فقال: واغوثاه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ذاك إنما يصف ماعون١ بيته لأنه ابن الخلفاء، وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به، أمدح هذا مرة وأهجو هذا كرة، وأعاتب هذا تارة، وأستعطف هذا طورا. انتهى كلام ابن رشيق.
ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ، رحمه الله تعالى، قد استشهد في شرح البردة، الذي سماه بالرقم، بغالب أهل عصره، في ما عرض له من أنواع البديع، حتى أورد لهم شيئًا من محاسن الزجل.
رجع إلى ما كنا فيه، من حسن الابتداء وتناسب القسمين، وإيراد ما وعدنا به من كلام المتأخرين. قال قاضي هذه الصناعة وفاضلها والمتأخر الذي لم يتقدم عليه بغير الزمان أوائلها:
زار الصباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستذمَّ بفرعه أو فالنجا
انظر إلى حسن هذا الابتداء، كيف جمع، مع اجتناب الحشو، بين رقة النسيب وطرق التشبيب وتناسب القسمين وغرابة المعنى. ومثله قوله يخاطب العاذل:
أخرج حديثك من سمعي فما دخلا ... لا ترم بالقول سهمًا ربما قتلا
وما أطلف ما قال بعده:
وما يخف على قلبي حديثك لي ... لا والذي خلق الإنسان والجبلا
ومثله قوله:
سمعتك والقلب لم يسمع ... فكم ذا تقول وكم لا أعي
وما ألطف ما قال بعده:
يقول وما عنده أنني ... بغير فؤاد ولا أضلع
أما مع هذا الفتى قلبه ... فقلت نعم يا فتى ما معي
وأما مطلع قصيدة ابن النبيه، فإن الأذواق السليمة تنتبه به إلى فتح هذا الباب، وهو:
يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت ... نزحتم فهي بعد الباب ما نزحت
_________
١ ماعون: اسم جامع لمنافع البيت مما جرت العادة بإعارته.
1 / 24