الصحافة الحجرية أو الطينية سبق آخر، فهم أول من ابتدع الصحافة المصورة، فكانوا يرقمون حوادث انتصاراتهم وبجانب الرقم يصورون بالألوان صور الأسرى من ملوك ورعايا، بينها بعض مشاهد تصور التمثيل بهم، ويعرضونها في قصورهم وأبهائهم العامة وشوارعهم الكبرى، ويلقى المرء نماذج من هذه الرقم المصورة في متحفي بغداد ولندن.
وقد اجتازت الصحافة أطوارا قبل اختراع المطبعة، حيث كانت تلقى الأخبار والآراء مشافهة ثم طفق أصحابها ينسخون هذه الأحاديث، وهي مرحلة الصحف الخطية في تاريخ الصناعة، وللشعوب العربية ومنها العراق تاريخ طويل عريض في الرواية وتناقل الأشعار.
كما أن الصحافة السياسية والمصاولات الحزبية في أنهر الجرائد في هذا العصر قد تجسمت بشكل بارز فيما هدرت به ألسنة الشعراء من المفاخرة والمنابزة والهجاء والمنافحة عن القبائل والأسر، بل هناك من استخدم إنشاد الشعر العربي للإعلان التجاري.
وإذا كانت الصحافة الخطية قد شاعت في إيطاليا في القرن الخامس عشر فصناعة النسخ والوراقة قد ازدهرت كل الازدهار في العصور الوسطى في البصرة والكوفة وبغداد، وتعاطاها نبغاء ذوو مواهب فياضة، أذكر منهم واحدا هو أبو حيان التوحيدي. وأبو حيان لم يتفوق في نسخ الصحف فحسب، بل يصفه تاريخ الأدب على رأس الكتاب في أسلوب ابتكره وهو من صميم الفنون الصحفية؛ فقد تفرد بإبداعه في الصور القلمية للشخصيات التي عرفها وعاشرها، وفي وصف الحلقات والأندية في مجتمعه.
هذا استطراد لا مناص منه عند التطرق إلى الصحافة في التاريخ. وها نحن أولاء ندخل في موضوع الصحافة بمعناها الحديث، والتي عرفت بعد اختراع المطبعة.
Página desconocida
أول جريدة عربية
زعم كثيرون ممن كتبوا في تاريخ الصحافة والثقافة في العالم العربي أن أول جريدة عربية ظهرت في بلاد العروبة هي جريدة «التنبيه» التي أصدرها الجنرال الفرنسي جاك منو، في حملة بونابرت على مصر، حتى قام الدكتور إبراهيم عبده صاحب المؤلفات في تاريخ الصحافة المصرية، فتوصل في أبحاثه إلى أن جريدة التنبيه هذه لم تبرز إلى عالم الوجود وإن صدر المرسوم بإنشائها، وأعدت المعدات لها وعين محرروها ومديروها.
2
لهذا تبقى اليد في إنشاء أول جريدة عربية لمحمد علي باشا في إيجاده الوقائع المصرية سنة 1828. أما في العراق فالثابت أن الوالي مدحت باشا هو مؤسس أول مطبعة بالحروف في بغداد ومنشئ أول جريدة باسم «الزوراء» سنة 1869. وقد ظلت الجريدة الرسمية لولاية بغداد إلى يوم احتل الجيش البريطاني بلد الرشيد سنة 1917 في خلال الحرب العالمية الأولى.
غير أن باحثا عراقيا هو رزوق عيسى، صاحب مجلة «المؤرخ» كتب مقالة في مجلة «النجم»
3
الموصلية، تعليقا على ما ورد في «تاريخ الصحابة العربية» في مجلده الرابع الذي ألمعت إليه من أن جريدة «الزوراء» أول جريدة عراقية ورد فيها قوله:
بيد أنه وردت في بعض أسفار رحالي الإفرنج ومنهم الإنجليز تلميحات وإشارات إلى أن أول صحيفة ظهرت في بغداد كانت تعرف باسم «جرنال العراق»، أنشأها داود باشا الكرجي - الوالي الشهير - عندما تسلم منصب الولاية سنة 1816، وكانت تطبع في مطبعة حجرية وتنشر في اللغتين العربية والتركية، وتذاع فيها وقائع القبائل، وأنباء القطر العراقي وأخبار الدولة العثمانية، وقوانين البلاد وأوامر الوالي ونواهيه، والإصلاحات الواجب إجراؤها، وأسماء الموظفين، مع غيرها من الحوادث الخارجية، وكانت توزع على قواد الجيش وكبار الموظفين وأعيان المدينة وأشرافها، وتعلق منها نسخ على جدران دار الإمارة ليطلع عليها من يهمه الوقوف على أخبار الدولة وتقدمها. هذا ما عثرت عليه في كتب الرحالين، ومنهم غروفس وفريزر وتيلر. وزاد عليهم سجل ألبوت المخطوط وحشر معهم أسفار رتش وبكنكهام وبورتر وروسو.
فإذا صح هذا النبأ الذي يفتقر إلى كثير من التحقيق والبرهنة، يكون العراق قد سبق مصر في تاريخ الصحافة العربية. وإن كان ناقل هذه الرواية لم يشر إلى مؤلف بالذات واسم كتابه ورقم الصفحة التي ورد فيها هذا الحادث الصحفي.
الصحافة قبل الدستور في العهد العثماني
Página desconocida
نعود الآن إلى الظرف الذي وجدت فيه جريدة «الزوراء».
بعد أن انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا الفكرة الجديدة التي غرست بذورها الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان انبثق في الأفق العربي شعاع من حياة، بفضل تقدم العلوم واحتكاك الشرق بالغرب وتوارد البعوث التعليمية الأجنبية، فانزاحت بعض الشيء الغياهب التي نشرت الخمول على البلاد العثمانية وأخذت الفوضى في التبدد، وتزعزع جبروت الإقطاع وأخذت العصابات تنفك وتضعضعت سيطرة الجهل والخرافة غداة تغلب العقل المخترع على الحواجز الطبيعية.
وقد نال العراق نصيب من بادرة اليقظة الشرقية العربية في هذا الطور، بالرغم مما كان يضطرم فيه من الانتفاضات المحلية والغارات الأجنبية، ومطامع الحاكمين بأمرهم من باشوات بغداد، وموقفهم من مرجعهم حكومة إستانبول. وازدادت أهمية العراق في الوضع الدولي عندما التفت ساسة أوروبا إليه، بعد أن اتضح مركزه في طريق الهند، ونبتت في الرءوس مشروعات السكك الحديدية التي ربطت بين إنجلترا والهند، مارة بوادي الفرات. ولمع اسمه في العالم الحديث باللجان الدولية التي وفدت عليه لحسم مشاكل الحدود العراقية-الإيرانية، وعند توسع المبادلة التجارية بين العراق وبين العالم الخارجي، ونشوء المواصلات النهرية في دجلة والفرات، وشيوع الاتصال التليفوني، وتطلع الباحثين والمنقبين إلى الكنوز الأثرية المطمورة في أطلال بابل وآشور ومخلفات عصر العرب الذهبي، وحدوث التمثيل الأجنبي، ووجود «المقيم الإنجليزي» وما يحيطه من امتيازات عريضة الظل.
في هذا المعترك هب نسيم الإصلاح على السلطنة العثمانية، فقامت تريد تنظيم الإدارة وتقسيم الولايات، وإحلال الموظفين الأكفاء محل الباشوات القدماء من الولاة الطغاة، وظهرت الرغبة في تدريب الجيش تدريبا فنيا وتطبيق التجنيد الإلزامي.
الوالي مدحت باشا مؤسس الصحافة في العراق
وفي هذا الظرف عين أبو الأحرار مدحت باشا واليا على بغداد فجاءها في نيسان (أبريل) سنة 1869، فنظر المفكرون إلى تاريخ الرجل وشخصيته ودققوا في سلوكه في منصبه الجديد، فاستقر في روعهم أنه سيفتح صفحة جديدة في البلاد من الإصلاح والتجديد.
