حسن الابتداء عند المحدثين:
انتهى ما أوردته من حسن الابتداء للعرب والمولدين وفحول الشعراء، ونبهت على حسنه وقبيحه، ولكن جذبتني يا أخا العرب نسبة المتأخرين إلى أن أثبت، في هذا المحل، تشبيهًا ونسيبها وأظهر، في شرح هذه البديعة الآهلة، بديعها وغريبها ليعلم من تنزه في هذه الحدائق الزاهرة، أن ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد، وأن لكل زمان بديعًا تمتع بلذة الجديد، وهنا بحث لطيف وهو أن الاستشهاد بكلام المولدين وغيرهم من المتأخرين ليس فيه نقص، لأن البديع أحد علوم الأدب الستة، وذلك أنك إذا نظرت في الكلام العربي، إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ، وهو علم اللغة، وإما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه، وهو علم التصريف، وإما أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكلام المركب بحسب اختلاف أواخر الكلم، وهو علم العربية، وإما أن تبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي، وهو علم المعاني، وإما أن تبحث عن طرق دلالة الكلام إيضاحًا وخفاء بحسب الدلالة العقلية، وهو علم البيان، وإما أن تبحث عن وجوه تحسين الكلام، وهو علم البديع. فالعلوم الثلاثة الأول، يستشهد عليها بكلام العرب نظمًا ونثرًا، لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب وغيرهم، لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، إذا كان الرجوع إلى العقل.
وقال أبو الفتح عثمان بن جني: المولودون يستشهد بهم في المعاني، كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ. قال ابن رشيق في العمدة: الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض، فإنهم حضروا الحواضر، وتفننوا في المطاعم والملابس، وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم، من فضل التشبيه ونحوه، ومن هنا يحكى عن ابن الرومي أن لائمًا لامه وقال له: لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز، وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئًا من قوله أعجز عن مثله، فأنشده في صفة الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال له ابن الرومي: زدني، فأنشده:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه١
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه
_________
١ الآذريون: نبات زهره أصفر أو أحمر ذهبي في وسطه خمل أسود - كاليه: مصفرّة؟
1 / 23