Problemas de la civilización moderna
معضلات المدنية الحديثة
Géneros
على الرغم من هذا فإن كل ما استطاع «سبنسر» أن يلقي من نور الاختبار على تلك المعضلات التي كانت قائمة في عهده والتي تولدت عنها الحالات القائمة في عصرنا، وهي حالات لم تبلغ من الشدة في عصر من العصور مبلغها في العهد الحاضر؛ لم يكن إلا شعاعا ضئيلا وسرابا خلابا، حتى إنك لتجد أن مباحثه وثمار أفكاره وتأملاته، من أية ناحية قلب الاجتماعيون والمصلحون أوجه الرأي فيها، لم تسق إلا إلى ازدياد الخرق؛ إذ أنتجت تينك المدرستين المتنابذتين: مدرسة القائلين بالفردية، تسلط الفرد واستقلاله ونماء كفاءاته ومواهبه، ومدرسة القائلين بالاشتراكية، تسود الجمعية المشتركة على الفرد وخضوعه لها.
ومذ قام «هربرت سبنسر» في إنجلترا ينظر إلى النزعات الاشتراكية التي قامت في عصره نظرة البغض، لا بل نظرة الجزع والاستكراه، ومذ انقسم الباحثون الذين تخرجوا في مذهبه إلى معارضين ومؤيدين، إلى قيام الأستاذ «شافل» في ألمانيا ينظر إلى المستقبل نظرة من يعتقد أنه لا محالة مفض بالناس إلى المبادئ الاشتراكية المنتقاة، حتى ظهور «ماكس نورداو» ليبشر أبناء جيله بأنهم منحطون متدهورون؛ لا تقع في أحوال ذلك العصر إلا على ضروب من تباين الآراء، وألوان من الأفكار المضطربة.
أما وقوف العلم إزاء ذلك وقفة الواجم الذي تملكته قوى السلب من كل ناحية، فإن الأستاذ «هكسلي» المشرح المشهور والباحث الاجتماعي الكبير؛ ليمثلها أفضل تمثيل، إذ أكب في بعض مباحثه على تسفيه آراء المدرستين، القائلين بالفردية والقائلين بالاشتراكية، معتبرا أن كلا المبدأين من المضادات لبديهة العقل، بل من المستعصيات عملا المتناقضات عقلا.
ولن تستطيع أن تعتبر كل هذه الجهود كأوليات رمت نحو استيضاح أية فكرة مقبولة فيما تنحصر فيه واجبات الإنسان إزاء ما يحيط بالمدنية من ظروف وما يحف بها من حالات، فإن الأستاذ «هكسلي» رغم حملته الشعواء على هاتين المدرستين لم يزد يقينه في المستقبل إلا غموضا، حتى إنه ليسوق بقرائه زاعما هدايتهم، متعمدا تنوير أذهانهم بمبادئ يأتمون بها، إلى مزالق لا يجدون فيها من يقين يستمدون وحيه، ولا من أمل يرتقبونه.
ذلك في حين أن أقل الناظرين في حالات الاجتماع حنكة ليعتقدون أن الليالي حبالى، تكاد تتمخض عن عظيم الحوادث وخطير الانقلابات الاجتماعية، حتى أولئك الذين يزجون بأنفسهم في مدارج النقد التهديمي ليشعرون باقتراب ذلك وحلول أوانه، فإن الأستاذ «هكسلي» نفسه، رغم استنتاجاته السلبية التي دعا إليها زمانا؛ ليظهر بمظهر أشد «النهيليست» تطرفا في استنكاره الحالات القائمة في الاجتماع، حيث قال في إحدى خطبه المشهورة:
إن أكمل صورة من صور المدنيات الحديثة لتصور حالة من حالات النوع الإنساني لا تتضمن نزعة خيالية مثالية ذات وزن ما، ولا تملك شيئا من روح الاستقرار والثبات. ولن أجد لدي من الاعتبارات ما يجعلني أتلكأ في القول بأنه إذا لم يكن لدينا من أمل في تهذيب حالات أكبر مجموع من السلالة البشرية، وإذا صح أن تقدم العلم والمعرفة، وازدياد سلطة البشر على الطبيعة الذي تستوجبه تزايد المعلومات واستجماع الثروات التي يستغلها الإنسان من تسوده على قوى الكون، لا تحدث فرقا في مطالب الإنسان وحاجاته العظمى، مع ما هو مقترن بذلك من الاضمحلال التكويني والسقوط الأدبي؛ فإني لأرحب بمذنب عظيم يكتسح في صفحة العالم ذلك الأمر كله.
إن مجموع تلك الأفكار الكبيرة المتضخمة التي يبعث بها إلى عقول الناس هذا النوع من الشعور، لهي التي تقيم جماعات المدنية الحديثة وتعقدها، بالغة في التأثير فيها أبعد مبلغ، وما من شيء أثبت في عقائد الاجتماعيين والمصلحين من أن هذه الأفكار سوف تؤثر أثرها المحتوم.
ولقد نظر مستر «هنري جورج» المؤلف الأمريكي الكبير، في الاجتماع من ناحية القوميات متسائلا إلى أي حد سوف تبلغ خطوات كل شعب من الشعوب الضاربة في أصول الارتقاء المدني؟ لأن «تعليم أناس تفرض عليهم معيشة الشقاء والفقر لا يزيدهم إلا كنودا وكفرانا»، كما أن «اتخاذ أبعد حالة من حالات عدم المساواة الاجتماعية أساسا لارتكاز النظامات السياسية التي يفرض من الوجهة النظرية أن الناس متساوون أمامها، لأمر فيه في البعد عن العقل بمقدار ما تحاول ابتناء هرم يرتكز فوق الأرض على قمته لا على قاعدة.»
هذا طرف من الحالات التي أحاطت بالجماعات التي أصدر فيها «نورداو» حكمه، جماعات هاذية محمومة يكتنفها عصر انقلاب أخذ بأسباب حياتها، إذن فهي جماعات خير ما يخرج فيها كتاب الانحلال الأخلاقي.
2
Página desconocida