Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Géneros
أصل هذه الدولة قبيلة من التركستان هاجرت من جهة خراسان تحت رئاسة سليمان شاه ابن قايا ألب أيام إغارة جنكزخان، وكان عددها 50000 نفس، فأتت هذه القبيلة إلى بلاد أرمينية واستوطنت هناك على شواطئ الفرات سنة 621ه، ثم بعد مضي بضع سنين اشتاق هؤلاء القوم إلى رؤية أوطانهم، فأزمعوا على الرجوع إليها. غير أنهم بينما كانوا يعبرون نهر الفرات غرق فيه أميرهم سليمان شاه سنة 629ه، ولا يزال قبره إلى الآن هناك، فافترق القوم حينئذ إلى فريقين؛ رجع أحدهما إلى خراسان تحت رئاسة ولدي سليمان شاه الكبيرين، وأقام الفريق الآخر بوادي أراكس الأعلى وبسهل أرضروم تحت رئاسة ولديه الآخرين دوندار وأرطغرل، وكان عدد هذا الفريق أربعمائة عائلة، فبعد أن أقام أرطغرل زمنا قليلا بتلك الجهة عزم على المسير بقومه إلى جهة الغرب ليبحث على أرض أخصب من الأرض المقيم فيها، فبينما هو سائر وإذا به قد صادف جيشين في حومة الميدان، وكان هذا الجيشان هما جيش التتار والمغول وجيش علاء الدين السلجوقي ملك قونية، فانضم أرطغرل بقومه إلى أقل الجيشين عددا ونصره على عدوه، فإذا بالجيش المنتصر هو جيش علاء الدين السلجوقي، فأقطع علاء الدين أرطغرل الأراضي الواقعة على نهر صنجاريوس وأراضي قرجه ضاغ بشرق جبل أولمبة بالقرب من مدينة أنقورة في الشمال الشرقي من قسم فريجية، وذلك في سنة 663ه، ثم زاد علاء الدين في إقطاعات أرطغرل نظرا لكونه خدمه ونصره مرارا على اليونانيين، فكانت تلك الأراضي منبع الدولة العثمانية، وبعد أن طرد أرطغرل التتار من ممالك علاء الدين وتوج نصره بفتوح كوتاهية وأخذها من اليونانيين تنازل سنة 687ه لكبر سنه عن رئاسة العساكر لولده عثمان المولود سنة 657ه، فاستمر عثمان على محاربة اليونان؛ حيث كانوا لم يزالوا يمتلكون بآسيا بعض الحصون، فأخذ منهم قره حصار وكانت حصنا منيعا، فأعطاه علاء الدين مكافأة له على أعماله جميع الأراضي التي افتتحها مع لقب بيك، وخلع عليه، وسمح له بأن يضرب الدراهم باسمه، وأن يخطب له على المنابر.
ثم لما حصلت إغارة المغول وهرب علاء الدين الثالث آخر ملوك دولة آل سلجوق ملتجئا إلى قيصر الروم تجزأت مملكته من بعده، فاستقل حكام الأقاليم فيها كل بقسمه، وكان في قبضة عثمان إذ ذاك معظم إقليم بطينية وجزء من إقليمي غلاثية وفريجية وجزء من وادي صنجاريوس الأعلى، فتلقب ببادشاه عالي عثماني، أي سلطان العثمانيين، سنة 699ه، واتخذ مركز حكومته بمدينة بني شهر، ثم أخضع باقي إقليم بطينية، وتقدم لغاية شواطئ بحر مرمرة.