وقبل أن يقدم هذا الحاكم المصلح إلى العراق أقام مدة في العاصمة القسطنطينية يدرس ويتهيأ، وصحب معه جماعة من رجال الاختصاص لتشغيل جهاز حكومته الجديدة في أرض الرافدين. وقد وجدنا بينهم مدير مطبعة وصحفيا ومهندسا لآلات المطابع. فلم يلبث بعد أيام من وصوله أن أسس «مطبعة الولاية»، وهي أول مطبعة آلية في بغداد جلبها من باريس سنة 1869 فور تقلده زمام الأمر.
وبصدد تأسيس هذه المطبعة، يرى يعقوب سركيس
1 - الباحث العراقي الضليع - أن أول مطبعة آلية تدار بالبخار وجدت في بغداد «دار طباعة دار السلام» لصاحبها محمد باقر التفليسي، حيث طبع كتاب «دوحة الوزراء» في مطلع جمادى الأولى سنة 1246ه، ولكنه يعود فيتشكك إذا كانت مطبعة التفليسي قد أنشئت في تبريز، ثم طبع على الكتاب اسم بغداد تقربا للوالي في ذلك العهد أم أنها نصبت في بغداد.
وقد جدد مطبعة الولاية في مدينة الخلفاء حازم بك والي بغداد سنة 1905.
Página desconocida
قلنا إن مدحت باشا أول من أسس مطبعة آلية في مدينة السلام؛ إذ إن الطباعة الحجرية سبقت مدحت باشا؛ فقد وجدت فيها «مطبعة كامل التبريزي» الحجرية المجلوبة من إيران سنة 1861، حيث طبعت بعض الكتب منها «سبائك الذهب في موقعة قبائل العرب» لمحمد أمين السويدي.
وقد جلب مدحت مع المطبعة الآلية مطبعة حجرية متقنة هي «المطبعة العسكرية» التي سميت ب «مطبعة الفيلق»؛ لتقوم بطبع ما يحتاج إليه الجيش، والمنشورات والأوامر والكتب الفنية والعسكرية، وكانت مطبوعاتها سرية لا يطلع عليها إلا كبار الضباط؛ خشية تسرب الأسرار العسكرية إلى الخارج. وهكذا أصدر مدحت باشا جريدة «الزوراء» أول جريدة رسمية في العراق باللغتين العربية والتركية.
لم تطل ولاية مدحت باشا للعراق أكثر من ثلاث سنوات، ولكنه في هذه المدة القصيرة حقق جانبا كبيرا من الإصلاحات وترك آثارا لا يزال بعضها ماثلا ينتفع به الشعب إلى اليوم؛ فهو فضلا عن نجاحه المحمود في إخماد الفتن بين القبائل وإخضاع إمارة نجد المتمردة للسلطة مد أسلاك البرق في البلاد العراقية وما جاورها، ونظم البريد، ومهد طريق المواصلات، ونفذ قانون التجنيد، وأصلح نظام الجباية لخزينة الدولة، وشيد مدرسة الصنائع ومستشفى الغرباء، وأسس المدارس العسكرية والإدارية، وأقام معملا للنسيج، وأوجد إدارة نهرية، وبدأ بتطهير نهري دجلة والفرات، وشرع في إنشاء الأسطول الأول للتجارة والنقل والقوة العسكرية، وأسس معملا للحديد، وجلب الأجهزة والأدوات لاستخراج النفط، ومد ترامواي الكاظمية، ووزع الأراضي الأميرية على الأهلين بثمن بخس، وبدأ بتنسيق دواوين الحكومة، وبكلمة نفخ روح التجديد في هذا الإقليم المترامي الأطراف.
بهذه النزعة الإصلاحية فكر مدحت باشا في خلق الصحافة العراقية، فوضع حجر الأساس فيها بجريدته «الزوراء»، وكان أهل العراق يومئذ لا يعرفون من الجرائد إلا النزر اليسير الذي يرد عليهم من الخارج، وبخاصة من إستانبول «عاصمة السلطنة»، حيث سبقت تركية في معرفة الصحافة، فظهرت فيها أول جريدة رسمية باللغة التركية سنة 1831 بأمر السلطان محمود، وقد أسماها «تقويم وقائع». ولعظم تفشي الأمية عهدئذ وندرة المتعلمين؛ كان أغلب قراء الصحف من الموظفين، وهؤلاء يعرفون التركية أكثر من العربية ، فكانت الجرائد التركية الواردة من قاعدة الخلافة هي التي يطالعها الناس. أما الصحف العربية فنادرة كل الندرة، يقرؤها الأدباء وهم قلة في الطبقة المهذبة. ولعل جريدة «الجوائب» لأحمد فارس الشدياق التي برزت في عالم الصحافة في الآستانة سنة 1860 كانت أكثر الجرائد العربية تداولا في أرض الرافدين؛ لأنني أجد في خزائن رجال الجيل الماضي من المتعلمين العراقيين طائفة من «مطبوعات الجوائب» العربية في الآداب والعلوم أكثر مما أرى من نتائج مطابع مصر والشام في تلك الحقبة.
جريدة الزوراء
جعل الوالي العظيم جريدته «الزوراء» لسان حال الولاية. ظهرت لأول مرة في ربيع الأول سنة 1286ه بثماني صفحات وباللغتين العربية والتركية؛ إذ التركية لغة الدولة الرسمية في العهد العثماني، وجاء في صدرها ما يأتي بحروفه:
هذه الغزتة تطبع في الأسبوع مرة يوم الثلاثاء، وهي حاوية لكل نوع من الأخبار والحوادث الداخلية والخارجية.
2
وقد نشرت في استهلالها «الفرمان العالي لمدحت باشا» بتوليته ولاية بغداد، وهذه بعض فقراته المترجمة إلى العربية بلغة ذلك العهد:
وزيري سمير الدراية مدحت باشا
Página desconocida
توقيعي الهمايوني الرفيع إذا وصل يصير معلوماته من المستغني عن الوصف والبيان والإيضاح والتبيان. خطة ولاية بغداد الجسيمة من أعظم القطع المركبة من الممالك المحروسة من دولتي العلية ومن اقتضاء أرضها ووضعها، قابلة لكل نوع من الإعمار والترقي. وهذا شيء من المسلمات. وبناء على كل نوع لأجل استحصال أسباب إعمارها أعز الآمال والمطالب عند سلطتي الهمايونية اقتضى انتخاب وتعيين ذات مقتدر بمنه تعالى بإيصال الفعل إلى حيزه في رأس إدارة ذلك المحل وفق آمالي الهمايونية. وأنت إلى الآن بوقوفك ووجودك في خطوب سلطتي السنية مع اتصافك بالغيرة والإقدام والدراية وحسن إبراز خدماتك، إن شاء الله الملك المعين، تقتدر على إيفاء مطلبي المستصحب للميمنة والخير؛ فقد صدرت إرادتي السنية المزينة لسنوح المواهب إحالة وتفويض إدارة أمور ملكية وعسكرية الولاية المذكورة اعتبارا من اليوم الثاني من شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وخمسة وثمانين لعهدة لياقتك.
وفي هذا العدد الأول بمكان المقالة خطاب الوالي مدحت باشا الذي ألقاه في الاحتفال بقراءة ذلك الفرمان العالي، وفيه يعلن رأيه في الإدارة ويذكر الأهلين بحالة أوروبا وتقدمها.
وفي العدد شذرات رنانة في مدح جلالة السلطان والثناء عليه والدعاء له.
كانت الزوراء تنشر شئون الولاية وأحوالها والقوانين والأنباء الرسمية والبراءات السلطانية ونصوص المعاهدات والوثائق وأخبار السلطنة والدول الأخرى.
