Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Géneros
في دولة المماليك الجراكسة
تسمى هذه الدولة أيضا بدولة المماليك البرجية؛ لأن أمراءها كانوا على الأخص مكلفين بحفظ الأبراج؛ أي القلاع في عهد المماليك البحرية، وقد حكمت 139 سنة (784-923ه)، تسلطن في أثنائها على مصر خمسة وعشرون أميرا من هؤلاء المماليك؛ أولهم السلطان برقوق، وأصله مملوك الأمير يلبغا أحد المماليك البحرية، كان قد اشتراه سنة 762، فاعتنى بتربيته حتى رفعه إلى رتبة أمير، ولم يزل حتى صار وصيا على الملك في عهد الملكين الأخيرين من المماليك البحرية؛ حيث كان والدهما الملك الأشرف كلفه بتربيتهما، فلما كانت أيام الملك الثاني منهما، وهو الملك الصالح حاجي آخر سلاطين المماليك البحرية عزم برقوق على الاستقلال بالملك، فخلع هذا الملك ونفاه، واستقل بالملك فصار سلطانا وتلقب بالملك الظاهر، وفي أيامه كان ظهور تيمورلنك فخاف برقوق على ممالكه منه، وخرج بجيوشه إلى بلاد الشام للمحاماة عنها، فلم يقدر تيمورلنك على الإغارة عليها، فبينما كان برقوق متغيبا في بلاد الشام قام عليه الخليفة المتوكل على الله واتفق مع بعض الأمراء على خلعه من الملك ونفيه إلى الكرك، فرجع حينئذ إلى سلطنة مصر حاجي بن شعبان آخر سلاطين دولة المماليك البحرية. غير أن الأمراء لم يلبثوا أن أسفوا على خلع برقوق، فأعادوه إلى السلطنة بعد ثمانية أشهر وخلعوا حاجي بن شعبان ثانيا، فلما عاد برقوق إلى السلطنة حافظ على السلام بقية مدته، واشتغل بالتجهيزات الحربية خوفا على بلاده من التتار والعثمانيين، وكان حكمه مع العدل والحكمة؛ حتى إنه عند موته أسف عليه جميع الأهالي، وقد خلفه ابنه فرج زين الدين ولقب بالملك الناصر، فأذعن بالطاعة لتيمورلنك خوفا منه؛ حيث كان هذا الفاتح التتاري أغار في أيامه على بلاد الشام، فقام عليه المصريون وخلعوه وولوا مكانه أخاه عبد العزيز، غير أنهم لم يلبثوا أن أعادوه إلى السلطنة، فتملك على دمشق وغيرها من بلاد الشام، ثم قام عليه أحد أمراء المماليك المدعو أبا النصر، وقد كان يلقب شيخ المحمودي، فتحزب مع الخليفة المستعين بالله وحارباه فهزماه، فقبض عليه وحكم عليه بالقتل.
وبعد موته صار الخليفة المستعين بالله إماما دينيا وسلطانا سياسيا؛ أي بيده أزمة السلطة الدينية والسياسية، فتلقب بالملك العادل، وقلد شيخ المحمودي الوزارة، وأخذ في إصلاح حال البلاد وترتيب إدارتها بغيرة ونشاط، وخفف الأموال على الأهالي. غير أن شيخ المحمودي أخذ في دس الدسائس حتى جرد المستعين بالله من السلطة تقريبا وجبره على أن يشركه معه في السلطنة باسم الملك المؤيد، فاجتهد المستعين بالله في خلعه بعد ذلك فلم يتمكن، بل جاء الأمر بالعكس؛ فإن شيخ المحمودي تمكن من خلع الخليفة وانفرد بإدارة البلاد فأصلح حال الرعية، وكان خيرا عاقلا، من أحسن الملوك، محبا للعلماء، وهو الذي بنى جامع المؤيد بقرب باب زويلة، وبعد موته خلفه ثلاثة ملوك على التعاقب في مدة سنة، ثم تولى الملك الأشرف سيف الدين برسباي، وهو أعظم ملوك هذه الدولة وأجدرهم بالملك؛ فإنه كان أرفعهم همة وأشدهم عزيمة وأكثرهم تدربا في الأحكام، وأصله معتوق الملك