Monadología y principios de la naturaleza y la gracia
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
Géneros
22
ويمكننا أن ننظر إلى العلوم العديدة التي ازدهرت في عصرنا الحديث، فنتبين بصمات أصابعه عليها، ونرى إلى أي حد أفادت من توجيهاته ولمحاته، فكان أحد الرواد القلائل الذين دلوها على الطريق الصحيح الذي تواصل السير فيه. ويكفي أن نذكر علوم الرياضة والفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا واللغة والتاريخ والاقتصاد والمنطق الرياضي وعلم النفس التحليلي وغيرها من العلوم التي تعترف اليوم بفضله. ولكننا لن نمضي في هذه الأسئلة التي تحتاج إلى بحوث متخصصة ليس هذا مجالها، ولنرجع للخيط الذي لمسناه عن تأثير ليبنتز على التراث الفلسفي الحديث.
لم يكن ليبنتز من الفلاسفة الذين يجمعون حولهم المريدين والأتباع، وينشئون مدرسة تتولى نشر أفكارهم ورعايتها بعد موتهم. لقد ترك وراءه تراثا ضخما من البحوث والرسائل المخطوطة التي لم ينشر منها في أثناء حياته، سوى قدر ضئيل. ومات وحيدا منسيا مكروها من أغلب معاصريه، وظل الكره والإهمال والجحود يلاحقه حتى عهد قريب. ولا شك أن كشوفه الهامة في الرياضة والعلوم، وصلاته القوية بعلماء عصره ومفكريه، ومذهبه الذي أثار الإعجاب باتساق بقدر ما أثار السخط على تفاؤله الشديد، وشخصيته الموسوعية الفريدة التي جمعت المتناقضات في مركب عجيب، لا شك أن هذا كله لم يسمح بأن يتسرب إليه النسيان، وإن سمع بعض الوقت بالجحود والنكران!
والمهم أن أعماله نجت من القدر الذي لم يترفق به في حياته. وبدأت أجيال الباحثين في نشر مخطوطاته العديدة المبعثرة بين المكتبات، وفك طلاسم مسوداته المليئة بالتصويبات والزيادات والمراجعات! ولم تكد تمر عشرون سنة على وفاته، حتى ظهرت أول محاولة لدراسة فلسفته دراسة شاملة. فكتب لودوفيجي في سنة 1737م كتابا بعنوان: مشروع تفصيلي لتاريخ كامل لفلسفة ليبنتز.
23
غير أن الفضل الأكبر في نشر فلسفة ليبنتز والترويج لها بين جموع المثقفين يرجع لكرستيان فولف (1679-1754م) زعيم حركة التنوير في ألمانيا في القرن الثامن عشر، وأمير النزعة العقلاني، و«الممثل الجبار» للفلسفة الدوجماطيقية أو القطعية كما قال عنه كانت بحق!
ولكن فولف وتلاميذه أساءوا إلى ليبنتز بقدر ما أحسنوا إليه، فحشروا فكره الأصيل الحي في قالب مذهبي ضيق، غلب عليه الطابع المدرسي، وتحكمت فيه آفة التلفيق والتوفيق. وقد كان فولف أول من غامر بكتابة معظم مؤلفاته باللغة الألمانية، وهي في أغلبها لا تخرج عن عرض فلسفة ليبنتز مع مزجها بعناصر أرسطية ورواقية ومدرسية. ولهذا يمكن القول إن ليبنتز - الذي كان يكتب أساسا بالفرنسية واللاتينية - كان له أثر غير مباشر على تكوين المصطلح الفلسفي في اللغة الألمانية التي لم يكتب بها كثيرا.
وقد كانت فلسفة التنوير - التي عبر فيها فولف وأتباعه عن إيمانهم المفرط بالعقل، واهتدوا فيها قبل كل شيء بفلسفة ليبنتز - هي التربة التي نمت عليها فلسفة كانت، واستمدت منها عصارة حياتها الأولى. والواقع أنه يتعذر علينا بغير ليبنتز أن نتصور كانت وفلسفته. صحيح أنه تصدى في مرحلته النقدية للهجوم على النزعة العقلانية القطعية، وهدم صروحها الميتافيزيقية الشامخة، ولكن هذا لا ينفي تأثره الشديد في بداية نشاطه الفكري بفلسفة ليبنتز التي قامت عليها تلك النزعة أو بالأخرى على صورة معدلة منها - ولا يقف الأمر عند التأثر المحتوم بين الخصوم - فالمنقود يعيش دائما في ناقده! بل يتعداه إلى مسائل هامة تتصل بنقاط اللقاء والافتراق بينهما. والمتأمل لفلسفة كانت النظرية والعملية لن يخطئ سماع أصداء عديدة من ليبنتز: القضايا التحليلية والقضايا التركيبية، مملكة الطبيعة ومملكة الغايات، حقائق الواقع التجريبية الحادثة، وحقائق العقل الأبدية الضرورية، الاهتداء بالمناهج الرياضية والعلمية لأحكام المناهج الفلسفية والميتافيزيقية ... إلخ، ويكفي أن كانت قد تأثر إلى أبلغ حد بكتاب ليبنتز «مقالات جديدة عن العقل الإنساني»، الذي لم ينشر إلا في سنة 1765م؛ وذلك في كتابه الصغير الذي يحمل بذور نظريته في الإستطيقا الترنسند نتالية أو الزمان والمكان، ويعد إرهاصة حقيقية بتحوله إلى الفلسفة النقدية، وعلامة بارزة على طريق تطوره العقلي،
24
ويقصد به رسالته اللاتينية الهامة «صور ومبادئ العالمين الحسي والعقلي» (1770م). فقد عبرت هذه الرسالة الصغيرة عن تخلصه النهائي من تأثير النزعة العقلانية القطعية - التي توصف عادة بفلسفة فولف وليبنتز - ومزاعمها الطموح المتعجلة عن قدرة العقل البشري على معرفة الوجود كما هو في ذاته، كما عبرت عن الارتباط الوثيق بين الحساسية وطبيعة الإنسان المتناهية المحدودة، وكلها إشارات هامة إلى «التحول الكوبرنيقي» والثورة النقدية التي أعلنها في كتابه «نقد العقل الخالص» بعد ذلك بأحد عشر عاما.
Página desconocida