محمد حسين هيكل
القسم الأول: مذكراتي في أوربا
1 - السفر
2 - باريس وضواحيها
3 - في الرفييرا
4 - في باريس من جديد
5 - في إنكلترا
6 - في سويسرا
7 - في لوسرن
8 - في إيطاليا
Página desconocida
9 - في مصر
القسم الثاني: ما بعد المذكرات
1 - أدب اللغة الفرنساوية
2 - تطور فكرة المسؤولية في العصور المختلفة
3 - كتاب مفتوح إلى لجنة تنقيح قانون الأحوال الشخصية
4 - الاقتصاد السياسي وقواعد الأخلاق
القسم الثالث: ما بعد المذكرات
وأخيرا
محمد حسين هيكل
القسم الأول: مذكراتي في أوربا
Página desconocida
1 - السفر
2 - باريس وضواحيها
3 - في الرفييرا
4 - في باريس من جديد
5 - في إنكلترا
6 - في سويسرا
7 - في لوسرن
8 - في إيطاليا
9 - في مصر
القسم الثاني: ما بعد المذكرات
Página desconocida
1 - أدب اللغة الفرنساوية
2 - تطور فكرة المسؤولية في العصور المختلفة
3 - كتاب مفتوح إلى لجنة تنقيح قانون الأحوال الشخصية
4 - الاقتصاد السياسي وقواعد الأخلاق
القسم الثالث: ما بعد المذكرات
وأخيرا
مذكرات الشباب
مذكرات الشباب
تأليف
محمد حسين هيكل
Página desconocida
محمد حسين هيكل
القسم الأول
مذكراتي في أوربا
في الطريق
الفصل الأول
السفر
7 يوليو 1909
هذه أول مرة في حياتي أضع فيها قدمي على غير أرض مصر.
لم نكد نصعد فوق سطح الباخرة حتى كنا وسط لجة لا حد لها من المسافرين والمودعين لا تميز العين بينهم هؤلاء من أولئك، كلهم رجال وشبان على وجه الأكثرين منهم أثر الجد والاهتمام، في حين تقرأ في عيون الآخرين حزنا عميقا ويمسحونها بمناديلهم من وقت لآخر، ومن الشبان من يضحكون غير مبالين، وفي كل لحظة ترى إلى جانبك اثنين يتقابلان ويتصافحان، ويقبل عليك الوقت بعد الوقت صديق لم تره من أيام أو من سنين، فيهز يدك هزة قوية ويسألك إن كنت مسافرا أو مقيما، ومتى علم أنك مسافر جعل يشجعك ويظهر من ثقته بك وبقوة عزيمتك، فتبسم أنت لأنك لا تعلم ما تجيبه به.
عن جانبنا شاب وقف معه من جاء يودعه، عشرة أشخاص أو أكثر، ومن بين هؤلاء رجل ظاهر الجزع لا يستطيع رغم شعوره المبيضة أن يحجز دمعته على أن تسيل على خده الناشف الشديد السمرة، تدل حمرة جفونه على أنه كان يبكي من قبل، ويكفي منظره ليستدر القلب رحمة به ويسعى من حوله لتعزيته، فلا ينفع معه شيء ولا يتعزى، كأنه يرى في الخضم الهائل أمامه مختبئا ملك الموت ينتظر العزيز الذي يفارقه ... والناس يسيرون في كل جانب من جوانب المركب وإلى كل الجهات ينظرون في كل الوجوه يريدون أن يقولوا كلمة وداع لمن يعرفون، والكلام والضحك والبكاء ووصايا الآباء والإخوان وضجة الحمالين وأصوات الصائحين ورج الآلات الرافعة جوف المركب، كل ذلك مخلوط بعضه ببعض يترك الحواس والقلب والنفس في حيرة واندهاش، فإذا قلبت عينيك فيما حولك أزددت حيرة لا ينجيك منها إلا محدث ممن معك يقف إلى جانبك، فإما كان رجلا فألقى إليك بنصائح، وإما شابا من أصدقائك صامتا يحدق بك كأنما يريد أن يملأ عينيه من صورتك التي تتغيب عنه الزمان الطويل ...
Página desconocida
ارتفع في الجو صفير الباخرة تعلن المودعين ليذروها، في تلك الساعة هاج الناس وماجوا وجعل كل يقول لصاحبه الكلمات الأخيرة.
سلم علي إخواني الشبان ثم وقفوا جانبا، وجعل أهلي وإخواني يقبلونني قبلة الوداع ويقولون لي «مع السلامة وإن شاء الله نسمع عنك كل خير»، ولكن رجلا من بينهم طالما عرفني لم يستطع أن ينطق بكلمة إلا دمعة ذرفها وقبلة وضعها على صدغي ثم هز يدي وسار.
جعلت الباخرة تخلو من المودعين قليلا قليلا، وسلمها الخشبي الضيق مزدحم بهم يقذفهم للشاطئ وهم يتتابعون فوقه، وأخيرا أصبح السلم هو الآخر خلاء ورفعوه إلى الباخرة.
اصطف المودعون على الشاطئ وجع لكل منهم يبعث لمن يعرف نظرة أو ابتسامة، ثم تحركت المركب بحركة بطيئة وأخرج الناس من جيوبهم مناديلهم يشيرون بها في الهواء ويتنادون: «مع السلامة»، ثم ابتدأ الشاطئ يغادره من عليه حتى إذا لم يبق لنظرة أو لابتسامة سبيل لم يبق إلا الآباء ومن معهم ممن جعلوا يقتربون جهة الباخرة كأنما تجرهم إليها.
ابتعدت الباخرة في سيرها غير المحسوس ولم يبق على الشاطئ إنسان.
وذهبنا إلى الجهة الثانية فإذا أحجار المينا تقترب منا وهي قائمة بين الماء الهادئ الذي تسري فوقه والخضم الهائل الذي ينتظرنا، ثم سمعت الأذن صريف أمواجه المتكسرة على الأحجار.
عبرنا عباب المرفأ وتجلى أمامنا البحر ممتدا إلى الأفق، وجلست فوق تلك المدينة السائرة أتحادث وأصدقائي، وزادت سرعة الباخرة فجعلت الإسكندرية تنطوي أمام الناظر شيئا فشيئا، ومد من شاء من المسافرين بصرة يودع هذه الديار العزيزة الغالية، والشمس يغمر نورها الجو وينطرح على مهاد الأمواج شعاعها قد ابتدأت تهبط إلى مغيبها.
على هذا البعد الشاسع بيننا وبينها ظهرت المدينة مستكينة صاغرة وأحيت أمام الذاكرة الإسكندرية القديمة حين الناس في مدينتهم الأولى، وكلما زاد بعدنا عنها طحنها الأفق وأخفى من معالمها وزادها استكانة وخفوتا، ونحن ننظر لها وللجة الهائلة تفصلنا عنها والعين أعلق ما تكونت بما بقي منها والقلب يود لو يطير إلى هاته الأراضي كمن فيه حبها طول حياته، وها هو يستعر أن يراها تبتلعها السماوات والبحار.