وبعد أن انقطع عن الفتوحات بضع سنين لينظم أمور مملكته عاد إليها ثانيا؛ فجعل ابنه أورخان على رئاسة العساكر ووجهه لحصار مدينة بروسة، فتملك عليها بدون أدنى مقاومة سنة 726ه، ونقل إليها تخت المملكة من وقتئذ، أما السلطان عثمان فقد حضرته الوفاة وقت فتوحها فخلفه أورخان ابنه الثاني؛ لاشتغال ولده الأكبر علاء الدين بالعلوم وعدم اهتمامه بأمر الملك، فاتخذ أورخان علاء الدين المذكور وزيرا له، فكان أول من تلقب بلقب باشا، وأول مشرع في الدولة العثمانية؛ إذ بمساعدته نظم أورخان أمور المملكة الإدارية والعسكرية حتى صار يعد المؤسس للدولة العثمانية حقيقة؛ فهو أول من ضرب النقود باسمه في هذه الدولة، وأول من أسس الجيوش فيها من ينكشارية وغيرهم، وبينما كان علاء الدين يرتب أمور المملكة كان السلطان أورخان يوسع حدودها بالفتوحات، فتمم طرد اليونانيين من شواطئ نهر صنجاريوس وبحر مرمرة، وتملك على مدينتي نيكوميدية ونيسية وغيرهما من الحصون، وبنى بنيسية المدارس وتكية للفقراء، ثم تملك على إقليم برغامة وغيره حتى وصل إلى بحر الأرخبيل، وبعد ذلك مكث نحو العشرين سنة مشتغلا بتنظيم المملكة وبناء المدارس وتنشيط العلوم والعلماء، حتى صارت مدينة بروسة تخت المملكة مقرا للعلوم والمعارف، وفي ذلك الوقت كانت مملكة الروم المسماة بالدولة السفلى في غاية الانحطاط؛ قد عظم فيها الشقاق وكثرت الفتن والثورات، فأرسل ملكها قيصر القسطنطينية إلى السلطان أورخان ليستعين به على الصربيين، ويعرض عليه ابنته للزواج، فكان ذلك سببا في ازدياد طمع العثمانيين في فتوح ممالك هذه الدولة؛ حيث إن دخولهم أوروبا سمح لهم بمشاهدة اضمحلالها والوقوف على خفاياها، فلما كانت سنة 758ه عبروا بوغاز الدردنيل ليلا، وتملكوا على مدينتي تزيمبة وجاليبولي وغيرهما، ثم لما خلف السلطان مراد الأول أباه السلطان أورخان على سرير الملك زاد في الفتوحات بأوروبا وآسيا، فتملك على أدرنة سنة 762ه، ونقل تخت المملكة إليها، ووقعت جميع بلاد طراسة التي سميت بالروم إيلي في قبضته، ودخل الترك في أيامه بلاد الصرب، وتملكوا على كثير من مدنها، وبلاد البلغار، وأخذوا فيها صوفية، وأما في آسيا، فقد امتدت حدود الدولة العثمانية في أيامه إلى بلاد أرمينية، ولما خلفه ابنه السلطان بايزيد الأول تمم فتوح بلاد الصرب والبلغار، ثم وجه أنظاره للتملك على الدولة السفلى؛ فدمر تساليا وعبر الترموبيل وخرب فوسيدة وبيلوبونيزة، وهي جزيرة مورة. غير أن ذلك كان وقت ظهور تيمورلنك الفاتح التتاري الذي أرعب جميع بلاد آسيا، فدهم هذا الفاتح السلطان بايزيد بجيوشه، وهزمه في واقعة أنقورة بآسيا الصغرى وأخذه أسيرا، وتملك على جميع آسيا الصغرى لغاية إزمير، فكانت هذه الوقعة مصيبة على الدولة العثمانية، أوشكت أن تقضي عليها بالانحلال؛ فقد قامت فيها بعد موت السلطان بايزيد الحروب الداخلية نحو العشر سنين بسبب تنازع أولاده الثلاثة سليمان وموسى ومحمد الملك، حتى كادت أن تسقط المملكة، لولا أن محمدا أمكنه أن يتغلب على أخويه ويوطد سلطته على جميع ولايات المملكة، فلما خلف هذا ابنه السلطان مراد الثاني استرجع سالونيك من البنادقة أهل مدينة البندقية، وحاصر مدينة بلغراد ولكنه لم يتمكن من فتحها، وعقد هدنة لمدة عشر سنين مع الهنكاريين. غير أنهم لم يحافظوا عليها، بل عادوا إلى الحرب عندما وجدوه تنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة واعتكف في مينيزيه، فرجع إلى الملك وهزمهم شر هزيمة عند مدينة ورنة، ثم تنازل عن الملك ثانيا لولده المذكور، ولكنه التزم بالعود إليه ثالثا لتوطيد النظام لما ثار على ولده الينكشارية، فابتدأ حينئذ عصر جديد في الفتوحات؛ فقد استولى على قورنتة وبتراسة، وخرب بيلوبونيزة ولكنه لم يتمكن منها.
