Monadología y principios de la naturaleza y la gracia
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
Géneros
هذه عبارات تذكرنا بنصيحة بارمنيدز لسقراط - في محاورة بارمنيدز لأفلاطون - بألا يحتقر الفيلسوف شيئا، ولو بلغ من ضآلة الشأن مبلغ الشعر والطين! وهي تكشف عن طبيعة ليبنتز وشخصيته ونزعته العقلية والنفسية التي وجهت نشاطه الفلسفي والعلمي، كما تكشف عن تواضع أصيل ينبغي أن ينهل الحكيم من نبعه على اختلاف البلاد والعصور، ويتعلم مع كل قطرة منه حقائق الحكمة، تفكير الإنسان المحدود، تقدير جهود الغير، الإيمان بسلطان الحقيقة الذي لا تنال منه قوى الزيف والكذب مهما كان عتادها وعدتها! وليس من الضروري أن نكون من الحكماء لنعرف هذا كله. يكفي أن ننظر في تاريخ الفكر البشري نظرة متسامحة واسعة الأفق؛ لكي نصحح أفكارنا، ونعرف أن الحقيقة تكمن في البحث الدائب عنها، والجهد المبذول للسير على طريقها؛ إذ لم يتأت لحي ولن يتأتى له أن يمتلك الحقيقة الكاملة! ومن لم يفعل هذا فسيظل أسير ذاته، وسجين عصره، ولن يتسنى له الارتفاع بفكره فوق الضحالة والتحيز وضيق الأفق.
وما أجمل ما يقوله الأديب الناقد والفيلسوف المربي العظيم ليسنج (1729-1781م)! الذي عبر عن عصر التنوير وتجاوزه في وقت واحد، ودافع عن روح التسامح والأخوة البشرية والصدق في المسرح والفن والحياة أبلغ دفاع وأخلصه:
ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذي ينمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولا، ساكنا، مغرورا. ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه - ولو كان في نيته أن يضلني ضلال أبديا - ومد نحوي يديه المضمومتين وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه في خشوع وهتفت به وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!
إن الفلسفة الخالدة كلمة عظيمة وفكرة خصبة، ولكن ما من كلمة لم يسأ استخدامها، ولا من فكرة لم يسأ فهمها. وما أكثر الذين يتصورون أن «الفلسفة الخالدة» معطف يدثر فكرا كسولا غير ملتزم، أو نزعة محافظة تفتقر إلى الجدة والقدرة على النقد والتمحيص. صحيح أن الفكرة التي تكمن وراء الفلسفة الخالدة لا تخلو من الأخطار والمزالق، ولكن من الخطأ الظن بأن الإيمان بها لا بد أن يكون علامة على ضعف التفكير وجموده، أو التساهل مع الغير - من باب حسن النية - أو التشبث بأكفان الماضي الغابر. وفلسفة ليبنتز نفسها خير دليل على خطأ هذا الظن. فلقد كافح طويلا في سبيل التعرف إلى الحقيقة الشاملة، ولم يجفل من السير على الدروب الجديدة المحفوفة بالمخاطر. وجمع العقل الناقد إلى القدرة على تقبل آراء الغير واحترام جهودهم وكشوفهم. ويكفي أن نشير للانتقادات العديدة التي وجهها إلى ديكارت ولوك وبايل، وأن نشير أيضا إلى اهتمته بأفكار عصره، والبحوث التي تمت على عهده في مختلف الميادين، حتى لقد وصل هذا الاهتمام في بعض الأحيان إلى حد الولع بكل جديد مبتكر! ولا شك أنه كان يقف في جانب التقدم والتطور، فضلا عن وقوفه في صف المحافظين - بالمعنى الكريم الذي يدل عليه الأصل اللاتيني لهذه الكلمة
21
أي بمعنى الحفاظ على كل ما يستحق البقاء، ويدفع تيار التطور إلى الأمام، ويضيف لكنز المعرفة البشرية حجرا واحدا ثمينا! ومن الظلم أن نأخذ إيمانه بالفلسفة الخالدة مأخذ الكسل الروحي، أو العجز عن ارتياد مجاهل المستقبل، أو قلة الأصالة والابتكار. ففلسفته كلها تشهد على شجاعته وتفتح عقله وعرفانه بما قدمته الفلسفة من قديم وجديد. ولو أحسنا فهم فلسفته لتعلمنا منه دروسا تنفع المؤمنين بالفلسفة الخالدة والجاحدين لها على السواء!
ثالثا: ليبنتز في مرآة الأجيال
ما الذي بقي حيا من فيلسوف غاب شبحه الفاني منذ مائتين وسبعة وخمسين عاما؟
سؤال عسير، من تلك الأسئلة التي لا يجاب عليها إلا بأسئلة أخرى! يصدق هذا على ليبنتز، كما يصدق على كل فيلسوف أو أديب عظيم ترك تراثه وديعة بين يدي الأجيال. ومن يدري؟ فقد تتوقف الإجابة علينا نحن، على رغبتنا في الحياة، أو قدرتنا عليها، على مدى ما نملك من شجاعة البحث عن كنوز الماضي، والارتفاع إلى قممها، والاغتراف من منابعها وبث الحياة فيها وفي أنفسنا. وكم من مفكر أو أديب مات في ذاكرة الأجيال وشبع موتا. ثم جاءت اللحظة التي أحست فيها بحاجتها الملحة إليه، ففزعت نحوه كما يفزع الابن التائب إلى صدر أبيه، وأزاحت التراب والأكفان عنه، وأنقذت صورته من عناكب النسيان التي تعشش عليها في المتاحف والمخازن!
يمكننا أن نسأل عن أثر ليبنتز على التاريخ الأوروبي والثقافة الأوروبية من بعده، فنعرف فضله الذي لا ينكر على العديد من الأكاديميات العلمية التي تأسست في أواخر حياته، أو بعد موته، وكان له دور مباشر أو غير مباشر في قيامها.
Página desconocida