قرأت في أعدادها الأولى مقالة موضوعها وعنوانها «أسباب تدني العراق ووسائل ترقيته»، كما حوت هذه الجريدة رسائل من أنحاء العراق، ولم تهمل السياسة الدولية؛ فقد اطلعت فيها على ملخص مقال مترجم عن جريدة «تايمس» اللندنية في قضية الفلمنك، فضلا عما تضمنته أعدادها من مقالات صحية وتعليمية وإدارية، ومنها حث على تعليم البنات وقرارات المحاكم في الآستانة.
ويرى البعض أن «الزوراء» بإدارة مدحت باشا كانت صريحة اللهجة تدون الوقائع بحرية وتصدع بالحق، ولكنها بعد ذهابه - وقد عاشت خلفه سبعة وأربعين عاما - تغيرت لهجتها، وأصابها ما أصاب الصحافة العثمانية في العهد الحميدي من الضغط والتشديد عليها وخنق حريتها. وعلى كل ففي سنواتها الأربعين الأولى احتوت صفحاتها من أخبار البلاد العراقية وسكانها ما لا يعثر عليه أو على أكثره في أي مرجع تاريخي آخر. وفي سنواتها الثلاث الطليعة سجلت بدقة ما قام به مدحت باشا من أعمال وإصلاحات، بحيث تعد خير مرجع لتاريخه في العراق. ولكن من المؤسف ألا نجد لهذه الصحيفة البكر مجموعة كاملة الآن.
قلت إن الزوراء كانت تكتب باللغتين العربية والتركية، فلما بزغ نور الدستور على العثمانيين سنة 1908 وظهرت في بغداد جرائد عربية، طوي قسمها العربي وصارت تكتب باللغة التركية فقط، فاحتج على ذلك فريق من الأهلين من ذوي النزعة القومية أو ممن لا يعرفون التركية ويريدون الوقوف على مضامين الجريدة الرسمية من أنباء وبيانات، فاقتنعت الحكومة لطلبهم وعادت تنشر باللغتين سنة 1913. وقد أصاب القسم العربي في جريدة «الزوراء» التباين في الأسلوب واللغة، فكانت ركيكة سخيفة أحيانا ومقبولة فصيحة أحيانا أخرى.
وثار الانتقاد لأسلوبها العربي من الأدباء في أقطار العروبة، فنعوا على جريدة تنشرها الحكومة في بغداد، مدينة الأدب العربي الخالدة، وتحمل اسم «الزوراء» تبدو بهذه الركاكة الفاضحة، تعج بالأغلاط المزرية، فأنصتت السلطة إلى هذا الانتقاد فتبين لها أن العلة في كون تحريرها مناطا ببعض موظفي الولاية ممن لا يحسنون العربية، فضلا عن الكتابة الفصيحة بها، فعهدت بتحرير القسم العربي منها إلى جماعة من رجال العلم والفضل.
وممن حرر فيها من الأدباء العراقيين في القرن الماضي ومطلع هذا القرن كتابة وترجمة عن التركية أحمد عزت باشا محمود الفاروقي الموصلي، وكان كاتب العربية في الولاية، وهو ناظم ناثر، وأخوه علي رضا، ومن الأدباء الشاويين عبد الحميد الشاوي وأحمد وعبد المجيد وطه الشواف من العلماء، ومحمود شكري الألوسي؛ وقد كتب فيها هذا الأستاذ مقالات علمية وأدبية كان لها أثرها في تحريك الجو الأدبي الراكد، ولا سيما ما عرضه على علماء بغداد من المسائل للمناقشة والمناظرة. ومن كبار محرريها فهمي المدرس، الذي ولي إدارة مطبعتها والتحرير فيها باللغتين العربية والتركية وعمره لم يتجاوز 21 سنة.
ويظهر أن هذه الجريدة الرسمية انحطت كثيرا في كتابتها من حيث المادة واللغة والبيان؛ فقد قال فيها الأب أنستاس ماري الكرملي في سلسلة مقالات نشرها عن «صحافة بغداد» في مجلة «المسرة»:
Página desconocida
3
وأما مواضيع الزوراء فلا تستحق الذكر، وا أسفاه على ولاية بغداد أن تكون جريدتها الرسمية بهذه الصورة الدنيئة.
ثابرت جريدة «الزوراء» على الصدور إلى احتلال القوات البريطانية بغداد سنة 1917 فغابت عن الأنظار.
جريدة الموصل
ولما كنا بصدد الجرائد الرسمية، فلنتم بحثها في العهد العثماني.
بعد خمسة عشر عاما من ظهور جريدة «الزوراء» في بغداد أنشأت الحكومة جريدة «الموصل» في الموصل سنة 1885، تنشر مرة في الأسبوع باللغتين التركية والعربية، وأحيانا بالتركية وحدها، وتطبع في مطبعة ولاية الموصل التي أسست سنة 1875.
وهناك مصدر يؤرخ صدور جريدة «الموصل» بعام 1879.
ولم تكن «مطبعة الولاية» الموصلية أول مطبعة في تلك الحاضرة، كما هي الحال في «مطبعة الولاية» البغدادية التي تحدثنا عنها؛ فقد أسس «مبعث الآباء الدومينيكيين» من الأجانب المرسلين «مطبعتهم» في أم الربيعين سنة 1860.
وأسست «المطبعة الكلدانية» سنة 1863 أقامها الكلدان وهم من الأهلين المواطنين النصارى ينتمون إلى الكنيسة الكلدانية في السواد، بمعنى أن هاتين المطبعتين سبقتا مطبعة مدحت باشا في بغداد.
ولم تعمر «مطبعة الكلدان». أما «مطبعة الدومنيكان» فقد عاشت أكثر من خمسين سنة وطبعت كتبا ورسائل كثيرة باللغات العربية والأرمية والتركية والفرنسية واللاتينية، منها المدرسية ومنها الدينية، فكانت من عوامل النهضة الأدبية في شمال العراق، حتى إذا اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى صادرتها الحكومة العثمانية، ولم تقم لها بعدها قائمة.
Página desconocida
وتاريخ جريدة «الموصل» في العهد العثماني غير واضح، ولم أعثر لها على أثر في الحياة الفكرية في بلدي، ويظهر أنها اقتصرت على نشر القوانين والأنظمة والبيانات، وأوامر الحكومة وإعلاناتها. وقد عاشت إلى احتلال الجيش البريطاني الموصل سنة 1918 فانقلبت إلى جريدة للمحتل، مما سأبحثه في محاضرة تالية.
هذا في حاضرة الشمال. أما في الجنوب فقد وجدت جريدة رسمية في الثغر العراقي، وادعى إبراهيم حلمي العمر في محاضرة له في أحد الأندية الأدبية أن مدحت باشا هو الذي أسسها بعد أن أنشأ «الزوراء» في بغداد، وقد أسماها «الفيحاء». ولكن المصادر الموثوقة التي بين يدي لا تؤيد هذا الزعم، بل على النقيض تؤكد أن البصرة لم تعرف الصحافة إلا بعد مغادرة مدحت باشا العراق بسنين.
إن أول مطبعة عرفتها البصرة أنشأها في ولاية هدايت باشا، موظف هناك بغدادي الموطن، كان يتولى رئاسة كتاب دائرة الأملاك السنية، ويدعى جلبي زاده محمد علي، أسس مطبعة وطبع فيها جريدة «البصرة». وقد كان نفسه صاحب امتيازها ومديرها المسئول، ظهرت سنة 1889 مكتوبة باللغتين العربية والتركية، وكانت لسان حال الولاية، فهي أقرب إلى الجريدة الرسمية. استمرت تصدر خمس سنوات حتى إذا نقل منشئها إلى وظيفة في بيروت، تبنت الحكومة المطبعة ووسعتها وعهدت بتحريرها إلى موظفين من ديوان أنشأته الولاية، فغدت جريدة رسمية صرفة.
لهذا يبدأ تاريخ جريدة «البصرة» الرسمية بكانون الثاني سنة 1895، وواصلت الجريدة الصدور أسبوعيا إلى احتلال القوات البريطانية مدينة البصرة في مطلع الحرب العظمى سنة 1914.