الظاهر تتر الملك الثاني قبله، فلم يزل هذا الملك يرقيه حتى رفعه إلى رتبة أمير، ثم صار وصيا على الملك في عهد ابنه، فلما خلع هذا من الملك خلفه برسباي فأحسن السياسة واستعمل الحزم، فاستتبت الراحة وظهر الأمن في البلاد، وقد انتصر برسباي على الفرنج مرارا، وتملك على جزيرة قبرص وضرب الجزية على ملك بيت المقدس، ومن مآثره بناء جامع الأشرفية بالقاهرة، وبعد موته خلفه ثمانية ملوك لا يرى فيهم من يستحق الذكر إلا الملك الظاهر خوش قدم؛ فإنه كان من أعقل ملوك هذه الدولة وأعظمهم حكما؛ استتبت الراحة وظهر الأمن في مصر في أيامه، ثم تولى الملك الأشرف قايتباي وكان من أشهر ملوك هذه الدولة، فاستتبت الراحة في مصر، وتوطد فيها إلا من مدة الست سنين الأول من حكمه، ثم وقعت الحروب بينه وبين بايزيد الثاني ملك العثمانيين، فكان النصر في الغالب لجيوشه، فاغتاظ بايزيد وألف جيشا جرارا تحت قيادة علي باشا، ففزع قايتباي وطلب الصلح من بايزيد فلم يقبله.
وعادت الحروب بالقرب من مدينة طرسوس، وكانت الجيوش المصرية تحت قيادة الأمير الأزبكي، فانهزم علي باشا شر هزيمة، فانتهز قايتباي حينئذ فرصة نصره وتخابر مع بايزيد في أمر الصلح، فرفض ذلك بايزيد أولا ثم قبله بشرط أن ينجلي المصريون عن طرسوس وأدنة اللتين تملكوا عليهما من المدن العثمانية، وإلا دعا جميع أهالي الدولة العثمانية إلى حمل السلاح في الواقعة الآتية، فقبل قايتباي هذا الصلح مراعاة للسلام سنة 896 ثم خلفه بعد موته خمسة ملوك على التعاقب، وكانوا جميعا في غاية العجز عن القيام بالملك؛ فكان الواحد منهم يحكم بعض أشهر ثم يخلع أو يقتل، وبعد ذلك اجتمع أعيان مصر مع أمراء المماليك لينتخبوا سلطانا لهم، فانتخبوا الأمير قنسو الغوري ولقب بالملك الأشرف، وهو من مماليك السلطان قايتباي، وكان أقلهم مالا وأضعفهم حالا؛ لم يتداخل قط في أمور المملكة، فامتنع عن السلطنة أولا ثم قبلها بشرط أنهم إذا أرادوا خلعه يوما فلا يقتل، وقد اجتهد في إيجاد الراحة، والأمن في جميع أنحاء مصر، وفي تحسين إدارة البلاد، وشيد بالقاهرة جامعه المشهور باسمه الآن، فلما كانت سنة 918ه، التجأ إلى مصر كركود أخو السلطان سليم بن بايزيد بعد أن نازع أخاه في السلطنة العثمانية، فأجاره قنسو الغوري، فغضب السلطان سليم واستعد لمحاربة مصر، وكان وقتئذ في حرب أيضا مع العجم، فأراد قنسو مقاومته وتحالف مع إسماعيل شاه ملك العجم. غير أن ذلك لم يجد نفعا، بل شتت السلطان سليم جيش المصريين والعجم، ثم أوغل بجيوشه في بلاد الشام فتقابل بجيوش قنسو عند مرج دابق بقرب حلب فهزموهم، ومات قنسو في هزيمته في رجب سنة 922 بعد أن حكم خمس عشرة سنة وعشرة أشهر، فخلفه على ملك مصر ابن أخيه الملك الأشرف طومان باي، فلم يلبث أن حضر السلطان سليم إلى مصر وقبض عليه وأمر بشنقه على باب زويلة في 19 ربيع الأول سنة 923ه، فانتهت حينئذ دولة الجراكسة، وصارت مصر من وقتئذ جزءا من الدولة العثمانية.
الباب الثالث
في الكلام على الدولة العثمانية ومصر مدة حكمها، وفيه فصلان
الفصل الأول
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
في ذكر الدولة العثمانية
Página desconocida