يريد الجعاد القصار. وذكر الباهلي أنه وصفهم بالجبن، لأن الجبان تسود عينه عند الكرب. ويقال: فلان جعد الراحة، إذا كان بخيلًا وأنشد:
سبْطُ البنانِ بما في رحلْ صاحبهِ ... جعدُ البنانِ بما في رحلهَ قططُ
ويقال: فلان جعد الراحة إذا كان بخيلًا، وجعد الخلق إذا كان ضيق الخلق، وجعد اليد إذا كان قصير الأصابع. والذئب يكنى أبا جعدة، من أجل تقبضه. وشعر جعد من هذا، وأنشد:) سبط البنان. . . (وذكر البيت. ومما أخذته فبترت معناه وأفسدته قولك:
) مُبرْقعي خيلهمْ بالبيضِ متخذي ... هامِ الكماةِ على أرماحهم عذبَاَ (
من أجل أن الهام لا تشبه بالعذب في حال على القنا، إلاّ إذا كانت ذات لمم وضفائر، وإلاّ فهي مشبهة بالتيجان. ألا ترى قول أبي تمام، ومنه استرقت المعنى فأحلته:
من كلّ ذي لمةّ غطّتْ ضفائرهُ ... صدرَ القناة فقد كادتْ تُرىَ علماَ
فاللمة بالعذبة واقعة التشبيه، والهامة مشبهة بالتاج حتى يصح التمثيل.
وقد قال مسلم بن الوليد في تشبيهها بالنيجان:
يكسْو السًيوفَ نفُوس اَلنُاكثينَ بهِ ... ويجَعلَ الهام تيجانَ القَنا الذُبُلِ
ومسلم أخذه من قول الأول:
كأنّ رؤوسَ القوْمَ فوْقَ رِماحنا ... إذا أشرعتْ تيِجانُ كسرَى وقيصَرا
وما كلّ هامة بذات لمة، وإن لم يكن ذات لمة أو ضفيرة فلا حظ لها في التشبيه بالعلم. قلت: وأخطأت أيضًا في قولك مع ضعف لفظك وسخف عبارتك:
) ذي المَعالي فليعَلُونْ منَ تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا (
) شَرفُ ينطحُ النّجومَ بروْقيهِ ... وعزُ يقُلقلُ الأجباْلا (
فإنّك أغرت في البيت الأول على بكر بن النطاح في قوله:
يَتَلقىّ النّدى بوجهٍ ... وصدورَ القناَ بوجه وقاحِ
هكذا هكذا تكُون المعاَلي ... طُرقُ المَجد غيرُ طرقِ المزاحِ
فقولك) فلا لا (ركيكة جدًا، وأنت تعجب بتكرير هذه اللفظة قال: وكيف؟ قلت: ألست القائل:
) جوابُ مسُائليِ ألهُ نظيرُِ ... ولا لك في سؤالك لا ألا لا (
وأخذت البيت الثاني من قول أبي تمام فأفسدته:
همّةُ تنطحُ النّجومَ وجدَُ ... آلفُ للحضيضِ فهوِ حضيضُ
قال: وبأي شيء أفسدته؟ قلت: لأنك جعلت لشرف الرجل قرنين. قال: وما يدريك؟ قلت تقل ينطح النجوم بروقية، والروقان القرنان؟ قال: أجل إنها استعارة. لعمري إنها وإن كانت استعارة، ولكنها استعارة خبيثة جارية في المعاظلة التي نفاها عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه، عن زهير، وذكر اجتنابه إياها، فقال: كان لا يعاظل بين الكلمتين، أي يداخل الكلمة، إذا لم تكن إحداهما من جنس الأخرى، ولا كانت مناسبة لها ولا مشتقة منها. ويقال: تعاظلت الجرادتان، إذا ركبت إحداهما الأخرى وتداخلت فيها. ومن مليح أبيات المعاني:
أخذَوا قسيَهمُ بأيْمنهمْ ... يتعَاَظلونَ تعاَظُلَ النَملِْ
يقول: نقد النبل وفنيت السهام وأخذوا القيسيَ بأيمنهم يتضاربون بها ويتجالدون، وداخل بعضهم بعضًا كتراكب النمل وتداخلها، لأن الرمي إنما يكون باليسار. والمعاظلة المذمومة أحسن الاستعارة كما قال أوسُ ابن حجر:
وذاتُ هدِمٍ عارٍ نواشرُها ... تصمتُ بالماء توْلبًا جدَعاَ
فجعل للمرأة تولبًا، والتوب ولد الحمار كما جعلت أنت للشرف قرنين. وهذا من أبعد الاستعارات وأشدها مباينة لمذاهب حذاق الشعراء. وقد تقدم القول في أنواع الاستعارة وإن أرعيت لما أقوله سمع منصف، علمت أن مواجهة ملك من الملوك كسيف الدولة، مع عظم شأنه ونباهة سلطانه واشتماله بشمائل الكرم دون كثير من ملوك زمانه، بمثل ما واجهته به من تلك الاستعارة، من معاظم الأمور التي لا يقدم عليها من راضته الحنكة وثقفت كلامه الروية.
وكل استعارة لطيفة، وتوجب بلاغة بيان بالحقيقة غير نائبة منابها، لأن الحقيقة لو قامت مقامها لكانت أولى بها من الاستعارة. ألا ترى إلى قول امرئ القيس
وقد أغتدي والطيرُ في وُكناتهِا ... بمنجَردٍ قيَدِ الأوابد هيكلِ
1 / 27