ويقول البعض: إن الصحفي اختلف مع الوالي الفريق حمدي باشا، فأسس هذا مطبعة أخرى وجديدة باسم جريدة «البصرة» سنة 1313.
وليس لدينا ما يؤثر عن هذه الجريدة الرسمية في الحياة الأدبية البصرية.
وتلاحظون أن الجرائد التي ذكرتها كلها جرائد رسمية تصدرها الحكومة؛ إذ ندر أن أذنت الحكومة قبل الدستور بإصدار جريدة سياسية أهلية في بلد ناء كالعراق، لم تعرف عنه درجة من الثقافة تقنع حكومة المركز باستعداده لإيجاد صحافة له، وإن كانت حتى الصحف الأدبية والعلمية والمطبوعات السائرة تخضع لرقابة صارمة في ظلام الاستبداد.
ويقول سليمان فيضي في مذكراته: ... كان هناك صحيفة واحدة في مركز كل ولاية من الأقاليم العثمانية يديرها موظف حكومة مسئول، تشغل معظم صفحاتها بمديح السلطان والدعاء له، وكانت الصفحات الأولى من هذه الصحف تبدأ بالدعاء الروتيني: «... أطال الله عمر مولانا أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، خادم الحرمين الشريفين، وخاقان البرين والبحرين، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، عبد الحميد خان أدام الله عزه وأعز جنده وأسعد عهده ونشر على بلاد الأعداء راية نصره ... إلخ.»
ولم تكن الحكومة لتمنح امتيازا لأية صحيفة أخرى مهما كان نوعها. والتضييق على حرية الصحافة لم يكن قاصرا على عدم إصدار صحف إلا الصحف الرسمية، ولكن كان ممنوعا دخول الصحف من الخارج، حتى إن الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت كان مشتركا بجريدة «الخلافة» التي أصدرها في لندن بعض أحرار الترك، وعندما وشى جاسوس بوكيله في البصرة عبد العزيز السالم البدر بأنه دفع اشتراك هذه الجريدة، وكبست داره وتحققوا من دفاتره، حكموا عليه بالنفي إلى ديار بكر عشر سنوات.
4
Página desconocida
الصحافة بعد الدستور
ما انبثق نور الدستور في العالم العثماني سنة 1908 ورفع الحجر على الآراء حتى انطلقت الأقلام من عقالها، وخرج المفكرون إلى ساحة الحرية، وكانت الصحافة من مجالي بروز هذا الانقلاب في حياة الشعب، فأخذت الصحف تكتب ما كان يعز كتابته أو التطرق إليه في العهد البائد، فلبست الصحافة ثوبا زاهيا من المقالات الحرة والأقوال الصريحة والأخبار الطريفة؛ فعظم إقبال القراء عليها، وزاد انتشارها، وأقبل الكتاب والساسة ورجال الفكر على إصدار الصحف ولم يكتفوا بالجرائد اليومية أو الأسبوعية، بل أنشئوا المجلات والنشرات الدورية وسلاسل الكتب التي تفننوا في مضامينها.
يقول أحمد أمين بك، محرر جريدة «وطن» في إستانبول وأحد مؤرخي الصحافة التركية:
1
لم تمض أسابيع قليلة على إعلان الدستور حتى صعد عدد الصحف اليومية في الآستانة من 3 إلى 15، وفي الشهر الأول من العهد الدستوري بدأ في العاصمة لون جديد من الصحف الهزلية بلغت العشر، والتفت الصحفيون إلى تنويع هذه الصحف بين يومية وأسبوعية ومجلات مختصة، بل قد أفضى الأمر بأحد الكتاب إلى أن أصدر من ذلك اليوم جريدة تكاد تكون شيوعية باسم «اشتراك»، شعارها القول التركي المأثور: «إذا كان الواحد يأكل والثاني يتطلع إليه فقط عندئذ تقوم القيامة.» وكل جماعة أرادت في هذا الوضع أن تكون لها صحيفة بمثابة لسان حالها، بل قام أصحاب الأعمال والحرف الخاصة يصدرون مجلاتهم كالمعماريين والكيمائيين والأطباء والبياطرة والمحامين والممثلين والعمال والموظفين والمنفيين سابقا وطلاب الجامعة، ولكن لم يكتب لأكثر هذه الصحف الحياة، فمن عشرات الجرائد عاشت ثلاث يومية لا غير وبعض المجلات الأدبية والمصورة.
وهكذا عدت الصحافة أنشط عامل في التطور الدستوري الجديد فأحدثت تأثيرا جارفا في الرأي العام.
وكان نصيب العراق من البلاد العثمانية أن سرت إليه هذه الموجة، فهب المشتغلون بالسياسة والكتاب لإنشاء الصحف والمجلات يكتبونها باللغتين التركية والعربية، حتى بلغت هذه الصحف في بغداد وحدها في خلال سنتين خمسا وعشرين جريدة ومجلة، إلا أن صحفنا لم تسلم من الآفات التي بدت أعراضها في الصحف العثمانية قاطبة، فإن ازديادها الفاحش مع نقص الخبرة وإعواز الدربة عند محرريها جعلهم يشطون في كتاباتهم، ولا سيما في الجدل السياسي والحزبي، فظهرت في أنهرها مهاترات شخصية يندى لها الجبين، مما جعل الرجعيين يقعون على فريسة باردة فخرجوا من أوجارهم وطفقوا ينددون بحرية الصحافة التي خلعها الدستور على الأقلام غير المدربة والصحافيين الجدد الهوج. وقد بدا رد الفعل واضحا عندما نظر البرلمان العثماني في ذلك الوقت في قانون المطبوعات، فثارت في وجه الحكومة عاصفة من النقد اللاذع على هذه الحرية المتيسرة الممنوحة للصحافة.
ومن الناحية المادية لم يستطع منشئو الصحف في العراق أن ينهضوا بها على أساس مشروعات اقتصادية، كما هي الحال في الصحف الأوروبية والأمريكية والصحف المصرية في جيلنا؛ لهذا أخفق القسم الأعظم منها ولم يقو على الصمود ففارق الحياة من أول الشوط أو بعد خطوات قصار.
أصيبت الصحافة العراقية من مطلع حياتها بالأمراض الوبيلة التي تصاب بها الصحف في العالم من مخاتلة وكذب وزيغ، إلا أن هاتيك الصحف عند الأقوام تكون أقلية لا يؤبه بها بجانب الأكثرية الصحفية التي يستقيم سلوكها، فتتفوق الصحف المحترمة المفيدة على صحف المرتزقة التي تعيش طفيلية؛ لهذا لا تجد جريدة عراقية الآن علت بها السن ويرجع ميلادها إلى مطلع تاريخ صحافتنا. كما أن هذه الصحف في ظل العلم العثماني خلقتها ظروف وأوضاع وأغراض خاصة ذهبت بذهابها، وقضي عليها فور تغيير الحال، فضلا عن ندرة الصحافيين وحملة الأقلام في ذلك الطور ممن احتسبوا حياتهم للعمل الصحفي وخدمة الشعب بالقلب وما يسطرون من آراء ومبادئ.
جريدة بغداد
Página desconocida
إن أول جريدة أهلية أو شعبية عرفتها عاصمتنا سميت «بغداد» أنشأها فرع «حزب الاتحاد والترقي» العثماني، الذي قام بالانقلاب الدستوري لتكون لسانه، وعهد بإدارة سياستها إلى رئيس هذا الفرع مراد بك سليمان أخي الفريق محمود شوكت باشا أحد رجال الانقلاب المذكور، صدرت ثلاث مرات في الأسبوع باللغتين العربية والتركية، ورأس تحرير قسمها العربي معروف الرصافي، وكتب فيها الأدباء البارزون عندئذ كالزهاوي وفهمي المدرس ويوسف غنيمة وكاظم الدجيلي، وانبرت تروج سياسة الحزب الحاكم، وتبث الأفكار المؤيدة للانقلاب الدستوري.