ثم ارتميت إلى مقعدي أن طمس الأفق على الخيال الأخير الذي كنت أرى، وأحسست كأن حزنا يثقل فؤادي وينوء به صدري، وراحت خيالاتي في تيهاء لا أدرك فيها شيئا.
لم يطل بي المقام على هذا الحال إذ اعتراني الدوار واضطرني أن أهبط إلى غرفتي.
Página desconocida
10 يوليو
لنا الآن يومان على البحر تحيط بنا دائرة الأفق فوقنا وأسفل منا زرقة السماء وزرقة الماء ... نحن في وحدتنا تتهادى بنا الباخرة فوق الامواج ولا تسمع الأذن سوى كلام المسافرين الهادئ الساكن ورغاء الماء يشق عبابه حيزوم قاربنا الهائل، وتطلع الشمس والناس في مراقدهم ثم ترتفع ويتلقف الموج شعاعها ويتقاذفه حتى يفنيه وسط اللجة العظيمة، وتغرب وهم يتجهزون لطعامهم فلا يعنى بمغربها منهم جائع، ثم ندخل بكلنا تحت غطاء الليل ينفرد على الوجود وتتلألأ فيه النجوم.
ذلك ما نرى من يومين طويلين حتى اعتادت العين المنظر والسمع هذا الوش الدائم، ولم يبق أمام الحواس ما يستدعي الالتفات أو يشغل الضمير، نعيش في هدأة كاملة، أكبر ما يهمنا أن نقوم للطعام وأقصى أمانينا أن نفرد مقعدنا في مكان ظليل، فنمد فوقه سيقاننا ونسند إليه رأسنا وننظر بعين نصف مغمضة إلى الفضاء الذي أمامنا، ونترك أنفسنا خالدة إلى سكونها ناعمة في ذلك التخدر اللذيذ الذي يجيئها به نسيم البحر.
ما أحلى هذه الحياة الفارغة من كل الهموم وما أطيبها! يمر علينا الوقت في مقعدنا هذا أو جالسين إلى جانب أصدقاء يحكون لنا عما سنرى ولا نحس بمره ... نمسك أحيانا كتابا فلا يجذبنا شيء مما فيه لأنه مهما كان لذيذا لا يساوي عيش السكون الذي يغمرنا.
نجاهد أحيانا أن نغير هذا العيش ونبدله ببعض النشاط فندور فوق القارب من جانب لجانب، ولكن ما أسرع ما نرجع إليه إذ لا شيء يعوضنا عنه.
اليوم عينه منتصف الليل
أسمع ضجة في الخارج ... ترى ماذا عساها تكون؟ ...
ها مينا نابولي تختفي عن الأنظار ويبتلعها الليل في جوفه العظيم، تركت صالون الباخرة ساعة سمعت الضجة وأسرعت أرى سببها فإذا الناس ينظرون إلى بعيد ويتساءلون: «شايف ... شايف»، فوقفت على أطراف أصابعي فلم أتبين شيئا لأن الواقف أمامي أكثر مني طولا وأعرض أكتافا، وكلما حولت رأسي إلى جهة مال هو الآخر برأسه نحوها، وأخيرا علمت أنها باخرة عند خط السماء، فغيرت من ذلك المنظر المتشابه الذي اعتدناه من ساعة غابت الإسكندرية عنا وأدخلت إلى الجو العظيم الصامت شيئا من معنى الحياة والحركة.
ازدادت الضجة ارتفاعا حينما لمعت عند الأفق بشائر الأرض، وجعل كل يقص على بعض ما يعرف عن نابلي، ولم يك إلا قليل حتى رأينا قارب صياد يتلاعب به الموج وصاحبه فيه ساع يريد أن يكسب من بين مخالب الموت قوته، فلما اقتربنا منه ودفعت الباخرة عن جانبيها تضاعف الموج قوة وفظاعة فجعل القارب يختفي ويظهر بين طيات الماء، والصياد في جوفه مطمئن اطمئنان المترف في رياشه، ناظر إلينا وإلى مختلف ما نلبس بعين هادئة اعتادت هاته الأشكال حتى صارت مبتذلة عندها، وكأنه يقول لنا وقد اجتمعنا نحدق به إنما العيش عادة تصبنا في قالبها الأيام، فلا نعبأ بما فيه مهما كان شديدا إذ قد طال ما ألفناه.
في الفترة التي أخذها الصياد تجلت المدينة تحت الشمس الساطعة، وهبطت حركة الباخرة حين دخلت المينا، ثم إذا إنسان يصيح كأنه غريق يستغيث، فما أسرع أن جاء راكب ممن معنا فوقف إلى جانبي وأخرج من جيبه قطعة من النقود قذفها بعيدا عن الرجل كما يقذف الإنسان إلى الكلب لقمة العيش أو قطعة السكر، وكالكلب أسرع هذا العاري فالتقط القطعة بفمه، ووجدت أنا من السرور لنفسي أن أعمل ما عمل صاحبي فألقيت قطعة سقطت في الماء فسقط وراءها وخرج بها بين أسنانه وجعل يصيح من جديد، والتف الركاب يتلهى الإنسان بالضحك من أخيه الإنسان.
Página desconocida
وكان هذا الرجل واحدا من كثير من أمثاله ليس عندهم من الهمة ما له، فانتظروا قريبا من الشاطئ وهجموا جميعا على الباخرة دفعة واحد، ومن بينهم فتيان صغار وفتيات عليهن أثر الجمال استلفتن إليهن المسافرين وأخذن منهم ما جادوا به.
ألقت الباخرة رواسيها ونزلنا المدينة مع دليل يعرف العربية ساقته الصدفة، فبعد أن طردنا شرذمة من الأولاد الذين أحاطوا بنا يطلبون إحسانا باسم المكرونة، اخترنا عربتين من بين كثير مصطفة على جانبي الطريق، عربات متسعة لا تضيق الواحدة منها بخمسة أشخاص أو ستة، لكنها قديمة بالية مقطوع جوخها قذر داخلها وخارجها، فلما كنا عندها اتجهت إلينا أنظار الحوذية وهم جميعا وقوف إلى جانب خيولهم المشتغل بعضها بطعامه والآخر بدفع الطير عن جسده، بعد مداولة قصيرة أخذنا عربتين من بينها، كان معي في العربة صديقي ب. وآخرون، وقد اشتغلت عنهم بالنظر عن يميني ويساري إلى المباني الفادحة الارتفاع وإلى الشوارع الجميلة التنسيق.