فلما خلفه بعد موته ابنه السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح فتح مدينة القسطنطينية سنة 857ه، ونقل إليها كرسي المملكة وبنى حصون الدردنيل، وهدم أسوار غلاتة من جهة البر، وأقام أسوار القسطنطينية، ونقل إليها من آسيا خمسين عائلة من المسلمين، ثم صار ينقل إليها الصناع من المدن التي يتملك عليها من أطراف المملكة، وتملك على أثينة وقورنتة وجزيرة مورة في أوروبا، وعلى مملكة طرابزون وإمارة كرمانيا في آسيا، ثم حاصر بلغراد فامتنعت عنه. ولما منعه أيضا عن التقدم شمالا الهنكاريون لمدافعتهم عن حدودهم وأهل رومانية لكثرة حصونهم بالكريات، انقلب إلى الجنوب، وأغار على ألبانيا فتملك عليها، ثم استولى على جزيرة نجربون من البنادقة، وعلى جزيرة القرم، وتوغلت جيوشه في إيطاليا، ودفعت له مدينة البندقية جزية سنوية في مقابلة حرية تجارتها في البحر الأسود، وتملك على مدينة أوترنقة على حدود مملكة نابلي، إلا أنها أخذت منه ثانيا، وأغار على جزيرة رودس ولم يتمكن من فتحها، ثم خلفه ابنه السلطان بايزيد الثاني، ولم يفتتح إلا بعض مدن في بلاد اليونان استخلصها من البنادقة، ووجه أنظاره لحرب المماليك بمصر، فخزل في حربه معهم أيضا، فلما خلفه ابنه السلطان سليم شمر عن ساعد الجد في أمر الفتوحات، فلم ينقطع عن الحرب مدة السنين الثمانية التي حكمها؛ فأغار أولا على بلاد العجم، وتملك على ديار بكر وأرض الموصل، ثم قصد دولة المماليك فدمرها وتملك على بلاد الشام ومصر، ودخل في حوزته حينئذ مكة والمدينة، وتنازل له الخليفة المتوكل على الله آخر الخلفاء العباسيين عن الإمامة، فصار أمير المؤمنين والخليفة على الدولة الإسلامية، ثم تملك على إيالة الجزائر أيضا، فعظمت شوكة هذه الدولة حيث صارت قابضة على معظم شطوط البحر الأبيض المتوسط مالئة له بسفنها الحربية، ولم يوجد في أوروبا جيش مثل جيشها المكون من الينكشارية.
ثم لما خلف السلطان سليم ابنه السلطان سليمان بلغت الدولة العثمانية في أيامه أقصى درجات المجد والرفعة ووصلت إلى غاية عظمها ومنتهى شوكتها؛ فقد كان السلطان سليمان ذا عقل وسياسة وبأس وسطوة؛ حضر ثلاث عشرة واقعة بنفسه، فأخذ بلغراد من الهنكاريين، وتملك على جزيرة رودس، ثم أخضع هنكاريا أيضا، وأخذ ملدافية من أوستريا، وأغار على بلاد العجم، فدخل بغداد وتملك على أرض الجزيرة، وضم إلى ممالكه تونس وطرابلس بأفريقيا وعدن ببلاد العرب، وبالجملة فقد كان هذا السلطان رجلا، فاضلا يحب العلم ويعظم العلماء، وكان رجلا شاعرا منشطا للعلوم والآداب، حتى صارت زاهرة زاهية في أيامه، وقد سمي بالقانوني؛ لكونه نظم أمور المملكة وأسس قوانينها، وكان أعظم الملوك العثمانيين، وبه انتهى عصر الشجاعة في الدولة العثمانية؛ فإن من بعده اعتكف الملوك العثمانيون في سراياتهم وتركوا مشاهدة الوقائع الحربية لأمراء جيوشهم، فكان هذا مبدأ انحطاطهم، وإن كانت الدولة حافظت مدة قليلة بعد ذلك على ما حصلت عليه من الفتوحات والرونق والبهاء، بل وزادت أيضا في فتوحاتها، إلا أن هذا لم يكن إلا بهمة بعض وزراء كانوا من عظماء الرجال، رزق الله بهم بعض الملوك الذين خلفوا