حيث تسير ترى وجوها تنم عما يقع بها من الظلم، عمالا وعاملات لا يجدن ما يكفيهم ضروريات الحياة، مصابين بتلك الوخزات التي لا تهدأ يد الحوادث عن إيصالها لبني الإنسان، مشردين لا يجدون مأوى وينتظرون من حين لآخر أن يقعوا في يد العادلة القاسية، مرضى وعجزة يدعو بؤسهم لشديد الألم من أجلهم، فتيات تاه عنهن طريق الكد وأوقعهن سوء التدبير فأرقن عرضهن وجعلنه متجرا، كثيرون غير هؤلاء سقطوا في سعيهم وخابت آمالهم فيهب عليهم من نسيم البؤس ما تعبس له وجوههم وتتقطب جباههم وتندى عيونهم فتهون عليهم العبرة وقد خنقتهم زمنا ليس بالقصير.
هل يستطاع تخفيف ذلك الشقاء عن الناس؟ هل يمكن أن يطرد البؤس من الأرض؟ هذا ما جاهد له كثيرون ولم يبلغوا كثيرا مما أرادوا، وأحسب أنه ما دامت المدنية الحاضرة مدنية الطمع والشره للمال حاكمة فوق الأرض فمحال إخراج الناس من بؤسهم وعبث مطاردة الشقاء فإنه كامن في تركيب هذه المدنية ولا يفارقها.
25 سبتمبر
كنا نتناول طعام الغذاء في المطعم وكانت معي «الجريدة» فأمسكت بها الخادمة التي اعتدنا أن نأكل عندها وجالت بصرها فيها وقالت إنها لا تعرف كتابتها، فقلت مازحا: تلك كتابة الإله الرحيم. (Le Bon Dieu) .
أجابت: أنا لا أعرفه ولذلك لا أعرف كتابته ... ثم قالت متهكمة: إنني ما رأيته قط، ولقد أردت فأوصدت في وجهي أبواب، أفرأيته أنت؟ - نعم رأيته. - إذن فهل تتكرم بأن تحدث معرفة بيني وبينه ... إلخ.
ليست هذه الحكاية بذات الأهمية في نفسها، ولكنها جاءت عقب حكايات أخرى من مثلها وتدل على روح عامة في البلد، كان المسيو ك. وهو شاب في الثانية أو الثالثة والعشرين ليسانسييه في الحقوق يقول حين سألته عن دينه: «لقد ولدت لا أعرف إلها»، وإن أباه وأمه على هذا، وإنهم يعتقدون أن حبائل الكنيسة كلها شراك ممدوة للكسب، ولعله يبالغ في ذلك خصوصا بعد الذي علمته من الأعمال الطيبة التي يقوم بها رجال الدين على ما أخبرتني مدام ه.ج.
مسألة أخرى من هذا النوع، أنا كنا أول الأمس في قهوة فجلست إلى جانبنا امرأة وحادثتنا، وما أسرع ما وقع الحديث على الدين وسألها أحد الحاضرين عن الإله
Le Bon Dieu
فقالت إنها لا تعرفه، وسألت سؤال خادمة المطعم: هل رأيته؟. ثم قالت: «تعرف ما هو مكتوب على إطار القطعة ذات الخمس فرنكات؟» أجابها صاحبنا: نعم «يحفظ الله الجمهورية الفرنساوية»، فقالت: هاته القطعة هي الله الذي يطلب منه أن يحفظ الجمهورية وكل فرد من الأفراد، أترى لو أنك لا درهم معك وذهبت إلى الأوتيل هل أنت إلا ملاق من يطردك.
الأكثرون غير هؤلاء ينطقون بهذا المعنى، تلقن لهم هذه العقيدة المادية كما يلقن الدين عندنا للعامة، ويبقى مغروسا في نفوسهم محتلا لها محال زحزحتها عنه.
Página desconocida