وصلنا إلى شوارع متسعة تدل حالها وعلائم السكون البادية عليها أن الناس بها أرقى حالا، وجعلت تتكرر أمامنا فيها وفي كل ميدان وعلى باب كل بناء عظيم التماثيل المختلفة لا نعرف عنها شيئا فلا نفهم لها معنى، ولما كان الدليل في العربة الثانية مع أصحابنا استفسرنا حوذينا فابتدأ بذلك فصل مضحك: حوذي يرطن بالتليانية يريد أن يفهم شبانا لا يفهمون من كلامه كلمة.
زرنا الجالريا والأكواريم، الأولى متحف التماثيل والأخرى مجتمع أغرب الأسماك مما لا يخطر في البال إن لونا أو شكلا أو حركة
1
ورجعنا بعد ذلك إلى سوق المدينة بقينا به حتى تناولنا عشاءنا فأخذنا من (الأسباجتي) ما ضاقت دونه بطوننا ثم قمنا إلى المركب فوصلناها قبل موعد سفرها بنصف ساعة.
أبحرت الباخرة الساعة العاشرة مساء فتجلت ميناء نابولي تأخذ بالأبصار القلوب، قامت صفوف الأنوار في نصف دائرة بعضها فوق بعض تطوق بحر المرفأ وتطرح على الماء الهادئ اللابس كساء الليل خيوط النور والذهب تبعث إليه الحياة والجمال وتبين صاعدة من أعماقه مرتقية تتدرج إلى أعالي المدينة وتلاقي هناك عند مرمى النظر نجوم السماء.
وكلما ابتعدنا عنها اقتربت من بعضها حتى صارت عقد جيد الأفق، ثم أخذت الباخرة طريقا آخر وابتلع الليل المرفأ في دجنته.
يقول الإيطاليون: «زر نابلي ثم مت.» أصحيح ما يقولون؟
12 يولية
Página desconocida
ما أجمل الهدوء والسكون وما أحبهما للنفس. الساعة السادسة صباحا والباخرة لا صوت فيها، وصاحبي في الغرفة قد ذهب ليأخذ حمامه، وبقيت وحدي في هذا الوكر الضيق مطمئنا فوق المدينة السائرة.
بالأمس مررنا من مضيق بونفسيو ورأينا على الجانبين جزيرتي كورسكا وساردينيا، الأولى جدبة صخرية صفراء باقية على عهدها أيام ولد نابليون وعلى عهدها من قبله أيام قيصر والسالفين، والثانية أبعد عن القارب وأبعد عن الذهن لا يلتفت إليها أحد لأن الكل مأخوذ بصاحبتها.
فوق هذه الجزيرة الجرداء نما نابليون، بين هاته الصخور شب الإمبراطور، تلك الأرض الصغيرة أنبتت الرجل الكبير لينشر علمه على الارض وليذيع ذكرها في الخافقين، كذلك أنت يا كورسكا مسؤولة عن الدماء التي أراقها هذا الجلاد العظيم.
دق الباب ودخل صاحبي هاته اللحظة من حمامه فقطع علي سلسلة كتابتي.
صاحبي رجل طيب واسمه ع. ف. لا يلبث أن يرجع من حمامه حتى يفرد عباءته ويصلي، في حين أبقى أغلب الأحيان في سريري أو على الكنبة إلى جانبه حتى يناديني الخادم إلى دوري في الحمام ... ودوري من آخر الأدوار إن لم يكن آخرها.
أحسبنا اليوم ننزل مرسيليا؛ إذن ... الخادم يناديني للحمام، كيف ذلك؟ ... لأن كثيرين مشغولين بترتيب ما معهم فتركوا دورهم ...
ها نحن وصلنا.
13يولية
نزلنا مرسيليا صباح أمس بعد أن تركنا متاعنا لرجل من شركة توبن، خلصه حتى أنزله معنا في قطار المساء، وتمكن من أن يهرب لنا خمسمائة سيكارة بالاتفاق مع عامل الجمرك، ولقد تناول جماعة أصحابي من سمك (البويابس) في طعام غذائهم حتى لا تفوتهم أكلة مرسيليا الخاصة بها، ثم أخذنا عربة طفنا بها أنحاء المدينة وأزارتنا أماكنها الجميلة، دخلنا البرادو أكبر بستان في مرسيليا وجعلت العربة تسير بنا في جوانبه وتمر بنا من تحت أقبيته الخضراء كونتها الأشجار الكبيرة الفروع حتى تتقابل وتتداخل، ويتقن فيها البستاني فيصل إلى أعظم درجات الإبداع.
أما المينا نفسها فيما حول الكورنيش فيقف دونها الوصف، بيوت صغيرة منعزلة قائمة وسط زرقة البحر تصعد متدرجة فوق الربى وتحيط بها من كل جانب أشجار ونباتات تجعلها في وحدتها فريدة لا يداني جمالها جمال، وأمامها زرقة المتوسط وسماؤه الصافية، ومن حولها يأخذ بالعين الجو العظيم تظهر فيه عن بعد بيوت أخرى وهضاب وأشجار
Página desconocida
وأخذنا القطار آخر النهار فلما تحرك واستقر بنا المجلس جئنا بطعامنا فتناولناه، ثم بقينا بعد ذلك سكوتا همودا.
التفت إلى يساري علي أرى من النافذة شيئا، فإذا ما حولي سواد الليل الأدهم، ونظرت إلى صاحبي أريد أن أفاتحه القول فإذا هو مسند رأسه إلى ما وراءه محدق ببصره إلى سقف الغرفة تائه بكله في تلك الأحلام المبهمة التي تجيئنا عقب الطعام حين يصيب أعضاءنا خمول يتركها خادرة، ونحس كأن فكرنا منهوك تاعب فهو لا يستطيع أن يفهم شيئا، والآخرون إلى جانبه وحالهم كحاله.
ثم أفاقوا جميعا مرة واحدة حين علت ضجة القطار داخلا النفق، وأسرع أحدهم فأقفل نافذة كانت مفتوحة خيفة أن يمتلئ المكان دخانا، وأحسسنا حين أحاطت بنا الأرض من فوقنا ومن أسفل منا كأن صدى تلك الضجة يرن في قلوبنا فلم يقطع أحدنا السكوت الذي كنا فيه حتى خرج القطار من جديد إلى الهواء الحر، حينذاك قال عبد الله بك: يالله نلعب ورق.
قضينا في لعب الورق حتى منتصف الليل.
ولما وصل القطار إلى ليون نزل منه خلق كثير تركت أنا أصحابي إلى الغرفة المجاورة آملين أن ننال بعد سهرنا هذا ساعة يرد لنا النوم فيها من الراحة ما يعوضنا عظيم تعبنا.
لكني لم أبق طويلا حتى دخلت إلى هذه الغرفة فتاة وضعت شنطتها على الرف وجلست إزائي فجعلت أدير نظري ساعة إلى جهة النافذة وأخرى ألقى به الأرض وثالثة أغمض عيني خيفة أن تقع عليها، واستولاني خجل لا أفهمه، فلما تحرك القطار انتهزت فرصة اشتغالها ببعض أمرها وانسحبت خارجا أريد أن أرجع إلى حيث كنت فوجدت أصحابي قد أقفلوا الباب وطمسوا على النور ...
