Problemas de la civilización moderna
معضلات المدنية الحديثة
Géneros
لولا الفكر الإنساني لتعطل التاريخ؛ لأن التاريخ في حقيقة أمره نسيج من الرغبات والبواعث والانفعالات، تتعارض في خيوطه منتجات العقل بما فيه من تصور وإدراك، لتكون من مجموعها صورة هي التاريخ، لا تاريخ الملوك والدولات، والحروب والثورات، بل تاريخ الكون والفساد، تاريخ الصخور والبحار والحيوان والنبات والإنسان ونشوء صفاته العقلية والأدبية وخصائصه الأخلاقية، وعلى الجملة كل ما في الإنسان من الظواهر التي نعرفها بالصفات النفسية؛ لأن الفكر لا حد له، ولكل شيء في الوجود مظهر فكري خاص.
وكما أن الفكر منشأ التاريخ، كذلك تجد أن التاريخ قياس الفكر، فلو أنك استعرضت حوادث التاريخ منذ أبعد الأزمان واستقرأت فيها متجه الفكر خلال العصور، لاستطعت أن تعرف إن كان في الإنسان نزعة إلى التقدم والارتقاء، أو كان فيه رجعى إلى الانحلال الأخلاقي والفساد.
أما التاريخ، قياس الفكر، فيدلنا على أن الإنسان متجه نحو الارتقاء، ضارب في أصول التقدم، قس بين حاله في العصر الظراني الحديث من الوجهة الأدبية أو الصفات العقلية، وبين حالته في عصور المدنيات البائدة، كمدنية بابل وأشور ومصر، فلا تلبث أن تتكون عندك فكرة صحيحة عما نريد أن نثبت من ارتقاء الإنسان.
ولا ريبة في أن الارتقاء الإنساني من حيث الآداب المدنية أو الأخلاق وإدراك المعنويات، يدل على أن كفاءات العقل البشري قد تشكلت خلال كل عصر من العصور بمقتضى ما وصل إليه التكوين العضوي في مدارج النشوء. والقياس بين حالة الإنسان الهمجي والإنسان في القرن العشرين، لأبين برهان على أنه يرتقي، وأنه ضارب في أصول التقدم بقدم ثابتة، وإن كانت بطيئة الخطى.
كذلك إذا رجعت إلى عصر التاريخ المعروف، تجد أن الآداب والمثاليات في عصر التمدن اليوناني أحط منها في عصر شارلمان مثلا. ولا نقصد بالآداب المثالية قواعد الفلسفة الغيبية التي لم تقم إلا في عقول واضعيها، بل نقصد بها كل ما لم يحكم العرف بأنه خارج عن حدود الذوق العام. •••
نرى أن الشخصيات الكبيرة والعقول الفياضة بالمعاني الفاضلة أكثر ما تكون ظهورا في آخر عصور الانحلال وبدء الانقلابات الاجتماعية. ولا حاجة لنا بإثبات ذلك بشواهد من التاريخ؛ لأن أقل الواقفين على مبادئ التاريخ الأولية وأكثرهم علما بحقائقه شرع في التسليم بتلك الحقيقة. لهذا نقضي بأن الإنسانية تتقدم، وأن تقدمها أشبه شيء بالتموجات الأثيرية ذوات التعاريج، وأنها تتجه بالمجموع نحو السمت العالي من الأخلاق، وأن ظهور الشخصيات الكبيرة إثر عصور الانحلال لدليل على ذلك. تلك سنة النشوء العام، وما كان للإنسان أن ينفلت عن طوقها أو يخرج عن قطر الطبيعة ذاتها.
أما إذا أردنا أن نطبق هذه الحقيقة على فكرة «نورداو» في الانحلال الأخلاقي، فإننا ننتهي إلى نتيجة واحدة، هي أن فكرة «نورداو» لا تصح إلا وضعا يطبق على عصور الانحلال التي يعقبها الارتقاء المادي والأدبي دائما؛ فإن الصورة التي أبرزها عقل «نورداو» لصورة تعبر أبلغ تعبير عن الحالات التي تقوم خلال عصور الفساد والانحلال.
ولا جرم أننا في عصر انتقال أنذرنا «نورداو» بسوءاته وأبان لنا عن أصول الانحلال الضاربة في أخلاق أبنائه، ولكنه انحلال سوف يعقب مظاهر الانقلاب التي ينتظر وقوعها فيه ارتقاء في الغايات الأدبية، تدلنا كل الشواهد القائمة من حولنا على أنها تتجه نحو تقرير مبدأ «الشعوبية»، الحب المتبادل والتعاون بين الشعوب، وأن عصرنا الحاضر إنما تتحلل فيه أخلاق القومية والوطنية لتحقق الإنسانية مرة أخرى في تاريخ ارتقائها مبدأ قام في عقول الفلاسفة منذ خمسة وعشرين قرنا من الزمان. •••
نستطرد من ثم إلى الكلام في الصورة التي صور بها «نورداو» عصور الانحلال، متخذا في الحالات التي قامت في عصره أمثالا أبرز بها من الفساد الأخلاقي صورة إن قصرت على عصر خاص من العصور فإنها ولا ريبة أدق صورة جاد بها عقل نقاد مبتكر وخلق ثابت، في زمان أخذ يتمخض فيه الماضي المنهوك المتداعي عن جنين المستقبل المملوء حياة وقوة.
إن أية فكرة إنما تستمد صورتها وتكوينها من لغة الأمة التي سيقت إلى وضعها، فإن المؤرخين في العادات واللغات إنما يلجئون إلى هذه القاعدة؛ لأنهم يبحثون عن الأصول الاشتقاقية في اللغات راجعين إلى منشئها وأصلها متتبعين خطى نشوئها.
Página desconocida