بين الأزهار
إنه يتعلم من سكون الأثير ما يغنيه عن تعليم البشر، ويؤمن بأن التربية الحقيقية تأتي من الإنصات الخاشع لصوت البرية، وأن الطاعة الحقيقية لا تكون إلا لقوة تتنزل من أعلى. في هذا السكون ينمو الحنان. ويزدهر الحب، وتصبح الطبيعة هي المدرسة الخالدة. وليس عجيبا بعد هذا أن تنتهي القصيدة البسيطة المتواضعة نهاية كلها اعتزاز وكبرياء:
بين ذراعي الآلهة نموت وكبرت
فهو لم ينم بين أحضان الآلهة فحسب، بل ترعرع واشتد عوده وعرف سر العظمة الكامنة في نفسه ووجد ما يزهده في البشر ويغنيه عن صراخهم وسياطهم.
هكذا ترسم لنا القصيدة عالم الطفولة عند الشاعر .. وتصور ملامحه البارزة. صحيح أن ذكريات الطفولة هي الجذور التي تتفرع منها شجرة الوجود عند أي إنسان أو أي شاعر. ولكنها عند هلدرلين بوجه خاص بالغة الدلالة على كل أبعاد حياته المقبلة، وكل ملامح هذه الحياة ماثلة يمكن أن تقرأ في ملامح طفولته.
هنا نجد «النعاس» العبقري الشفاف، والقدرة على الاهتزاز مع أرجوحة الانسجام الكوني، بحيث يصبح الشعر «أكثر الأعمال براءة» وأشبه الأشياء بلعب الأطفال. وهنا نجد اللقاء المستمر مع الأم التي يدفعها الحنان إلى أن تسحب الغطاء على وجه الطفل، فيدفعه الشوق إلى النور للتحديق في الشمس التي تؤذي عينيه.
هنا الوفاء للتجربة الدينية الأصيلة التي تلمسها الروح في لقائها مع الأرض والنور والنسيم. وهنا الخشوع والإنصات لسماع أنغام الحقيقة، والشك المعذب الذي يساور الشاعر أينما وجد نفسه مع الناس. وهنا أخيرا كل معالم الدروب التي سنصحب فيها هذا الشاعر الوحيد لنتعرف على حياته وشعره.
علينا الآن أن نكمل الصورة ببعض الخطوط البارزة في لوحة صباه. فقد زار الشاعر المدرسة اللاتينية في مدينة نورتنجن، وقضى العام الأخير فيها مع صديق عمره الفيلسوف المثالي شيلنج الذي كان يصغره بخمس سنوات، والذي طالما حماه هلدرلين الرقيق من عبث الصغار به وسخريتهم من قصر قامته وغروره بنفسه.
وفي الرابعة عشرة تقدم الشاعر لامتحان تجريه منطقة «فبرتمبورج» وتختار الناجحين فيه لدخول إحدى مدارس الأديرة التي تؤهلهم ليكونوا من رجال الدين.
نجح هلدرلين في الامتحان ودخل في خريف سنة 1784م مدرسة «دنكندورف» التي تبعد عن نورتنجن بمسيرة ساعة ونصف ساعة، وتقع على مقربة من نهر النيكار. وقضى سنتين في هذا الدير الصغير الوحيد، الراقد كالناسك المعتزل بين جدران صخرية وعرة، وعلى كنيسته وأشجاره ودروبه وبستانه وبركته الصغيرة غلالة منسوجة من خيوط الأحلام والأساطير. ثم انتقل إلى مدرسة دير «ماولبرون» القديم الشهير الواقع وسط غابة مخيفة، ليقاسي فيه حياة صارمة متقشفة مليئة بالحرمان. ولنقرأ ما يقوله الشاعر عن تجربته فيه: «أود بالمناسبة أن أعترف بأن نصيبي من القهوة والسكر قد نفد وأنني كنت أشتاق أحيانا إلى طعام الإفطار عندما أستيقظ مبكرا من نومي، وكنت أعاني من آلام صداع شديد في رأسي. وقد تحاملت على نفسي أخيرا، وكانت معدتي خاوية، لأتناول الحساء الذي يمجه أشد الكادحين جوعا؛ عندئذ أصابني ألم بشع حتى أوشكت من غضبي أن أقذف الطبق عرض الحائط ...»
Página desconocida