تلك هي الحبيبة الوفية التي لا تهجر ولا تخون. تلك هي دنياي، فواأسفي؛ إن دنياي قد احتواها التراب!
لم يبقَ من آثار هذا العالَم الحافل بالإخلاص والحب إلاّ قبر منعزل وساقية صغيرة تميل عليها شجرة صفصاف، وهذا كل شيء.
إني لأستطيب ذكرى هذه الشجرة وأحِنُّ إليها. إن حركات غصونها لتحرك في نفسي عالَمًا كاملًا ولكنها لا تبالي ذكرياتي ولا تحفلها. إنها قائمة تحنو على اللص الفاتك كما تحنو على المحب الثاكل، وتؤوي المجرم الهارب كما تؤوي الشاعر المتغزّل. فما أضيعَ ذكريات المحبّين عند الطبيعة، وما أضيعها عند الناس!
* * *
لقد انصرف عني السيد حيدر الجوادي، ونام عني أصحابي وتركوني أتجرع غصص آلامي وحيدًا. فمن الذي يعطف عليّ ويشاركني حمل الآلام؟ لقد أيست من الطبيعة ومن الأصحاب، فهل تسعدني أنت يا أيها المحسن المجهول الذي لا أعرفه أبدًا؟ أنت يا من يجوز مع الشمس بمقبرة الدحداح يزور حبيبًا له طواه الرَّمس، هل تمنّ على غريب متألم فتحيي عنه هذه البقعة وتعطف على ذكريات له فيها، هي أعز عليه من الحياة لأنها كانت جمال الحياة؟ هل تترفق في سيرك وتتئد وتعلم أن في هذه الرمال التي تطؤها أطلالَ قلب كان من قبل عامرًا سليمًا؟ ترفقْ فإنك لو ملكت حاسة تدرك بها الذكريات لرأيت في هذه البقعة -ما بين رمالها
1 / 42