فلما سمعته إمرأة سعد، قالت له: أعطني عهد الله أت ترجع إلى محبسك حين أُطلقك، فأعطاها عهد الله إن هي حلَّته من وثاقه أن يعود إليها حتى تعيده في محبسه؛ وإن قُتل فالقتل أكبر مما أرادوا به، فَحَلَّته وأعطته سلاحًا، وركب فرسًا لسعدٍ بلقاء، فخرج فجعل يشقُّ الصفوف مقبلًا ومدبرًا، ويشد على المشركين حتى هزموا وسعد يقول: أما الفرس ففرسي وأما الشدّات فشدّات أبي محجن، فلم يزل يشدّ ويقتل حتى انهزم المشركون ورجع إلى إمرأة سعدٍ، فنزل عن الفرس وألقى سلاحه وردَّت رجليه في قيوده، فلما رجع سعد إلى منزله دعا بأمرأته فسألها: هل ركب أبو محجن فرسهُ، فأنكرت ذلك، فأقسم عليها، فأخبرته الخبر، فدعا أبا محجن، وقال: والله لا اعاقبك فيها أبدًا، قال: وأنا والله لا أشربها أبدًا، إنما كنت أشربها حين كنت أُحَدُّ عليها فيكون الحدُّ كفارةُ لشربها، فأما اليوم فلا ذقتها أبدًا، وقال:
إن كانت الخمر قد عزَّت وقد مُنعت ... وحال من دونها الإسلام والحَرجُ
فقد أُباكرها صهباء صافيةً ... صرفًا وأطرب أحيانًا، فأمتزجُ
وقد تقوم على رأسي مُنَعَّمةٌ ... فيها، إذا رفعت من صوتها غَنَجُ
ترفِّع الصوت أحيانًا وتخفضهُ ... كما يطن ذباب الروضةِ الهَزِجُ
ودخل إبن أبي محجن على معاوية، فقال له: أبوك الذي يقول:
إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمةٍ ... تروي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفني في الفلاةِ فإنني ... أخاف إذا متُّ، أن لا أذوقها
فقال ابن أبي محجن، لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره، قال وما ذاك قال: قوله:
لا تسألي الناس ما مالي وكثرتُهُ ... وسائلي الناس ما حزمي وما خُلُقي
القوم اعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرعديدة الفرقِ
أُعطي السنان غداة الرَّوع حصَّتُه ... وعامل الرُّمح أرويه من العَلَقِ
قد أركب الهولَ مسدولًا عساكره ... وأكتم السِرَّ فيه ضربةُ العُنُق
فحكى من رأى قبر أبي مِحجن في أرمينية [أنه] بين شجرات كرمٍ، وفتيان أرمينية يخرجون بطعامهم وشرابهم فيتنزهون عنده، فإذا شربوا [صبّوا] كأسه على قبره.
ومنهم، أبو الهندي، عبد المؤمن بن عبد القدوس بن شَبَث بن رَبَعِّي اليربوعي وهو القائل:
إذا صليتُ خمسًا كل يوم ... فإن الله يغْفِرُ لي فُسُوقي
ولم أُشرك بربِّ الناس شيئًا ... فقد أمسكت بالحبل الوثيقِ
فهذا الدين ليس به خفاءٌ ... فدعني من بُنيات الطريق
وكان أبو الهندي كثيرًا ما يقول في صفة الخمر، ومن مشهور أخباره أن قُدَيْد بن مَنبع المنقري دعاه إلى أن يكفَّ عن الشراب، ويقلعَ عما هو عليه من الأستهتار به على أن يزوجه ابنته، ففعل ذلك ايامًا، وكان لقُديْد غلامٌ يقال له سالم، يغدو كلَّ يومٍ على أبي الهندي بوطب لبنٍ قيشرب منه، فمرَّ بأبي الهندي بعض من كان ينادمه، فقال له: هل لك يا أبا الهندي في شراب لم يُعاين مثله، ومجلسٍ لذيذٍ، ولم يزل به حتى أنطلق معه، فلما شرب وعاد إلى ما كان عليه، أنشأ يقول:
يقول أبو الهندي إذ طاب ليلُه ... وحلَّقتِ الجوزاءُ بالكوكبِ الفردِ
سيُغني أبا الهندي عن وطبِ سالمٍ ... أباريق لم يعلق بها وضَرُ الزُّبْدِ
مُفَدَّمةٌ قُزٌّ كأن رقابها ... رقاب بنات الماءِ تفزع للرَّعدِ
يمجُّ سُلافًا في قوارير صورت ... وكاسات صدقٍ كلها حَسُن القَدِّ
كميت إذا ما ذاقها المرءِ أرعَشت ... مفصاله وازداد مجدًا على مجد
ويبكي على ما فاته من شبابه ... بكاءَ أسيرٍ في الصفاد وفي القِدِّ
شهدتُ بفتيانٍ تميمٌ أَبوهُمُ ... حسانُ وجوهٍ من ربابٍ ومن سعد
وحجَّ به نصر بن سيار مرةً، فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله ﷿ ومحل حَرَمِهِ فدع الشراب، فوضعه بين يديه وجعل يشرب ويبكي ويقول:
رضيع مدامٍ، فارق الراح رُوحُهُ ... فظلَّ عليها مستهِلَّ المدامعِ
1 / 32