وخرج الفرزدق إلى الشام فلما كان في بعض طريقه، رُفع له بيت أحمر من أَدَم ودنا منه وسأل فقيل للأخطل، ونزل به، والأخطل لا يعرفه إلا أنه ضيفٌ فأحضر له طعامًا، فلما أكل قال: أنتم معشر الحنيفية لا ترون أن تشربوا من شرابنا، فقال له الفرزدق: خفض عليك وأسقنا من شرابك فشربا وجلسا يتحدثان ويتناشدان، فوثب الأخطل وقال له: بحق من تعبد، أنت الفرزدق؟ قال: نعم، فجدَّد له التحية، وزاده في برِّهِ وإكرامه، وتحدثا وتناشدا إلى أن قال له الأخطل: والله إني وإياك لأشعر من جرير، ولكن يسير له من الشعر ما لا يسير لنا، لقد قلت بيتًا ما أعلم أحدًا قال أهجى منه:
قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبَهُم ... قالوا لأُمهِمِ؛ بولي على النار
فقلَّ من يرويه، وقال هو:
والتغلبيُّ إذا تنحنح للقرى ... حَكَّ أستَهُ وتمثَّل الأمثالا
فلم تبق سقاة ولا أمثالها إلا رووه وسار له؛ فأقاما نصطبِحين أيامًا كثيرة ثم افترقا.
ومن المستهترين بالشراب، المدمنين عليه، إبراهيم بن هرمة، ولما مدح أبا جعفر المنصور بقصيدته:
نضا ثوبهُ عنك الصِّبا المتخايِلُ
حتى بلغ إلى قوله:
كريمٌ له وجهان، وجه لدى الرضى ... أسيلٌ ووجهٌ في الكريهة باسِلُ
له لحظات عن حِفافَيْ سريره ... إذا كرَّها، فيها عقابٌ [و] نائِلُ
فأُمُّ الذي آمنت آمنةُ الرَّدى وأُمُّ الذي أوعدت بالثكل ثاكِلُ وكان زياد بن عبد الله، قد جلده الحدَّ مراتٍ في خلافةِ أبي العباسِ السفَّاح، واستحسن أبو جعفر شعرَهُ وقال: سلحاجتك، فقال: تكتب إلى عامل المدينة أن لا يَحُدَّني إذا أُتي بي سكران، فقال أبو جعفر: هذا حدٌ من حدود الله ﷿، فلا يجوز لي أن أُعطِّلَهُ، قال: فاحتَّلْ لي يا أمير المؤمنين فكتب إلى عامل المدينة؛ من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده (مائة) جلدةً، واجلد ابن هرمة ثمانين فكان العَوْن يمر به وهو سكران، فيقول: من يشتري مائة بثمانين. فلما ولى الحسن بن زيد العلوي المدينة قال لابن هرمة: إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحِك أو خوف ذمِّك، قد رزقني الله بولادة نبيه ﷺ الممادح، وجنبني القبائح وإنَّ من حقِّهِ عليَّ أن لا أعصي في تقصير في حق ربيّ، وأنا أقسم لئِن أُتيتُ بك سكران، لأضربنكَ حَدَّ الخمر وحدَّ السكر ولأزيدنك لموضع حُرمتك بي؛ فليكن تركك لها لله ﷿ تُعَنْ عليها ولا تدعها للناس فتتوكَّل عليهم، فنهض ابن هرمة وهو يقول:
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرامِ
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوفِ الله لا خوف الأنام
وكيف تصبري عنها وحبي ... لها حبٌ تمكَّن في عظامي
أرى طيبَ الحلال عليَّ خبثًا ... وطيبُ النفس في حُبِّ الحرامِ
وهو القائل:
هلم اسقني كأسي ودع عنك من أبى ... وروِّ عظامًا قصرُهُنَّ إلى بِلى
فأَنّ نديمي، غير شَكٍّ، مُكرَّمٌ ... لديَّ وعندي من هواه الذي ارتضى
ولست له في فضلةِ الكأس قائلًا، ... لأصرعهُ سكرًا، تحسَّ وقد أبى
ولكن أُحييه واكرمُ وجههُ ... واشرب ما بقي واسقيه ما اشتهى
ومنهم، أبو محجن الثقفي، وكان مولعًا بالشراب، مشتهرًا فيه، شاعرًا، فارسًا، فحُدَّ مراتٍ، وحضر القادسية مع سعد بن أبي وقصاص وكان سعد لا يزال شاربًا، فلما طال عليه أمره ضربَهُ وقيدَّه وحبسه، فلما تواقع القوم يوم القادسية وأبو محجن مشرفٌ عليهم نظر إلى المسلمين وقد فشلوا فأنشأ يقول:
كفى حزنًا أن تردي الخيلُ بالقنا ... وأُترك مشدودًا عليَّ وثاقيا
إذا قمتُ عناني الحديد وأُغلقت ... مصارع من دوني تُصمُّ المناديا
1 / 31