وقفت في الممر حائرا أسأل نفسي أليس ممكنا أن يكون المحل الذي جلست فيه محجوزا «للستات»؟ ولكن بابه لا يدل على شيء من ذلك ... أليس ممكنا كذلك أن تكون هاته الفتاة وجدتني مفردا فمالت عندي تريد أن تغريني؟ استحوذت هاته الفكرة علي تهيج في نفسي أحيانا من السرور وأخرى من التخوف ... ثم عقدت حواجبي وهزرت رأسي قلت ... «وسألعب أنا الآخر معها دوري».
دخلت إلى مكاني من جديد فوجدتها خلعت قبعتها وتقفل في ستار النافذة المقابلة لها، لكني أحسست لأول ما رأيتها بهزة عرتني، فتناسيت واشتغلت عنها بإقفال ستار باقي النوافذ حتى إذا انتهت جلست مكاني صامتا لا أتحرك وإن استرقت إليها النظرات أحيانا، أما هي فبعد أن أتمت كل الذي عملت كأن لم أكن موجودا نظرت إلي وقالت: تسمح يا سيدي أن تحجب النور؟
فلم أتمالك نفسي حين سمعتها تتكلم أن ظهرت علي الدهشة والاستغراب: فتاة لا أعرفها تكون وحيدة معي ثم تكلمني بسكون ومن غير خجل كما يكلمني أي رجل آخر، وتطلب أن تحجب النور ليمسي المكان الذي نحن فيه مظلما ... ثم ماذا يكون بعد ذلك؟
تولاني خجل لم أقدر معه أن أجيبها بحلوة ولا بمرة، بل قمت ساكنا فأرخيت ستاري المصباح وجلست منزويا في الركن حيث كنت، فلم تمهلني بعد ذلك أن شكرتني ثم هيأت لنفسها مضجعا اتكأت فيه وقالت (ولست أدري إن كانت تكلم نفسها أو تكلمني): آمل لا يصعد إلى القطار في جرنبل من يفسد علينا نومنا. تمطيت أنا في الجهة المقابلة ولم أقل كلمة واحدة كأني منها خائف وجل، وبقيت أغمض عيني وأفتحها وكلي الحذر ولا أفكر في شيء مطلقا، بقيت كالطفل الذي أمرته أمه أن ينام وهو لا يريد، وفي الوقت عينه لا يدري ماذا يفعل.
Página desconocida
أمسينا بعد ذلك في ظلمة مخيفة، فما لبثت لحظة حتى سمعت أنفاسها تتردد في صدرها علامة النوم الهادئ المطمئن، حينذاك سكن روعي ورحت في أفكار متناوبة حملتني معها أنا كذلك إلى عالم السكون.
قضيت بقية ليلي بين النوم واليقظة أغيب عن نفسي أحيانا كأني نائم حقا ثم أرجع إليها وهي خادرة عمل فيها هواء تلك الغرفة الممتلئ كسلا وخمولا.
ثم تبنيت من خلال الستار كأنما تبددت ظلمة الجور وما كدت أرفعه حتى صدق النهار الوليد ظني، وتبدت أمامي الحقول تذهب منخفضة مرتفعة وتضيع دون الأفق، وتهبط الأرض أحيانا فأحدق من الهضاب التي يرمح القطار فوقها ثم إذ الأرض ارتفعت ودخلنا بين جبلين نسير بينهما مستكينين مستسلمين حتى يقذفا بنا في ظلمة النفق.
أخذت هاته المناظر البديعة بعيني وجلست معجبا بها لا أستطيع أن أتحول عن النافذة، جلست بشعري المنكوش وعيوني المتعبة وأنا تائه أريد أن آخذ هذا الجمال لصدري وأملأ منه ناظري فيحول دون ما أريد القطار الطائر إلى غايته، وأرسلت بأحلامي في الجو الفسيح أمامي وهو لا يزال في رداء من الشك مملوء بأحلام الليل وآمال النهار.
ثم التفت فإذا صاحبتي هي الأخرى منكوشة الشعر وإن تكن عيناها الزرقاوان الضاحكتان أكثر يقظة وانتعاشا من عيني، فلما تقابلت نظراتنا ابتسمت عن شفاه رقاق وأسنان ناصعة بديعة الترتيب ثم قالت: آمل أن تكون نمت نوما طيبا يا سيدي.
وبالرغم من قلة معرفتي للفرنساوية فقد استطعنا أن نتفاهم، وسألتني إن كنت رأيت باريس من قبل، واستمر الكلام بيننا حتى تركتني وذهبت ترتب نفسها.
2
فلما جاءت رحت أنا الآخر، وعند رجوعي وجدت أصحابي أيقاظا يتكلمون وينكتون ويضحكون، فلما وصل القطار وخرجنا من الحجرات ودعتني السيدة التي كانت معي بابتسامه وحنيت لها رأسي ثم خرجنا جميعا إلى جوف باريس.
الفصل الثاني
باريس وضواحيها
Página desconocida
باريس ... كم حكى لنا عنها الحاكون حتى تصورت بيوتها بلورا أو ذهبا، وأهلها لا يسير واحد منهم على قدميه، وشوارعها مع السكوت الأخرس مزدحمة لا يستطاع السير فيها، وتتخطر النسوة في كل مكان، وينظرون لكل إنسان يردن أن يبتلعنه بأعينهن ... وها أنا لا أرى من ذلك شيئا؛ ها بيوت مبنية بالحجر كبيوتنا، وناس كالذين نرى عندنا، وشوارع تجري بمن فيها، ونسوة يسرن ظاهرات الجد ... عن أي باريس إذن كانوا يحكون؟
1 ...
15 يولية
سأترك هذا الفندق الذي نزلنا فيه أول الأمس لأنزل في بيت عائلة (بانسيون) أكون فيه بعيدا عن أصدقائي الذين جاءوا معي من مصر، وهم يرون أن هذه أحسن طريقة وأقربها لتعلم اللغة الفرنساوية، سأتركه الساعة رغما عما خلفته الليلة الماضية عندي من اللغوب، لو أن كل الأيام كيوم 14يولية وكل الليالي كليلته لما عرف الهم إلى نفوس الناس سبيلا، فمع أني بباريس لأمسي فقط فقد انتقل إلي من السرور العام ما جعلني لا أحس بمر ذلك النهار.
رأينا في الصباح قوس النصر، ورأينا عنده بعض الفرق الراجعة من الاستعراض، وبعد الظهر ذهبنا إلى الحي اللاتيني، حي المدارس، وجلسنا في قهوة فاشيت ملتقى المصريين، وقابلت بعضهم هناك وتعارفنا.