برز عددها الأول في 6 آب (أغسطس) سنة 1908 وكتب في ديباجتها أنها «جريدة سياسية علمية أدبية أسبوعية واسطة لنشر أفكار جمعية الاتحاد والترقي»، وعرفت بأنها أقوى جريدة في أيامها؛ حتى إن منتقد «الصحافة البغدادية» قال: «إن جريدة بغداد أحسن الجرائد التي ظهرت في بلدنا إلى ذلك الموعد (سنة 1911)، سواء من حيث الفكرة والمواضيع أو حسن التعبير، وقد نشرت مقالات حرة رفيعة المستوى مستقيمة المسلك نافعة للألفة والوطن، منقحة العبارة، مهذبة الألفاظ؛ مما جعلها في مقدمة صحف بغداد ومثالا يحتذى من بعدها .»
2
غير أن جريدة بغداد بعد أن ضعف الحزب الحاكم أخذت بالتضاؤل وتركها محررها العربي، فقرر الحزب إيقافها في سنتها الثانية، مع أنها في ازدهارها كانت من أوسع الصحف انتشارا، حتى ليذكر أنها ضربت الرقم القياسي في سعة الذيوع عندما وصفت حادثة 31 آذار الرجعية المعروفة في إسطنبول، وحركة الإنقاذ التي أعقبتها والتي قضت على الحكم الحميدي، وكان يقود حركة الإنقاذ محمود شوكت باشا. وقد بلغت نسخها المبيعة ذلك اليوم ثلاثة آلاف، بينما لم يكن في تلك الأيام يعلو أكبر عدد لأية جريدة عراقية مقروءة على ألف نسخة، والبقية تنحدر إلى خمسمائة فما دون ذلك.
ثم كثرت الصحف التي وصلت إلى تسع وستين جريدة وعشرين مجلة بين أسبوعية وشهرية، ولم تكن بين الصحف يومية غير جريدة «بغداد» هذه في بعض أشهرها، وجريدتي «الزهور» و«صدى الإسلام» في سني الحرب العالمية الأولى. أما البقية فتنشر في الغالب مرة أو مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع.
ويظهر أن الحكومة العثمانية بعد أن طغى سيل الصحف لديها ورأت اضطراب حياة أكثرها من الناحيتين المادية والأدبية، وضاقت ذرعا بالصحفيين الأجرئاء عمدت إلى طريقة لتصفية الصحف، فصدر أمر وزارة الداخلية في الآستانة سنة 1911 بأن الجرائد التي أخذ امتيازها ولم تنشر حتى 5 آذار (مارس) من تلك السنة، أو نشر بضعة أعداد منها ثم احتجبت إلى هذا التاريخ تلغى امتيازاتها. وهكذا قضى وزير الداخلية التركي بشطبة قلم على ثماني وثلاثين جريدة، فلم يبق في مدينة السلام غير خمس جرائد، بينها «الزوراء» الرسمية ومجلتان.
وقد وجد المفكرون العراقيون ورجال السياسة في الصحافة معوانا لهم على الدعاية لآرائهم، فكانت صحفهم في خلال الحكم العثماني تؤيد السلطة أو تقارعها، وتتحزب لهذا الحزب أو خصمه، ولكن الظاهرة التي تلفت نظر المتفحص وتدل على معان كبيرة أن أغلب صحف العراق في ذلك الزمن كانت معارضة للحزب الحاكم، ولم يقف بجانب هذا الحزب غير جريدتين. أما بقية الصحف في بغداد والبصرة والموصل فكانت تروج لسياسة «حزب الحرية والائتلاف» المعارض «لحزب الاتحاد والترقي»، أو أن تعبر هذه الصحف عن انتفاض الشعب تحت نير الحاكم الغريب ومحاولته الإفلات، وبينها جرائد دعت للفكرة القومية ومهدت للنهضة العربية بلسان صريح وإيمان قويم.
ويسجل تاريخ الصحافة في زمن الحكم الغابر مواقف مشهودة في هذا الميدان، كما أن الصراع كان عنيفا بين بعض الصحافيين والوالي، ومرجع الشكوى وزارة الداخلية في الآستانة، وقد انتصر في بعض الحادثات الصحافي العراقي على الوالي التركي الذي كثيرا ما تذرع بسلطان دكتاتوري مخيف، كما أن روح التمرد من الظلم ومحاسبة المسئولين تغلغل في الصحف في تلك الحقبة.
ولعل صحف الفكاهة والهزل على قلتها قد قامت بدور أعمق تأثيرا في هذا المجال، وإن كان النقد الساخر ينقلب عادة - في العراق وفي الشرق العربي عامة - إلى السب والقذف، فتغدو أقلام الكاتبين مقاريض أعراض وأبواق تشنيع، مما أدى في قضايا عديدة بالصحافيين إلى أقفاص الاتهام في المحاكم ودفع بهم إلى أعمال السجون.
وبديهي عندما نستعرض تاريخ الصحافة في قطر من الأقطار في محاضرات كهذه، لا يمكن أن نسرد أسماء جميع الصحف وأحوالها، ولا سيما إذا كانت الواحدة لا تعيش أكثر من بضعة أعداد أو بضعة أشهر، كما هي حال صحفنا في العهد العثماني، بحيث صارت «اللازمة» لإحدى مجلاتنا العلمية عندما تقرظ جريدة جديدة أن تختم كلمتها بالدعاء لها بالحياة؛ لئلا تكون كغيرها تلتمع ولا تلبث أن تختفي بسرعة، فخليق بنا أن نبحث الجرائد ذات الشخصية والأثر في مجتمعها.
Página desconocida
جريدة الرقيب
منها جريدة «الرقيب» لمنشئها عبد اللطيف ثنيان أحد الوجوه والأدباء، ظهرت في 28 كانون الثاني (يناير) سنة 1909، فكانت ثالث جريدة أهلية في قطرنا
3
شعارها أنها «جريدة عربية تركية خادمة لترقي الوطن بكمال الحرية»، صدرت أول الأمر مرة في الأسبوع، ثم صارت تبرز مرتين أسبوعيا، وكان قسمها التركي صغيرا، وأكثر أعمدتها بالعربية، وتميزت بأسلوبها الكتابي وسلاسة عبارتها ونقاء لغتها بالقياس إلى زميلاتها. وقد أجمعت الكلمة على أنها أجرأ صحف وقتها وأكثرها شعورا بالواجب، وكان صاحبها يقظا على تتبع سير الحكومة وأعمالها، فما كان منها حسنا أطراه وخطأ انتقده، بحيث صح له أن يطبق ما أعلنه في مستهل أعدادها وهو يبسط خطتها قوله:
جعلنا خطة «الرقيب» حرة إلى آخر درجة، تذكر المسيء وتقبح فعله مهما كان شريفا عالما فاضلا غنيا، وتذكر المحسن وتقدر إحسانه مهما كان خاملا فقيرا بلا فرق بينهما؛ إذ بدون ذلك تذهب مزية المحسن ضحية عدم شهرته وغناه، وذلك مما يخالف العقل؛ لأن الحسنة حسنة وإن كانت من بيت الإحسان فهي الأحسن، والسيئة سيئة وإن كانت من بيت الشرف فهي أسوأ.
عاشت هذه الجريدة ما يزيد على السنتين ولم تقصر همها على السياسة، بل جالت في ميدان الاجتماع جولات، وعالجت مشكلة التربية والتعليم وحثت على التهذيب وترقية الفكر، وتناولت مسائل لغوية طريفة في إرجاع أصل الألفاظ والتعابير والأمثال العامية العراقية إلى معانيها وأصولها الفصيحة، ولصاحبها مؤلف مخطوط ثمين في هذا الموضوع استعان في مباحثه بأصول السيد محمد سعيد آل مصطفى الخليل وضعها في هذه المسائل.
