ولكن الذى يدل عليه الجمع بين الإيمان بالله تعالي، والإيمان بالأوثان هو أن اعتقادهم فى الأوثان لم يكن قويا مكينا، بل هو اضطراب فى الاعتقاد، ولا استقرار فيه، بحيث تستقر النفس وتطمئن، وكيف يستقر عقل، يجمع قبضة من التراب أو يقتطع قطعة من الحجر يجعله معبوده، ويعبده أطراف النهار وزلفا من الليل، وهو مع ذلك يجزم بأنه ليس بخالق، ولكنه مخلوق.
وإذا كانت الوثنية قد ضعفت فى اخر أمرها قوة الأوثان، فإن أوثان العرب خلقت فكرتها ضعيفة يوجد ما ينازعها، أو يجعلها قلقة غير مستقرة إذ هى فى نفسها تحمل عوامل ضعفها وردها، ولكنه التقليد الأعمي، الذى سد مسالك الإدراك على العقل.
القلوب فارغة من إيمان:
٢٥- إن الذى ذكرناه أن القلوب والعقول كانت فارغة تحتاج إلى ما يملؤها ويسد فراغها، ولا يتركها شاغرة فى شرق الأرض وغربها، يستوى فى ذلك قاصى الأرض ودانيها، فالشرق الأقصى كما يعبر رجال السياسة لم يكن فيه إيمان بشيء، وقد كانت الأوهام هى التى تسيطر، والأوهام وإن استحكمت فى نفوس من تسيطر عليهم غير صالحة للبقاء، إنما الذى يصلح للبقاء مما يسيطر على النفوس هو ما يكون متفقا مع حكم العقل، والتفكير السليم. والأوهام وإن قويت لا تستطيع مقاومة العقل، ومثل الأوهام كمثل الضباب يبدده ضوء الشمس، فكذلك العقل يبدد ضباب الأوهام، ويشكف عن المدارك غمتها.
والهنود تسيطر عليهم أوهام أشد، وظلم اجتماعى غير صالح للبقاء، والفرس ظهر عندهم مذاهب هدامة تهدم الإنسانية. فتجتثها من جذورها أو تهدم أخلاقها التى يتماسك بها احادها.
والرومان وما كان تحت ظلهم قد فقدوا الإيمان، فاستبدلوا بالوثنية النصرانية التى ابتدعوها، ولكن لم يثبت بها إيمان إلى القرن السادس.
وليس فقد الإيمان كان خاصا بالعقيدة فيما وراء الطبيعة، بل كان مفقودا فى القيم الإنسانية الخلقية كما هو مفقود فى العبادة والألوهية، فلم يكن ثمة خلق إنسانى سليم، بل كان كل شعب ينظر إلى الاخر نظرة العداء، وأصبح التفكير الخلقى مقصورا على معاملة أبناء الوطن الواحد، لا أبناء الإنسانية عامة. وعم ذلك ولم يخص، حتى كان الفلاسفة لا يؤمنون بحق الشعوب، فأفلاطون قد كان يعتبر ما عدا اليونان من الناس برابرة، وكل من يبعد عن وطنه فرسخا أو دونه يسترقه من يلقفه من غيره، وقد وقع الرق على أفلاطون نفسه، حتى افتدى، وهكذا قد فقد الإيمان بالقيم الإنسانية كما فقد الإيمان بالألوهية.
1 / 29