لست أدري ماذا أسمي هذا الذي يصنع أولئك الفرنسيون السكارى بنشوة الطرب، أمن أجل ما يسمونه عيد الحرية يخلعون عذار الوقار إلى هذه الدرجة فيرقصون في الأماكن العامة ويضحكون ويشربون ويعملون ما لا يعمل.
لا شك أنهم حقيقة تلك الأمة الممتلئة سرورا وجذلا، لا تكاد تسير خطوة إلا ويدهشك القوم بسرورهم المفرط حتى لا تستطيع مهما كان من رأيك فيهم أن تمنع نفسك عن مشاركتهم بقلبك في هذا السرور.
ذهبنا في المساء إلى ميدان الباستيل حيث يقوم تمثال الحرية عاليا يطل على المدينة الزاخرة، ولقد وجدنا نصبا في اختطاط طريقنا بين الجموع المزدحمة الناسية نفسها المأخوذ عقلها المستسلمة إلى فرح يبلغ حد الهوس، لم نكد نبلغ غايتنا حتى قابلتنا الأنوار الزاهية وتبينت العين الغادة التي تمثل فرنسا حين دكت قواعد سجن الباستيل مستودع الظلامات ومقام الأحرار الذين خسف بهم الاستبداد، ومن لحظة لأخرى ينتشر النور مختلفة ألوانه يضيء التمثال وعماده وقاعدته والناس سكارى بعيدهم وبالضوضاء المحيطة بهم وبتلك الأضواء الزاهية الزاهرة يمرحون في الميدان العظيم.
وبعد منتصف الليل رجعت إلى اللوكاندة وقد هدني التعب، لكني لم أنم طويلا إذ ما لبث الصبح أن تنفس حتى قمت أرتب عزالي لأقوم إلى مسكني الجديد.
دخلت نفسي بعد ذلك عالم الوحشة وأحسست أني صرت محتاجا لذراعي أنا ومساعدة نفسي، ولكن ما أشأم عدم معرفة اللغة تضطر الإنسان لطلب المساعدة من غيره، وإني وإن كنت سعيدا حيث كان مساعدي عبد الحميد سعيد من الرجال الذين لا ترفض مساعدتهم، إلا أني كنت دائم الإحساس بشيء من الوحشة والحاجة لنفسي دائما، ولقد كان من أسباب وحشتي بالطبيعة أني حديث العهد بباريس ومعيشتها وأماكن النزهة فيها.
Página desconocida
16 يولية
ما أسأم الوحدة الحزينة بين المجاميع الضاحكة
بمقدار ما كان الأمس فرحا فاليوم قطوب عابس.
انتقلت بالأمس إلى هنا وها أنا بين عشرين أو ثلاثين شخصا أشعر بذلك الانفراد المطلق الذي وقعت فيه، ليس من عين تنظر لي إلا عين مستغربة ما يظهر على وجهي من علائم الدهشة والألم ثم سرعان ما تنساني، وهؤلاء الذين أعيش بينهم ليسوا أكثر إحساسا معي من أي إنسان في الطريق.
جارتي على المائدة غادة روسية خلع عليها الشباب أبهى حلله، ولا تظهر إلا باسمه لكنها مشغولة عن كل إنسان بجارة لها روسية هي الأخرى، وهي لا تتقن الكلام بالفرنساوية.
ما أحسن ذوقها في اللبس؛ تميل إلى الألوان الباسمة من غير ضحك، ويساعدها قوامها الدقيق على أن تتأنق مقدار ما تشاء.
وتجاهي هندي جميل التقاطيع عرفت أنه انتهى من دراسته في كامبردج.
أما جاره هو ففرنساوي من قرابة صاحب (البانسيون)، ورغما عن أنه فرنسي فهو سمج، كلمني بالإنجليزية في بعض مسائل تتعلق بالبانسيون، وسألني في أمور أخرى، فلم يكن خفيفا على نفسي حديثه، وشكله هو كاف ليزعج الكثيرين.
أراحني عجزي في اللغة عن أن آخذ في الحديث بنصيب، ومن الشيء الذي كنت أفهم أراهم أكثروا من الكلام عن الملابس والأزياء وسمعت كلمات (
Tailleur
Página desconocida
و
robe : ثوب وترزي) تتردد على ألسنتهم.
17 منه
ثلاثة أيام في عالم الوحدة والوحشة والأحزان طوال.
أرى كل يوم مصريين فأتعزى بهم بعض الشيء عن ألمي وأجد فيهم ذكر بلادي البعيدة النائية، ولكن هيهات القلب الذي يحس معي أو يألم لما أنا فيه ...
إذا كان ذلك، أفليس ضياعا أن يترك الإنسان نفسه يتسلبها الهم؟ ضياع وحمق، أنا لا أنكر. ولكني إنسان والإنسان مهما اختلفت نزعاته وميوله لا يستغني عن عزاء يرتكن إليه ساعات الضعف، ولو أن لي في هذا البلد الضيق أمام عيني ما أهتم له من إنسان أو شيء لكفاني ذلك عزاء، ولكني وحيد مهموم.
خرجت بالأمس طرفا من الليل فقابلني بعض من عرفت من قبل، واقتادني معه حتى انتهى بي إلى قهوة دخلناها فإذا هو لا يجد لنفسه مكانا إلا رغما، ويحيط به من كل جانب جماعة من النساء لا تستقر عيونهن ... فلم أرتح للجلوس وخرجت لا ألوي على شيء.
الشارع هادئ يسير فيه جماعة من الرجال والنساء وعلى الجميع مظهر التأدب والوقار.
أيام الوحدة اليوم عينه، الساعة العاشرة مساء
بقيت في البيت هذا الصباح أرتب من شأني وأصف كتبي في قمطرها حتى ميعاد الغداء، فلما كنا بعد الظهر نزلت أريد أن أرى الناس آملا أن أجد في ذلك ما يخفف من الوحدة التي وقعت فيها بعد إذ تركت أصحابي، وسرت في شارع المدارس (Rue des ecoles)
Página desconocida
وهو في تلك الآونة هادئ ساكن، فلما بلغت قهوة فاشت لم أجد بها أحدا، وجعلت أجيل عيني علها تقع على مخلوق أعرفه أو آنس به فإذا كل شيء وكل إنسان مشتغل بنفسه أو واحد من معارفه بما يسلي به وقته، وأنا في هذا المكان غريب منقطع.
كم بيني وبين أهلي في هذه الساعة؟ هم هناك هناك بعيدون وقد يكونون مهمومين لأمري وأنا جالس منفرد يقطعني الهم ويتمشى اليأس إلى نفسي وما عرف إليها من قبل سبيلا.
تولاني القلق وأخذ بخناقي ضيق شديد لم أتمكن معه إلا أن أهجر مكاني وأقوم من جديد إلى الدار، وجاهدت حين وصلت أن أطلع في رواية كنت قرأت الصفحتين الأوليين منها وأنا فوق البحر، ولكني وجدتها على نفسي كدرس التلميذ الكاره لدرسه، فقمت من جديد إلى القهوة وبقيت بها رغما عن قلقي وضيقي.
