Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Géneros
ولما فتحت الديار المصرية دخل تحت حكمه أيضا الأقطار الحجازية لارتباطها بها، وقد كان بمصر من الخلفاء العباسيين وقت فتوح العثمانيين لها محمد المتوكل على الله؛ الخليفة الثامن عشر من الدولة العباسية الثانية، فرأى السلطان سليم أن يقبض على الأزمة الدينية أيضا لتوطيد سلطنته، فخلعه من الخلافة وأرسله إلى الآستانة وخصص له راتبا معينا لنفقاته، فصارت الخلافة الإسلامية للعثمانيين من وقتئذ، وأول خلفائهم هو السلطان سليم، أما المتوكل على الله فقد عاد إلى مصر قبل وفاة السلطان سليم بيسير، وعاش فيها منفردا إلى أن توفاه الله سنة 945ه، فكان هو آخر الخلفاء العباسيين.
الفصل الثاني
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
في ذكر مصر مدة حكم الدولة العثمانية
قد دخلت مصر تحت حكم هذه الدولة سنة 923ه؛ أي بعد انتصار السلطان سليم على طومان باي وأخذه منه مدينة القاهرة، واستمر حكمها بها نحو المائتين وتسعين سنة، فصار السلاطين العثمانيون يرسلون إليها ولاة من طرفهم حائزين لرتبة الباشاوية، بل وكان أغلبهم من الوزراء.
أما أول هؤلاء الولاة فكان خير بك أحد كبار رجال قنسو الذين انضموا إلى الجيش العثماني في واقعة مرج دابق، وقد ولاه السلطان سليم على مصر بلقب باشا، ولكنه لم يصرفه في البلاد كيف شاء، بل جعل واجباته إبلاغ الأوامر السلطانية لرجال الحكومة وللشعب ومراقبة تنفيذها، وحدد سلطته بكونه ألف له مجلس شورى من ضباط الجيش الذي أبقاه في مصر، وذلك أنه أقام في القاهرة وفي المراكز المهمة من القطر المصري اثني عشر ألف عسكري؛ منها ستة آلاف من الفرسان وستة آلاف من المشاة، وجعلها ستة وجاقات تحت قيادة خير الدين باشا أحد رؤساء الجيش العثماني، وأمره أن يقيم في القلعة، ولا يخرج منها لأي سبب كان، وكان على كل وجاق ضابط يلقب بالأغا يصحبه الكخيا والباش اختيار والدفتردار والخزندار والروزنامجي، فمن اجتماع هؤلاء الضباط من سائر الوجاقات كان يتألف مجلس شورى الباشا، فلا يقضي أمرا إلا بمصادقتهم، أما هم فكان لهم أن يوقفوه عن الإجراء وأن يستأنفوا إلى ديوان الآستانة عند الاقتضا، ولهم أيضا أن يطلبوا عزله حالما يشتبهون في مقاصده، ثم لأجل حفظ الموازنة بين الباشا والوجاقات جعل على إدارة الأقاليم اثني عشر أميرا من أمراء المماليك الذين هم في الأصل أعداء لكلا الفريقين، فكانت منفعتهم السياسية تحملهم على الانتصار للفريق الأضعف ليمنعوا الأقوى من الاستبداد، وكان هؤلاء الأمراء يعرفون بالسناجق؛ فإن مصر كانت منقسمة إلى اثنتي عشرة مقاطعة حربية كل منها تسمى سنجقلية يحكمها حاكم يقال له: سنجق أو بيك يعينه الديوان (وهو مجلس شورى الباشا) من أمراء المماليك الذين دخلوا تحت الطاعة العثمانية، فكان الباب العالي يرى في اختلاط إدارة البلاد بهذه الصفة مصلحة له، وهي حفظ سيادته عليها، وإن كان ذلك يؤدي إلى ما يؤدي من القلاقل والمتاعب في البلاد، ولم يزل خير بك باشا واليا على مصر حتى أدركته الوفاة سنة 928ه؛ أي بعد موت السلطان سليم بسنتين، وكانت أيامه كلها ظلما وجورا وعانت منه الأهالي المشاق والمتاعب العظيمة.