السلطان سليمان على هذه الدولة، فحافظوا على عدم انحطاطها في أيامهم؛ ففي أيام السلطان سليم الثاني الذي خلف السلطان سليمان على سرير الملك حافظت الدولة على فتوحاتها، ودفعت لها أوستريا جزية سنوية، واعترفت لها بالسيادة على ملدافية وولاكية وترنسيلفانية، وتملك العثمانيون على بلاد اليمن، وافتتحوا قبرص من البنادقة، وفي عهد خلفه السلطان مراد الثالث أخذ العثمانيون من العجم طوريس وأذربيجان وشروان وجيورجيا، إلا أنه من هذا الحين ابتدأ قيام الينكشارية، فأخذت الدولة في الاضمحلال بسرعة، وظهر فيها زمن الفوضوية لتواصل هيجان الينكشارية وخلعهم للسلاطين وقتلهم لهم ولكبراء رجال الدولة، فأخذ انحطاط المملكة في الازدياد، وإن كان توقف برهة في عهد السلطان إبراهيم بهمة وزيره الهمام قاره مصطفى الذي ابتدأ فتوح كريد، وكذا في عهد السلطان محمد الرابع بهمة وزيريه الهمامين قبرولي محمد وابنه قبرولي أحمد؛ حيث تم فتوح كريد وفتحت أوكريفي وبودولية ودفعت بولونية الجزية للترك، وتوطدت سيادة الدولة على ملدافية وولاكية وترنسيلفانية، ولكن من هذا الوقت وقفت الدولة العثمانية عن الفتوحات بالكلية، ولم تكن حروبها إلا للمحافظة على حدودها فقط؛ فقد صارت حدودها الشمالية بأوروبا باعثا للنزاع بينها وبين جيرانها من الممالك الأوروباوية، فكانت تتركها تارة لهم وتارة تستردها منهم، حتى أضعفت قواها تلك الحروب وذهبت بثروتها فخرج من يدها معظم تلك البلاد ووصلت إلى ما هي عليه الآن.
وقد كان مبدأ هذا التجزؤ في عهد السلطان مصطفى الثاني لما انهزمت الترك على شاطئ نهر تسزا في واقعة زنطا؛ حيث التزم السلطان مصطفى بعقد معاهدة كارلووتز سنة 1110ه بينه وبين أوستريا وبولونية والروسية وجمهورية البنادقة، واشترط فيها أن تتنازل الترك عن هنكاريا وترنسيلفانية لأوستريا وعن بودولية وأوكرين لبولونية، وأن تحفظ الروسية البلاد التي تملكت عليها بشواطئ بحر أزوف، وأن تأخذ جمهورية البندقية جزيرة مورة ومعظم دلمائية، وأن تحذف جميع الجزيات التي كانت تدفعها الإمارات النصرانية، فكان هذا مبدأ عظم انحطاط الدولة، وإن كانت شمرت عن ساعد الجد في بعض حروبها بعد ذلك، واستردت بعض تلك الجهات، إلا أنه لم تأخذ ممالكها من وقتئذ إلا في التناقص؛ ففي سنة 1189ه وقع السلطان عبد الحميد علي معاهدة كاينارجي التي اعترفت فيها الترك باستقلال القرم التي استولت عليها الروسية فيما بعد، وتركت الدولة بناء على هذه المعاهدة للروسية حصون بحر أزوف والتتارية الصغرى، وسمحت لها بحرية الملاحة في البحر الأسود وبحر مرمرة، وقبلت بتجزئة بولونيا، ثم في أيام السلطان محمود الثاني الذي محا جيش الينكشارية سنة 1241ه استولت الروسية على بسارابية وشواطئ نهير بروطة بناء على معاهدة بخارست سنة 1226ه، واستقلت اليونان بعد حرب شديدة انتهت بمعاهدة أدرنة سنة 1244ه التي بناء عليها أيضا تملكت الروسية على دلتا الدانوب وصار ملدافية وولاكية يكونان لإمارة خراجية تحت حماية الروسية، ثم تملك الفرنساويون في عهده أيضا على بلاد الجزائر سنة 1245ه، وصارت مصر إمارة وراثية في عائلة محمد علي باشا سنة 1257ه، فلما كانت أيام