ابتدأت الحياة والحركة تدخل إلى ما حولي حين فاتت الساعة الرابعة، وجاء بعد ذلك أحد إخواننا المصريين ممن قابلت بالأمس فسلم وجلس إلى جانبي وبقينا بعد التحية سكونا، ثم جاء آخر وثالث وجلسا معنا وابتدأوا جميعا حديثا طويلا في السياسة.
لست من أنصار السياسة وكثرة الكلام فيها، ولقد بقيت عنها بمعزل طول أيامي بمصر؛ ذلك لأني أرى الذين يتكلمون عنها يسرع إليهم التحمس، ويخرجهم عن حد الهدوء الذي تستطاع معه المناقشة المعقولة، كما أنهم دائما متعصبون لحزب، مكرسون أنفسهم لنصرته والطعن على غيره، مقدسون لرؤسائه والأشخاص العاملين فيه، ومهما يكن قليلا ما قرأت من كتابة هؤلاء الرؤساء والعاملين فإنه كاف ليعلمني أنهم شيء ضئيل إلى جانب الكتاب والمفكرين من أهل الأمم الغربية ومن العرب السالفين أنفسهم؛ إذن فالتعصب لهم إلى الحد الذي أراه من إخواني ظاهر البطلان عندي، ولا أستطيع مهما جاهدت أن أترك نفسي تأخذ بنصيب فيما أعتقده ظاهر البطلان؛ لأن عيشة الوحدة التي قضيت فيها كل أيامي علمتني أن شيئا واحدا يمكن أن أحترمه، ذلك هو ما ارتاحت له النفس ورضيت عنه.
لم أكن بين صحبتي الجديدة بأحسن حظا مما كنت من قبل، وبقيت في صمتي الأول حتى أنقذني منه حضور السيد خالد.
السيد خالد رجل عرفته هو الآخر بالأمس فقط، ولكني أجد فيه من المعنى ما لا أجده في غيره، كأنه قضى هو الآخر حياته في الوحدة؛ فتبين عليه آثار السكينة وتنم عيونه عن تفكير طويل، أحسبه ليس من المغرمين بالتحمس والهياج كلما سمع كلمة تقال عن مصر أو تمس السياسة.
جلس بجانبي عن اليسار، فلما وجدني صامتا سألني كيف أجد باريس ... كيف أجد باريس؟ ... أنا لم أر منها شيئا بعد أستطيع معه أن أحكم إن كانت طيبة ولماذا؟
ولقد أنست بالسيد خالد كثيرا، ولعلي أجد منه فيما بعد ما يعوضني عن إخواني الذين خلفت في مصر.
قهوة فاشت ملتقى المصريين في حي الطلبة، ولقد علمت اليوم أن هناك قهوة أخرى يلتقون بها تلك هي قهوة (دي لاپي)
Página desconocida
De La Paix
ولقد ذهبنا إليها السيد خالد وأحد أصحابه وأنا، ووجدت هناك صديقي سعيد مع آخرين، ومن بينهم كثيرون ممن كانوا معنا في الباخرة، أشخاص ذوو وجاهة في مصر ومن قضاة ومحامين وأطباء وأعيان ومن لا أعرفهم.
من أثقل ما يضايق في هذا البلد كثرة المطر ونزوله على غير ميعاد، فبينما نرى الشمس زاهية والسماء صافية والنور يملأ الجو إذا السحب انتشرت وعبس الكون وهمت السماء وفرد الناس مظلاتهم (أو مطرياتهم كما يسمونها) وحل محل النور والسرور قطوب تضيق له النفس؛ ذلك شأنها من يوم نزلنا، وهو على ما يقولون شأنها دائما.
قمنا من القهوة ورجعت إلى الدار وأخذت طعامي وأنا صامت لا أدري ماذا أقول لأكون مع هذا الجمع الطويل العريض الذي يحكي عما رأى وعن المخازن وما فيها والأقمشة والأثواب وكل ما لا أفهم من شأنه لا قليلا ولا كثيرا ... ثم انتقلت إلى غرفتي وإلى الوحدة المطلقة حيث لا يعلم أحد أحد بالزفرات التي أصعد ولا يهتم إنسان بآلامي، حيث أنا الآن مفرد ليس لي على الأرض التي أسكن أهل ولا صديق.
18 منه
اتفقت عصر اليوم مع الأستاذ والبك لنذهب لسان كلو.
الأستاذ شخص ربعة جميل التقاطيع كبير الأنف دقيق النظرات، أرسل ذقنه نصف قبضة وهي لا تخلو من بعض التجعد، حلو الحديث جذاب، والبك رجل طيب عظيم الخلقة، وكلاهما من أعيان المصريين.
أخذنا القارب من عند اللوفر، فسار يشق ظهر النهر المنحدر يخرق البلد ومبانيها الهائلة حتى صرنا في الضواحي وقامت عند الشواطئ الأشجار والغياض، والسماء فوقنا تسبح فيها سحب بيضاء فتزيد الأزرق منها زرقة، والشمس طرحت ضوءها على بساط الماء ولفت الخليقة في نورها.
وصلنا سان كلو وتدرجنا مرتفعين حتى وصلنا بستانها، فجعل صديقنا البك يرينا من جمالها رائعا، ويدلنا منها على أبدع ما نسقت يد الإنسان.
دخلناها فإذا هي الطبيعة في أجمل مظاهرها والخليقة في أبهج جمالها تصعد إلى أعاليها، وعن يمينك الخضرة الناضرة وعن يسارك الأشجار الباسقة، فكأنما قد اجتمعت في ذلك المكان مظاهر السعادة وآياتها، ولا يسع القلب ساعة ترى العين كل هذا الجمال إلا أن يخشع اعترافا للخالق بقدرته وعظمته، ولعل ما عملته يد الإنسان في هذا الغاب مما يزيده جمالا وبهاء ويكسوه من ثوب النظام حسنا وإن كان تنسيق الطبيعة جميلا في ذاته. ظللنا زمنا لم يكن مع الأسف طويلا نعلوا حزنا ونهبط بطنا بين جنان بالغة الزهر بديعة الشكل يطلعك الحزن على ما حواه السهل حتى موقف النظر، ويريك المنخفض بها المرتفع وجمال تدرجه في الارتفاع، أضف إلى ذلك البهاء والجمال الصمت المهيب إلا من أغاريد الطير تصبها من جوها بين أوراق الشجر وأغصانه في أذن الخليقة فتهيج شجوها وتزيدها طربا.
