أديرا عليَّ الكأسَ إني فقدتها ... كما فقد المفطوم دَرَّ المراضِعِ
وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد الكناني ناسكًا، فاستعدي عليه وعلى ابنه فهربا منه، فقال أبو الهندي:
قل للسريّ أبي قيسٍ أتهجرنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا
أبا الوليد أما والله لو عَمِلت ... فيك الشمولُ لما فارقتها أبدًا
ولا نسيت حميّاها ولذَّتها ... ولا عدلت بها مالًا ولا ولدًا
وكان بسجستان رجل صُلب أبوه في خرابة وهي سرقة الإبل، فجلس إلى أبي الهندي، وطفق يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: أحدهم يرى القذارة في عين أخيه ولا يرى الجذع في است أبيه، ومرَّ به نصر بن سيار وهو يميل سكرًا، فقال له: أفسدت شرفك، فقال: لولا أني أفسدت شرفي لم تكن أنت والي خراسان.
ويقال إنه تاب في آخر عمره وترك شرب الخمر وقال:
تركت الخمور لأربابها ... وأقبلت أشرب ماءً قُراحا
ولم يبق في الصدرِ من حبها ... سوى أن إذا ذُكرت قلت آحا
وقد كنت حينًا بها معجبًا ... كحبِّ الغلامِ الفتاةَ الرَّداحا
وما كان تركي لها أنني ... يخاف نديمي عليَّ افتضاحا
[و] لكنَّ قولي له مرحبًا وأهلًا مع السهل وأنعم صباحا وهو القائل: أُعاذلُ لو شربت الراح حتى يكون لكل أُنُملةٍ دبيبُ
إذن لعذرتني وعلمت أني ... لِما أَنفقتُ من مالي مصيب
وأبو الهندي [هو] القائل:
أتلف المال وما جمعته ... طلبُ اللذات من ماءِ العِنب
واستبائي الزِق من حانوته ... شائل الرجلين معصوب الذنب
كلما كُبَّ لشربٍ خاتَهُ ... حبشيًا قُطعت منه الرُّكب
وكان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على الحجاز أُتي بالصلت ابن أبي العاصي المخزومي سكران فجلده الحدَّ فغضب ولَحِقَ بالروم فتنصر، وبعث عمر رجلًا إلى ملك الروم في فداء من عندهم من الأسرى، قال: بينا أنا أجول في أزقة القسطنطينية إذ سمعت غناءً بلسانٍ فصيح عربيٍّ وصوت شجيٍّ في هذا الصوت:
وكم بين الفرات إلى المصلَّى ... إلى أُحدٍ إلى ميقات ريم
إلى الجمّاءِ من ثغرٍ نقيٍّ ... عوارضه ومن دلٍ رخيمِ
ومن عين مكحلة المآقي ... بلا كحلٍ ومن كشحٍ هضيم
فلم أسمع قط أطيب منه، ولم أدرِ، أهو كذلك حسن، أم لغربة العربية في ذلك الموضع، ودنوت من الصوت فلما قربت منه إذا هو في غرفة، فنزلت عن دابتي وصعدت إليه فسلمت فردَّ السلام وهو يبكي فقلت له: أبشر، فقد فك الله أسْرَك؛ بعثني أمير المؤمنين في فداء من بهذا البلد من المسلمين فما قصتك، قال: هربت إلى هذا البلد غصبًا لما جرى عليَّ من عمر بن عبد العزيز، فمررت يومًا بهذا المكان وأشرفت على جارية من أحسن الناس وجهًافعشقتها وكلمتها فقالت: إن دخلت في ديني لم أُخالفك، فدعتني شدة الوجد بها إلى أن تنصرت. فقلت له، أكنت قارئًا للقرآن، قال نعم، قلت فما بقي معك منه، قال لا شيئ إلا هذه الكلمة: [ربَّما يوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين] قلتُ يا هذا، أتقِ الله وعاوِد الإسلام فإن الله يقول، [إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان] قال: وكيف، بعد عبادة الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، انطلق صَحبك الله.
وحُكي عن يونس الكاتب، قال: كنّا متنزهين بالعقيق أنا وجماعة من قُريش، فبينا نحن في أكلٍ وشربٍ ومذاكرة طلع علينا ابن عائشة، فلما رأى جماعتنا وسمعني أُغني في شعر جميل:
إن المنازل هَيَّجت أطرابي ... واستعجمت آياتها بجوابي
قفرٌ تلوح بذي الأراك كأنها ... تجير وشيءٍ أو سطور كتابِ
لما وقفتُ بها القلوص تبادرت ... مني الدموع لفرقةِ الأحبابِ
وذكرت عصرًا يا بثينة شاقني ... إذ فاتني، وذكرت شرخ شبابي
1 / 33