السلطان عبد المجيد عقدت معاهدة باريس سنة 1272ه بعد حرب القرم بين فرنسا وإنكلترا والروسية وأوستريا وبروسيا وسردينيا والدولة، وبناء عليها صار محو الحماية التي كانت للروسية على إمارة ملدافية وولاكية، وصارت هذه الإمارة تحت رعاية الدول العظمى، ثم لما حصلت الحرب بين الدولة الروسية سنة 1295ه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وانتهت تلك الحرب بمعاهدة صان ستفانو التي صار تعديلها في مؤتمر برلين في السنة المذكورة استقل بناء على هذه المعاهدة مملكة رومانية ومملكة الصرب وإمارة الجبل الأسود، وصارت بلغاريا إمارة خراجية.
المطلب الثاني
في ذكر السلطان سليم وفتوح العثمانيين لمصر
هذا الملك هو التاسع من سلاطين الدولة العثمانية، صعد على كرسي المملكة سنة 918ه، وحكم ثماني سنوات (918-926ه)، وقد تنازل له أبوه السلطان بايزيد الثاني عن الملك رغما عنه بإجبار من الينكشارية؛ وذلك أن السلطان سليم كان أصغر إخوته، إلا أنه كان محبوبا عند الينكشارية لميله إلى الحروب والغزوات بخلاف أخيه الأكبر كركود الوارث للسلطنة؛ فإنه كان مبغوضا عندهم لما يجدونه فيه من الميل إلى الفنون والعلوم، فلما رأى السلطان سليم ميل الينكشارية إليه وتعضيدهم له أقام على أبيه راية العصيان، ولم يزل يتظاهر عليه مرارا حتى التزم أبوه بأن يتنازل له عن الملك بناء على طلب الينكشارية، وقد كان هذا الملك ذا همة عالية وقريحة وقادة، شاعرا بليغا له القصائد الباهرة في الفارسية والتركية والعربية، محبا للعلم والعلماء، متيقظا لأمور المملكة، إلا أنه كان شديد البأس عظيم القسوة سفاكا للدماء، فإنه لما صعد على كرسي المملكة أراد أن يثبت قدمه فيها، فأمر بقتل أولاد إخوته، ثم قبض على أخويه كركود وأحمد اللذين نازعاه في الملك وقتلهما أيضا، وقتل سبعة من الوزراء أثناء سلطنته، وفي مبدأ حكمه أمر بقتل أربعين ألفا من الأهالي بدعوى أنهم من الشيعة، حتى كان ذلك سببا في وقوع الحرب بينه وبين إسماعيل شاه ملك العجم، فأغار السلطان سليم على بلاده بجيش مؤلف من 180000 مقاتل، وأوغل بهذا الجيش في تلك البلاد حتى وصل إلى سهل تشالديران، فتقابل بجيوش العجم هناك، وهزمهم وكسب منهم أموالا عظيمة. غير أنه التزم بالعود إلى بلاده بسبب القحط الذي لحق بجيشه وهيجان الينكشارية، ولكنه لم تخل هذه الحرب من فائدة له؛ فقد دخل تحت حكمه من ممالك العجم الكردستان وديار بكر وأرض الموصل، ثم وجه أنظاره لحرب مصر فأغار عليها سنة 922ه في عهد قنسو الغوري، فدخل بلاد الشام وتلاقى بجيوش قنسو عند مرج دابق بقرب حلب، فوقع بينهما قتال شديد، ففشل الجيش المصري لكثرة نيران الترك؛ حيث لم يكن معه من المعدات الحربية سوى الرمح والسهم، وأحدقت به الجيوش العثمانية، فانضم إلى الجيش العثماني خير بك قائد الجناح الأيمن بمن معه، والغزالي قائد الجناح الأيسر بمن معه، وبقي قنسو في القلب بمن معه، وأحاطت به الأعداء فأراد أن يهرب فسقط عن جواده وهلك تحت أرجل الخيل بعد أن قاتل قتالا تعجز عنه الأبطال، فدخلت حينئذ جميع بلاد الشام تحت حكم السلطان سليم، ولقب في الخطبة بخادم الحرمين الشريفين سنة 922ه.