ولما خلف السلطان سليمان أباه السلطان سليم على كرسي الخلافة العثمانية أكثر من اهتمامه بمصر وتنظيمها إداريا وماليا؛ فأنشأ بالقاهرة ديوانين تحت رئاسة الباشا الوالي يكونان مجلس شوراه؛ أحدهما يعرف بالديوان الكبير والآخر بالديوان الصغير أو الديوان فقط؛ فالديوان الصغير كان أعضاؤه من تقدم ذكرهم، وأما الديوان الكبير فكان من أعضائه أيضا القاضي الأكبر وأمير الحج ومشايخ المذاهب الأربعة والمفتون الأربعة وغيرهم من المشايخ ورؤساء الأشراف، وجعل نفسه المالك لجميع أرض مصر، فصار يفرقها إقطاعات على مزارعين يدعون بالملتزمين، لهم الحق في إقطاعهم إياها أيضا، وكان الفلاحون الذين يحرثون تلك الأراضي لهم نصيب فيها يورثونه أعقابهم، ولكنهم كانوا مجبورين على العمل فيها بدون حق التصرف بها، وعليهم خراج يدفعونه للملتزمين، فإذا توفي فلاح عن غير وارث تعطى أرضه للملتزم وهو يعهد بحراثتها إلى من شاء، وإذا مات الملتزم عن غير وارث تعود الأرض للسلطان، وكان على كل من الملتزمين والفلاحين خراج يدفعونه إما نقدا وإما عينا، فإذا تأخر الفلاح عن الدفع يمنع من نوال نصيبه، وإذ تأخر الملتزم تؤخذ منه الأرض.
وقد جعل أيضا السلطان سليمان باشاوية مصر سنوية فقط؛ أي إن الوالي لا يعين إلا لمدة سنة، ثم يعزل أو تجدد مدة توليته بفرمان جديد، فكثر تغير العمال عليها ومنع استتاب الراحة من البلاد سيما أن كثيرا من هؤلاء العمال لم يحرصوا إلا على اقتناء الثروة وجمع الأموال، فتركوا الأحكام لبيكوات المماليك حتى انتزعت السلطة في البلاد من أيديهم شيئا فشيئا وصارت لأمراء المماليك، فصار رئيسهم المدعو شيخ البلد هو أمير البلاد الحقيقي، فلم يلبثوا أن ظهرت بينهم المخاصمات، فأشعلوا نار الحرب فيما بينهم حتى صارت القاهرة مع ضواحيها مخضبة بالدماء، ولم يتداخل الولاة فيما بينهم إلا بصفة ثانوية، بل انحازوا إلى القلعة وصاروا كأنهم لم يأتوا إلى مصر إلا لينظروا نظر الناقد المتفرج تلك المخاصمات والمحاربات الشديدة التي تقع بالقاهرة، ولم يهتم أيضا سلاطين الدولة بما يقع في مصر من الحوادث حتى وهنت سلطتهم عليها شيئا فشيئا كذلك.