Página desconocida
ليس ذلك كل ما في سان كلو، بل إن فيها غير هذا شيء كثير يضيف إلى الجمال جمالا حتى ليسجد له المتمتع به ولتأخذه نفسه من الإعجاب بهذا الجمال النادر ما لا قبل لي بوصفه، وإن القلم مهما أعطيته من القوة فهو ضعيف عن أن يظهر على وجه القرطاس كل ما في نفسي من أثر ذلك الجمال، فيها من البرك يجري في مائها السمك بمختلف ألوانه والشلالات لينحدر منها الماء وما علمته يد الإنسان من نحو هذا، وإن القوم ليصفون من بهاء سان كلو في يوم الأحد ما يشوقني لها ولا بد لها من عودة إن شاء الله.
وكتبت إلى لطفي بك خطابا لعنوانه بإنكلترا، كما كتبت لوالدي خطابا أيضا، وإن تلك الساعة التي كنت أكتبه فيها لهي من أشد الساعات التي أخذ التأثر من نفسي فيها وعمل الشوق في صدري، وكنت ولا أزال كلما كتبت خطابا وذكرت والدتي وتلك الساعة التي رأيتها فيها تنهمل الدمعة على خدها تخنقني العبرة وإن كانت قوتي لتمنعني عن الاسترسال في شجني، هذا الإحساس أحس به الساعة وسأحس به ما بقيت.
25 منه
برج إيفل ...
ذهبت في الصباح لموعد إخوان متفقين معي على أن نذهب جميعا إلى برج إيفل، والبك هو اليوم أيضا دليلنا، بالله ما أطيب هذا الرجل
أخذنا طريقنا إلى جانب النهر على الضفة المقابلة لضفة قصر اللوفر حتى كان البرج على مقربة منا يستدعي البصر أعلاه قبل أن يأخذ بأسفله، وقد صعد في الجو كأنما شاده أهله ليوحي للمدينة بأخبار السماء، وفوق قمته الدقيقة تلعب الريح بالعلم المثلث اللون علم الجمهورية الفرنساوية.
يرتفع البرج إلى ثلاثمائة متر تحيط بقاعدته الحشائش الخضراء وينساب النهر إلى جانبه هادئا، وقد سرنا تحته حتى وصلنا إلى غرفة التذاكر ثم جعلنا نتشاور أنصعد على الأقدام أم نأخذ المرفع (اللفت)، وأخيرا اتفقنا جميعا على الصعود إلى الدور الأول على أقدامنا وبقينا نتسلل فوق درجه الضيق واحدا بعد واحد حتى وصلنا مكدودين، هناك ارتمينا على المقاعد وجعلنا نجيل نظرنا فيما حولنا في البرج الرفيع.
استرحنا ثم قمنا ندور في جوانبه وننظر إلى الأرض البعيدة عنا وإلى النهر المستكين وإلى بيوت باريس أو بالأحرى إلى سقوفها، إلى تلك الظهور السوداء والحمراء المحدبة اتقاء المطر، وظهرت أمامنا باريس بشوارعها كأنها خريطة تلهو بها العين كما تشاء.
في جوانب ذلك الدور من البرج صناديق ألاعيب وفيه صندوق للخطابات، ولقد تسابقنا جميعا لكتابة الكرت بوستال إلى أصدقائنا من مكاننا العالي، وبقينا حتى إذا كنا الظهر ملنا إلى المطعم هناك أيضا فتناولنا غذاءنا، وانتظرنا حتى استقر في جوفنا الطعام ثم صعدنا في المرفع إلى الدور الثاني.
المدينة من جديد على مقياس أصغر، والنهر أكثر استكانة وخضوعا، والناس يسيرون على الأرض هناك فنطل عليهم من علياء ونجدهم صغارا، وإخواني وغيرهم فرحون بذلك، كأنما حسبوا أنهم حقيقة أعظم ممن تركوا من بضع ساعات!! على كل حال ساعة من الحياة خلقت لهم خيال سرور فمن الجنون أن لا يسكبوها.
Página desconocida
في المرفع من جديد إلى الدور الثالث، المدينة والناس والنهر وكل شيء صغير خاضع أمام نظرنا الذي يحوم في كل هذه المتسعات مما أمامه فلا يجد مانعا فيشعر في نفسه بالرضى وينبعث إلى النفس إذ ذاك من دواعي القنوع بعظمتها ما تسر به أكبر السرور ...
ثم ها نحن نزلنا إلى الأرض، هنا نظرنا محدود وخيالاتنا في الهواء ورؤوسنا رد إليها صوابها فعرفت أننا من الأرض وإلى الأرض نرجع، وأن ليست العظمة إلا نظرة في ذلك الفضاء نتوه بها عن الواقع ثم إذانا رددنا كما كنا وإذا آفاقنا أضيق من كل ما نتصور - إذانا لا شيء - إذانا تراب.
في صنع البرج من الإتقان والدقة ما يشهد بأكبر المهارة، وفيه من مظاهر العلم ومن ذكرى المعرض العام ما يخلد للمدينة المسالمة العاملة أحسن الأثر.
27 منه
اليوم وقعنا على معلم للغة الفرنساوية هو المسيو أ.ل. وأخذنا عليه الدرس الأول كما اتفقنا أن نأخذ معه تسعة دروس في الأسبوع. وقد أخره ذلك عن الذهاب إلى مصيفه بعد أن كان قد صمم نهائيا على مغادرة باريس.
الرجل غليظ الجسم جدا، وله تحت ذقنه أخريان، أصلع الرأس، خفيف الشارب، بارد النظرات، عظيم البطن، قابلنا مرتديا سترة سوداء وحذاء أسود لماعا، وسألنا في أي شيء نريد أن نشتغل.
نحن ثلاثة، أنا أشدنا جهلا باللغة، وصاحباي ليسا منها على كثير؛ لذلك وقفنا أمام هذا التخيير من جانب الرجل حيارى، أخيرا دلنا على الكتب اللازمة.
لا أستطيع أن أنظر لهذا الرجل الضخم من غير أن يثير عندي شهوة الضحك، ولكني منعت نفسي اليوم واستطعت أن أتغلب عليها.
2
28 منه
Página desconocida
كل شيء أرى يستطيع أن يجد فيه قلمي مجاله إلا قصر اللوفر، أقف خاضعا خاشعا مقرا بالعجز، أمام ذلك الجمال العظيم يكفيني أن أقدس وأعبد.
وما بالك بقصر اللوفر، بالقصر العظيم تعاقب الملوك في تشييده فأهدوا باريس عظمه وجمالا وجلالا ، تمتد أجنحته فتحلق وسطها على حدائق التويلري البديعة، وتضم إلى أحضانها ما في الجنة من زروع ناضرة وتماثيل غاية في الدقة، وأطفال يلعبون ويمرحون هم ملائكها المقربون، فإذا وقفت في صحنه الواسع وأجلت بصرك في بناء القصر الفخيم ارتد إليك طرفك وقد امتلأ وجودك هيبة وإجلالا، وإن أنت رميت ببصرك إلى الجهة المقابلة راح إلى أقصى أبعاده يستجلي من بين أشجار الحدائق التماثيل، وتقوم أمامه بعيدة في ميدان الكونكورد المسلة المصرية ثم قوس النصر أبعد منها وعلى مرمى العين.
