أسائل نفسي: ولم لا يتركون هذه الفكرة على الإطلاق ولا يتعبون بها أنفسهم وقواهم على غير جدوى ولا طائل؟ لم هذا التعلق بعقيدة إلى حد إجهاد النفس من أجل إثباتها وإقامتها مع أنها لا تصل إلى نتيجة عملية مطلقا؟ إن وجدت الإله كما يقول الدينيون أو لم يوجد كما يقول الملحدون فما هي نتيجة وجوده أو عدم وجوده في عالمنا الحاضر المحكوم بالقوانين والذي لا يعتدي فيه الواحد على الآخر لا طيبة منا وإحسانا، ولكن حتى ينال من الآخر أن لا يعتدي عليه في نفسه وملكه.
أحسب أن لذلك سببا؛ ذلك أن النفس الإنسانية التي ترى أمامها خيالا من الماضي والمستقبل يرجع بها إلى تصور لا نهايات الأزل والأبد تحس كأنها في الساعة الحاضرة على سفينة في بحر لا حدود له، وتحس أنها هالكة لا محالة إذا هي لم تتبع خط سير تعتقده يصل بها إلى غاية معينة ذات حدود هي الخلود الذي ترجو بعد الموت والجزاء الذي تنتظر عما قدمت، هذا البقاء المتضامن من الأزل إلى الأبد وهذا الخلود الدائم تمثله النفس الإنسانية بصورة هي ما يسميه المتدينون «الله»، ومتى وجد إثباته على هذا الشكل لم يكن من محيص أن يقوم على الجانب الآخر جماعة ينفون هذه الصورة، إما لقصر في خيالهم وإما لأنهم أكثر إحساسا بالواقع ويفضلون العيش في الحاضر والمتاع به على هذا الخلود المأمول.
هذا هو السبب في انتقال الإنسانية من جيل لجيل تتسلل فيها مرة فكرة الإله القديم الخالدة، وأخرى بقاء الروح بقاء أبديا، وفي الوقت عينه في قيام ملحدين على أشكال وأنواع هم الآخرين، ومن هؤلاء ومن أولئك صورت الأفكار التي دخلت مع الإنسانية في تركيبها العام، وأصبح ضروريا في النفس الإنسانية أن تكون ذات اعتقاد ولو في لا شيء، ومهما كان من الناس من يقول لا أدري فإنه يعتقد بلا أدريته اعتقاد المؤمن بإيمانه ويمرح من هذه اللا أدرية في خيال ليس أقل امتدادا من الخيال الذي يمرح فيه المتدين وإن كان من نوع آخر.
28 سبتمبر
في عالم القبور ...
دخلنا البانتيون مقبرة العظماء مرة أخرى، وهبطنا من سطحه إلى بطن الأرض حيث القبور تضم رفات الأموات، مكان مظلم يقابلك لأول ما تدخله ريح رطبة وهدأة المكان وضيق مساربه فتشعر كأن شيئا يضغطك وكأنك انتقلت إلى العالم الآخر حقيقة، وأول ما يقابلك من القبور قبر جان جاك روسو أبي الحرية وصاحب قرآن الثورة الفرنساوية، وعن يمينه قبر فولتير شيخ كتاب القرن الثامن عشر، ثم تأتي بعد ذلك قبور فكتور هيجو والآخرين، وعند نهايتها تصعد من هذا العالم الآخر على درج ضيق يخرجك إلى حيث حركة الوجود الدائمة.
الأحد الماضى - أول الأمس - كنا في ضاحية سان دنيس ودخلنا مقبرتها، سرنا في طريق تحيط به قبور العائلات وكتب على بعضها: هنا دفن فلان فلندع الله له، وقد كان يدخل المقبرة من حين لحين رجال ونساء يحملون باقات الزهر ليضعوها فوق القبور، بين هؤلاء الداخلين شباب وفتيات حملتهم الذكرى إلى هذا المكان الخالي الهادئ يريدون أن يناجوا تلك الأرواح التي سعدوا بقربها زمنا ليس بالقصير، يستعيدون خيال تلك الساعات اللذيذة فيحزنون لفنائها وتظهر على وجوههم أمارات الألم لما لعزرائيل من السلطان الجائز القاسي في التفريق بينهم وبين من يحبون، ومن بينهم عجائز لا يدرون متى يلحقون بأهل ذلك المكان، وهم يهرولون إليه أو يكادون وكأنهم ضجروا ذلك الانتظار الطويل بين ضجة العالم وضوضائه، فهم يطلبون المقابر ويستعجلون إليها السبيل.
كم بين أولئك العظماء سكان البانتيون وهؤلاء المقبورين في مقبرة سان دنيس من الفرق، كلهم يرقدون في هدأتهم على بساط مساواة، وإنما خلف الأولون من الذكر ما يظل رنينه في أذن الدهر ما كانت له أذن واعية ومن الأثر ما يحيط بالعالم كله فالعالم كله يزورهم، وخلف الآخرون وراءهم قلوبا من أهلهم وأصدقائهم تحزن عليهم ما بقيت حتى تشاركهم مصيرهم .
29 سبتمبر
لو أن كل الليالي تمضي كما مضت ليلتنا هذه لما شعرنا بالحياة من شدة السرور ... كلا، لا أستطيع أن أعبر عما أريد، وحسبي أن أقول إنه يزيد على كل ما يمكن تصويره به، هذا المكان المملوء بالدخان وبالموسيقى وبالضحك وبالناس وبالمشروبات والذي يطفح سرورا، هؤلاء الجالسين أزواجا وجماعات من الشبان والبنات وكلهم يضحكون، وهاتيك الراقصات رقصا غير مرتب ولا منتظم، هذه الضجة التي أنستنا كل شيء وأنستنا وجوه البنات العكرة وأشكالهن البائسة.
Página desconocida