ومنشأ تلك الحروب الداخلية أن المماليك بمصر كانوا منقسمين إلى طائفتين؛ عرفت إحداهما بالقاسمية والأخرى بالفقارية، فظهرت العداوة بينهما في سنة 1119ه (أيام السلطان أحمد خان)، وحصلت بينهما وقائع أدت إلى وفاة قاسم عيواظ بيك رئيس الطائفة القاسمية، فخلفه في مشيخة البلد مكانه ابنه إسماعيل بيك، وأقام فيها مدة ست عشرة سنة مع السلطة التامة، ثم قتل فأعقب موته زمن فوضوية تنازع فيه السلطة جملة بيكوات الواحد بعد الآخر، وكان نزعهم إياها من بعضهم بالخيانة وفقد الحياة، وقد نبغ من بين هؤلاء الأخلاط رجل كان على جانب عظيم من الحذق والفطانة والحلم والاستقامة والعدل والشجاعة يدعى علي بيك الكبير؛ فوصل في زمن قليل بما فيه من هذه الصفات إلى أعلى مراتب الشرف والرفعة حتى تقلد مشيخة البلد سنة 1177ه، فطهر مصر من عصاتها وقطع دابر المفسدين فيها. غير أن أعداءه كانوا لا ينفكون عن الإيقاع به عند جلالة السلطان، فبينما كان يجهز جيشا مؤلفا من اثني عشر ألف مقاتل حسب أمر الباب العالي لمساعدة الدولة ضد الروسية وشى به أعداؤه إلى السلطان مصطفى الثالث بأنه يرغب الانضمام إلى الروسية لتساعده على الاستقلال بمصر، فأرسل السلطان إلى الوالي بأن يقتله ويرسل رأسه إلى القسطنطينية، فلما علم بذلك علي بيك جمع في الحال بيكوات المماليك، وأعلنوا جميعا استقلال مصر، وأمروا الوالي بأن يخرج منها في الحال، وأخذ علي بيك في الاستعداد لمقاومة الدولة، واستقل بإدارة مصر وتنظيم حالها، وخفف الأموال على الأهالي، وخطب له، وضرب الدراهم باسمه، ثم عزم على افتتاح بلاد الشام، فأرسل إليها أحد مماليكه المدعو محمد بيك أبو الذهب بجيش مؤلف من ثلاثين ألف مقاتل، فاستولى محمد بيك على جميع بلاد الشام تقريبا في مدة قليلة، ولكنه اتحد سرا مع الباب العالي ضد علي بيك فجمع من هناك جيوشا عديدة ضمها إلى جيوشه، وعاد بها إلى القاهرة لمحاربة علي بيك من قبل السلطان، فانهزم علي بيك والتجأ إلى عكا، ولكنه عاد إلى مصر في السنة الثانية بجيش مؤلف من ثمانية آلاف مقاتل معتمدا على مكاتبات وصلت إليه من بعض الجند وبعض الأمراء بالقاهرة، فعسكر بالصالحية، وهناك انتشبت الحرب بينه وبين محمد بيك، فانهزمت جيوشه حيث انضم إلى عدوه اثنان من قواد جيشه؛ وهما إبراهيم بيك ومراد بيك، وأما هو فأبت نفسه الفرار فبقي في خيمته يقاوم أعداءه المقاومة الشديدة مع ما أصابه من الجروح الجسيمة، ولم يؤخذ إلا بعد أن بقي غريقا في دمه لا يستطيع حراكا، فحمل إلى القاهرة ومات فيها بعد بضعة أيام سنة 1187ه، ثم لحقه أيضا في السنة الثانية محمد بيك أبو الذهب، فتنازع السلطة بعد هذا إسماعيل بيك من جهة وإبراهيم بيك ومراد بيك من الجهة الأخرى، ولكنه فاز بها أخيرا هذان الأخيران، فحكما مصر أكثر من عشرين سنة، فأفرطا في الظلم والعدوان، وبعد أن أفنيا أموال الأهالي التفتا إلى نهب التجار الأوروباويين القاطنين في القاهرة والإسكندرية ورشيد، ولم يجد نفعا معهما تداخل الباشا الوالي، ولم يصغ السلطان سليم الثالث إلى تشكيات الأهالي، ولم تفد تشكيات القناصل إلا زيادة الظلم والعدوان، فكتب حينئذ شارل مجالون قنصل فرنسا إلى مجلس النظار بباريس، فأرسلت حكومة فرنسا إلى مصر جيشا فرنساويا تحت رئاسة الجنرال نابليون بونابارت.
Página desconocida