دخلنا القصر العظيم وليس بيدنا دليل ولا يصحبنا مرشد إلا صديق ما عهدته يهتم بالجمال ولا يعبأ به، وجعلنا نطوف بأركانه عن غير مهل، وإلى جانبنا شبان وفتيات قد أخذ كل في يده دليله يريد أن يقف على دقيق معنى ما يرى ويحرص على اكتناه سر الشيء الذي أمامه.
بالرغم من ذلك فقد أخذت بالعين أشياء تركت في النفس أثرا باقيا، إما لغرابتها وإما لمبلغها من الإتقان، من ذلك تمثال قديم يمثل الملك وقد قطب حاجبه وهو في جسمه أضعاف من حوله، يحمل في يده خنجرا كأنه يتبرم بالوزراء القائمين عن يمينه، أما الجند فقد قاموا خلفه وعليهم أثر اليقظة والرهبة معا.
كذلك تمثال ناسكة قد رفعت رأسها للسماء، ولبس جسمها النصف عار شكل الخشوع والخضوع، وعليها مهابة الصلاح، وتقرأ في وجهها آي الأسف والإخلاص، وهي من تماثيل جالي (عن العبادة).
أما زهرة ميلو
Venus de Milo
فهي حقا إلهة المجال، هذا الأنف اليوناني البديع وتلك العيون الناطقة بما يكنه الشباب من غرام وهوى، وقدماها المكتنزان وصدرها وخصرها وقوامها، هذا التمثال الصامت الناطق، هذا الكل البالغ منتهى الإبداع هو لا شك إله الجمال ومعبود محبيه.
لم نر من الطبقة الثانية كثيرا؛ لأن موعد الطعام حل وأصحابي جميعا جياع، وكل ما أذكر منها صورة لتسيانو هي (لورا دديانتي) ذات الصدر المصقول والذراع الخصب والفم الملائكي، وكأنها تصغي لرجل يدل ما أراده الرسام من عدم وضوح صورته على معنى ما بينهما من الصلة، والصورة معروفة كأنها (تسيانو ورفيقته ).
جاء موعد الطعام فأراد أصحابي الإسراع في مسيرهم، وفعلا تركنا الصور وما فيها والسقوف وجمالها، ولم يك شيء ليلهينا عن سيرنا، هنالك ذكرت حكاية قاسم أمين حين كان مع جماعة من أصحابه في قصر اللوفر، وجعلوا يتسللون منه واحدا بعد الآخر، وهنالك أسفت وتعزيت في وقت واحد.
Página desconocida
30 منه
كنا، شرذمة من البكوات وأنا، في حديقة الأكليماتاسيون، فلما انتهينا من التفرج على الحيوانات المختلفة التي بها دخلنا بيوت القصار، وهم الأعجوبة التي أهدت الحديقة للنظر العام الباريسي هذه السنة.
تقع الحديقة في أحد أركان غابة بولونيا، ويقصدها الناس أولا كما يقصدون حديقة الحيوانات عندنا، وثانيا مجذوبين بما سيرونه من عجيب نادر من أمثالهم من بني آدم، والتناهي في الطول والتناهي في القصر أعجوبة؛ لذلك استدعى قصار من الناس معنى العجب.
وجدناهم في دورهم أو بالأحرى في أوكارهم إلا من خرج منهم إلى فسحة المكان، ومن بينهم ضاحك السن باش الوجه والعباس المقطب والحزين الكئيب ... والجميل المدل بجماله والقبيح يجمل نفسه فيظهر قبيحا ... على العموم وجدناهم من بني آدم وحادثنا بعضهم فإذا في رأسه الصغير من الرزانة ما لا يخفى معه كبر سنه، ومن بين هؤلاء هندي في الخامسة والعشرين لا تزيد قامته على الثمانين سنتي مترا أو متر بالأكثر وتقرأ على وجهه أثر التفكير العميق ويحييك بكل تعقل وسكينة.
بين هؤلاء القصار أشخاص ذوو صناعات مختلفة، فواحدهم حلاق وجماعة منهم شرطة، وآخرون موكلون بعربات الفسحة، ومن بينهم جماعة ذوو ألقاب، لهم ملهى يمثلون فيه، فهم يكونون مملكة صغيرة قصيرة.
ثم درنا بين الأقزام وخرجنا إلى قهوة نستريح فيها، فما هي إلا لحظة حتى خرج القوم للنزهة ومنهم من يسير الهوينا وآخرون يركبون العربات، وجماعة امتطوا دراجاتهم وقادوها كخير ما تكون القيادة، ومن بين هؤلاء مر ذلك الهندي القزم الذي تقدم ذكره.
1 أغسطس
كنت مع ل. بك على طعام العشاء، وكانت معنا مدام ت. صديقته، وهذه هي المرة الأولى التي عرفتها فيها وحادثتها ... دار الحديث بيننا باللغة الإنجليزية تلك اللغة التي كنت أعتقدها كما يعتقدها كثيرون غيري مثال التنافر، وها أنا أسمعها من فم محادثتي ترن كأنها نغمات الموسيقى، بالرغم من شعورها المبيضة ووجهها الذي تبين فيه بعض خطوط التجعد.
كان من ملاحظاتها لي أن الشرقيين ممن رأت تظهر في عيونهم آثار الحزن أكثر مما يوحي به سنهم، وعللت ذلك معها بأنه نتيجة طبيعية للطقس، حيث إنك كلما ذهبت شمالا وجدت الوجوه فرحة والناس أميل للطرب، وعندي أن للأمر سببا يرجع إلى تاريخ الشرق وحال الشرقيين الاجتماعية الحاضرة أكثر مما يتعلق بالطقس والموقع الجغرافي؛ ذلك أنهم محكومون بالاستبداد القرون الطوال، فدخلت إلى نفوسهم آثار الحزن وغادرها معنى الفرح الصحيح الخالص، فصار يطربها النغم الشجي المحزن أكثر مما تأخذ بها الرقة الضاحكة المفرحة، ويسرها الصوت الممتد الهادئ أكثر من الأصوات المرتفعة التي ترج الأعصاب والفؤاد والقلب، أدخلهم ذلك التاريخ الأليم الذي مد جناحه فوقهم إلى الاستسلام من غير رضى، وأرغمهم القسر الذي عاشوا ويعيشون فيه على وجود صاغر مستكين، دخل إلى نفوسهم حب الخفاء في كل شيء وظهر في عيونهم - والعين مرآة النفس - أثر ذلك الحزن العميق والتحرز الشديد.
بعد العشاء قام ل. بك لتجهيز معدات سفره، وودعناه على المحطة قائما بقطار الساعة العاشرة إلى مصيفه، فودعنا منه رجلا عاقلا ورأسا مفكرا وصدرا رحبا.
Página desconocida