وأما الجيش المنهزم ففر إلى مصر، وتجمع ثانيا تحت قيادة الملك الأشرف طومان باي الذي خلف قنسو الغوري على ملك مصر؛ فبعد أن وطد السلطان سليم سلطته على بلاد الشام سار قاصدا مصر حتى أتى الخانكاه على بضع ساعات من القاهرة، وكان طومان باي لما جمع جيوشه سار لملاقاة العثمانيين حتى أتى الصالحية وعسكر هناك، فلما بلغه أن السلطان سليم عرج بجيشه إلى القاهرة حتى قرب منها تاركا الصالحية عن يمينه عاد طومان باي بجيشه لمهاجمته من الوراء، فالتقى الجيشان قرب بركة الحج في يوم الجمعة 29 ذي الحجة سنة 922ه، واقتتلا قتالا شديدا، فأظهر المماليك بسالة عظيمة لكنهم انهزموا أخيرا لوجود المدافع عند العثمانيين، ففروا إلى القاهرة، وأما العثمانيون فعسكروا في جزيرة الروضة، فجمع طومان باي من نجوا من جيشه، وضم إليهم عددا كبيرا من العربان بعد أن أرضاهم بالمال، وهجم على معسكر السلطان سليم هجمة اليأس ، فصده الحرس السلطاني، فعاد إلى القاهرة وأغلق أبوابها وحصن شوارعها، بحيث إن السلطان سليم لم يتمكن من فتحها إلا بعد المقاومة الشديدة من طومان باي والمماليك الذين معه، فقد ثبتوا ثباتا عظيما، وأظهروا من البسالة والإقدام ما لا مزيد عليه، فلم يسلم شارع إلا بعد واقعة خصوصية له، ولم يؤخذ بيت إلا بعد حصاره، وتغطت الأرض بجثث العثمانيين، فاقتص منهم العثمانيون قصاصا فظيعا؛ فإنهم لما دخلوا المدينة أمعنوا فيها قتلا ونهبا وحرقا، وفتحوا القلعة عنوة، وقتلوا من فيها، أما طومان باي فتمكن من الفرار على معدية قطع بها النيل إلى الجيزة، ومنها سار قاصدا الإسكندرية، فأقام بالوجه البحري يناوش الجيوش العثمانية على الدوام لا يترك لهم هدنة ولا راحة، فعزم السلطان سليم على أن ينهي الأمر معه، وسار قاصدا له بأربعين ألف مقاتل، فتخلت العربان عن طومان باي، فلم يقدر على الاستمرار على المقاومة لقلة جيوشه، فالتجأ إلى أحد مشايخ العربان، فسلمه هذا بعد بضع أيام إلى السلطان سليم، فأبقاه السلطان سليم مدة عشرة أيام، وصار يجتمع به، ويسأله في أمر محصولات البلاد وخراجها وإدارتها، ثم أمر بشنقه على باب زويلة في 19 ربيع الأول سنة 923ه، وبقيت جثته معلقة مدة ثمانية أيام، ثم أمر السلطان سليم بدفنها قرب قبر قنسو الغوري، وبعد دفنه بثلاثة أيام دخل السلطان سليم عاصمة الديار المصرية ظافرا في غاية ربيع الأول سنة 923ه، وبعد يسير نزل إلى الإسكندرية في فرقة من جيوشه لوضع الحماية عليها، ثم عاد إلى القاهرة ومكث فيها إلى 20 شعبان من تلك السنة، ثم بارحها قاصدا الروملي ومعه أموال عظيمة.
Página desconocida