Problemas de la civilización moderna
معضلات المدنية الحديثة
Géneros
لقد أشرف «نورداو» من شرفة عقله الكبير وقوة ابتكاره على أبناء جيله، وهم مقدمون على عصر انقلاب اجتماعي لم يعهد له التاريخ مثيلا، أشرف على نهر الحياة الأوروبية الفائض فلم يجرفه التيار، بل ظل واقفا على الشاطئ يتأمل من تدافع أوجه تلك الحياة وتجاذبها، من تجانسها وتنافرها، فاستنتج أن هنالك انحطاطا وتدهورا وفسادا وضئولة في الملكات، مثله كمثل «روسو» في أول رسالة نال عليها جائزة جامعة «ديجون» العلمية، إذ أشرف على أبناء جيله وهم مقدمون على عصر الثورة فاتخذهم عنوانا على الحياة البشرية، فقضى بأن الإنسانية سائرة في طريق التقهقر والفساد.
إن عصور الانقلاب في الجماعات أشبه شيء بسير الحمى في الأفراد، تلقيهم في المرض وتتدرج بهم فيه شيئا فشيئا حتى إذا أدركهم عصر الانقلاب أخذهم الهذيان فعمدوا إلى التحطيم والهدم، فإذا تقشعت غيامة الانقلاب رجعوا إلى البناء والتشييد، ناظرين في أنقاض ما تهدم ليستخلصوا منه النافع وينبذوا الضار.
أشرف «نورداو» على الجماعات في هذا العصر وهم في بدء الانقلاب وكاد يدركهم هذيان الحمى، وحكم فيهم حكمه، وهم في حالهم تلك شغوفين بالإفلات من مساوئ الانقلاب، وأنى لهم أن ينفذوا من أقطار الطبيعة وهم أبناؤها الثائرون؟ فخيل إليهم أن العلم منجيهم، فأكبوا على العلم الإنساني يستنزلون وحيه، فلم يخرجوا من ذلك إلا بعماء صرف وفوضى لا نهاية لها، أوقعهم علمهم في الخلاف وأسلم بهم إلى التشاؤم. ولم يصلوا إلى هذا الحد إلا ليحكم عليهم «نورداو» بأنهم آخذون في الفساد، ضاربون في أصول الانحلال الأخلاقي.
ولا مشاحة في أن كتاب «نورداو» لخير كتاب يخرج من عقل مبتكر في عصر انقلاب تشرف عليه الجماعات، بعد أن يعنت الباحثون أنفسهم في البحث عن مخرج من فوضى النزعات الفائرة القائمة فيه. أما الصورة الحقيقية التي تخيلها «نورداو» فلا يظهرك عليها مثل تأملك من الحالات الاجتماعية التي قامت من حوله، وكل ما فيها يدل على أن جماعات المدنية الحديثة مشرفة على انقلاب وأن هذيان الحمى كاد يدركها. •••
يقوم الآن عند الناس شعور طبيعي يوحي إليهم بأن درجة محتومة من درجات النشوء الاجتماعي واقعا في المدنية الحديثة قد آن اختتامها وأن أبناء القرن العشرين يستقبلون عهدا جديدا. غير أنه من أبعث الأشياء القائمة في هذا العصر على التأمل والعجب أنك لن تجد من خطرة فكر يفيض بها علينا أولئك الذين يتكلمون باسم العلم ورسوخ القدم فيه يفصحون بها عن المتجه الذي تتمشى فيه حالات التقدم والارتقاء المستقبلة، فإنك أينما وليت وجهك باحثا في أية جهة من جهات المعرفة الإنسانية التي تتجشم مئونة التأمل من المسائل الاجتماعية والبحث فيها، لا تقع إلا على مظاهر جلية من التغير والقلق بارزة في جبين هذا العصر. وعلى الرغم من تلك الخطى الحثيثة التي خطاها العلم في القرن الماضي، وهذين العقدين اللذين فرطا من القرن العشرين، فإنك لن تجد محيصا عن الاعتراف بأنه لم يقم بعد علم نستطيع بحق أن ندعوه «علم الجماعات الإنسانية»، إذ أي أثر للعلم اليقيني الحق في موضوعات استحكمت فيها فوضى المباحث المتناثرة تحت كثير من مختلف العناوين والتعاريف؟
بيد أن الاستنتاجات العامة التي قصد بها وضع فكرة خاصة في وحدة تخضع للسنن التي تمضي مؤثرة في المظاهر الاجتماعية المختلطة القائمة في هذا العصر؛ لم تكن إلا نتاجا لتفكير مدارس علمية عنيت بدرس المشكلات الاجتماعية، وصرفت همها نحو معرفة أصل الاجتماع الإنساني، وتعقب خطى تطوره ونشوئه، ذلك ما تقوم عندنا عليه أوجه الترجيح مهما تلكأنا في الاعتراف بأنه واقع. على أن تلك المستنتجات العامة لم يتقدم وجه النظر فيها إلا من طريق تلك المدرسة الاجتماعية الثورية التهديمية التي كان «كارل ماركس» زعيمها الأول وعلمها الفرد.
أما إذا أردنا أن نحكم على العلم بمقتضى أقوال المتنطسين فيه، فإننا نجده رغم أن أكبر مفاخرة في القرن التاسع عشر قد انحصرت في الكشف عن خطى النشوء والتطور الحيوي حتى انتهى إلى الاجتماع الإنساني؛ قد وقف واجما إزاء المسائل التي تمثلها الجماعات في حالتها الحاضرة. والظاهر أن ليس لدى العلم من شيء يزودنا به عن حالات التطور المنتظرة التي سوف تمضي فيها الجماعات في المستقبل.
لقد وقع في القرن الماضي، وفي شباب «نورداو» وفتوته، أكبر مثال عما اتجه فيه العلم؛ إذ ركن إليه لاستدرار وحيه في تنوير الأذهان للفحص عن تلك المشكلات التي تقاتل إزاءها الجماعات، فإن الفلسفة التركيبية
Synthetic Philsosphy
التي كتبها «هربرت سبنسر» من الأعمال التي يتوج بها جبين النصف الأخير من القرن الماضي. ولا خلاف في أن هذه الفلسفة من معجزات العقل البشري، لا من جهة ما قصدت إليه من توحيد فروع المعرفة الإنسانية وحده، بل من جهة ما أبانت عنه من خضوع الجماعات لقواعد النشوء والارتقاء عامة. تلك المسألة التي يعتقد بحق أن الوقوف على مفصلاتها ومقوماتها أمر فيه من الخطر والشأن ما يجعل بقية فروع العلوم مقيسة بها؛ أشياء أولية في نظر الاجتماعيين والمصلحين والفلاسفة، وعلى الأخص في نظر «نورداو».
Página desconocida