وهذا النوع من الاستعارة يسمى الإرداف؛ وهو أن يريد الشاعر الدلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الذي يدل على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له. فإذا دل التابع دل على المتبوع ومثل ذلك) قيد الوابد (وذلك أنه أراد وصف الفرس بالسرعة وانه جواد إذا أرسلته على الصيد كالقيد لها وكانت كالمقيدة له؛ وذلك أن وشك سبقه ومعية إحضاره، يتبعها أن تكون الأوابد كالمقيدة له. وحقيقة) قيد الوابد (، مانع الأوابد وحابسها.) قيد الوابد (، أبلغ وأحسن وقيل المنين للأسير، وقيل في وصف الفرس قيد الرهان، وقيل: النواظر قيد الخواطر وقيد العيون، وكل ذلك تركيب على لفظ الفرس.
ومن الاستعارات قول الأعشى:
فإنّ عتاقَ سوْفَ تزَوركمْ ... ثَناءَ على أعجازهنّ معَلقّ
به تنُفضُ الأحلاسُ في كلّ منزلٍ ... وتعقدُ أطرافُ الحبالِ وتطُلقُ
وقال تأبط شرًا:
فخالطَ سهلَ الأرْضِ لم تكدحَ الصَفا ... بهِ كَدحةً والمْوتُ خَزْيانُ ينظرُ
ومن بديع الاستعارة قول الهذلي:
ولوْ أنّني استوْدعتهُ الشمسَ لارْتقتْ ... إليهْ المنًايا عينُها ورَسولهاُ
وقولُ ابن هرمة، وأحسنُ ابن هرمة كل الإحسان:
فقلتُ إما تَرينيْ قد تخَوّنني ... دهْر أشَتُ بهذا الناسِ مقلوبُ
قد روّحَ الشيبَ في رأسي غريبتهُ ... فما لهُ عن شواةِ الرأس تغريبُ
فقد أجرُ فُؤادي فضْلَ مقودِهِ ... وتتقىّ عبَرتي البيضُ الّرعابيب
وقالُ ابن الرقاع:
وهنْانةُ تسَتعرّ القْومَ أعينُهمْ ... حتى ترُدّ إلى ذي النيقةِ النَظرا
فقال أبو الطيب: هذا كله إغراق وغلو وبعد عن الحقيقة. وأراك علقًا بهذا المذهب من الشعر، دون ما سلمت ألفاظه، وصحت عند التأمل معانيه فإذا ورد عليك شيء من جنسه، وإن كان بهرجًا قدمته وألغيت غيره. فقلت له: هذا قول من لا يفرق بين الاستعارة والحقيقة ولا بين الغلو والمبالغة. فقال: وهل بين الغلو والمبالغة فرق؟ فقلت: كل الفرق قال عنترة يصف فرسه:
فازْورَ منِ وقْعِ القَنا بلبانهِ ... وشكا إليَ بعبرةَ وتحمُحمِ
فجعل اشتكاء الفرس إليه، إذ كان من لحيوان الذي ينطق بحمحمته وعبرته دون النطق والعبارة. فلم يخرجه عما هو له، ثم كشف المعنى في البيت الأخير فقال:
لو كان يدري ما المحاُورةُ اشتكىَ ... ولكانَ لوْ علمَ الَكلامَ مكَلميَ
وقد أخذ هذا المعنى بشارّ بن برد وأحسن بقوله:
ولّما تَولىّ الحرُ واعتصرَ الثَرىَ ... لظىَ القيَظِ من نجمٍ توَقّدَ لاهُبهْ
وطارتْ عصَافيرُ الشقّائقِ واكتسَىَ ... منَ الآلِ أمثالَ المجرَةِ قاصبُهْ
غدَتْ عانَةُ تَشكو بأبصارِها الصدَى ... إلى الجأبِ إلاّ أنّها لا تخاطبُوْ
فهذا المبالغة في الوصف من غير عدول عن الحقيقة. ونحوه قولُ ابن هرمة واصفًا كلبًا
يكادُ إذا ما أبصرَ الضَيفَ مقبلًا ... يُكلمهُ من حبّهِ وهوَ أعجمُ
فقرن بهذه المبالغة) يكاد (. فأخرجه عن الغلو الذي يبتعد عن الحقيقة. وانظر إلى قول المثقب العبدي في هذا المعنى حاكيًا عن ناقته ما يبعد كل البعد عن الحقيقة:
تَقولُ إذا درأتُ لها وضينيَ ... أهذا دينهُ أبدًا وديني
أكلَ الدّهر حلُ وارتْحالُ ... أما يبقي علي ولا يقيني
فهذا هو الغلو البعيد ن الحقيقة. وإنما ذهب إلى أن الناقة لو تكلمت لأعربت عن شكواها بمثل هذا القول. وبعض أصحابنا يجري هذا ونظائره في باب المجاز.
1 / 28