ومما انفردت به جريدة «الرقيب» أنها كانت تعلق على كثير من الشئون والقضايا تعليقا يتضمن رأي الجريدة في الموضوع الذي تعالجه، على خلاف ما كانت تفعله أكثرية الصحف من نقل مقالات الغير وآرائهم. وقد ساعد على قوة الجريدة وعلو شأنها وتأثيرها المركز الذي يتمتع به صاحبها في وطنه من وجاهة وفضل.
وعني ثنيان بتقصي أحوال القطر العراقي بأنحائه؛ فهو ينشر على الدوام رسائل من الأقاليم، وتسمى عندنا «الألوية»، ببحث شأن كل صقع وفق حاجاته.
وأخذت الرقيب على عاتقها انتقاد الوالي ناظم باشا عندما حظر تقديم العرائض إلى المراجع الحكومية باللغة العربية مريدا إياها باللغة التركية، مما أساء الرأي العام، فلم يكن من الوالي إلا أن استدعى الصحافي وهدده بأن يقصم ظهره إذا تعرض لانتقاد تصرف الحكومة، فاضطر عبد اللطيف إلى السكوت.
وقد كلفت صاحب «الرقيب» جرأته ثمنا غاليا؛ إذ أصبح بتحريض من السلطة والخصوم عرضة لتهجم ذوي الأقلام المأجورة وصحف المرتزقة مما ولد مشادة عنيفة بين الطرفين انجرت إلى أبواب المحاكم، واتخذها بعض من لا ضمير لهم أساليب دنيئة في مقاومة الرجل ومضايقته، ولكنه لم يبال بهذه التضحيات وظل مواصلا نهجه حتى اضطر إلى تعطيل جريدته، واستطاع أن يفلت من يد خصمه الوالي، فقصد إلى الشام فمصر وتوجه منها إلى الآستانة، وبقي هناك إلى حين عزل الوالي من منصبه.
Página desconocida
جريدة بين النهرين
ومن الصحف البارزة جريدة «بين النهرين» صدرت في 6 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1909 باللغتين العربية والتركية، وكانت أول أمرها للتاجر يعقوب العاني إخبارية صرفة ممالئة للحكومة، ثم تسلمها محمود الطبقجلي يحرر قسمها التركي، وأناط كتابة القسم العربي بقريبه كامل الطبقجلي، وهو تاجر ذكي عشق الكتابة وعلق بالنظم وهوي الصحافة وكان حاد القلم، وفي هذه الصحيفة بدأ الكاتب إبراهيم صالح شكر وخزاته الدامية.
وجد محمود الطبقجلي في العمل السياسي وقد انتخب رئيسا لفرع الحزب المعارض «الحرية والائتلاف»؛ إذ اشتد ساعد هذا الحزب وانضم إليه فريق من الشباب النابه، بينهم حمدي الباجه جي، فجعل جريدته لسان الحزب فأقبل عليها القراء، وذاع صيتها في العراق وخارجه وطفقت تظهر ثلاث مرات في الأسبوع بعد أن كانت أسبوعية.
وعنفت معارضة الجريدة بعد أن أقصى الفريق ناظم باشا والي بغداد عن منصبه، فعاد إلى إستانبول حيث قتل بيد خصومه، فوقفت للوالي الجديد جمال باشا بالمرصاد، مع أن جمال هذا سلك مع الصحافيين طريقا تؤدي إلى التفاهم، وأخذ يؤدب لهم المآدب، ويتحدث إليهم بأنه يعظم من شأن العرب ويكبر مدنيتهم ويعرف مكانتهم في الماضي والمستقبل؛ لهذا قال في مذكراته المنشورة بعد مصرعه أنه سبق أن درس «القضية العربية» عندما كان واليا في بغداد.
وتحسب «بين النهرين» أول جريدة انتصرت للفكرة العربية ونبهت إلى نزعة الطورانية التي تشربها زعماء الاتحاديين الترك. وقد اندفع صاحبها في هذا المضمار عقب أن تلقى من شكري العسلي مبعوث الشام كتابا يطلعه على ما يبيت الحاكمون في قسطنطينية من التفريق بين عنصري الأمة العرب والترك، بوضعهم إشارة على اسم كل ضابط عربي في الجيش العثماني أو موظف في الخدمة المدنية ليحولوا دون ترقيته، فانبرى الطبقجلي يحمل على الحكومة فاضحا خططها الجهنمية بلهجة قاسية، مما دفع الجيش إلى مقاضاته في المحاكم والحكم عليه غيابا.
وبعد أن عاشت الجريدة نحو ثلاث سنوات أوقفها صاحبها لما أحس بأن عصبة الوالي ستعمد إلى أساليب مروعة من اغتيال وفتك، فودع جريدته بكلمة مؤثرة قال فيها:
أما والحياة مهددة فلأختمن حياة الصحافة والنشر قبل أن تختم حياتي.
ولم يكتف صاحب الجريدة ومحرروها بتحطيم أقلامهم، بل هاجروا إلى البصرة حيث كان حزب المعارضة قويا وملجأ أمينا للمعارضين بزعامة السيد طالب باشا النقيب.
جريدة الرياض
وها أنني أنتقل إلى التحدث عن جريدة ذات لون خاص في الصحف العراقية، بل في الصحف العربية قاطبة في ذلك الجيل؛ فقد كان يقيم في الكرخ من بغداد وجيه نجدي هو الشيخ جار الله الدخيل من أهل القصيم، يتصل بوشيجة نسب بالأمراء آل سعود وآل الرشيد، ومع جار الله وكالة لابن الرشيد في الخطة العراقية، وله تجارة واسعة وهو يهيمن على طريق البادية وقوافلها، وبإمرته أهناد الإبل يشتغل بتجارتها ويستخدمها في المواصلات يوم لم تكن في البلاد سيارات ولا قطر ولا طائرات، ولهذا الزعيم مضيف يعج برواده من البدو والحضر، فأراد أن تكون له جريدة تعضد نفوذه وتوسعه وتخدم تلك الأصقاع المجهولة في عالم النشر يومئذ، وسهل مهمته ابن أخ له شاب نابه «سليمان الدخيل»، جاء من بغداد من القصيم ودرس على بعض الأساتذة منهم محمود شكري الألوسي، واتصل بالطبقة المفكرة والمشتغلين بالسياسة، فأصدر جريدة «الرياض» متخذا اسمها من قاعدة نجد، واستعان بطالب نجيب في المدرسة الإعدادية ذي موهبة كتابية اعتاد أن يترك مدرسته ويعيش في مكاتب الجرائد هو إبراهيم حلمي العمر.
Página desconocida
ظهرت جريدة «الرياض» في 7 كانون الثاني (يناير) سنة 1910 أسبوعية عربية اللهجة أدبية المشرب، وإن لم تكن قويمة اللسان ولا مشرقة البيان، إلا أن صفتها التي انمازت بها هي العناية الفائقة بأخبار نجد وجزيرة العرب وإمارات الخليج العربي.
ويجب أن نعترف ونحن نحلل تسرب الفكرة العربية إلى الأذهان في حكم الترك الذين لم يكونوا يريدون للنزعة القومية انتشارا، بأن «الرياض» خدمت «القضية العربية» بما أحدثت من كثرة الضجيج والكتابة عن قلب الجزيرة وينبوع العروبة؛ فقد أذاعت الأحاديث عن العرب المعاصرين وقبائلهم ومنازلهم ومنازعاتهم وغزواتهم وحربهم وسلمهم بنطاق واسع، أثر على العقول ولفتها إلى هذه الرقعة من العالم العربي.
