وقول القائل: لا أدري كما قال العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي خير من أن يقال له أخطأت. وقد عد ذلك من جملة مآثر ذوي العلم وأدلة كماله فيهم، حتى إن السيوطي عقد بابا في كتاب من مؤلفاته في من سئل من العلماء عن شيء وقال: لا أدري. فذكر عدة من مشاهيرهم كالأصمعي وابن دريد والأخفش وأبي حاتم ... وغيرهم من أهل هذه الطبقة. قال الزعفراني: كنت يوما بحضرة أبي العباس الثعلب فسئل عن شيء فقال: لا أدري.
فقال له بعض من حضر: أتقول لا أدري وإليك تضرب كبار الإبل وإليك الرحلة من كل بلد؟ فقال: لو كان لأمك تمر بقدر لا أدري لاستغنت، وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل له: فبأي شيء تأخذ رزق السلطان؟ فقال: لأقول فيما لا أدري: لا أدري.
ويقرب من ذلك ما حكاه بعض علماء العصر من الفرنسيس قال: إن إحدى خواتين الأشراف تصدت يوما لأحد مشاهير العلماء في مجلس حافل، فقالت له: أمطر يكون بعد الهلال أم صحو؟ فقال: لا أدري. قالت: إذا ما علة اتصال الغيث في هذا العام؟ قال: هذا مما لا نعلمه، قالت: أتظن سكان المشتري يكونون على خلقنا؟ قال: أيتها السيدة إني لا أعلم شيئا عن ذلك. قالت: يا عجبا فلم يتبحر المرء في العلم إذا؟ قال: ليقول أحيانا إنني لا أعلم شيئا.
فلنتساهل إذا في الدين، إذ إننا لا ندري، والذي يدعي المعرفة هو هو الذي لا يدري بأنه لا يدري بل يخبط في الأمور خبط عشواء، فليبق كل على دينه إذا دله عقله على صحته بعد التنور الكافي والترفع عن الأهواء ولا ينتظرن أحد رؤية دين غير مستصوب بتمامه كما يرى الحقائق الرياضية والعلمية مثلا مما هو مستصوب بتمامه.
ولتجمعنا الوطنية إذا فرقنا الدين والله لا يريد التفريق.
لا تأخذوا كلامي على غير مأخذه ولا تحملوه على غير محمله وتقذفوا علي - لحق ظاهر - بكلمة فتقولوا: وا أسفاه! على من لا يعرف الدين الصحيح. فإن قلتم ذلك فأنا أنشد معكم قائلا: أسفا على العالم بأسره ما أكثر الضلال فيه، واصغوا إذا شئتم لأقص عليكم رؤيا رأيتها ذات ليلة، وكنت قبل ذهابي إلى الفراش أترصد النجوم والكواكب وأستطلع طلعة البدر تحدجني السماء بعينها الزرقاء وأتأمل في ما رصعتها به يد القدير من الدراري الزاهرة كالمصابيح الباهرة.
حدث لي ذلك لما كنت في جبل لبنان الجبل العزيز الذي كثرت فيه الخرافات وتعددت بين سكانه البسطاء المذاهب والديانات. الجبل الذي ترى فيه أكثر جهاته الشمامسة والكنائس والأديرة والقلانس، الجبل الذي ابتزت خيراته الكثيرة رؤساء الدين والدنيا وكثرت فيه خيرات الرهبانيات العديدة وضاعت بين كيس هذا وجراب ذاك، وملكت أرزاقه الرهبانيات العديدة الوطنية والأجنبية، وفي مقدمتها الرهبانية اليسوعية.
كنت في تلك الليلة أتأمل في الكواكب والبدر والثريا ودرب التبان التي تدعى أيضا نهر المجرة، وقد شبهتها بدرب التساهل على الأرض؛ لأنها بيضاء نقية تسري بها النجوم في مناطقها لا تلتطم فهن مؤتلفات مفترقات لا تتساقط منها الشهب ولا تتنافر أجرامها في دورانها.
فلكثرة تأملي في الخالق والعزة الإلهية في تلك الليلة البهية حلمت بأني صعدت إلى السماء حيا في مركبة من نار، ولما دخلت تلك الجنة الإلهية التي يعجز عن وصفها بيان الإنسان رأيت هناك عرشا مرتفعا عظيما ينبهر النظر منه لشدة تألقه ولمعانه، ورأيت أمام ذلك العرش أربعة رجال منتصبين ممتثلين أمام الديان العظيم كل منهم يرشق الآخر بنظرة الغضب والبغض فسألت أحد الملائكة عنهم، فأجابني قائلا: إن هؤلاء هم ممثلو أديان العالم في السماء فهذا سفير المسيحية، وذاك سفير الإسلام، وهذا سفير البوذية، وذاك سفير اليهودية. فقلت: وماذا يبتغون من العزة الإلهية، فقال: قد أقلقوا راحة الملائكة وسكان هذه الديار بخصوماتهم واختلافاتهم المتواصلة وجاءوا الآن يستغيثون رب السماوات والأرض، وبعد أن تشاغبوا وتشاكسوا وأوشك أن يفضي بهم الأمر إلى القتال نظر الديان العظيم إليهم برأفة وحنان وقال: كلكم يا أبنائي صادقون، كلكم صادقون.
قلت في بدء خطابي يجب علينا أن لا نجيز ما لا يستصوب بتمامه أن يفرق بيننا ويشتت شملنا ويقسمنا على أنفسنا كوننا أمة ضعيفة صغيرة، نحتاج إلى التناصر والتعاون غاية الاحتياج. ولم أقل ذلك إلا بعد أن رأيت كيف أخذ الدين منا كل مأخذ فنخلطه بكل أشغالنا ونتخذه حجة بكل أعمالنا فالتجارة عندنا تجارة دينية والجمعيات جمعيات دينية والنزل (اللوكندات) نزل دينية والعتال عتال ديني ... وقس على ذلك. وهذا الذي يبعث بنا إلى الانقسام الذي يسببه التعصب الديني الذميم .
Página desconocida