وكانت الجماعة الحاضرة تستخدم أقلامها في تعليق أوائل الأبيات التي جرت المنازعة فيها، وتراعي مواقع احتجاجاتي واحتجاته، وتثبته رمزًا ووحيًا وكان جمعيه نصب عيني، وله كالمرآة من حفظي. فحين نهضت عن المجلس، ولم أنض إلا بعد راجعت جميلًا في خطابه، وأطنبت في تقريظه، وفي تعفية أثر عقوبتهن وفي إلانة جانبي له. واتبعني القوم راغبين إلي في نظم ما جرى وضم شيته، والرجوع إلى ما ثبت في تعليقهم من جملته، واستمداد قريحتي في ذكره، وإنشاء رسالة أنبه في أثنائها عن أمره. وكان النهار قد تصرم شبابه، وشابت هرمًا ساعاته، وكربت الشمس للمغيب وضرعت للأفول. وامتد عنان المشاجرة، واستفحل الأمر عن المذكرة، فلم تتسع القدرة في الحال لنظم الرسالة. واستصحبت ما ثبت في صحفهم، وعدت إلى داري فاتخذت الليل مطية ثلاث ليال لا أطعم فيهن الكرى، إلى أن تغور أخرى النجوم، وتتولى أسراب الظلام ويبتسم الصبح، إلى أن انتظمت الرسالة. وقدت ثلاثًا أقعدتها أسهرهن نافيًا عن عيني الكرى إلى أن يمزق الفجر سربال الدجى، ويبسم ثغره في ثغرة الضحى. ونمي الخبر واشتهرت الحال، ونودي بها في كل ناد. ورسم الوزير أبو محمد والرئيس أبو الفرج محمد بن العباس - وإياه خاطبت هذه الرسالة وأمره المسموع في نظمها امتثلت - وهما كوكبا المملكة وناظرا الدولة، شرحها فشرحتها، وأنهيا الصورة إلى معز الدولة فأنعمت في مسرته، ووكد الوصاة بمراعاتي والتكرمة الشديدة لي ثم رأى الوزير أبو محمد الجمع بيننا في مجلس، وأن تكون مراجعته الكلام ومناقلته إياه بحضرته. وأنا مورد ذلك مجلسًا مجلسا على هيئته. فإن أبا محمد المهلبي رسم لإثباته كاتبين من خواص كتابه، ووكد القول عليها في الاحتراس من أن تشذ واحدة منه؛ فحصلا ذلك تحصيلًا شديدًا. وكان ممن شاهد الحال، وأبدى صفحته في الظاهرة والتنبيه عن مواقع إحساني في تلك المفاوضة والمنازلة: هبة الله بن المنجم، وهو من الأدب بحيث لا يخرج مشهده، وعلي بن محمد الشاعر المعروف بابن البقال، وله مكانه من الفضل. وأنا أذكر إن شاء الله ما شجر بيننا، وأشفعه بما تعلقت به عمله من سرق وإحاله، ومن لفظ هجين ومعنى فاسد، وأومئ إلى مواضع أحسن فيها من شعره، وأنبه على معان يكاد يكون مخترعًا لها، وعلى معانِ أخذها فأحسن العبارة عنها والزيادة فيهًا، متصرفًا الحق في جميع ما أفضي به، لتكون هذه الرسالة جامعةً مستوعبةً قناع اللبس في أمره، وخاتمة الدعاوى والتحامل عليه بحول الله وقوته.
استحضر أبو الطيب وجماعة من أهل العلم. وحضرت مجلس الوزير أبي محمد المهلبي ورسمت مناقشته. فأبدى تنكرًا وتنمرًا وإباء وامتناعًا، فألنت له جانبي، ثمتَ أعجلته القول وسألته عن قوله:
) أُحَادُ أمْ سُداَسُ في أُحادِ ... ليْلتناُ المنُوط بالتّنادِ (
وقلت: ما أردت؟ فقال: أرادت أليلة واحدة أم ست ليالٍ في ليلة، استطالة لها واستبعادًا لمداها. فقلت: أجل وأراك نظرت فيه إلى قول الأول:
لقد طال هذا الليلُ حتى كأنه ... بلَيلَينِ موْصوليَنِ ما يتزحزَحُ
وإلى قول الآخر:
وليلٍ أبيَ أن يُسفرَ الصّبح والدُجى ... ترَدّدَ منه بيَنَ عجَزٍ وأولِ
كانَ بَهيَم اللّيلِ أعمىْ مقيدُ ... تحيَرَ في تيهٍ من الأرْضِ مجَهلِ
كأنّ الظّلامَ حِنَ أرْخى سدُوله ... بنَجْدٍ على ليلٍ بلبلٍ موُصلًِ
وقد قال عدي بن الرقاع في هذا المعنى:
وكأنّ ليَلي حينَ تغَربُ شمسهُ ... بسوَادِ آخرَ مثِلهِ موْصولُ
وإلى هذا المذهب الفرزدق بقوله:
ولَيَلةِ يوْمٍ مُرْجحنٍّ ظلامهاُ ... سواء عليناَ طوُلهاُ وهموُمهُا
كأنّ بها الأيامَ والليْلَ وصلًا ... وظلماءَ مسُودًا علينا بهَيمها
وأحسن بشار كل الإحسان:
خلَيليّ ما بالُ الدّجىَ لا تَزَحزح ... وما بال ضوْءِ الصّبحِ لا يتوَضّحُ
أضلّ النّهارُ المسُتنيرُ سبيله ... أمِ الدّهرِ ليلُ كلهُ ليسَ يبرَحُ
1 / 29