وليس عليكم بعد ذلك أن تدققوا أو تلحفوا في تمحيص صحة ما ترويه صحيفة «الرياض» من أخبار الإمارات العربية وسلطات الخليج وزعامات البوادي، فالمبالغة بادية عليها، ولكن هذا لا يهم الكاتب أو الناشر، إنما المهم أن أكثر مروياتها تشيع في عالم الصحافة، فتتناقلها الجرائد في العراق والشام ومصر. وقد تشغل بعض مروياتها من هذا اللون أسلاك البرق ودواوين الدولة العثمانية أياما بل أشهرا، بينما يكون الحادث من أساسه من مبتدعات خيال مدير «الرياض» أو محررها.
ولم يقف سليمان الدخيل عند الصحافة السياسية والأسبوعية، بل أنشأ مجلة «الحياة»، شهرية وأسس دار طبع ونشر، فنشر موجز «عنوان المجد في تاريخ نجد» لابن بشر، وألف ونشر «العقد المتلألئ في حساب اللآلئ» عن صناعة الغوص على اللؤلؤ في الخليج وقيمته، ومن أعجب حوادث نشر هذه الدار أنها طبعت كتاب «حساب الجفر» منسوبا إلى «ابن العربي» فتلقفته الأيدي وذاع بين القراء ودر على الدار أرباحا، وحقيقة الكتاب من نتاج مكتب تحرير «الرياض» أوحته قريحة سليمان أو إبراهيم أو أحدهما.
جريدة مصباح الشرق
ومن الجرائد التي ساهمت في خدمة النهضة القومية على ضفاف دجلة والفرات «مصباح الشرق»، أنشأها عبد الحسين الأزري الذي أصدر أول الأمر جريدة «الروضة» أدبية، ثم «مصباح الشرق» «فالمصباح» «فالمصباح الأغر»، صحف سياسية تتعطل الواحدة فيقيم الأخرى مكانها، وهي جريدة باللسان العربي وحده، أسبوعية بدا نورها في غرة آب (أغسطس) سنة 1910، وكان انتقادها ذا وقع أليم على السلطة، فصارت تتربص بصاحبها حتى إذا سبق غيره من الصحافيين في إذاعة مصرع فريد بك والي البصرة في اغتياله السياسي المعروف بتأثير حزب المعارضة هناك اتهمته بأن له ضلعا في معرفة المؤامرة مقدما، وحاكمته وحكمت عليه بغرامة، واستمرت الجريدة تصدر إلى أن اعتقل منشئها في الحرب العظمى الأولى وصودرت مطبعته.
جريدة الرصافة
ومن الصحف الجريئة «الرصافة » لصاحبها صادق الأعرجي، ظهرت في 17 حزيران (يونيو) سنة 1910، فلما عطلتها الحكومة بعد عام استعاض عنها بجريدة «الصاعقة» التي كان قد بدأ ينشرها مؤسسها عبد الكريم الشخلي في 8 حزيران (يونيو) سنة 1911. وقد غضب الوالي مما نشرته في عددها الجديد بعد هذا التحايل، فأوعز إلى أحدهم من الدهماء بشكوى الأعرجي إلى المحاكم بتهمة ملفقة، فأوقف الكاتب في السجن، فأهاج هذا الظلم إحساس الناس، فتجمهر خلق كثير في سراي الحكومة احتجاجا على اعتقال الكاتب المقدام. وقد شجع هذه الحركة الوجيهة عيسى الجميل الذي يتمتع بزعامة شعبية، فأبرق بالمضابط إلى قاعدة السلطنة «إستانبول» فصدر أمر وزارة الداخلية بالإفراج عن الصحفي المضطهد.
جريدة النهضة
وتفاقمت النعرة القومي عند أهل بغداد، ولا سيما بعد انعقاد «المؤتمر العربي الأول» في باريس سنة 1913، وكثرت الجمعيات السياسية السرية والعلنية في أنحاء الإمبراطورية، وقوي ساعد المطالبين باللامركزية وإبراز شخصية الأمة العربية وكيانها، فنهض فريق من الشباب المتوثب فأسس «النادي العلمي الوطني» ببغداد، وتقدم أكثر العاملين فيه حماسة مزاحم الأمين الباجه جي، فأصدر جريدة «النهضة» في 3 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1913، فإذا هي الصحيفة القومية الفذة بين زميلاتها، جهيرة الصوت بليغة التعبير في محاسبة الحكومة العثمانية، والمناداة بحقوق العرب، وعهد بتحريرها إلى إبراهيم حلمي العمر محرر جريدة «الرياض»، فتجلت فيها مواهبه الكتابية وطارت شهرته، إلا أن الحكومة لم تتحمل لهجتها النارية فعطلت بعد عددها الحادي عشر، وهرب مؤسسها ومحررها إلى البصرة لاجئين إلى طالب باشا النقيب، حيث اجتمع نفر من حملة الأقلام والصحفيين البغداديين منهم غير من ذكرنا رشيد الهاشمي الشاعر الكاتب وصادق الأعرجي ومحيي الدين الكيلاني صاحب جريدة «النور».
Página desconocida
جريدة الإيقاظ
ولم يقتصر الجهاد الصحفي على بغداد في تلك الأيام، بل شاركتها بعض الحواضر منها البصرة، فأول صحيفة أهلية فيها جريدة «الإيقاظ» التي أصدرها المحامي سليمان فيضي الموصلي في 2 أيار (مايو) سنة 1909، وهي جريدة أدبية إخبارية وطنية كما كتب عليها: تنشر مرة في الأسبوع بأربع صفحات بالعربية والتركية. وكان مديرها المسئول ومحرر القسم التركي فيها مكتوبي زاده عمر فوزي المحامي.
كتبت في العدد الأول بعنوان «سبب النشر وبيان المسلك» كلمة جاء فيها:
حيث إن البصرة دون سائر البلاد العثمانية خالية من جريدة تحرك همم ساكنيها وتنشر جميل ذكرها، غير جريدة الولاية «بصرة»، وهي لانشغالها بالأمور الرسمية لا تلتفت إلى شيء من ذلك، بادرنا لإصدار جريدة عربية أسبوعية معنونة باسم «الإيقاظ» تفاؤلا بإيقاظها الوطن من غفلة رقاده وإنهاضا له من حضيض وهاده.
وقد التزمنا من أن يكون مسلك جريدتنا هذه نصرة المظلوم والأخذ بيد المحروم ونشر أعمال المحسنين، وشهرة أفعال المسيئين والحفظ لحقوق الوطن وأبنائه والمبادرة إلى كل ما يعود بترقيته وإعلائه، سالكين في كل ذلك منهج الحق باذلين الجهد في توخي الصدق، قابلين لنشر المقالات الواردة إلى محل إدارتنا من داخل الولاية، أو خارجها سياسية كانت أو أدبية أو فكاهية، بشرط أن تكون خالية من الدسائس النفسانية والأغراض الشخصية ... إلخ.
وقد قال في العدد البكر بعنوان «البدء بالمشروع» بعد الديباجة والدعاء:
فهي جريدة أدبية إخبارية وطنية، ولا يخفى وجه التسمية الإيقاظ على من له في العربية أدنى إلمام، بل هو بقرب مأخذه موضوع على طرف الثمام ... إلخ.
ملاحظة : كثيرا ما كان يستخدم الصحفيون في العهد التركي عبارة «وطنية» تمييزا لجرائدهم من الصحف الموالية للحكومة، وانتقلت هذه العدوى إلى بعض الصحف التي صدرت بعد الاحتلال البريطاني، وإلا فهل الصحف الأخرى «خائنة» حتى تنعت هذه بالوطنية بلسان الجريدة نفسها.
وطبيعي أن هذه الجريدة رغما عن مبدأها الحر، كانت تسبح بحمد السلطان وتذيع أخبار الحزب الحاكم، واهتمت بالأخلاق العامة والآداب الإسلامية، ودققت في نشر أخبار إقليم البصرة.
ومن فنون الكتابة فيها حوار قصير بعنوان «مصاحبة» - وهو اصطلاح تركي - يتناول بالنقد والتنبيه أمورا اجتماعية أو نواقص في الدوائر الرسمية. وقد هاجمت جريدة «إقدام» التركية في الآستانة لطعنها في «العنصر العربي».
Página desconocida
وحث سليمان فيضي في جريدته على التعليم، وطالب بمجانيته وبخاصة التعليم الصناعي، وكتب في ذلك سلسلة مقالات إصلاحية داعيا إلى العمل والنهوض حول «معنى الإيقاظ» اسم الجريدة، ودافع عن نشر اللغة العربية في الدواوين ومعاهد التعليم، وحلى بعض الأعداد بصور كاريكاتورية، ولكنها بدائية من حيث فن التصوير.
يقول صاحبها في «مذكراته»: إنه أوقفها في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1910 بسبب سفره إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، مع أن الجريدة لقيت رواجا في داخل البلاد العراقية، وكان لها مشتركون في إمارات الخليج والحجاز والهند وسنغافورة.
جريدة التهذيب
وهنالك جريدة بصرية أخرى هي «التهذيب» أنشأها محمد أمين عالي باش أعيان، سياسية علمية أدبية أخلاقية، تنشر مرة في الأسبوع باللغتين العربية والتركية، برز عددها الأول في 1 حزيران (يونيو) سنة 1909. وقد كتبت مقالات افتتاحية عدة في تشجيع تعليم المرأة وتهذيبها، وطالبت بتعريق شركة الملاحة الإنكليزية «لنج»، كما ألحت على وجوب تأليف مجلس الإدارة لولاية البصرة، وحث القوم على التبرع للأسطول العثماني.
وكان إنشاؤها ركيكا، وكثير من افتتاحياتها مقتبسة من صحف مصر والشام. وقد عطلها صاحبها في شهر آزار (مارس) سنة 1910.
جريدة الدستور
ومن الصحف جليلة الخطر في البصرة جريدة «الدستور» التي أسسها أولا عبد الله الزهير في 22 كانون الثاني (يناير) سنة 1912، فلما أصبح عضوا في مجلس النواب العثماني انتقل امتيازها إلى عبد الوهاب الطباطبائي فنفخ فيها روحا جديدا، وتضافر على الكتابة فيها نخبة من أدباء الثغر، منهم أخواه عبد المحسن وعبد العزيز الطباطبائي وإسماعيل السامرائي، وكانت لسان الحزب المعارض. وقد جلب لها الحزب مطبعة من أوروبا مما لم يفعله حزب سياسي آخر في عراقنا، وغدت دار الجريدة ندوة لأحرار الكتاب والسياسيين من البصريين، أو من كان يهرب إلى البصرة من البغداديين فرارا من إرهاق الحكومة وضغطها.
ولما عطلت «الدستور» صدرت باسم «صدى الدستور»، وبقيت مثابرة على خدمة النهضة الفكرية، ومن مقالاتها الرنانة التي كتبها أحد محرريها سليمان فيضي صاحب جريدة «الإيقاظ» التي تحدثنا عنها بعنوان: «الجاسوسية في عهد الحرية» وقد هزت السلطة هزا، وكان لكتاباتها تأثير عميق في الرأي العام، وبقيت تنشر إلى احتلال البريطانيين البصرة في كانون الأول (ديسمبر) سنة 1914.
لما زار الشيخ محمد النبهاني البصرة وتفقد أحوالها قال عن الصحافة فيها:
أنشئ في البصرة بعد إعلان الدستور العثماني نحو إحدى عشرة جريدة أرقاها «المنير» ثم «آتي» ثم «التهذيب» ثم «الفيحاء».
Página desconocida
4
جريدة نينوى
وما عرفت الموصل الصحافة الأهلية قبل جريدة «نينوى» التي صدرت في تموز (يوليو) سنة 1909 لصاحبها فتح الله رسم ومديرها المسئول محمد أمين الفخري، وكان يكتب فيها علي حكمت، وهي علمية أدبية سياسية تصدر مرة في الأسبوع باللغتين العربية والتركية. وقد عرفت باعتدالها في سياستها وتحاشي إغضاب الحكومة.
جريدة النجاح
فلما أسس فرع «حزب الحرية والائتلاف» المعارض في الحدباء أصدر جريدة «النجاح» صاحب امتيازها محمد توفيق، وكان يكتب فيها «خير الدين العمري»، ظهرت في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1910 (1328ه) وبقيت تصدر سنة ونصف سنة ثم أوقفها صاحبها. •••
يلاحظ مما تقدم أن معظم الجرائد التي صدرت في العراق في العهد العثماني تكتب باللغتين العربية والتركية - لغة الدولة الرسمية - وبعضها تركية بحتة، وبينها جرائد باللغة الفارسية.
ولغة هذه الصحافة في فجر حياتها تشوبها العجمة، وأسلوب الكتابة فيها ضعيف مهلهل وعباراتها مشحونة بالأغلاط اللغوية والنحوية، بحيث اهتاج عالم لغوي عراقي كبير، فقال في وصف لغة الصحافة في الحكم التركي:
كانت لغة جرائد بغداد في العهد العثماني خليطا من جميع اللغات التي بها متكلمون في الزوراء، فترى فيها التركية والكردية والفرنسية والإنكليزية والهندية والفارسية، ولغة مؤلفة حروف ألفاظها من كل هذه اللغات معا أو من بعض منها.
هذا من حيث اللغة والأسلوب. أما من ناحية الموضوعات، فمن البداهة بمكان أن شيوع الأمية شيوعا مريعا في ذلك العهد، والتخلف الثقافي جعلا وجود الكتاب نادرا جدا، والصحافة صناعة خاصة لا يخوض غمارها إلا من يتمتع بموهبة لمعالجة الكتابة السياسية ونحوها، ولم يكن يقدم على الكتابة في الصحف في الفترة التي نبحث عنها حملة العلوم الدينية وأشياخ التدريس والفقهاء؛ إذ إن الكثيرين منهم كانوا يرون الكتابة في الجرائد السيارة مزريا بصاحبها، وبعضهم يعتقد أن هذه الصحف لا تنشر إلا الأكاذيب، فهم يربئون بأنفسهم أن يساهموا في التحرير فيها.
كما أن خصاصة أصحاب الصحف جعلتهم عاجزين عن أن يدفعوا أجورا للكاتبين إذا وجدوا، فتجد الواحد منهم يجمع في شخصه بين المالك للجريدة ورئيس التحرير والمخبر ومدير الإدارة. وقد يكون الموزع أيضا.
Página desconocida
عزا باحث في مجلة «دار السلام» تأخر الكتابة الصحفية في العراق إلى سببين:
5
الأول:
تعهد الحكومة العثمانية في المدارس إهمال تعليم اللغة العربية، فيخرج الطالب منها لا يعرف لغته نافرا منها.
الثاني:
أن الانقلاب الدستوري العثماني بإفساحه الحرية للصحافة سهل للعوام الصرف إنشاء صحف عامية في العراق، جعلوها واسطة تعيش واتجار، فتمكن الأغبياء من التطاول إلى مقامات العلماء، وتسلق مقاعد الكتاب والأدباء، فأخذت تلك الصحف الساقطة تمثل ملاك الأمة الأدبي بما لا يزيد عليه من السقوط، ولا غرو إذا كان موضع سخرية الأمم الراقية، وذلك هو الذي منع جماعة كتابنا من ترويجها واعتضادها، مع أن في زوايا العراق ثلة من كبار الكتاب وقد عرفوا بآثارهم في صحف مصر والشام.
والغريب أن هؤلاء الأدباء الذين يشير إليهم الكاتب كمحمد حبيب العبيدي والزهاوي والرصافي والشبيبي كانوا ينشرون قصائدهم ومقالاتهم في صحف الخارج فتنقلها صحف بغداد عنها.
ولكنني رأيت خير الدين العمري يقول في مذكراته «المخطوطة»
6
وهو ممن زاولوا الكتابة والصحافة في العهد العثماني، واشتغلوا بالسياسة والإدارة بعدها:
Página desconocida